ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية

ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية (https://www.ahlalloghah.com/index.php)
-   حلقة الأدب والأخبار (https://www.ahlalloghah.com/forumdisplay.php?f=4)
-   -   ابن زريق البغدادي لم يرحل إلى الأندلس ولم يمت هناك! والقصيدة العينية لشاعرَين اثنين! (https://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=14619)

عامر الرقيبة 12-01-2020 06:30 AM

ابن زريق البغدادي لم يرحل إلى الأندلس ولم يمت هناك! والقصيدة العينية لشاعرَين اثنين!
 
ابن زريق البغدادي لم يرحل إلى الأندلس ولم يمت هناك! والقصيدة العينية لشاعرَين اثنين!

بقلم: عامر الرقيبة


قال بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي: " أبو الحسن علي بن زريق البغدادي. كان كاتباً ببغداد في حدود سنة 420هـ / 1029 م ، ثم رحل إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي يرجو العطاء ، فلما أعطاه عطاء نزراً شق ذلك عليه ، وحزّ في نفسه ، فاعتلّ ومات ، وقال قبل موته عينيته المشهورة في وصف حاله وشكوى أيامه ، ونزوح داره" إهـ
ولكن بروكلمان لم يبيّن لنا دليله على تحديد هذا التاريخ وإنما أحالنا إلى مخطوطة وبعض المصادر التي ذكرت القصيدة العينية. قال الدكتور محمود الطناحي رحمه الله في مقالة بعنوان (عينية ابن زريق) : " ولم أجد له ترجمة تعيّن تاريخ مولده أو وفاته " إهـ

وبالرغم من أن الأخبار التي وردت عنه في كتب التراث قليلة ويكتنفها بعض الإضطراب إلّا أنّ كثرة الناقلين للقصيدة العينية أو لبيتٍ أو أبياتٍ منها في مصنّفاتهم التي تربو على 25 مصنَّفاً ونسبتها لابن زريق من قبل العديد منهم تؤكّد حقيقة وجود هذه الشخصية بخلاف من رأى إنه شخصية وهمية لا وجود له وكان قد تفرّد بهذا الرأي نعمان ماهر الكنعاني رحمه الله في كتابه (شعراء الواحدة). إنّ هذه الوفرة من المصادر التي تناولت قصيدته العينية أو شيئاً منها أوبعضاً من أخباره تتيح لنا أن نحدّد ولو على سبيل التقريب الفترة التي عاش فيها ابن زريق من خلال المقارنة بين أسانيد ومتون الأخبار المتعلقة به وتتبّع مواليد ووفيات بعض الشخصيات المذكورة في تلك الأخبار.

وردت أقدم إشارة متوفّرة لدينا للقصيدة العينية في كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي (المتوفى نحو 400 هـ) حيث ذكر من القصيدة بيتين دون أن ينسبهما لأحد وهما:
أستودع الله في بغداد لي قمراً * بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودّعته وبودّي لو يودّعني * صفو الحياة وأنّي لا أودّعه

أما الثعالبي (ت 429 هـ) فقد ذكر في (يتيمة الدهر) أربعة أبيات من القصيدة ، البيتين المذكورين توّاً مع بيتين آخرين وهما:
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى * وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع في أن لا أفارقه * وللضرورة حال لا تشفعه
ونسبها لأبي الفرج الوأواء الدمشقي (المتوفى ما بين 390-400 هـ). ونستبعد أن تكون للوأواء لعدة أسباب: أوّلاً تفرَّدَ الثعالبي بنسبتها للوأواء إذ لم ينسبها له أحدٌ من المصنّفين الذين ذكروا القصيدة بعد الثعالبي على كثرتهم بالرغم من أنّ (يتيمة الدهر) كانت مصدراً للكثير ممن جاء بعده ممّا يدلّ على عدم إقرارهم بهذه النسبة. ثانياً أورد الدكتور سامي الدهان رحمه الله محقق ديوان الوأواء هذه الأبيات الأربعة ولكنّه وضعها في الزيادات التي ليست من أصل الديوان وأشار إلى أن الأبيات لابن زريق. ثالثاً قال الثعالبي في ترجمة الوأواء: " وأول من حمل ديوانه إِلى نيسابور أَبو نصر سهل بن المرزبان فإنّه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله من اللطائف والبدائع التي عنى بها وأنفق الرغائب عليها وأتحفني بذلك في دفتر صغير الجرم خفيف الحجم ثمّ ألحق به ما استملاه من القوّال المعروف بعين الزّمان وهو غير ثقة في الرواية والحكاية وكنت تأنقت في إِخراج ما يفتقر الأديب إِلى فقره ولا يستغنى الشاعر عن غرره من شعر الوأواء في النسخة الأولى من هذا الكتاب ولم أَزد في هذه المقررة كثير زيادة " إهـ. لذا فإنني أقول ربما كانت هذه الأبيات الأربعة من تلك الزيادة التي جاء بها ابن المرزبان من القوّال غير الثقة عين الزمان وألحقها بديوان الوأواء والله أعلم.

ثم ذكر الحصري القيرواني (ت 453 هـ) بيتاً واحداً من القصيدة العينية في كتابه (زهر الآداب وثمر الألباب) وهو البيت المشهور " أستودع الله في بغداد ..." ونسبه لابن زريق بالرغم من أنّ أحد مصادره في هذا الكتاب هو (يتيمة الدهر) للثعالبي ممّا يؤكد ما ذهبنا إليه آنفاً.

أمّا ابن ماكولا (ت 475هـ) فقد ذكر في كتابه (الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب) البيت الرابع فقط من الأبيات الأربعة التي سبقه إليها الثعالبي ولكنّه فاجأنا عندما نسبه لشاعر شاميّ يعرف بالزريقي حيث قال: "وأما الزُّرَيقي بتقديم الزاي وضمها وفتح الراء، فهو شاعر شاميّ، يعرف بالزريقي مشهور بأبيات منها:
وكم تشفّع لي أن لا أفارقه * وللضرورة حال لا تشفّعه" إهـ
وذكر السمعاني (ت 562 هـ) في كتابه (الأنساب) الزّريقي ناقلاً قول ابن ماكولا بأنه شاعر شاميّ مشهورٌ بأبيات منها البيت الذي ذكره ابن ماكولا ثم قال : "وأوّلها
لا تعذليه فإنّ العذل يولعُه * قد قلت حقّاً ولكن ليس يسمعُه" إهـ
فهل القصيدة العينية المشهورة قد اختلطت فيها أبيات شاعرين في الأصل ، أحدهما بغدادي والآخر شاميّ؟

قال ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842 هـ) في كتابه (توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم) أنّ الزريقي هو ابن زريق الكاتب صاحب تلك القصيدة التي أوّلُها لا تعذليه فإنّ العذل يولعُه ... البيت. واكتفى ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) بالقول في كتابه (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه): "الزريقي شاعر مشهور وله قصيدة عينية يقال لها قصيدة ابن زريق" إهـ ومن الواضح أنّ ابن ناصر الدين وابن حجر قد تجنّبا أن يذكرا نسبة بلد ابن زريق بخلاف ابن ماكولا والسمعاني وقد يكون سبب هذا التجنّب هو شكّهما بأنه شاميّ وعدم تأكدهما بأنه بغدادي ومع ذلك فكلاهما أكّد أن الزريقي هو ابن زريق فهل قول ابن ناصر الدين وقول ابن حجر العسقلاني يحسمان مسألة أنّ القصيدة لشاعر واحد ولم تختلط فيها أبيات شاعرين في الأصل؟

إنّ ذكر كثير من المصنّفين نسبة البغدادي لقائل القصيدة العينية في مصنّفاتهم مثل وفيات الأعيان لابن خلكان (ت 681 هـ) والوافي بالوفيات للصفدي (ت 764 هـ) ومرآة الجنان لليافعي (ت 768 هـ) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (ت 771 هـ) وثمرات الأوراق لابن حجة الحموي (ت 837 هـ) وأسواق الأشواق من مصارع العشّاق لابراهيم البقاعي (ت 885 هـ) والجواهر والدرر للسخاوي (ت 902 هـ) والمحاضرات والمحاورات للسيوطي (ت 911 هـ) وقلادة النحر للحضري الشافعي (ت 947 هـ) وغيرهم من الذين جاءوا بعد ابن ماكولا والسمعاني يجعلنا نطمئنّ نسبيّاً إلى أنّ هناك شبه إجماع على أن صاحب القصيدة شاعرٌ بغدادي وأمّا الذي قاله ابن ماكولا ونقله منه السمعاني فيمكن أن يكون حقّاً ويمكن أن يكون اشتباهاً أو توهّماً ولا نملك ما نثبت فيه أحد الاحتمالين.

أمّا الاشتباه أو التوهّم الذي وقع لابن الدمياطي (ت 749 هـ) في كتابه (المستفاد من ذيل تاريخ بغداد) في ترجمته لعلي بن زريق الكاتب البغدادي فيمكن أن ندلّ عليه حيث قال: "صاحب القصيدة المشهورة التي رواها عنه أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين:
وما سر قبلي مذ شطت بك النوى * أنيس ولا كأس ولا متصرف
وما ذقت طعم الماء إلا وجدته * كأن ليس بالماء الذي كنت أعرف
ولم أشهد اللذات إلا تكلفا * وأي سرور يقتضيه التكلف؟
قال أبو عبد الله الحميدي: قال لي أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، فقال: من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة من ابن زريق فقد استكمل الظرف" إهـ

ولا ريبَ أنّ هذه الأبيات الفائية ليست لابن زريق لسببين ، الأول لأنّ أبا الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين (ت 412 هـ) قد روى القصيدة العينية بكاملها سماعاً من ابن زريق نفسه والذين ذكروا ذلك بأسانيد متّصلة بهم هم السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) وابن حجة الحموي في (ثمرات الأوراق) والسخاوي في (الجواهر والدرر) وابراهيم البقاعي في (أسواق الأشواق من مصارع العشّاق) ، والسبب الثاني هو إنّ القول السابق لابن حزم والذي نقله ابن الدمياطي في سياق كلامه عن ابن زريق يُحمَلُ على القصيدة العينية المشهورة وليس على غيرها والذين بيّنوا ذلك هم الصفدي والسبكي وابن حجة الحموي والسيوطي وأبو ذر سبط ابن العجمي (ت 884 هـ) في كتابه (كنوز الذهب في تاريخ حلب). ومن الجدير بالذكر أنّ هناك من نسب هذه الأبيات الفائية إلى القاضي ابن معروف وهناك من نسبها إلى أبي العشائر بن حمدان وهناك من نسبها إلى ابن خلّكان.

وبالرغم من أننا استبعدنا أن تكون القصيدة المشهورة التي يشير إليها ابن حزم هي الفائية وأثبتنا أنّها العينية إلّا أنّنا من الصعب أن نستبعد احتمال اختلاط أبيات شاعرين في القصيدة العينية لعدّة أسباب ، أولها ما أشرنا إليه آنفاً أنّ ابن ماكولا والسمعاني نسبا بعض أبيات القصيدة لشاعر شاميّ وأسموه بالزريقي ولا نملك ما ندفع به ذلك وثانيها أنّ هناك من ذكر اسم صاحب القصيدة "علي بن زريق" وهناك من ذكر اسمه "محمد بن زريق" فالذين ذكروا "علي بن زريق" هم ابن الدمياطي والصفدي والسبكي والبقاعي والسخاوي والسيوطي وغيرهم من المتأخرين والذين ذكروا "محمد بن زريق" هم ابن خلكان واليافعي والحضري الشافعي وشهاب الدين العمري (ت 749 هـ) في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار). والسبب الثالث سنبيّنه لاحقاً بعد أن نستعرض الروايات المرتبطة بابن زريق أو بعينيّته.

هناك ثلاث روايات ، الأولى قصة (رحيله!) إلى (الأندلس!) وأوّل من أخرج هذه القصة هو السراج القاري البغدادي (ت 500 هـ) في كتابه (مصارع العشاق) ولكن قبل أن أنقل ما أورده السراج القاري دون تحريف أفضّل أن أضع أوّلاً بين يدي القارئ القصّة المحرّفة التي وضعها محمود بن محمد الجزائري في (مجموع المزدوجات) الذي طبعه سنة 1278 هـ وأوهم القارئ أنه نقلها من (مصارع العشاق)، ليتسنى للقارئ اللبيب المقارنة ووضع اليد على مواضع التحريف. وقد أشار بروكلمان إلى مجموع المزدوجات هذه من ضمن مصادر ترجمته لابن زريق ولكن لا ندري لماذا اعتمد على ما جاء في القصة المحرّفة ولم يقتصر على أصل القصة فقط مع العلم أن الفاصل الزمني بينهما كبير جدّاً؟ ثم جاء من جاء بعد بروكلمان ليعتمد على ترجمته لابن زريق والتي سنبيّن لاحقاً أنها ليست الحقيقة من الناحية التاريخية.

قال محمود بن محمد الجزائري في مجموع المزدوجات: " قال صاحب كتاب مصارع العشاق أخبرني أبو الحسين علي بن علي بن محمد القرشي الأديب بالكوفة قال أخبرني بعض أصدقائي أن أبا الحسن علي بن زريق الكاتب البغدادي قصد أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي من بغداد إلى الأندلس فامتدحه وكان ذلك لفاقة عرته قال وكان له ابنة عم يحبها حباً شديداً وهي تحبه ففارقها بسبب فاقته وتوجه إلى الأندلس فمدحه بقصيدة بليغة فأراد عبد الرحمن أن يختبره فأعطاه شيئاً قليلاً فقال إبن زريق إنا لله وإنا إليه راجعون سلكت البراري والقفار وسرت في البحار إلى هذا االرجل فأعطاني هذا النزر قال فانكسرت نفسه وتذكر فراق ابنة عمه وبعد المشقة بينه وبينها وحمْل المشقة مع قلة دنياه فاعتلّ غمّاً ومات وكان عبد الرحمن اشتغل عنه أياماً ثم سأل عنه فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتاً وعند رأسه رقعة مكتوب فيها قصيدة شعر فإذا هي المشهورة التي قيل فيها إنّ من لبس البياض وتختّم بالعقيق وتفقه للشافعي وقرأ لابن عمرو وحفظ قصيدة ابن زريق البغدادي فقد حاز الظرف كله. وهي هذه القصيدة (...40 بيتاً...) قال جعفر فلما وقف عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى خضب لحيته وقال وددت لو أنّ هذا الرجل في قيد الحياة وأشاطره ملكي وكان قد كتب في الرقعة منزله ببغداد في الكرخ بموضع كذا وقومه يعرفون بكذا فحمل إليهم عبد الرحمن المذكور خمسة آلاف دينار وأعلمهم بكيفية موته رحمه الله انتهى والله أعلم" إهـ

أما النص الأصلي غير المحرّف كما هو موجود في (مصارع العشاق) لجعفر بن أحمد السراج القاري (ت 500 هـ) فهو هذا:

"أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن الجاز القرشي الأديب بالكوفة، وأنا متوجه إلى مكة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حاتم بن بكير البزاز التكريتي بتكريت قال: حدثني بعض أصدقائي أن رجلاً من أهل بغداد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه، فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره، فأعطاه شيئاً نزراً، فقال البغدادي: إنا لله وإنا إليه راجعون! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر؟ فانكسرت إليه نفسه واعتل فمات. وشغل عنه الأندلسي أياماً، ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه، فانتهوا إلى الخان الذي كان فيه وسألوا الخانية عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره، فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميتاً، وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:
لا تعذليه فإنّ العذل يولعُه * قد قلت حقّاً ولكن ليس يسمعُه
جاوزتِ في نصحه حدّاً أضرّ به * من حيثُ قدّرتِ أن النصح ينفعه
قد كان مضطلعاً بالحطْب يحملُه * فضُلّعتْ بخطوب البَين أضلُعه
ما آبَ من سفرٍ إلا وأزعجه * عزمٌ إلى سفرٍ بالرُّغم يُزمعُه
كأنّما هو في حلّ ومُرتحَلٍ * موكَّلٌ بقضاء الله يذرعُه
أستودع الله في بغداد لي قمراً * بالكرخ من فلك الأزرار مطلعُه
وكم تشفّع بي أن لا أُفارقه * وللضرورات حالٌ لا تُشفّعُه
وكم تشبّث بي يوم الرّحيل ضُحى * وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعُه
أُعطيتُ ملكاً فلمْ أُحسِن سياستَه * وكلُّ من لا يسوس المُلكَ يخلعُه
ومن غدا لابساً ثوب النّعيم بلا * شكرٍ عليه فعنهُ اللهُ ينزعُه
قال لنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز وزادني أبو علي الحسن بن علي المتصوف:
والحرصُ في المرء والأرزاق قد قسمت * بغيٌ ألا إنّ بغي المرء يصرعُه
لو أنني لم تقع عيني على بلد * في سفرتي هذه إلا وأقطعه
اعتضتُ من وجه خِلّي بعد فرقتهِ * كأساً تجرّع منها ما أُجَرَّعُه
فلما وقف أبو عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي. وكان في رقعة الرجل: منزلي ببغداد في الموضع المعروف بكذا، والقوم يعرفون بكذا، فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وسفتجة، وحصلت في يد القوم وعرفهم موت الرجل." إهـ

وصرّح السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) أن ابن السمعاني ذكر لهذه القصيدة قصة عجيبة فروى بسنده نفس القصة التي أخرجها السراج في (مصارع العشاق).

ورواها أيضاً إبراهيم البقاعي (ت 885 هـ) ورأيتها في مخطوطة كتابه (أسواق الأشواق من مصارع العشاق) من مكتبة الخزانة العامة بالرباط وتاريخ نسخها 876 هـ وهي بنفس السند والمتن الذي ورد في (مصارع العشاق) للسراج القاري دون تحريف ثم قال البقاعي بعدها: "وهذه القصيدة لأبي الحسن بن زريق الكاتب وهي من القصايد العظيمة المشهورة" إهـ.

لم يصرّح السراج القاري وهو أوّل من أخرج القصّة ولا الذين نقلوا القصة منه كابن السمعاني والسبكي وابراهيم البقاعي لم يصرّحوا بأنّ الرجل البغدادي المسافر هو ابن زريق مؤلف القصيدة العينية. وقد يحتجّ علينا من يقول أن عنوان القصة في مصارع العشاق هو (فراقية ابن زريق) والجواب هو إنني أرى أنّ جميع عناوين القصص في كتاب (مصارع العشاق) المطبوع بين أيدينا ومن ضمنها عنوان قصة ابن زريق هي ليست من وضع السراج القاري مؤلف الكتاب وإنّما من وضع بعض النسّاخ المتأخرين وذلك لأنّ ابراهيم البقاعي ما ألّف كتابه (أسواق الأشواق من مصارع العشّاق) إلّا لترتيب وتهذيب (مصارع العشاق) والزيادة عليه كما بيّن ذلك في المقدّمة ولو كان السراج القاري هو واضع العناوين لذكرها البقاعي في كتابه. واستناداً لهذا فإنّني أعتقد أنّ الرجل البغدادي الذي ذكره السراج في القصة والذي رحل ثم وجدوه ميتاً وبجنبه رقعة فيها أبيات من القصيدة هو ليس ابن زريق مؤلف القصيدة وسأثبت ذلك لاحقاً من الناحية التاريخية.

والرواية الثانية أخرجها أبو عبد الله الحميدي (ت 488 هـ) في كتابه (جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس) فقال:
" حدثني أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم بن غالب الفارسي الفقيه، وأملاه علي بالأندلس، قال: نا أبو البركات محمد بن عبد الواحد الزبيري، قال: حدثني أبو علي حسن بن الأشكرى المصري، قال: كنت من جلاس تميم بن أبي تميم، وممن يخف عليه جدا، قال: فأرسل إلى بغداد، فابتيعت له جارية رائعة فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة، وأمرها بالغناء، فغنت:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى * برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه * صعب الذرى متمنع أركانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه * والماء ما سحت به أجفانه
قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت:
ستسليك عما فات دولة مفضل * أوائله محمودة وأواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه * على البر مذ شدت عليه مآزره
قال: فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، قال: ثم غنت:
استودع الله في بغداد لي قمراً * بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
قال: فاشتد طرب تميم، وأفرط جداً، ثم قال لها: تمنى ما شئت، فلك مناك، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسعادته، فقال: والله لابد لك أن تتمنى، فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى؟ فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد، قال: فاستنقع لون تميم، وتغير وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقمنا، قال ابن الأشكرى: فلحقني بعض خدمه وقال لي: ارجع، فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وقمت بين يديه، فقال: ويحك! أرأيت ما امتحنا به؟، فقلت نعم أيها الأمير، فقال لابد من الوفاء لها، وما أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنت هنالك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة، قال: ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية له سوداء تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل، فأدخلت فيه، وجعلها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتنى السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية، فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء:
لما وردنا القادسية حي * ث مجتمع الرفاق
وشممت من أرض الحجا * ز شميم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أح * ب بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقا * ء كما بكيت من الفراق
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! أعيدي بالله! قال: فما سمع لها كلمة، قال: ثم نزلنا الياسرية، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل الناس بها. يبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح، إذ أنا بالسوداء قد أتتنى مذعورة، فقلت: مالك؟ فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت ويلك! وأين هي؟ قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد، ودخلت بغداد وقضيت حوائجى بها، وانصرفت إلى تميم، فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه، واغتم له، ثم ما زال بعد ذلك ذكراً لها، واجماً عليها." إهـ

والذي يهمّنا من هذه الرواية هو البيت الشعري لابن زريق الذي غنّته الجارية في حضرة الأمير تميم بن أبي تميم فمن هو هذا الأمير؟
قبل أن نعرف ذلك ، من المفيد أن نذكر أسماء المصنّفين الذين ذكروا هذه القصة فالذين ذكروها باسناد كامل متّصل بهم هم على الترتيب: الحميدي (ت 488 هـ) والسراج القاري (500 هـ) وابن عساكر (ت 571 هـ) وابن الجوزي (ت 597 هـ) وأبو جعفر الضبي (ت 599 هـ) وابن دحية الكلبي (ت 633 هـ) وسبط ابن الجوزي (ت 654 هـ) والذين ذكروها دون اسناد متّصل بهم هم على الترتيب ابن خلكان (ت 681 هـ) وشهاب الدين العمري (ت 749 هـ) واليافعي (ت 768 هـ) وابن كثير (ت 774 هـ) وابراهيم البقاعي (ت 885 هـ) والسيوطي (ت 911 هـ) والحضري الشافعي (ت 947 هـ)

أما الأمير فهو تميم بن المعزّ الفاطمي وقد بيّن ذلك عند ذكر قصة الجارية مجموعة من المصنفين وهم ابن الجوزي وسبط ابن الجوزي وابن كثير والسيوطي وقد خالفهم ابن خلكان فذكر أنّ تميم هو أبو المعز بن باديس! وربما طرأ على كلمة "ابن" تصحيف من قبل النسّاخ فصارت "أبو" وخالفهم أيضاً شهاب الدين العمري فذكر أنّ تميم هو جدّ المعزّ بن باديس! وهذا غريب أيضاً. وسبب هذا الاضطراب في تحديد هوية الأمير ناشيء من تشابه أسماء أميرين مع تشابه أسماء أبويهما وكلاهما شاعرٌ لديه شعرٌ تتناقله الكتب فالأوّل تميم بن المعزّ بن المنصور بن القائم بن المهدي الفاطمي ، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب وهو الذي بنى القاهرة المعزيّة. لم يلِ المملكة لأنّ ولاية العهد كانت لأخيه العزيزفوليها بعد وفاة أبيه سنة 365 هـ. وقد توفّي تميم بمصر سنة 374 هـ وقيل إنه ولد سنة 337 هـ. والثاني تميم بن المعز بن باديس بن المنصور الصنهاجي ، من ملوك الدولة الصنهاجية بأفريقية الشمالية ، ولد سنة 422 هـ وولاه أبوه المهدية سنة 445 هـ ثم ولي الملك بعد وفاة أبيه سنة 454 هـ حتى وفاته سنة 501 هـ.

والراجح أن الأمير المقصود في قصة الجارية هو تميم الفاطمي وليس تميم الصنهاجي لسببين ، أوّلها أن أبا الأوّل كنيته أبو تميم وأبا الثاني لا تُعرف كنيته كما قال ابن خلكان نفسه في ترجمة المعزّ بن باديس واسم الأمير في قصة الجارية هو تميم بن أبي تميم ، وثانيها أنّ ابن خلكان والعمري سردا قصة الجارية دون اسناد متصل بهما بينما بيّن اثنان من الذين رووا قصة الجارية باسناد متصل بهم أن الأمير هو تميم بن المعز الفاطمي وهما ابن الجوزي وسبط ابن الجوزي وخبر المُسنِد مقدّم على خبر غير المُسنِد عند الاختلاف في الرواية.

ويمكن أن نستنتج من البيت الشعري الذي يبدأ بعبارة : " سيسليك عما فات دولة مفضل " أن الجارية اختارته لتعزية الأمير بموت أبيه المعزّ الفاطمي وتسنّم أخيه العزيز المُلك بعده وعليه فإنّ قصة الجارية حدثت في سنة 365 هـ بالتحديد أو بعدها وهي السنة التي مات فيها المعزّ الفاطمي. فإذا علمنا ذلك يصبح تخمين بروكلمان لسنة وفاة ابن زريق بعد (رحيله!) إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي قولاً مردوداً لأنّ بروكلمان ظنّ أن ابن زريق هو الرجل البغدادي المذكور في القصة وأنه كتب قصيدته بعد رحيله وليس قبله وقدّر أنّ ذلك حدث في 420 هـ بينما نجد أنّ الجارية في القصة الأخرى قد غنت بيت ابن زريق الشعري في الفترة المحصورة بين 365 هـ و 374 هـ وهي سنة وفاة الأمير تميم فمن أين أتت الجارية ببيت ابن زريق الشهير "أستودع الله في بغداد ..." وابن زريق لم يقله بَعْدُ استناداً إلى رأي بروكلمان؟

وإذا أضفنا إلى هذا حقيقة أخرى وهي أنّ القصيدة العينية قد تناقلها الرواة المتسلسلون بكاملها وصولاً إلى ابن زريق نفسه وأنّ الراوي الأوّل الذي سمعها منه هو أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين وقد توفي سنة 412 هـ فكيف يمكن أن نصدّق قصة رحيل ابن زريق إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي سنة 420 هـ ثم كتابته للقصيدة قبل موته هناك؟

إنّ قصّة الرحيل يظللُ عليها الغموض من كلّ الجوانب فالراوي الأوّل للقصّة رجلٌ مجهول جهالة عين فقد انتهى سندها بعبارة : " حدثني بعض أصدقائي أن رجلاً من أهل بغداد " والذي سمع من هذا الصديق هو علي بن حاتم بن بكير البزاز ولم أعثر على ترجمة له في كتب التاريخ والتراجم فهو أيضاً مجهول جهالة حال ويُضاف إلى ذلك اعتراف جميع الباحثين بعدم قدرتهم لمعرفة هويّة أبي عبد الرحمن الأندلسي فكيف يمكن والحالة هذه أن نبني على مثل هذه القصّة رأياً نطمئنّ إليه؟

وعلى فرض صحّة القصة ، فليس فيها أيّ ذكر لاسم ابن زريق وإنّما الذي رحل رجلٌ من بغداد ، قال الراوي إنه تقرّب إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي بنسَبهِ ولم يقل إنه تقرّب إليه بمدحه ممّا يعزز رأينا أنه ليس الشاعر الذي كتب القصيدة ، ومن المحتمل أنه حمل معه في هذا السفر الطويل رقاعاً فيها شعرٌ وأخبارٌ للتسلية ومن ضمنها أبياتٌ من قصيدة ابن زريق. وقد ذكرنا آنفاً أن عنوان القصة في كتاب (مصارع العشاق) وهو (فراقية ابن زريق) ليس من وضع مؤلف الكتاب وإنّما من النسّاخ المتأخرين.

وثمّة أمرٌ آخر أورده الصفدي (ت 764 هـ) في كتابه (الوافي بالوفيات) يعزّز رأينا في تخطئة تخمين بروكلمان سنة رحيل وموت ابن زريق بعد كتابة قصيدته سنة 420 هـ وهو إنّ الصفدي ذكر في ترجمة علي بن زريق البغدادي أنه أنشأ هذه القصيدة العينية في مدح العميد أبي نصر وزير طغرلبك. وأبو نصر هذا هو: عميد الملك الوزير محمد بن منصور الكندري وقد توفي سنة 456 هـ وعمره نيف وأربعين سنة. ويثير هذا الخبر الذي أورده الصفدي عدّة إشكالات: الإشكال الأوّل هو إنّ القصيدة العينية ليس فيها ما يدلّ على مدح الوزير. والإشكال الثاني هو إنّ أبا حيّان التوحيدي قد أورد بيتين من القصيدة العينية في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) دون أن ينسبهما لأحدٍ ، والمؤرخون يقدّرون سنة وفاة التوحيدي نحو 400 هـ وهذا يعني أنّ القصيدة قيلت قبل ولادة وزير طغرلبك لأنّ عمره نيف وأربعين سنة وقد توفّي سنة 456 هـ. والإشكال الثالث هو ليس بوسعنا الجمع بين رحيل ابن زريق لأبي عبد الرحمن الأندلسي إذا صحّ ذلك وبين مدحه لوزير طغرلبك لأنّ السنة التي رحل بها ابن زريق وكتب القصيدة قبل موته كما يرى بروكلمان هي سنة 420 هـ وفيها كان عُمْر أبي نصر وزير طغرلبك لم يتجاوز سبع سنوات فيا ليت شعري متى مدحه ابن زريق؟ وقد أشار الدكتور الطناحي رحمه الله للإشكال الأول والثاني فقط في مقالته (عينية ابن زريق) ولم يُشر إلى الإشكال الثالث وعليه فقد شكّ في البيتين اللذين ذكرهما أبو حيان التوحيدي فقال: "إنّ البيتين ليسا لابن زريق" ولكن شكّه هذا لا يحلّ لنا إلا الإشكال الثاني فقط.

ولتجاوز هذه الاشكالات الثلاثة معاً ، ليس أمامنا سوى التفكير باحتمال وجود قصيدة أخرى غير العينية لابن زريق مدح بها الوزير حقّاً ولكنّ الصفدي أو أحد النسّاخ لسبب ما ربّما اختلط عليه أمر القصيدتين فحصل منه هذا الاضطراب مثلما حصل لابن الدمياطي أو أحد النسّاخ كما أشرنا آنفاً مع الأبيات الفائية ، آخذين بنظر الاعتبار أن الذي رحل لأبي عبد الرحمن الأندلسي ليس ابن زريق وإنّما رجلٌ من بغداد كما ورد في ظاهر النصّ في (مصارع العشاق) دون أن نلقي بالاً لعنوان القصة (فراقية ابن زريق) الذي أدخله الناسخ المتأوّل فحرّف حقيقة الأمر من حيث يدري أو لا يدري ، وإنّ هذا الرجل البغدادي المسافر كانت معه رقاع ومن ضمنها رقعة عليها أبيات لابن زريق ، حينئذ يمكن الجمع بين قصّة رحيل هذا الرجل البغدادي ومدح ابن زريق لوزير طغرلبك.

ولنا أن نتساءل إذا كان ابن زريق محتاجاً للمال فما حاجته للسفر إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي كلّ هذه المسافة الطويلة والمرهقة من بغداد إلى الأندلس وهو الذي قد مدح وزير طغرلبك في العراق والتقى بالأميرأبي الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين وهو أمير في إمارة أبيه الإمارة الشاهينية بالبطيحة وهي منطقة في العراق؟ هذا التساؤل يُضاف إلى الأسباب الآنفة التي أثبتنا بها أنّ الذي رحل في القصة المذكورة إنْ صحّتْ هو رجلٌ مجهولٌ من بغداد وليس ابن زريق الشاعر صاحب القصيدة العينية.

أما الرواية الثالثة فوجدتها في (طبقات الشافعية الكبرى) للسبكي (ت 771 هـ) فقد قال بعد أن أورد القصيدة العينية بسنده إلى عليّ بن زريق البغدادي وبعد أن ذكر قصة رحيل الرجل البغدادي إلى أبي عبد الرحمن الأندلسي نقلاً عن ابن السمعاني:
" قلت وعلي بن زريق الكاتب صاحب هذه القصيدة هو القائل: حضرت مجلس القتبي صاحب بيت حكمة المأْمون وعنده فتيان أربعة قد نظروا في الأخبار ورووا الأشعار وتأدبوا بفنون الآداب وكل فتى منهم ينتمي إلى جنس ويقول بتفضيله فقال القتبي وقد طال بهم المراء ليقل كل واحد منكم في مجلسه بيتَي شعر في فضل قومه فقال المنتمي إلى الفرس
نحن الملوك وأبناء الملوك لنا * علم السياسة والتّدبير والكتب
ونحن من نسل إسحاق الذّبيح وفي * مجد النّبيين ظلّ المجد والحسب
وقال المنتمي إلى العرب
فينا الشجاعة طبع والسخاء كما * فينا الدهاء وفينا الظّرف والأدب
ونحن من نسل إسماعيل قاطبة * لا ينكر النّاس قولي حين أنتسب
وقال المنتمي إلى الرّوم
الرّوم قوم لهم حلم وتجربة * وحسن خلق وعلم بارع عجب
وهم بنو العيص والأملاك لاكذب * ولبسهم شقق الديباج والذَّهب
وقال المنتمي إلى التّرك
التّرك لم يملكوا في دار ملكهم * والفرس قد ملكوا والروم والعرب
هذا لعمرك فضل ليس يجحده * إلّا حسود عنيد ما له أدب
قال عليّ بن زريق فعجبت من افتخار التركي عليهم
قلت لو أن العربيّ قال
فينا الشجاعة طبع والسخاء كما * فينا الدهاء وفينا الظّرف والأدب
وأحمد المصطفى الهادي النبيّ وذا * هو الفخار الذي سادت به العرب
أو لو قال
ما الفرس ما الرّوم ما الأتراك نحن بنو * عدنان فينا الحجا والجود والأدب
هذا وإن لنا بالمصطفى حسبا * به على كل ندب سادت العرب
لكان قد أفحم الكل وافتخر عليهم" إهـ

فمن هو القتبي صاحب بيت حكمة المأمون؟ قبل أن أبحث عن القتبي رجعتُ إلى نسخة لمخطوطة طبقات الشافعية الكبرى وأصلها في مكتبة لايبزج في ألمانيا لم يعتمدها محققا الكتاب الأستاذان محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو رحمهما الله فوجدتُ مكتوباً على الصفحة الأولى من المخطوطة (المجلد الأولي من طبقات العلماء وهي النسخة الكبرى التي ألفها الإمام الهمام عبد الوهاب ابن السبكي كُتبت من النسخة التي كتبها المؤلف قوبلت بالأصل مرّة ونُظر فيها ثانياً وثالثاً) ووجدتُ كلمة العُتْبي بدلاً من القتبي في موضع الرواية التي نقلها السبكي على لسان ابن زريق وقد كانت واضحة. فمن هو العُتبي صاحب بيت حكمة المأمون الذي حضر مجلسَه علي بن زريق؟

لولا عبارة (صاحب بيت حكمة المأمون) لترددنا كثيراً في معرفة هذا العتبيّ ولبقي الأمرُ غامضاً ولكن بالاستعانة بها ثمة احتمال كبير بأنّ المقصود هو محمد بن عبيد الله العُتبي أبو عبد الرحمن الشاعر والأديب واللغوي والراوية الأخباري الذي عاش في العصر العباسي الأول وتوفي سنة 228 هـ ومن يتتبع أخباره في جميع أصناف كتب التراث سيعرف أنّ له مجلساً حضره الكثير من الأعلام والعلماء والشعراء ولا بدّ أنّ عليّ بن زريق كان من ضمنهم استناداً لما نقله السبكي في كتابه. وبالرغم من أنّ السبكي لم يذكر المصدر الذي نقل منه هذه الرواية النادرة والغريبة إلّا أنّ سياق الرواية من أوّلها يدلّ على توثيق السبكي لصحّتها. واستناداً لهذه الرواية فإنّ عليّ بن زريق قد عاش في العصر العباسي الأوّل وربّما جزءاً من العصر العباسي الثاني الذي اعتمد فيه الخلفاء على العنصر التركي وفي الحكاية تلميحٌ غير مباشر لهذا الأمر.

ولكن كيف نستطيع أن نجمع بين رواية حضوره لمجلس العُتبي (ت 228 هـ) التي تدلّ على أنّ علي بن زريق كان حيّاً في الربع الأول من القرن الثالث الهجري على وجه التقريب وبين رواية القصيدة التي أوردها بعض المصنّفين بأسانيدهم المتّصلة إلى أبي الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين (ت 412 هـ) والذي سمعها مباشرة من علي بن زريق البغدادي وبين مدحه لوزير طغرلبك الذي توفي سنة 456 هـ وعمره نيف وأربعين سنة ، ممّا يدلّ على أنّ ابن زريق كان حيّاً في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري على وجه التقريب؟

هناك ثلاثة احتمالات لحلّ هذا الإشكال. الأوّل هو أن العُتبي رجل آخر غير الذي أشرنا إليه والاحتمال الثاني هو أن رواية حضور مجلس العتبي غير موثوقة والروايتين الأخريين موثوقة أو العكس والاحتمال الثالث هو أنّ هناك شاعرين باسمين متقاربين أحدهما كان حيّاً في الربع الأول من القرن الثالث الهجري والآخر كان حيّاً في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري والنصف الأول من القرن الخامس الهجري وربّما لسببٍ ما قد اختلطت أبيات كلّ منهما بأبيات الآخر لاتفاق الوزن والقافية والنفَس الشعري. وبالرغم من أن هذه الاحتمالات لا نملك حتى الآن ما نثبتُ به أيّاً منها إلّا أنّ الاحتمال الثالث أقواها لأنّه يفسّر الاضطرابات التي حدثت لبعض المصنّفين الذين حاولوا أن يترجموا لابن زريق ويحلّ الإشكالات التي أشرنا إليها عند الجمع بين الروايات المتعلقة به وبالقصيدة العينية. ولحين اثبات هذا الاحتمال على وجه اليقين، ليس أمامنا سوى الاستئناس به لأننا لم نتوصّل إليه إلا باستقراء تاريخي بعيد عن التكهّنات المفتقرة للدليل قدر الإمكان.

وإذا علمنا أن في التراث الشعري العربي قصيدة ميمية مشهورة قد اختلطت أبياتها ونُسبت أجزاءٌ منها لأكثر من شاعر أشهرهم الفرزدق في مدح زين العابدين رحمه الله وفي مدح غيره ، فليس غريباً أن تكون هذه القصيدة العينية الرائعة الخالدة قد اختلطت أيضاً أبياتها ونُسبت لرجلـ(ين) يقال لهـ(ما) ابن زريق أو الزريقي.

*****************

مصادر البحث:
1. الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (ت نحو 400 هـ)
2. يتيمة الدهر للثعالبي (ت 429 هـ)
3. زهر الآداب وثمر الألباب للحصري القيرواني (ت 453 هـ)
4. الإكمال في رفع الإرتياب لابن ماكولا (ت 475 هـ)
5. جذوة المقتبس لأبي عبد الله الحميدي (ت 488 هـ)
6. مصارع العشّاق للسراج القاري البغدادي (ت 500 هـ)
7. الأنساب للسمعاني (ت 562 هـ)
8. تاريخ دمشق لابن عساكر (ت 571 هـ)
9. المنازل والديار لأسامة بن منقذ (ت 584 هـ)
10.المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي (ت 597 هـ)
11. ذم الهوى لابن الجوزي (ت 597 هـ)
12. بغية الملتمس لأبي جعفر الضبي (ت 599 هـ)
13. الكامل في التاريخ لابن الأثير (ت 630 هـ)
14. المطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية الكلبي (ت 633 هـ)
15. مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي (ت 654 هـ)
16. وفيات الأعيان لابن خلكان (ت 681 هـ)
17. تاريخ الإسلام للذهبي (ت 748 هـ)
18. سير أعلام النبلاء للذهبي (ت 748 هـ)
19. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لشهاب الدين العمري (ت 749 هـ)
20. المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي (ت 749 هـ)
21. الوافي بالوفيات للصفدي (ت 764 هـ)
22. مرآة الجنان وعبرة اليقظان لليافعي (ت 768 هـ)
23. طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (ت 771 هـ) (مخطوطة)
24. البداية والنهاية لابن كثير (ت 774 هـ)
25. ثمرات الأوراق في المحاضرات لابن حجة الحموي (ت 837 هـ)
26. توضيح المشتبه لابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842 هـ)
27. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)
28. كنوز الذهب في تاريخ حلب لأبي ذر سبط ابن العجمي (ت 884 هـ)
29. أسواق الأشواق من مصارع العشّاق لابراهيم البقاعي (ت 885 هـ) (مخطوطة)
30. الجواهر والدرر للسخاوي (ت 902 هـ)
31. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي (ت 911 هـ)
32. المحاضرات والمحاورات للسيوطي (ت 911 هـ)
33. قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر للحضري الشافعي (ت 947 هـ)
34. الأعلام للزركلي
35. تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان
36. ديوان الوأواء الدمشقي تحقيق الدكتور سامي الدهان
37. مقالات الدكتور محمود الطناحي
38. شعراء الواحدة لنعمان ماهر الكنعاني
39. مجموع المزدوجات لمحمود بن محمد الجزائري

عامر الرقيبة 13-01-2020 07:57 AM

1 مرفق
لأنني لا أعرف كيف أستخدم خاصية الهوامش في ملتقى أهل اللغة ، أرفق لكم نفس البحث مع هوامشه باستخدام برنامج pdf لمن أراد الاستفادة من الإحالات والرجوع إلى المصادر

محمد محمد مقران 10-03-2020 10:00 PM

جزاك الله خيرا، وقد رجح الطناحي أن يكون ابن زريق قد ضمن قصيدته أربعة الأبيات التي ذكرها الثعالبي في اليتيمة، وذكر اثنين منها من قبله أبوحيان في الإمتاع.
وهذا تصحيح لبعض الأبيات:
وما سر قلبي منذ شطت بك النوى. أنيس ولا كأس ولا متصرف
قلبي بتقديم اللام على الباء: مفعول به مقدم لسر،
ومنذ بالنون ليستقيم الوزن.
كأنما هو في حل ومرتحل ، موكل بفضاء الله يذرعه
فضاء الله بالفاء: أرض الله الواسعة، أقام الصفة مقام الموصوف، قال الحماسي:
فلو كنت في الأرض الفضاء لعفتها . ولكن أتت ابوابه من ورائيا
على أن الرواية الأجود: موكل بفضاء الأرض يذرعه

عامر الرقيبة 11-03-2020 07:43 AM

أشكرك أخي محمد جزيل الشكر على ملاحظاتك القيّمة.
ما قلتَه صحيح إلّا أنني اعتمدتُ في كتاب المستفاد من ذيل تاريخ بغداد على طبعة المحقّق مصطفى عبد القادر عطا وفيها كلمة (مذ) بالرغم من أنها تكسر الوزن كما أشرتَ ، أما كلمة (قلبي) فكان الخطأ منّي. واعتمدتُ كذلك في كتاب مصارع العشاق على طبعة دار صادر وفيها كلمة (قضاء) بالرغم من أنّ الصحيح فضاء كما أشرتَ مشكوراً. بارك الله فيك


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 01:58 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ