الدرس الخامس : الهمزة في أول الكلمة ( تابع 2 )
أوردنا قبلُ جميعَ مواضع همزةِ الوصلِ ، وفصَّلنا القولَ في عللِها ، ونأخذُ الآنَ في ذكرِ مسائلها .
-مسائلُ همزة الوصلِ : ( مسألتان ) -المسألة الأولى : إبدالُ همزةِ الوصلِ إلى همزةِ قطعٍ : -ولذلكَ ثلاثةُ مواضِعَ : الأول : ضرورةُ الشعرِ ، كقولِ حسان بنِ ثابت : وشقَّ له من إسمِه ليُجِلَّه *** فذو العرشِ محمودٌ ، وهذا محمَّدُ وقولِ جميلِ بثينةَ : ألا لا أرى إثنينِ أحسنَ شيمةً *** على حدَثان الدهْرِ منِّي ومن جُمْلِ وقولِ الآخَر : لا نسبَ اليومَ ، ولا خُلَّةً *** إتَّسعَ الخَرقُ على الراقعِ وهذا في ضرورةِ الشعرِ قياسٌ ، يشمَل كلَّ ما أوَّلُه همزةُ وصلٍ . الثاني : الأفعال ، والحروف المبدوءة بهمزة وصلٍ إذا نقلتَها إلى العلميةِ ؛ تقولُ : ( هذا محلُّ إِجلِس ) ، و ( هذه قناة إقرَأ ) ، و ( جاء إستغفِر ) في رجلٍ لقِّبَ بهذا ، لكثرةِ لهَجه بهِذه الكلمة ، وتقولُ : ( " أل " أداة تعريف ) ؛ تقطعُها ، لأنها أصبحت علَمًا . فإن قلتَ : وما وجهُ علميَّتِها ؟ قلتُ : لأنَّها تنتمي إلى جنسِ الحروفِ ، كالإنسانِ ينتمي إلى جنسِِ البشرِ ؛ فوسموها بسِمةٍ تتميَّزُ بها عن سائرِ أفرادِها إذا أرادوا الإخبارَ عنها ؛ وذلكَ هو الاسمُ العلمُ عليها . فأمَّا إذا شاءوا أن يخبِروا بها ، لا عنها ، كقولِهم مثلاً : ( القمَر ) ، فإنَّها لا تكونُ علَمًا . وآية ذلكَ أنَّك تقولُ : ( أل : حرف تعريف ) ؛ فتخبِرُ عنها . فلولا أنَّها اسمٌ معرِفةٌ ، لما جازَ ذلكَ . أمَّا الأسماءُ ، فلا يَجوز لك أن تقطعَها إذا سمَّيتَ بها ، لأنه إنما جازَ لك القطعُ في الأفعالِ ، والحروفِ ، دونَ الأسماءِ ، لأنَّ الأفعالَ ، والحروفَ إذا سُمِّيَ بهما ، خرجَا إلى حيِّز الأسماءِ ؛ فأصبحَ يجري عليهما أحكامُها ، والأصلُ في الأسماء القطعُ كما تقدَّمَ . أمَّا الأسماءُ ، فإنَّ التسميةَ بها لا تؤثِّرُ في اسميَّتِها شيئًا ؛ إذ هي أسماءٌ قبلَ التسميةِ ، وبعدَها ؛ غيرَ أنها كانت منكَّرةً ، فأصبحت معرَّفةً ؛ وهذا لا يسيغُ الحملَ على الغالبِ في الأسماءِ ، لأنَّها استحقَّت النادرَ أولاً ؛ وهو الوصلُ ؛ فإذا عرَّفتَها ، لم يكن تعريفُك لها سالبًا لها هذا الاستحقاقَ ، ولا رافعًا عنها هذا الحُكمَ . ولم يمكنهم أن يتجرءوا عليها كما تجرّءوا على الأفعالِ ، والحروفِ ؛ إذْ كانت الأفعالُ ، والحروفُ قد انتقلت من ديارِها ، وموطنِها إلى الأسماءِ ؛ والداخلُ على قومٍ ليس منهم يتجرءون عليهِ ما لا يتجرءون على من هو منهم ، ولا يغفِرون له ما يغفرونه للآخَر ، كما قالَ خالدُ بنُ نَضلةَ : إذا كنتَ في قومٍ ولم تكُ منهمُ *** فكل ما عُلِفتَ من خبيثٍ وطيِّبِ أمَّا الأسماءُ ، فامتنعتْ منهم ، لمكانِها من القرابةِ التي تُدلي بها . ولو ساغَ لهم أن يقطعوا همزتَها حملاً على الغالبِ ، لوجبَ هذا قبلَ النَّقلِ ، وهذا لا يجوزُ كما هو معلومٌ . قال سيبويه رحمه الله : ( وإذا سمَّيتَ رجلاً بـ " إضربْ " أو " أقتلْ " أو " إذهبْ " لم تصرفه ، وقطعتَ الألفاتِ ، حتى يصير بمنزلة الأسماء ، لأنك قد غيَّرتَها عن تلك الحال . ألا ترى أنك ترفعُها ، وتنصبُها . وتقطع الألفَ ، لأن الأسماء لا تكونُ بألفِ الوصلِ . ولا يُحتجّ بـ " اسم " ولا " ابن " ، لقلة هذا مع كثرة الأسماء ... ، وإذا سميتَه " انطلاقًا " ، لم تقطع الألفَ ، لأنك نقلتَ اسمًا إلى اسم ... ، وإذا أردتَّ أن تجعل " اقتربت " اسمًا ، قطعتَ الألفَ ، كما قطعتَ ألف " إضرب " حين سمَّيتَ به الرجلَ ... ، فإذا جعلتَ " إعضضْ " اسمًا ، قطعتَ الألفَ ، كما قطعتَ ألف " إضربْ " [ الكتاب : 3 / 198 ، 199 ، 256 ، 319 ] . وقالَ الزجَّاج رحمه الله : ( وإذا سمَّيتَ رجلاً " ابنٌ " ، وصلتَ ألفَه ؛ فقلتَ : " هذا ابنٌ قد جاء " ) [ ما ينصرف وما لا ينصرف : 26 ] . فلذلكَ إذا سمَّيتَ امرأةً بـ ( انتصار ) ، أو ( ابتهال ) ، أو ( ابتسام ) ، لم تقطعِ الهمزةَ ، كما لا يَجوز لك أن تقطعَ همزةَ ( الاثنين ) علمًا لليومِ ؛ وإنِ ادَّعى ذلك مَن ادَّعى . وهذا هو الثابتُ قياسًا - كما مرَّ - ، وسَماعًا كما في مُعجَماتِ اللُّغةِ . وممَّا وردَ من الشِّعرِ قولُ حسان رضي الله عنه : بأبي وأمِّي من شهدتُّ وفاتَه *** في يومِ الاثنينِ النبيُّ المهتدي صلَّى الله وسلَّمَ عليه . ويجوزُ قطعُها في الشِّعرِ ، كما جازَ قبلَ العلميَّةِ . ومنه قولُ العَرْجيِّ : بعادلةِ الإثنينِ عندي ، وبالحَرَى *** يكونُ سواءً منهما ليلةُ القدْرِ فإن قيلَ : ولكنَّ الهمزةَ صارت جزءًا من الاسمِ العَلَم . قلتُ : نعم ؛ هي جزءٌ منه ؛ ولكنَّها تظلُّ همزةَ وصلٍ ، كما كانت قبلَ النقلِ ، وليس شيءٌ يوجب أن يكونَ الجزءُ من العلمِ يُنطَق في البدءِ ، والدرجِ . ولو قلنا بقطع همزةِ الاسمِ إذا أصبحَ علمًا احتجاجًا بهذه الحُجَّةِ ، لجازَ هذا أيضًا في الحرفِ ؛ فوجبَ أن تقولَ : ( ألنُّعمان ) ؛ فتقطعَ همزته . وهذا بيِّن البُطلانِ . ثمَّ إنَّ يوم ( الاثنين ) لم يَزل علمًا مذ عرفَه العربُ ؛ فأيُّ شيءٍ استجدَّ لدى المتأخرينَ لم يكن في العُصُرِ الخالي . وعجبي من هؤلاء المتأخرينَ أنَّهم على ادِّعائهم طلبَ التيسيرِ ، وطرح الشواذِّ ، هم أولعُ شيءٍ بالمخالفةِ ؛ ولو بالحجةِ الضعيفةِ ، والقولِ المنكَرِ ، ثمَّ لا يبالون أن يركبوا في سبيلِ ذلكَ ما لا يَجوزُ ، ولا يُقبَل ، كأنَّ العلمَ عندهم ، والتحقيقَ أن يخالِفوا ؛ فهم راضُون أن يكونَ ذلك حظّهم منه ؛ فلا أدري أهو حبُّ الإغرابِ ، وإيهامُ دقَّة النظَر ، أم هو شيءٌ آخرُ لا نعلمُه ! معَ أنَّهم لا يستندِون في ذلكَ إلى سماعٍ صحيحٍ ، ولا قياسٍ منضبطٍ ! وشبيهٌ بهذا ما ادَّعوا من قطعِ همزةِ ( البتة ) ، فلم يزيدوا على أن أفسدوا في اللغة ، وأوقعوا الناسَ في لبسٍ من أمرِهم ، وحرجٍ . وهذا السماعُ ، والقياسُ ، وكلامُ أهلِ العلمِ قدَّمناه بينَ يديكَ بيِّنًا جليًّا ؛ فماذا بعدَ الحقِّ إلا الضلالُ . الثالث : لفظُ الجلالةُ خاصَّةً في موضعينِ ، أحدُهما في النداءِ ؛ نحو ( يا ألله ) ، ويجوزُ فيهِ الوصلُ ( يا الله ) . والثاني في قولهم في القسمِ : ( أفأللهِ لأفعلنَّ كذا ) . -فإذا استبانت لكَ مواضعُ همزةِ الوصلِ ، وأبصرتَ عللَها ، علمتَ أنَّ كلَّ اسمٍ أعجميٍّ منقولٍ إلى العربيَّةِ ، مستعمَلٍ فيها ، هو في لغتِهِ التي نُقِلَ منها مبتدئ بصوتِ الهمزةِ = تُقطَع همزتُه ، لأنه ليس من مواضعِ همزةِ الوصل التي ذكرنا ؛ سواءٌ كانَ مبدوءًا بساكنٍ ؛ نحو ( إستراتيجية ) ؛ أصلُها (Strategy ) أو كان مبدوءًا بمتحرِّكٍ ، كـ ( E ) ؛ نحو : ( إلكتروني ) ؛ أصلُها ( Electronic ) ، وغيرِها . وهذا إذا أردتَّ استعمالَ اللَّفظِ ، لا حكايةَ طريقةِ نطقِهِ ؛ فإنك إن أردتَّ حكايةَ طريقةِ نطقِهِ ، فقد ذكرنا خبرَه في ما تقدَّمَ . وإنما وجبَ القطعُ هنا ، لأنك لمَّا نقلتَه إلى الأسماء العربيَّةِ ، وأجريتَه مُجراها ، وجبَ عليكَ أن تحملَه على الغالبِ فيها ؛ وهو القطعُ ، كما فعلتَ في الأفعالِ المنقولة إلى العلميةِ . |
بديعٌ أيها الشيخ الفاضل ..قد أوتيت علما أسأل الله ان يبارك لك فيه و أن يجعلك - به- مباركا أينما كنت ..لا عدمنا فوائدك..و امض و أسرع ..و لا الى الخلف تنظر ..
|
بارك الله فيك أخي الفاضلَ / أبا الفضلِ ، ووفَّقك .
وأسأل الله العونَ ، والسدادَ . |
أستاذي الفاضل أبا قصي بارك الله لك في مالك و في علمك و نفع بك.
|
اقتباس:
|
بارك الله فيكم
|
متابع
|
بيانٌ بديعٌ، يثمرُ فهماً؛ أحسنَ اللهُ إليكَ ياشيخَنا
|
بارك الله فيكم
|
رائع جدا وليتك شيخنا أن تبين المصادر التي تنهل منها
|
جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 12:20 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ