ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية

ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية (https://www.ahlalloghah.com/index.php)
-   حلقة الأدب والأخبار (https://www.ahlalloghah.com/forumdisplay.php?f=4)
-   -   ذبٌّ عن أبي ذؤيب (https://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=14367)

صالح العَمْري 01-06-2018 11:54 PM

ذبٌّ عن أبي ذؤيب
 
بسم الله الرحمن الرحيم.
إذا سمعتَ الناس يذكرون كتابًا ويثنون عليه فلا تعجل بالثناء عليه معهم حتى تعرف حقيقته.
وقد كنتُ أسمع الناس يذكرون كتاب (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) لعبد الله الطيب رحمه الله وغفر له، ولم أقل فيه شيئا بناء على كلامهم، ثم نظرتُ فيه وقلبتُ وتصفحتُ ولم أقرأه بعد لأنه طويل، لكني أمضيتُ نحوًا من ساعتين أقلّبه وأجول فيه فما رأيتُ الشيء الذي يقولون، على أني لا أحكم الآن على الكتاب بشيء، ولم أنشئ هذا الحديث للحكم على الكتاب، ولكن لأذبّ عن أبي ذؤيب.
فقد ساءني كلامه عن مرثية أبي ذؤيب المشهورة، ولو أن المرء يعيب الشيء ثم يأتي بالبينة لقُبل ذلك منه، أما أن تعيب الصواب ثم تأتي بالخطأ فهذا أمر قبيح.
فمن ذلك قوله:
"وانظر إلى قوله يصف قرني الثور وهو ينازل الكلاب:
فكأن سفّودين لـمّا يُقتِرا * عَجِلا له بشواء شَربٍ يُنزَعُ
قوله (لـمّا يُقتِرا) يعني به أنه لم يُشتَو بهما فيُقتِرا، أي فيكون لهما قُتار، وهو رائحة اللحم، وكل ما أراده هو تشبيه قرني الثور بالسفودين، وهذه سرقة فاضحة من النابغة حيث يقول:
كأنه مارقًا من جنب صفحته * سفود شرب نسوه عند مُفتأَدِ
وقول النابغة (نسوه عند مفتأد) -والمفتأد مكان الاشتواء- بليغ جدًّا، فإنه يدل على أن القرن خرج ملطخا بدم الجوف وفرثه، متسخا كأنه سفود ترك في محل اشتواء فتراكم عليه الوسخ والصدأ
".
هذا كلامه، ولو كان كلامه صوابًا وكان كلام أبي ذؤيب خطأ لشايعتُه وأثنيتُ على صوابه، أما أن تخطئ رجلًا مصيبًا مات قبل قرون طويلة وليس هو حيًّا فيذبّ عن نفسه ثم تأتي أنت بالخطأ وخبط العشواء فإني لا أدع الانتصار له والردّ عليك.
فانظر إلى قوله: "قوله (لـمّا يُقتِرا) يعني به أنه لم يُشتَو بهما فيُقتِرا، أي فيكون لهما قُتار، وهو رائحة اللحم، وكل ما أراده هو تشبيه قرني الثور بالسفودين"، وهذا خلط فاسد رديء، فقد زعم أن أبا ذؤيب رحمه الله أراد بقوله (لـمَّا يُقتِرا) أنه لم يُشتَو بهما فيُقتِرا، ثم بنى على زعمه الفاسد هذا نقده لبيت أبي ذؤيب، وأكد هذا الزعم الفاسد بقوله "وكل ما أراده هو تشبيه قرني الثور بالسفودين"، فكأن الرجل يقول: إن أبا ذؤيب أراد تشبيه قرني الثور بسفودين مطروحين في مكان من الأرض ليسا عند نار ولا هما على شواء، وأن هذه سرقة حمقاء من قول النابغة الذي أراد سفودين عليهما آثار الشواء! ما أشد هذا الظلم لأبي ذؤيب وما أوجعه! على أن قول أبي ذؤيب أحسن من قول النابغة، وسترى بيان ذلك.
ولا أدري كيف أبدأ بالرد على هذا الكلام الرديء، ولا أدري كيف زعم المؤلف عفا الله عنه أن قول أبي ذؤيب (لـمّا يُقترا) أراد به: لم يُشتَو بهما! هذا أمر عجيب والله، ألا يرى قوله في عجز البيت: (عجلا له بشواء شرب ينزع)؟! كيف يعجلان له بالشواء وهما لم يُشتَو بهما؟!
وأوضح أولا لمن لا يعرف السفّود أنه ما يُعرَف الآن بسيخ الشواء.
وأقول: أبو ذؤيب يقول (لـمّا يُقتِرا) ويريد أنهما قد وُضع فيهما اللحم ووُضعا على النار أو على الجمر وصار اللحم الذي فيهما يُشوَى في موضع الشواء ولكنه ما زال نيئًا لم يقارب النضج ولم تظهر فيه رائحة الشواء، لأن رائحة الشواء لا تظهر أول ما يوضع اللحم بل تبدأ في الظهور بعد ذلك، وهذا معنى لـمّا، كما تقول: بدأت في قراءة الكتاب ولـمّا أفرغ منه.
فكيف يزعم المؤلف غفر الله له أن قوله (لـمّا يُقتِرا) معناه: لم يُشتَو بهما؟! ثم يبني على هذا الزعم الفاسد أن بيت أبي ذؤيب سرقة رديئة من قول النابغة لأن بيت النابغة يدلّ على تراكم الوسخ والصدأ! على السفّود فيشبه بذلك الفرث والدم على قرن الثور، وأن بيت النابغة بذلك بليغ جدًّا، وأن بيت أبي ذؤيب رديء لأنه شبه القرنين بسفودين لم يُشتَو بهما وليس عليهما آثار من شيء.
وأقول: إذا كان بيت النابغة يصير بهذا بليغًا جدًّا فإن بيت أبي ذؤيب أبلغ وأجود، لأنك جعلتَ معقد بلاغة بيت النابغة في تشبيه الوسخ والصدأ! الذي على السفود بالفرث والدم العالق بقرن الثور من جوف الكلب، وأنا أسأل أولي الألباب: أيهما أشبه بما يعلق بقرن الثور مما يخرج من جوف الكلب: ألوسخ والصدأ الذي يكون على سفّود منسي عند مفتأد أم اللحم النيء الذي فيه الدم إذا رُفع سفّوده عن النار قبل الإقتار والنضج؟ لا شك أن اللحم النيء الذي فيه الدم أشبه والتشبيه به أحسن وأبلغ، فإن قرن الثور إذا خرج من جوف الكلب ربما علق به شيء من اللحم والشحم مع ما يكون فيه من الدم، وكذلك السفود الذي أراده أبو ذؤيب فيه اللحم النيء والشحم والدم، ألا تراه وصفهما بأنهما لم يُقتِرا أي ما زال اللحم فيهما نيئا وفيه الدم، لأنهما إذا أقترا ودنا نضجهما أو نضجا صار لون اللحم فيهما يضرب إلى السواد وذهب الدم منه وأصبح اللحم جافًّا يميل إلى الصلابة، فلا يشبه حينئذ ما يعلق بقرن الثور من جوف الكلب، وإنما يشبه العالقَ بقرن الثور إذا كان اللحمُ أولَ ما يوضع على النار قبل أن يُقتِر وتظهر رائحة الشواء، فإنه حينئذ يكون أحمر رطبًا لينا يُرى فيه الدم، ولذلك قال أبو ذؤيب في عجز البيت:
عَجِلا له بشواء شَربٍ يُنزَعُ
أي أُعجل هذان السفّودان ورُفعا عن النار واللحم فيهما نيء لم يُحسّ منه قُتار.
أفرأيت كيف جار المؤلف عفا الله عنه على أبي ذؤيب وحقّر بيته وأثنى على بيت النابغة وجعله بليغًا جدًّا على أن تشبيه أبي ذؤيب أحسن وأجود وأصح وأوقع.
وللحديث بقية إن شاء الله.


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 02:54 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ