|
#1
|
|||
|
|||
الفطرة
ومما تقرر في الفطرة ضَرُورَةً أولى تَثْبُتُ ، أَنَّ الرَّبُّ ، جل وعلا ، ليس بمعطَّل عن الوصف ، فلم يكن منه عدم أول ، ثم كان منه موجود محدث ، وليس من وصفه الثابت في الأزل : وصف نقصٍ ثُمَّ كَمُلَ بَعْدُ بما يحدث من آحاد الفعل ، إن في الكون أو في الشرع ، بل له من الأولية ما يُطْلَقُ ، أَوَّلِيَّةِ الذاتِ وَمَا يَقُومُ بِهَا من الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ والأحكامِ ، فهو ، جل وعلا ، الرب المكوِّن الأول ، وإن لم يكن ثَمَّ بَعْدُ تَكْوِينٌ يَنْفُذُ ، وَهُوَ الحاكم المشرِّع الأول ، وإن لم يكن ثم بَعْدُ تَشْرِيعٌ يَنْزِلُ ، ومن ذلك عنوان التوحيدِ الأوَّلِ ، توحيدِ الربِّ الخالقِ بما كان من كمال الفعل الأول ، فَتِلْكَ الأولية المطلقة التي تَنَاوَلَتِ الذَّاتَ والاسمَ والوصفَ والفعلَ والحكمَ ، فَثَمَّ من ربوبيةِ الفعلِ : التقديرُ الأوَّلُ فِي علمٍ محيطٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، وَثَمَّ تال من الإرادة يُخَصِّصُ وَيُرَجِّحُ ، وهو ما عَمَّ بَعْدُ التدبيرَ المحكَمَ ، فكلُّ أولئك وصفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، وَإِنْ نَوْعًا أَوَّلَ يَقْدُمُ من الفعلِ قُوَّةً ، فتأويله ما يعقب من آحاد بالفعلِ تُصَدِّقُ أَوَّلًا من القوة ، فَثَمَّ آحاد من أفعال الربوبية تُصَدِّقُ مَا كَانَ من وصفِها الأول الذي يقدم ، ومنه وصف ذات ، كما العلم المقدر في الأزل ، وهو ما ثَبَتَ أَوَّلًا ، فتناولته الأولية المطلقة في اسمه جل وعلا : "الْأَوَّلُ" ، ومنه وصف فعل به الترجيح الذي يخرج المقدور الجائز من العدم إلى وجودٍ تَالٍ ثَابِتٍ ، وهو الوجود المصدِّق فِي الخارج لآخر في الأزل يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ مِنَ المقدورِ أول إلا العدم المطلَق ، عدم الوجود في الخارج ، فليس منه إلا عدم في الأزل ، فلم يكن منه إلا المعلوم الذي تَنَاوَلَهُ العلمُ المحيطُ المستغرِقُ ، وذلك وصفُ الخالقِ لا المخلوق المحدَث ، فَلَيْسَ ثَمَّ من الأخير إلا المحدَث بعد أن لم يكن ، وإن كان منه معلوم أول ، فهو من علمِ الخالق المحدِث لا المخلوق المحدَث ، فالأخير حادث بعد أن لم يكن ، فليس منه إلا العدم الأول ، فلم يكن في المبدإ إلا الله ، جل وعلا ، الذات القدسية وما قام بها من الأسماء والصفات والأفعال والأحكام ، فلم يكن ثم شيء معه ، وإن كان من علمِه المحيطِ المستغرِقِ مَا تَنَاوَلَ أشياءَ لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ في الخارج ، فَمِنْهَا معلومٌ أول يَقْدُمُ ، وهو المقدور الذي ثَبَتَ في علمٍ محيطٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، وذلك ، كما تقدم ، وصف الخالق الأول لا المخلوق المحدَث بَعْدًا ، فكان من توحيد الرب الأول ، جل وعلا ، توحيد الأولية المطلقة إذ كان وحده في الأزل ولم يكن ثم شيء معه ، فَلَهُ مِنْ وصفِ الأولية ما أُطْلِقَ ، فاستغرق وجوه المعنى ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، حكم الضرورة العقلية الملجئة وإلا لم يكن من الخلقِ شَيْءٌ في الخارج يَثْبُتُ ، فلا بد من أول لا أول قَبْلَهُ ، وبه الترجيح في جائز من المقدور أول ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وهو ما يسبق ، وذلك مما تسلسل في العقل حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إِلَى أَوَّلٍ لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَهُوَ يُرَجِّحُ فِي الجائزِ ، ولا يكون ذلك إلا عن موجود له وجودٌ ذاتيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، وله من ذلك حقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، فَلَيْسَ المجرَّد الذهني الذي يصدر عن قاعدة من التعطيل تَقْبُحُ ، مَعَ زيادةٍ في الحدِّ تجاوز فِي التجريدِ صريحَ العقلِ ، إذ تَفْرِضُ المحال الذاتي الممتنع ، المطلق بشرط الإطلاق ، فلا وجود له في الخارج يجاوز ، بل ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، من الإغراق في النَّظَرِيَّاتِ ، وبه الدين الْمُنْزَلُ يَصِيرُ مَادَّةَ جدالٍ لا يَنْفَعُ ، فلا عمل يُبْنَى عَلَيْهِ ، وإنما غَايَتُهُ أَنْ يُقِيمَ الحجَّةَ على المخالف ، وتلك الضرورة التي تُقَدَّرُ بقدرها ، وإلا فالأصل الاشتغال في التصور والحكم بما له آثار من العمل تظهر ، وبها إصلاح الأولى والآخرة ، فَعُمْرَانُ كُلٍّ لا يكون إلا بحكومات من الوحي تَنْصَحُ ، فيكون من ذلك توحيد الشريعة المحكم ، فَثَمَّ أصل أول من العلم ، وهو واجب أول قبل الشروع في عمل تالٍ يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ من التصور أول ، وهو حتم لازم في حصول اسم من الدين يَنْفَعُ ، وذلك مطلوبُ كُلِّ ذِي عَقْلٍ يَنْصَحُ بِمَا يُعَالِجُ ضرورةً من مقدمات العقل والفطرة والحس ، فكلُّها شاهدُ صدقٍ بِتَوْحِيدٍ أول له من وصف العلم ما يحيط ، وله من وصفِ الإرادةِ ما به التَّرْجِيحُ ، فلا بد من علم يُثْبِتُ وجود الخالق الأول ، وهو ما قَرَّرَ الوحي بعبارة يسيرة تخلو من الإجمال والتعقيد ، بل قد جَاءَ مِنْهَا ما أثبت توحيد العلم والخبر ، وجادل المخالف بآي محكمات تخاطب مواضع الضرورة في العقلِ ، وهو ما استوى فيه الخاص والعام ، المجتهِدُ والمقلِّدُ ، مَنْ يَفْقَهُ دَقَائِقَ الجدلِ ، ومن لا يحسن النظر ، وبذا امتازت حجة الوحي المحكمة من وجوه في الكلام والحكمة تَغْمُضُ ، وإن كان منها صحيح يَنْصَحُ ، فلا حجة به تُقَامُ ، فَشَرْطُهَا أَنْ يَعْقِلَهَا الجمعُ كَافَّةً ، فلا يكون منها دقيق لَا يَفْقَهُهُ إلا الخاصة ممن تَعَاطَى مسائل الجدال والتأويل ، لا سيما الباطن الذي يحتكره قَلِيلٌ يُدْرِكُ سِرَّ المذهَبِ ، فيكون من ذلك وَهَنٌ هو الأول ، فَإِنَّ من السِّرِّ مَا دَقَّ في النظرِ ، وليس كُلٌّ أَهْلًا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ ، فَاقْتَصَرَ ذلك على قَلِيلٍ هم الملأ الحاكم فوحده العاقل الذي يُطِيقُ دَرَكَ الأسرارِ الدقيقة التي تطلب من النظر طُرُقًا لَطِيفَةً ، وإن كان منها المحال الذاتي الَّذِي يَمْتَنِعُ ، فَامْتِنَاعُهُ مَا اسْتَوْجَبَ من الْحُجَجِ ما يَتَكَلَّفُ ، فَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا في النَّظَرِ ما احتاج إلى مسالك من الاستدلال تَغْمُضُ ، فلا يكاد يَفْقَهُهَا إِلَّا قَليِلٌ قد تَعَاطَى مسائلَها ، ولو كان منها حَقٌّ يَنْصَحُ ، فَلَيْسَ ذلك مما بِهِ تُقَامُ الحجَّةُ عَلَى جَمْعٍ يَكْثُرُ ، لا سيما الأصول الرئيسة ، بل وأصلها الأول : أصل التوحيد المحكم ، فذلك مما أبان عنه الوحي المنزل بكلماتٍ يَسِيرَةٍ تُفْهِمُ قد خَاطَبَ وجدانَ كُلٍّ ، العالم والعامي ، المجتهد الذي انصرف إلى مسائل النظر ، والمقلد الذي لا يفقه دقائق الفكر ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أن يكون أصل الدين سِرًّا يحتكره مَلَأٌ قليل ، وليس على الجمع إلا أن يسير سير القطيع الذي يُسْلِمُ الْقِيَادِ طَوْعًا ، فيغمض العين ويتبع ، ويعطل من قياس العقل المصرح ما به امتاز من الحيوان الأعجم ، فوحده من يُقَادُ ، ولو إِلَى الذَّبْحِ والهلاكِ ، وتلك سنة جارية في كل مُقَلِّدٍ ، وهو بَعْدًا يَلْعَنُ الملأ الذي أورده المهالك إذ صَيَّرَ الدِّينَ كَسْبًا به سيادة تُطْلَقُ ، وَكَنْزٌ يجمع ، وطغيانٌ لا محالة يحصل ، إذ ثم من صاحبه ما رَقَّ دِينُهُ ، فَصَيَّرَهُ سَبَبًا به يَتَكَسَّبُ ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنَ الورعِ ما يَحْجِزُ ، وإن أَظْهَرَ مِنْهُ مَا أَظْهَرَ ، فذلك الرِّيَاءُ الَّذِي يُبْطِلُ العملَ ، وَقَدْ نَالَ من أولئك أصل الاعتقاد والعمل ، توحيد الخالق الأول ، وذلك مما يَنْزِعُ عنهم ولاية التكوين بما غلوا في دعوى التأثير في أحداث الكون ، وأخرى أَفْحَشُ في آثارها بما كان من اتخاذهم أربابا تُشَرِّعُ ، فَلَهَا مِنَ الْحُكْمِ مَا يُطْلَقُ ، وإن خالف عن صحيح من النقلِ وصريحٍ من العقلِ ، فهو يتحكم في النسخ والإحكام ، ويخالف عن بدائه في النظر والاستدلال ، أن رُدَّ الأمرُ إِلَى مَرْجِعٍ ذَاتِيٍّ لا يجاوز ، فهو من الأرض حَادِثٌ ، فذلك عقل الحبر أو الراهب ، أو آخر من عقل الجمع ، فذلك مثال المجمع الذي اكتسى لحاء القداسة والعصمة ، فلا ينطق إلا حقا ، وإن خالف عن المحكم من النَّقْلِ والعقلِ قَطْعًا ، فَثَمَّ منه مجمع لا يَنْصَحُ إجماعه ، من وجوه ، فهو من الأرض حادث ، وَلَيْسَ ثَمَّ لَهُ مستند من خارج يجاوز مِنْ نَصٍّ يَعْصِمُ الإجماع ، وليس يَنْصَحُ ذلك إلا أن يكون ثم مستند له من خارج يَعْصِمُ ، وإلا لم يجاوز حد الأرضي المحدث ، وإن عَقْلَ جمعٍ من الأحبار والرهبان ، فلا يخلو حالهم من هوى وحظ ، مع ما حصل لهم من جاه وكسب ، فَتَأَوَّلُوا له ما يحفظ ، وَإِنْ أَضَلُّوا الخلقَ كَافَّةً ، فكان من الرَّغَبِ صَكٌّ يَغْفِرُ ، ومن الرَّهَبِ حرمان يمنع ، فلا تؤمن حكومتهم في علم أو عمل ، إذ المثال المجرَّد : عقل جمع لا يُعْصَمُ ، فَلَا مُسْتَنَدَ له من خارج يجاوز ، فذلك ما يَصْدُقُ فِيهِ مَا يَصْدُقُ فِي عقلِ الفردِ ، فكلاهما الذاتيُّ المحدَثُ في الأرض ، وإن كان وصفُ الذَّاتِيِّ في العقل المفرد أظهر ، فيصدق من عقل الجمع ، إِنِ الأخصَّ من الأحبار والرهبان أو الأعم الذي تَنَاوَلَ الجمعَ كَافَّةً ، فيصدق في هذا العقل أنه ، من وجه ، مَرْجِعٌ موضوع من خارجِ الأفرادِ ، ولكنه ، مع ذلك ، ليس المطلق الذي لا يجاوز ، فلا يخلو من وصف المحدَث ، وآخر لا يَسْلَمُ من الهوى والحظ ، فهو المجموع الذي ائْتَلَفَ من عقولٍ في استدلالها تختلف بما يصدر عَنْهُ كُلٌّ مِنْ مَرْجِعٍ ذَاتِيٍّ لا يجاوز ، فكذا المجموع منها ، وإن قيل إنها جمل ظنون تُعْتَبَرُ ، فاجتماعها يُفِيدُ ما لا يُفِيدُ انْفِرَادُهَا ، فذلك حق ، ولو في الجملة ، فالعقل الجامع أقرب إلى الصواب لو خُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاستدلال المحكم ، فلم يكن ثَمَّ سبب من خارج يَحْرِفُ ، كما دعاية تسحر الألباب فتصرفها عن الحق الناصع إلى الباطل ، فلئن كانت أصابه العقل الجامع للحق أكثر ، فلا ينفك يَنَالُهُ من الخطإِ ما يبطل دعوى العصمة ، وكذا عَقْلُ الفرد من باب أَوْلَى ، فكلاهما حال التجريد ، فلا مَرْجِعَ من خارجٍ يصدران عنه في النظر والاستدلال ، فكلاهما ، حال التجريد لا يَسْلَمُ من الخطإ ، بل الحال بِذَا تَشْهَدُ ، وإن كان عقل الجمع من الخطإ أبعد ، فالاجتماع على حَدٍّ أدنى من الرشاد في الفكرة والحركة ، ذلك أمر يَثْبُتُ حَالَ النَّظَرِ فِي أحكامِ العقل الجامع ، ولكنه ، كما تقدم ، محدَث لا يَسْلَمُ مِنَ التحريفِ والتأطيرِ على قَاعِدَةٍ تَتَحَكَّمُ فِي التحسينِ والتقبيحِ ، فَتُلْجِئَ العقلَ إذ تحجر الواسع من الاختيار ، فتتحكم في أجزاء القسمة ، قسمة العقل في مواضع الاحتمال ، فتحمل الجمع على خطة خسف في الاختيار ، فلا يختار إلا ما اخْتِيرَ لَهُ قَبْلًا ، وإن كان الباطل قَطْعًا ، بل منه ما جَحَدَ المعلوم الضروري الأول إِنْ في العلمِ أو في العملِ ، إن في الأحكام أو في الأخلاق ، وَاعْتَبِرْ بِمَا كان من خطواتِ وَسْوَاسٍ قد تَسَلْسَلَ في تَحْسِينِ مَا قَدْ عُلِمَ قُبْحُهُ ضرورةً في الفطرة والعقل والحس ، فكان من الفواحش ما أَجْمَعَ العقلاءُ كَافَّةً على قُبْحِهِ ، فَثَمَّ ضرورةٌ أولى من الفطرة ، فلم يَزَلِ الوسواس بها حتى حَمَلَهَا عَلَى ضِدٍّ يُخَالِفُ ، وهو لما استقر في النفوس ضرورةً يُنَاقِضُ ، فَيَصْدُقُ فيه ما يَصْدُقُ في حَرْفِ الفطرةِ الأولى من التوحيدِ ، فَكُلٌّ يُولَدُ على الفطرة ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم فاستغرق ، فدلالة "أل" في "الفطرة" ، دلالة بَيَانٍ أول لجنس المدخول ، وهو ما اشتق على مِثَالِ الثَّبَاتِ ، فذلك اسم الهيئة التي تَلْزَمُ لا المرَّةِ الَّتِي تَعْرِضُ ، فهي الفِطرة من الفِعلة ، بكسر الفاء ، لا الفَطرة من الفَعلة ، بفتح الفاء ، فالفطرة مما رُكِزَ فِي النَّفْسِ ضرورةً ، وهي حكاية أول لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، فليس يُسْبَقُ بآخر ، بل ذلك مما خُلِقَ عَلَيْهِ كُلُّ مولودٍ ، فكان منه أول يَثْبُتُ حال الخروج من الرحم ، وحصولِ حقيقةٍ في الخارج تَسْتَقِلُّ ، ولو لم يَعْقِلْ صاحبها بَعْدُ عَقْلَ الفعلِ الذي يتأول مقدمات الضرورة في النظر والاستدلال ، فَثَمَّ رِكْزٌ أول من الفطرة ، وهي جُمَلٌ فِي النَّفْسِ قَدْ رُكِزَتْ ، وَإِنْ قُوَّةً أولى قد أُجْمِلَتْ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ بَعْدُ بَيَانًا بالفعلِ أخص ، فهو ما يحصل شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، فَثَمَّ التَّمْيِيزُ ثم آخر من البلوغ ، وبه يُنَاطُ التكليفِ ، وَهُوَ لِمَا كان من الفطرة الأولى : تَأْوِيلٌ ، فَتَأْوِيلُ الجملِ الضرورية الأولى في العقل ما يكون بَعْدًا من تكليفٍ أَخَصَّ ، قَدْ عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ التوحيدَ والتشريعَ كَافَّةً ، فكان من ذلك دليل من خارج يُصَدِّقُ مَا كَانَ من فطرةٍ أولى في الوجدان تَنْصَحُ ، وكان منه آخر يُبَيِّنُ ما أُجْمِلَ مِنْهَا ، وثالث يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ ، فَلَوْ تُرِكَ العقلُ بلا مبدِّل ومحرِّف ، فهو يسلك جادة التوحيد المحكَم بما رُكِزَ ضرورةً فِي الوجدانِ من فطرةٍ أولى تَنْصَحُ ، وهو ، مع ذلك ، لا يجاوز مِنْهَا حَدَّ التصديق المجمل ، كما دليل التسلسل مِثَالًا قد تَقَدَّمَ ، فهو كلي ضروري في العقل قد رُكِزَ ، فَامْتَنَعَ لدى كلِّ ذِي نَظَرٍ أَنْ يكون ثَمَّ تَسَلْسُلٌ لا منتهى له في الأزل ، فإن ذلك ، لو سُلِّمَ فَرْضًا به يجادل الخصم الجاحد لما كان من الخلق الأول ، فِعْلِ الخالقِ المدبِّر بما كان من العلم المقدِّر وآحادِ إرادةٍ بَعْدُ تُرَجِّحُ ، فإن ذلك لو سُلِّمَ بِهِ فَرْضًا ، فلا ينفك يدل على ما انْتَفَى ضرورةً في الحسِّ المحدَثِ ، فلازمه ألا موجودَ من هذا العالم الذي يعالج الحس أعيانه وأحواله ضرورةً ، فلا يكون ذلك إلا أن يكون ثم أول لا أول قبله ، وإليه الأسباب جميعا تَرْجِعُ ، وذلك المجمل الذي لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الدليلَ المبين من خبر الوحي المنزل مرجعا من خارجٍ يجاوز ، فهو بالصدق يخبر ، وبالعدل يحكم .
فَلَا يَنْفَكُّ العقلُ مع ما رُكِزَ فِيهِ من فطرةٍ أولى تَنْصَحُ ، لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الدليل المبيِّن ، والفطرةُ ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ قسمة التوحيد كافة ، توحيدَ رُبُوبِيَّةٍ بها الخلق والتدبير ، وهو ما يعالج الناظر منه آثارا في الخارج تَنْصَحُ ، فَهِيَ دليلٌ على أول له من التأثير ما يَثْبُتُ ، وبه حَسْمُ مَا امْتَنَعَ ضرورةً من التسلسلِ فِي المؤثِّرين أزلا ، وهي دليل آخر عَلَى وصفٍ يُجَاوِزُ التأثيرِ في الإيجادِ من عَدَمٍ ، فَثَمَّ من الآثار ما يحكي ضرورةً إِتْقَانًا وَإِحْكَامًا يجاوز مطلق الوجود الحادث في الخارج ، فذلك في نَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَوَّلٍ قَدْ أَحْدَثَ ، ولو على مثالٍ مَعِيبٍ يَنْقُصُ ! ، فلا يكون المبدأُ أَبَدًا عَدَمًا هو الأول كما اقْتَرَحَتِ الحكمة الأولى وقد غَلَتْ فِي التعطيلِ ، فَتَحَكَّمَتْ فِي إثباتٍ في الخارجِ يُجَاوِزُ ما لا حقيقة له في الخارج تُجَاوِزُ ، فَغَايَتُهُ التَّصَوُّرُ المجرَّد لِجَائِزٍ ، أَوْ الفرضُ المحضُ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فَتَحَكَّمَتْ أَنْ أَثْبَتَتْ له وجودا في الخارج يجاوز ، فَثَمَّ في الخارج مطلق بشرط الإطلاق ، ولا وجود له في الأعيان يجاوز ما تقدم من التجريد في الأذهان ، فلا يكون الخلق الأول ، ولو المعيبَ الناقصَ ، لا يكون عن أول هذا وصفه ، فَلَيْسَ منه في الخارج إلا العدم ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَجُوزَ فِي العقل ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارجٍ ، فَيَصِيرُ له من الوجود تَالٍ هو الحادث ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وصفِ الأوليَّةِ مَا يُطْلَقُ ، وَلَيْسَ بِهِ ما امْتَنَعَ من التسلسل في المؤثرين أَزَلًا يُحْسَمُ ، بَلْ لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ أَوَّلًا يَسْبِقُ ، فَهُوَ يُرَجِّحُ في طرفٍ من الجائز المطلَقِ فِي الذهنِ ، فَيَصِيرُ في الخارج ذا وجودٍ تَالٍ بالفعلِ ، فهو المحدَث لَا الأوَّل ، وليس به حسمُ التَّسَلْسُلِ الممتنعِ في المؤثرين أَزَلًا ، فلا يحسمه إلا أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله من الحقيقة ما يجاوز التجريد في الذهن ، فليس يجزئ فيه ، ولو في مطلَقِ الإيجادِ ، وَإِنِ المعيبَ الناقصَ ، لا يجزئ فيه مطلق بشرط الإطلاق ، فذلك العدم في الخارج ، فلا وجود له يجاوز الذهن ، فلا بد من أول لَهُ من الذاتِ في الخارج ما يجاوز ، فَلَهُ حقيقةٌ بالفعل في الخارج ، وثم آخر من الآثار يعالجه الحس ويمهد به العقل بين يدي الاستدلال النظري بِأَوَّلٍ من المقدمات ضَرُورِيٍّ ، فَثَمَّ من ذلك إتقانٌ وإحكامٌ يعالجه الحس ، وبه آي إعجاز في الآفاق والأنفس ، إِنْ نَظَرًا مجرَّدا فِيهَا ، أو آخر قد ذَكَرَ من خَبَرِهِ مَا صَدَّقَهُ التجريبُ والبحثُ ، فذلك في الإعجاز مناط أخص ، فَثَمَّ من ذلك الإتقان والإحكام ، وهو ما استوجب في النظر المصرح وصفا يزيد ، فهو يَقُومُ بالذات الأولى ، فلا يكون الإتقان والإحكام إلا عن علم تقدير أول ، وإرادةٍ بَعْدُ تُرَجِّحُ ، فلا يكون ذلك عن عدم ، أو عِلَّةٍ فاعلةٍ بالطبع اضطرارًا فَلَا إرادةَ ، فهي المجرَّدة من الوصف فلا علم به التقدير ، إلا الكليُّ المجمل ، وليس في باب الإتقان والإحكام يجزئ ، إذ تَنَاوَلَا من الحقائق في الخارج ما دَقَّ ولطف ، فلا يكون ذلك بِعِلْمٍ كُلِّيٍ مُجْمَلٍ ، وإن كان هو المبدأ في النظر المحكم بما حَصَلَ مِنْهُ في عقلِ المولودِ مبدأَ الأمرِ ، فَثَمَّ جُمَلُ ضرورةٍ في وجدانِ كُلٍّ قد رُكِزَتْ ، ومنها أصل أول في باب الخلق أن المحدَث لا يكون إلا بمحدِث ، وذلك ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المتقَن فلا بد له من متقِن ، والمحكَم فلا بد له من محكِم ، ولا يكون ذلك ، وإن نَصَحَ في الاستدلال ، لا يكون منه المفصِّل لما رُكِزَ من فطرةٍ أولى في النفس تَثْبُتُ ، فلا بد من مرجعٍ من خارج يجاوز ، وهو ، بَعْدُ ، يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ من الفطرة بما طَرَأَ مِنَ التحريفِ والتبديلِ ، فَعَمَّ ذلك مواضعَ التكوينِ والتشريعِ كَافَّةً ، فَثَمَّ جُمَلُ ضرورةٍ تطلب الْبَيَانَ فِي كُلٍّ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ضروراتٍ مجمَلةٍ فِي بابِ الخلقِ ، فإنها لا تُجْزِئُ فِي قَصٍّ يُفَصِّلُ ، فيكون منه نص في محل النِّزَاعِ ، فَثَمَّ مِنَ الغيبِ المطلق ما لا يطيق العقل المجرَّد ، وإن صَدَرَ فِي الاستدلالِ عن جُمَلِ ضرورةٍ منه تَنْصَحُ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رَدِّ الخلقِ إلى خالقٍ ، فالمحدَث لا يكون إلا عن أوَّلٍ هو المحدِث ، فَثَمَّ من ذلك مقدمات ضرورة أولى ، والاستدلال بها أعم ، فلا يجزئ في مواضع أخص ، تَقُصُّ مَا كَانَ أَوَّلًا من الخلق ، فذلك مما غَابَ مُطْلَقًا فَلَمْ يَشْهَدْهُ أحد ، فـ : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، لا جرم كان من ذلك إِجْمَالٌ يَطْلُبُ الْبَيَانَ المفصَّلَ ، وذلك مما لا يناله العقل بالنظر المجرَّد دون رجوع إلى أول من الخبر يَصْدُقُ ، فَهُوَ مِمَّا يُجَاوِزُ العقلَ والحسَّ ، وَلَيْسَ من ذلك إلا الوحي الذي سَلِمَ من الخطإِ ، فَلَيْسَ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَعْرِضُ لِغَيْرٍ من الهوى والحظ ، فَثَمَّ من وصفِ الْغِنَى : وصفُ أَوَّلٍ يُطْلَقُ ، وهو ما يدخل ، أيضا ، في حد اسمه "الأول" ، فَثَمَّ استغراقٌ لوجوهِ المعنى : أولية مطلقة ، ولآحاد من الوصف والفعل والحكم ، ومنها الغنى ، فلا عصمة تَثْبُتُ إلا لِمَنْ لَهُ مِنَ الْغِنَى عنِ الأسبابِ المحدثة كَافَّةً ما يَثْبُتُ أَوَّلًا فَلَمْ يُسْبَقْ بِالنَّقْصِ والحاجةِ ، فيكون بَعْدُ كمالٌ وَغِنًى لَيْسَ يُطْلَقُ ، فَهُوَ المسبوقُ بِضِدٍّ من السببِ المكمِّل المغنِي ، فَلَيْسَ يُؤْمَنُ خَبَرُ مَنْ ذَلِكَ وصفُه ، وَبِهِ التَّصَوُّرُ الأوَّلُ ، كما قصة الخلق الأولى ، وهي من الغيب المطلق الذي يَطْلُبُ مِنَ الخبرِ أَوَّلًا يَثْبُتُ ، فهو يُصَدِّقُ فطرةَ الضرورةِ الأولى في باب الخلق ، ويطلب تاليا يُبَيِّنُ مَا أُجْمِلَ مِنْ هَذِهِ الضرورةِ العلمية الملجِئَةِ ، ويطلب ثَالِثًا يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ مِنْهَا ، كما مذاهب محدَثة ، قد جحدت الخلق الأول ، واقترحت من القصص ما لا يُتَصَوَّرُ ، بَادِيَ النَّظَرِ ، ولو المجرَّدَ في الذهن ، فَلَيْسَ مِنْهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ ، في مواضع ، إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ! ، فلا يكون مَرْجِعٌ يُؤْتَمَنُ فِي خَبَرِهِ عن ذلك الخلق الأول الذي لم يشهده أحد بالحس المحدَث ، لِيَكُونَ من ذلك خَبَرُ تَوَاتُرٍ يُجْزِئُ ، فلا بد من مستنَدِ الحسِّ ، وليس لَدَى القوم إلا مُسْتَنَدُ النَّظَرِ المجرَّد ، لَوْ سُلِّمَ أنه قد أصاب من الحق شَيْئًا ، ولو المجمَلَ من الجائز الذي يطلب دليلًا من خارج يُرَجِّحُ ، بل لم يكن من النُّظَّارِ في مذاهب محدَثة ، كما الحكمة قديما ، ومذهب التطور بَعْدًا وَقَدْ قَبَسَ مِنْهَا شُعَبًا ، وَإِنْ كَسَى المقالَ لِحَاءً مِنَ الْعِلْمِ ، وليس إلا عَيْنَ ضِدٍّ من الجهل ، إذ تحكم في حد العلم فَقَصَرَهُ على الحواس ، ولو في غيوبٍ تَفْتَقِرُ إلى مرجعٍ من خارج يجاوز ، وتحكم أخرى فَاقْتَرَحَ من الغيبِ ما يَنْقُضُ أصله الذي عنه يَصْدُرُ أَنْ لَا عِلْمَ إلا مَا يُعَالج الحس المحدَث ، فلم يعالج به ما اقترح من قصة الخلق الأولى ، إِلَّا جُمَلَ متشابهاتٍ قد بطلت بما عظم من آلة البحث المحدَث إذ صَيَّرَهَا في الباب عمدة ، فلم يكن منها إلا ناقض لما اقْتَرَحَ من الفرضِ ، وإن تَحَكَّمَ فَفَتَحَ بابَ الاحتمالِ ، وَصَيَّرَهُ العمدةَ في الاستدلال ، فالنظرية صحيحة حتى يَرِدَ الدليل المصحَّح ، فَلَئِنْ لَمْ يَرِدْ في هذا الجيل أو ذاك ، فَثَمَّ جيل سَيَرِدُ فيه قطعا ! ، ولو الاحتمال المجرد الذي صار في الباب الدليل المحقق ، ثم لم تزل الأجيال تَتَعَاقَبُ ، وفي كلٍّ مِنْهَا مَا يُكَذِّبُ مَقَالَهُ ، بل ويحكم فِيهِ أَنَّهُ المحال الذاتي الذي يمتنع ، ولو عَلَى قَاعِدَةٍ من العلم لا تجاوز مدارك الحس ، فهو كَاشِفٌ في كلِّ جيلٍ عن ضَدٍّ يُبْطِلُ مقال العشواء التي تخبط ، ويشهد بِضِدٍّ من الخلق المحكَم المتقَن ، فكلُّ أولئك ما لا يكون إلا عن أول له من وصف الغنى مَا أُطْلِقَ ، فَسَلِمَ من الهوى والحظ المحدَث ، وكان من خَبَرِهِ ما يُصَدَّقُ قطعا ، فهو المرجع المجاوز من خارج ، وهو المحكم الذي يَقْضِي في مُثُلٍ من الاحتمال تَتَشَابَهُ ، بل ومنها ما يقطع النظر ضرورةً بِبُطْلَانِهِ ، فلا ينفك الجائز في هذا الباب ، باب الخلق الأول ، لا ينفك وقد سَلِمَ أولا من الامتناع الذاتي الذي لا يُتَصَوَّرُ مبدأَ النظرِ ، لا ينفك يطلب الدليل الذي يُبَيِّنُ ما أُجْمِلَ من رِكْزِ الفطرةِ الأولى في بابِ الخلقِ ، وَشَرْطُ الدليلِ أن يجاوِزَ من خارجِ العقلِ والحسِّ إِذْ عَجَزَا عَنْ دَرَكِ التَّفْصِيلِ ، مِنْ وَجْهٍ ، فَهُوَ مِمَّا كَانَ أَوَّلًا من غيبٍ مُطْلَقٍ لم يشهدْه أَحَدٌ ، وَلَيْسَا يَسْلَمَانِ من الخطإِ ، من آخر ، إن سهوا أو قصدا ، فَلَهُ في المذهبِ هوى وحظ محدَث ، وشاهد الحس لِذَا يُصَدِّقُ بِمَا كَانَ من أقوالٍ تُخْطِئُ ، بل ومنها ما يخالف ضرورات في العقل تَثْبُتُ ، وهي مقدِّماتُ الاستدلال لَدَى كلِّ عاقلٍ يَنْظُرُ ! ، فكان من الدليل المجاوِز من خارج ما أَبَانَ عن فطرةٍ أولى تجمل ، إِنْ فِي قِصَّةِ الخلقِ الأول ، فَثَمَّ من ذلك فِطْرَةٌ في التكوينِ ، وَلَهَا مبادئُ في الاستدلال عمدتُها إثبات الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك وصفٌ قَدْ أُطْلِقَ فَاسْتَغْرَقَ وجوه المعنى ، واستغرقَ آحادَ الوصفِ والفعلِ ، ومنه رُبُوبِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الخلقَ والرَّزق والتدبير ...... إلخ ، ومنه ألوهية بها التشريع ، وهو ما عَمَّ الأخبار والأحكام كَافَّةً ، وبهما نُصْحٌ يَخْلُصُ لمحالِّ التكليف الملزِم ، إِنْ تصديقًا فَخَبَرُهُ صِدْقٌ لا يَكْذِبُ وَلَا يُخْطِئُ ، وحكمُه عَدْلٌ لَا يَظْلِمُ ولا يُخْطِئُ ، فَهُوَ الرَّبُّ الذي لا رَبَّ قَبْلَهُ ، فتلك أولية الربوبية خَلْقًا وَرِزْقًا وَتَدْبِيرًا ، وهو الإله الذي لا إِلَهَ قَبْلَهُ ، فتلك أولية الألوهية خبرا وحكما ، فليس إلا الصدق والعدل في كلٍّ ، وهو ما تَنَاوَلَهُ العموم المستغرق في آي من الذكر المحكم ، فـ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) ، فَثَمَّ عموم قد ثَبَتَ بالإضافة إلى المعرَّف ، المضاف إلى الضمير في "رَبِّكَ" ، وله من العموم المعنوي ما يجاوز المخاطب الأول ، فَثَمَّ رُبُوبِيَّةٌ قد استغرقت الخلق كافة ، فالله ، جل وعلا ، رَبُّ كل شيء ، العاقل وغيره ، والإضافة إلى المعرَّف من صِيَغِ العمومِ المستغرِقِ ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والبيان المحكم ، فحصل من ذلك عموم قد استغرق كلمات الربوبية خلقا ، وكلمات الألوهية شرعا ، وكلٌّ قَدْ تَمَّ لَدَى المبدإِ ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَدَمٌ أو نَقْصٌ أَوَّلُ ، بل ثَمَّ من وصف التمام لها : وصف في الأزل يَثْبُتُ ، فتلك أولية مطلقة في علمٍ أَوَّلَ قَدْ أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، الكونياتِ النافذةِ والشرعياتِ الحاكمةِ ، فحصل من ذلك أَوَّلِيَّةُ العلمِ ، وهو وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ سَبَبٌ به العلم يَحْصُلُ ، بل كلُّ علمٍ تالٍ ، إِنْ فِي التكوينِ أو فِي التشريعِ ، فَهُوَ عن العلم الأول يَصْدُرُ ، بِمَا كَانَ من تَعْلِيمِ الخالقِ الأوَّلِ ، جل وعلا ، فَعَلَّمَ الإنسان ما لم يَعْلَمْ ، فـ : (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ الوصل الاسمي المشترك "مَا" الذي وُضِعَ لغير العاقل ، فالعلم من الْعَرَضِ الذي يقوم بالجوهر ، أو المعنى الذي يقوم بالذات ، أو الوصف الذي يقوم بالموصوف ، لا جرم حُدَّ في الاسم حَدَّ ما لا يعقل ، فهو وَصْفٌ يَقُومُ بالعاقلِ ، فَثَمَّ دلالة الموصول "ما" ، وذلك عموم آخر قد استغرق : المعلومات الكونية ومنها ما قَصَّهُ الخبرُ ، وَلَوْ مَوَاضِعَ إعجازٍ أَخَصَّ ، وهي في الباب أَقَلُّ ، فإن الوحيَ قد اتخذها إشارات تُعْجِزُ ، وبها الحجة تَنْصَحُ ، فلم يشترط الاستيعاب فليس ذلك مما نَزَلَ الكتاب لأجله ، وإنما نَزَلَ لآخر يقيم أمر الدين فلا يكون التَّفَرُّقُ ، فليس كتابا في البحث والنظر ، وإنما كان من ذلك إشارات في الباب تَنْصَحُ ، ومن المعلومات الكونية آخر يُدْرِكُهُ البحث والنظر بما رُكِزَ في العقل والحس من مقدمات الاستدلال الضرورية ، فَكَانَ من ذلك نَظَرٌ في الخارج يعالج ، ولا ينفك ، كما تقدم ، يَشْهَدُ لَأَوَّلٍ قَدْ قَدَّرَ وَخَلَقَ ، وأجرى من الأسباب ما ينصح المحال كافة على سَنَنٍ مُحْكَمٍ قد اطَّرَدَ ، فَعَلَّمَ الخالق ، جل وعلا ، المخلوقَ ، إن بالوحي مرجعا من خارج يجاوز في أخبار الغيب وحكومات الشرع ، وإن كان من كلٍّ : مقدماتٌ أولى في الوجدان تَنْصَحُ ، فلا تجزئ في مواضع التفصيل لما أُجْمِلَ ، كَمَا تَقَدَّمَ من فطرةٍ أولى تَشْهَدُ ضرورةً أن لهذا العالم المخلوق خَالِقًا ، وَأَّنَ لهذا الخلق المتقَن المحكَم : متقِن محكِم أول بما ثبت له في المبدإ من علم محيط قد اسْتَغْرَقَ المقدوراتِ كَافَّةً ، فلا تُؤْمَنُ حكومة العقل والحس في هذا التفصيل الأخص ، وإن كان من فطرة أولى ما نَصَحَ في الخلقِ ، فَكَانَ مِنْهُ رِكْزٌ أول لمقدماتٍ تَشْهَدُ ضرورةً بالخلق الأول ، وإن لم تُبَيِّنْ منه ما أُجْمِلَ ، فإثباتها إثبات مجمل في الوجدان بما كان من فطرة أولى تَتَنَاوَلُ الخلقَ المشهود ، فلا بد له من خالق معبود ، وذلك فَرْدٌ من أفراد العموم ، عموم "أل" في "الفطرة" إذ لها أول من المدلول يُبِينُ عن جنس المدخول ، فطرة تحكي ما رُكِزَ في الوجدان ضرورة ، وحصل لا على مثال تقدم ، كما فطر الْبِئْرِ أولى لم تُسْبَقْ ، وَثَمَّ آخر يحكي العموم ، فَثَمَّ فطرة في الربوبية ، أَنَّ هذا الكون المحدَث على هذا الحد المتقَن المحكَم لا يَنْفَكُّ ضرورةً يَطْلُبُ أَوَّلًا له من الوصف ما جاوز الوجود المطلق في الذهن ، فَلَهُ حَقِيقَةٌ في الخارج ، ولها من الأولية ما يُطْلَقُ ، وَلَهُ من الوصف ما به التقدير والإيجاد والتدبير ، وَلَهُ ، أَيْضًا ، أوليَّةٌ مطلقةٌ تَعْدِلُ أَوَّلِيَّةَ الذاتِ التي يقوم بها ، فتلك فطرة في الربوبية أولى ، ولها من اللازم آخر ، وبه قسمة التوحيد تَكْمُلُ فِي الخارجِ ، فَثَمَّ مَلْزُومٌ أول من فطرةِ رُبُوبِيَّةٍ تَثْبُتُ لَدَى المبدإِ ، وثم لازم له في القياس يَنْصَحُ ، فتلك فطرة الألوهية ، خبرا وحكما ، فمن خلق فهو يَعْلَمَ ما يُصْلِحُ المخلوق ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم الحكومات كافة ، حكومات التكوين ، وأخرى من التشريع قد عمت المحال كافة ، ما بطن من الجنان فهو يطلب الخبر المصدِّق لِمَا رُكِزَ أولا من فطرة التوحيد المجمل ، وما ظهر من اللسان وَالْأَرْكَانِ ، فهما يطلبان بَعْدُ من حكومات القول والعمل ما يَنْصَحُ ، وبها تأويل لآخر من الفطرة ، فطرة التشريع ، إذ ثم منها في العقل المحكم مبادئ تحسين وتقبيح تُجْمَلُ ، فلا تؤمن حكومتها في بَيَانٍ يُفَصِّلُ ، إذ لا تسلم من الخطإِ ، قصدا أو سهوا ، فَلَيْسَ لها من الكمال الذاتي أول لا يُعَلَّلُ ، بل لها من ذلك إجمال يطلب البيان المفصَّل الذي يجاوز العقول كافة ، فلا تسلم من الهوى والحظ المحدث ، وإن تأولته فسلكت به جادة التحسين والتقبيح العقلي ، فَثَمَّ مقدمات أولى في الباب تثبت ، فلا ينكرها الناظر المحقق ، ولكنها لا تسلم من الإجمال والخطإ ، وإن كان منها ما يجاوز الفرد إلى عقل الجمع ، فلا يسلم الأخير ، أيضا ، من هوى وحظ يَطْرَأُ ، إذ وصفه ، وإن جاوز الفرد فصدق فيه أنه الموضوع من خارج ، وصفه كما عقل الفرد : وصف المخلوق الحادث ، فلا يسلم من الهوى والحظ المحدَث ، وَإِنْ تَكَلَّفَ له الناظر من التأويل ما يَدقُّ ، وهو يعالج لأجله مبادئ أولى من الحسن والقبح قد أُجْمِلَتْ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليلَ المبيِّن من خارج ، فَلَيْسَ إلا الوحي النَّازِلَ بصدقٍ يُصَحِّحُ التَّصَوُّرَ ، وَعَدْلٍ عنه الأحكام تصدر ، وهو لما أُجْمِلَ من ذلك في الوجدان يُفَصِّلُ ، فلا يجزئ العقل المجرد في الاستدلال المفصل ، وإن كان منه مقدمة أولى في الباب تَنْصَحُ ، فطرةً أُولَى تَثْبُتُ ، فَلَوْ تُرِكَ المخلوق بِلَا مُؤَثِّرٍ من خارج ما عدل عَنْهَا إلى ضِدٍّ من الشرك ، وإن افْتَقَرَ بَعْدُ إلى الدليل المفصل في مواضع الخبر والحكم كافة ، فلا يستقل فِيهَا ، فَيَكُونَ منه الدليل المبين ، وإن كان منه ركز أول هو المجمل ، فطرة أولى قد ثَبَتَتْ ، وهي ، كما تقدم ، العامة التي استغرقت وجوه المعنى ، فهي فطرة أولى تَنْصَحُ ، وإن المجملةَ في التكوين والتشريع ، وذلك عموم آخر قد استغرق أجزاء القسمة في الخارج ، توحيدًا في الربوبية بكلماتٍ كَوْنِيَّةٍ ، وآخر في الألوهية بكلمات تشريعية ، إِنِ الخبريَّةَ الصادقةَ أو الحكميَّةَ العادلةَ ، وبهما ، كما تقدم ، نُصْحُ المحال كافة ، ما بطن من الاعتقاد والتصور ، وما ظَهَرَ من القول والعمل المصدق ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ بَعْدُ دليلًا من خارج يُبَيِّنُ ، وذلك ما عم عقل الفرد وآخر من الجمع يجاوز الفرد ، فيكون منه موضوع من خارج الفرد ، ولكنه ليس المطلق في الوصف ، فَلَا يَنْفَكُّ يوصف بِضِدٍّ من الحدوث بعد عدم ، من النَّقْصِ والفقرِ أولى تَثْبُتُ ، فذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، وهو ما عَمَّ الخلق كافة ، إن الجواهر كما الأجساد ، أو الغرائز كما العقل ، فهو مما رُكِزَ في النفس جُمَلَ ضرورةٍ من المقدمات العلمية الناصحة ، وهي ، أيضا ، مما يدخل في حد الفطرة ، فليس للعقلِ جوهرٌ في الخارج يَثْبُتُ ، بل العقل من الوصف الذي يطلب ذاتا بها يقوم ، فيصدق في الفرد وفي المجموع ، فكلاهما له من العقل غريزة هي المحدَثة بعد عدم ، الناقصة فلا تَسْلَمُ من الْعَرَضَ ، كما الجنون الذي يطبق أو النوم والذهول الذي يطرأ ، أو التغير والاختلاط لدى الهرم المفجِع ، وكذا آخر تطلب من الهوى والحظ المحدَث ، وثالث يحرفها عن جادة الصدق والعدل بما يكون من سبب يحتكره الملأ الذي يحكم على مثال أرضي محدَث ، فلهم منه حظوظ ومكاسب لا تُحَصَّلُ إلا أن يكون الوحي هو المعطَّل ، إذ جاء بضدِّ ما صدروا عنه في حكوماتهم ، وَحَمَلٌوا عليه العامة بما كان من زُخْرُفِ قَوْلٍ يَصْنَعُ عَقْلَ الجمعِ على مُكْثٍ ، فيكون منه ما يخالف عن صريح العقل والفطرة والحس ! ، كما تقدم من تَحْسِينِ مَا قَدْ عُلِمَ قُبْحُهُ ضرورةً من جحد الخالق الأول ، ومن آخر في الفعل والمسلك فواحشَ قد رُكِزَ قُبْحُهَا فِي النَّفْسِ ، وإن لم يكن ثم شرع ولا وحي ، فَلَهَا مِنْ ذلك تَقْبِيحٌ أول في الوجدان ، وَإِنِ افْتَقَرَ بَعْدُ في التكليفِ إلى نهيٍ أَخَصَّ ، فَهُوَ يُصَدِّقُ ما كان أولا من رِكْزِ الْقُبْحِ في النَّفْسِ ، وهما ، والشيء بالشيء يُذْكَرُ ، مِمَّا يَقْتَرِنُ في أحيان تَكْثُرُ ، حكايةَ تلازمٍ في القياس يَطَّرِدُ ، أَنْ جَحَدَ النَّاظِرُ أَوَّلِيَّةَ الخالق المدبِّر ، فخرج عن فطرته في الفعل والمسلك ، وصار ذلك عنده الغرض والمقصد ، ولو تكلف من الفواحش ما لا يرغب ، فنصح لها في القول وَأَيَّدَ ، وكان من مثال في العلوم يُبَرِّرُ فاجتهد أن يجد لها أصلا في الفطرة الأولى ، وإن دليلا واهيا لا يجاوز الفرض المجرد ، وكان من مثال في الفنون ما يُزَيِّنُ وَيُرَوِّجُ ، وإن لم يباشرها بالفعل بل ثم تقبيح لها في وجدانه يحصل ، وإن تَكَلَّفَ ما تَكَلَّفَ أَنْ يُنْكِرَ ، وإلا أُلْزِمَ بما جحده مبدأَ النظرِ ، فطرةً أولى قد استقرت ضرورةً في النفس ، فَثَمَّ من الجحود والكبر ما خالف بصاحبه عن جادة العقل والفطرة والحس ، فجحد ضرورات من العلم ، وَالْتَزَمَ ضِدًّا يَبْطُلُ ، وكان من البلوى به ما عَمَّ واستغرق ، فلم يسلم منه عقل الجمع ، فليس بالمعصوم كما تَوَهَّمَ بَعْضٌ أن كان منه مرجع موضوع من خارجِ الفردِ ، بل لا يَنْفَكُّ يَعْرِضُ له هوى وحظ يُفْسِدُ ، ودعايةٌ من خارج تُؤَطِّرُ ، فتصنع منه في الخارج ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، مِثَالًا يخالف عن الضرورات والبدائه ، فليس يُعْصَمُ ، إِنْ عقلَ جَمْعٍ أخص كما جمع الأحبار والرهبان الذي يحكم في المثال السماوي المبدَّل المحرَّف ، وكما جمع الملأ الذي يحكم في المثال الأرضي المحدث ، فكل ليس يعصم بما كان من نقص وفقر وجهل أول ، وما طرأ بعد من الهوى والحظ المحدث ، لا جرم لم يكن من إجماعِ كُلٍّ ما اعتبر ، فقد يجمعون على الخطإ ، بل لم يعتبر الوحي الخاتم الإجماع دليلا في الأحكام هو الثالث ، لم يعتبره إلا أن اشترط له من المستند ما يجاوز ، فَثَمَّ من الوحي أول قد أَقَرَّ له بالعصمة ، وَصَيَّرَهُ في الاستدلال عَامَّةً حُجَّةً ، وَثَمَّ آخر أخص في مواضع الإجماع الأخص ، فالإجماع ، كما اشترط أهل الشأن ، لا بد له من مُسْتَنَدٍ أول يَسْبِقُ من الآي والخبرِ المحكَم ، فالإجماع ، من هذا الوجه ، كاشف عن دليل له يَسْبِقُ ، فَلَيْسَ يَسْتَقِلُّ بالحجية مطلقا ، بل ثَمَّ مستند أول في المسألة يَثْبُتُ ، والإجماع له بَعْدًا يَكْشِفُ ، فهو يصدقه ، وله يبين في مواضع الإجمال ، فقد يكون الدليل الأول ظنيا يحتمل وجوها ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج يوجب ، فيكون من الإجماع ما يُرَجِّحُ وَجْهًا من وجوه دليل جائز يحتمل وجوها ، وإن كان ابتداء ظاهرا في أحدها ، فذلك ظن يغلب ، وبه رجحانٌ أول يُسْتَصْحَبُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ ضِدًّا هو المرجوح المؤول ، فلا يقطع الناظر به إلا أن تكون ثم قرينة من خارج ، وبها يصير الظاهر الراجح نصا هو الجازم ، ومن تلك القرائن ما تقدم من الإجماع ، فهو في مواضع الاحتمال ، وإن كان منها ظاهر أول يستصحب ، فهو يجزئ في الاستدلال حتى يكون ثم دليل من خارج ينقل ، فالإجماع في هذه المواضع يرجح طَرَفَ الظاهر المستصحَب فَيَرْفَعُ دلالة النص من الظني المحتمل إلى القطعي الجازم ، ومحل الشاهد أنه ابتداء لا ينفك يطلب المستند الذي يسبق من آي الوحي أو خبره ، وَثَمَّ من زَادَ في الحد ، فَجَوَّزَ استناد الإجماع إلى القياس أو المصلحة ، وهي ، لو تدبر الناظر ، أصول في الباب محكمة لم تَكْتَسِبْ وصف الحجية إلا أن شَهِدَ لها الوحي ، أيضا ، فهو أبدا المرجع والمصدر الذي عنه الأدلة كافة تصدر ، إن النقلية أو العقلية . والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
وهو ما ناجزت الحداثة وَدَافَعَتْ ، فكان من ذلك جحد المرجع المجاوز من خارج ، وكان من المذهب ما يفسد الذَّوْقَ والفطرة الأولى ، وهو ما أوجزه بعض أنه استبدال إِلَهِ اللذة بإله الألم ! ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، بل المرجع ذاتي لا يجاوز ، وهو ما تَرَاوَحَ بين مرجع إنساني ، لا زَالَ يحتفظ بِجُمَلٍ من الأخلاق والمبادئ ، وهي ، كما يقول بعض من جَحَدَ وأنكر ! ، مما يستوجب مرجع الدين ضرورةً ، فلا يمكن رَدُّ الأخلاق إلى مرجع مادي محض ، فإن المادة لا دَرَكَ لها يجاوز الحس ، فلا تُوصَفُ بِصِدْقٍ ولا كذب ، بِعِفَّةٍ أو فجورٍ .... إلخ ، فتلك معان لا تقوم إلا بالإنسان ذي الروح المجاوزة للبدن ، فالحواس لا تجاوز المادة ، فليس الجسد مرجعا يُفَسِّرُ الأخلاق والمبادئ ، فتلك معان تجاوز الحس ، فَثَمَّ العقل ، وهو غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، فليست غريزة الحس التي تحكي عَوَارِضَ الجسد من لَذَّةٍ أو أَلَمٍ ، من جوعٍ أو عطشٍ أو شبقٍ ، فَثَمَّ أخرى أشرف ، وهي العقل ، وهو ما يجاوز الحس ، فليس الدماغ الذي يُرْصَدُ بالتجريب والبحث ، بل ثَمَّ آخر يُجَاوِزُ ، وهو وصف الروح ، المحل اللَّطِيفِ الذي يدرك المعاني اللطيفة ، كما البدن الكثيف يدرك بحواسه المعاني الكثيفة ، فَثَمَّ من المعاني ما لَطُفَ فجاوز الحس ، كما الأديان والأخلاق ..... إلخ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، معدن اللِّسَانِ ، فهو أداة يجاوز بَيَانُها أسبابَ المعاشِ من بَيْعٍ وَشِرَاءٍ ..... إلخ ، فَثَمَّ خاصة الأديان والأخلاق ، وتلك مَعَانٍ تُجَاوِزُ المادة الصماء ، واللسان عنها يُبِينُ بما استقر من مفردات المعجم ، وصور الاشتقاق ، وَتَرَاكِيبِ النحو ، ولطائفِ البيان ، وهو ، عرف عام قد استقر بما تَرَاكَمَ في الوجدان ، وهو معدن الروح ، فالبدن لا يُدْرِكُ الكلامَ ، وإن رُكِزَتْ فيه حاسة السمع ، فهي تدرك الصوت ، ومنه الألفاظ التي صِيغَتْ لِتَدُلَّ على معان ، مفردةٍ أو مركبةٍ ، بما يكون من نَظْمٍ مخصوصٍ يسلك بالألفاظ جادة من النحو مخصوصة ، وبها امتازت الألسن بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، فَثَمَّ صوتٌ يُدْرَكُ بالسمعِ ، ومنه الصوت المفهِم إذ يحكي من المعاني ما يُدْرَكُ بخاصة العقل التي امتاز بها الإنسان المتكلِّم ، فعقل الحيوان الأعجم لا يجاوز أسباب الحس ، وغايتها حفظ النفس والنوع ، فليس ثم مقاصد تجاوز ، فذلك مما استوجب محلا يجاوز الحس ، فَثَمَّ العقل التام الذي يدرك معانٍ أشرف ، وبها ائْتِلَافُ المعجَمِ ذي الدلالات الاعتقادية والأخلاقية المجاوزة ، فهو يحد مواضع الحسن والقبح ، وما يكون من حكومات الإباحة والحظر .... إلخ ، وهو مما رُكِزَ منه بَعْضٌ فِي الوجدان ، كما حُسْنُ الصدقِ وَقُبْحُ الكذبِ ، فذلك مما أُجْمِلَ في الوجدان ، ولا ينفك يطلب المرجع المجاوز من خارج ، فَثَمَّ شَرِيعَةٌ تأمر بالصدق وَتَنْهَى عن الكذب ، سواء أكانت سماوية منزلة أم أرضية محدثة ، وإن كان من الأخيرة ما لا يجاوز ، فلا يسلم من عَوَارِضِ النَّقْصِ وَبَوَاعِثِ الهوى والحظِّ ، فَرَدُّ الأمر إِلَيْهَا لا يحسم النِّزَاعَ بين العقول ، فالمنطق الذاتي ، وإن صَحَّ في الجمل الرئيسة ، فذلك العقل المصرح ، فلا ينفك يطلب في مواضع الإجمال ما يُبَيِّنُ ، وكذا أخرى من النِّزَاعِ فهو يطلب المرجع المجاوز ، فَرَدُّ الأمر إلى العقول الأرضية يزيد في مادة النِّزَاعِ والصراع ، فهي تَتَنَافَسُ على قاعدة ذاتية لا تجاوز ، فليست تُرَدُّ إلى مرجع محكم ، فيكون التَّنَافُسُ في تحقيق المناط الذي اسْتَقَرَّ إذ يَرْجِعُ إلى النص ، فيكون منه مرجع من خارج العقل والحس يجاوز ، فمن النص دليل على المناط ، وهو ما يَرِدُ تَارَةً مصرَّحًا في اللفظ ، وقد يَرِدُ أخرى في سياق أوصاف تَقْتَرِنُ ، فمنها الطردي الذي لا يؤثر ، ومنها المؤثر في الحكم وجودا وعدما ، وقد لا يَرِدُ في ثالثة مصرحا ، فهو يستوجب النظر في المعنى المؤثر الذي يناط به الحكم ، فيكون من ذلك التخريج ، وذلك عمل في العقل أخص ، وبه التفاوت في الاجتهاد ، فيكون من ذلك تَفَاضُلٌ لا يَتَّخِذُ العقل مرجعا ، بل هو آلة نظر واستنباط ، فلا ينفك يطلب المرجع المجاوز من خارج ، فمثله كمثل الآلة ، وهي مما يستوجب مادة تُعَالِجُ بِمَا رُكِزَ في العقلِ من مقدِّماتِ ضرورةٍ في الاستدلال ، فلا بد من مادة من خارج العقل ، وإلا كان الاضطراب في الحكم ، إذ لكلٍّ عقلٌ وذوقٌ ورأيٌ في الحسن والقبح ، في الإباحة والحظر ، وإذا خُيِّرَ العاقلُ بين مادة من خارج لم تُعْصَمْ مِنَ الخطإِ ، كما مناهج الأرض المحدثة ، وذلك مما يُقِرُّ بِهِ أربابها ، ولو لسانَ الحالِ بما يكون من تَعْدِيلٍ وَنَسْخٍ ، إذ يَتَبَدَّلُ الحكم ذو المرجع الذاتي الذي لا يجاوز ، فَمَا حَسَّنَ بَعْضٌ من نظرٍ في سياسية أو حرب ، في تجارة أو صفق ..... إلخ ، فَثَمَّ آخر يَقْبُحُ ، فَهُوَ يَنْسَخُ ما شرع الأول ، بل الواحد منهما يُعَدِّلُ وَيَنْسَخُ في مثاله الذي يَضطَّرِبُ ، فلا يَنْفَكُّ يَظْهَرُ له من العلم ما لم يكن ، فَيَسْتَبِينَ خَطَأَ ما كان قَبْلًا اعتقادًا يَجْزِمُ ، وإن أبى واستكبر على قاعدة من الجحود والإنكار ، كما فرض التطور الذي يجافي مقدمات الضرورة في القياس والفطرة والحس ، فَقَدْ صَيَّرَهُ بعضٌ اعتقادًا به يتدين ، وفيه يوالي ويبرأ ، وإن دَلَّ التجريب والبحث بعدا على بطلانه ، وإن كان من بطلانه ما ظهر أولا لكلِّ ذِي عَقْلٍ يَنْصَحُ ، فهو يخالف عن جُمَلٍ من مقدمات الضرورة في الاستدلال ، كما حسم التسلسل في المؤثرين أزلا ، على تفصيل قد تَقَدَّمَ ، فذلك مما تناوله الخبر المصدق إذ يُرْشِدُ إلى استعاذةٍ تحسم هذه المادة الفاسدة ، وَفَرْضُ التطور ، من وجه آخر ، يخالف عن مقدمات أخرى في الفطرة التي تَنَاوَلَتْهَا الحداثة بِالنَّقْضِ ، فهي ، لو تدبرها الناظر ، دليل ضرورة من الذات يجزئ في إبطال هذا الفرض ، ويحكي آخر على ضِدٍّ ، فإذا سَلَّمَ الخصم أن ثَمَّ فطرة أولى ، ولو في مداركِ الحسِّ ، فذلك ما يَتَنَاوَلُهُ العقلُ بَعْدًا بمقدِّماتٍ أخرى تَنْصَحُ ، وبها يَثْبُتُ ضرورةً الفاطرُ الأول ، مع ما يعالج الحس من إتقانٍ وإحكامٍ في الخلق ، وهو ما انْتَهَى ضرورةً إلى أول له من الوصف ما يَزِيدُ ، فَلَيْسَ العدم الذي اقْتَرَحَتْهُ مذاهبُ مِنَ الحكمةِ محدَثة ، ولم تَزَلْ فِي كُلِّ جِيلٍ تُسْتَنْسَخُ ، وَإِنْ حَمَلَتِ اسْمًا جديدًا يَخْدَعُ ، فالمسمَّى واحد من المبدإ ، والشبهة واحدة وإن حدَث الزُّخْرُفُ ، فَثَمَّ ضرورةٌ تُلْجِئُ في الفطرة ، وإن جحدتها النفوس في الرخاء ، فَلَا تَنْفَكُّ تُقِرُّ بِهَا ، ولو كَرْهًا ، في الشدة ، مع آخر يلزم وإلا وقع الناظر في فسادِ رَأْيٍ يفضح ، فإثبات الفاطر الأول : ضرورةٌ في العقل والفطرة والحس ، وإن لم يكن ثم نَقْلٌ يُجَاوِزُ مِنْ خَارِجٍ ، وهو الخالق بالعلم إذ يُقَدِّرُ ، وبالإرادة إذ يُرَجِّحُ ، وَاعْتَبِرْ بما يعالج الحس من آي الإتقان والإحكام في الخلقِ ، فإذا أثبت الناظر هذا الفاطر الأول ، فَلَا يَنْفَكُّ يُقِرُّ بمرجِعٍ من خارج يجاوز في الخلق والتدبير ، وذلك الملزوم في القياس الصريح ، فَثَمَّ لازم يُقِرُّ بمرجِعٍ في الحكم والتشريع ، وهو ما يحسم مادة الصراعِ والتَّنَازُعِ بين العقول المحدثة ، وله من العصمة ما تُؤْمَنُ بِهِ الحكومة ، إذ سَلِمَ من الْعَوَارِضِ الأرضيةِ المحدَثة ، لا جرم كان الاشتغال في الجدال نافعا إذا اشتغل المناظِر بإثبات الأول الذي فَطَرَ ، وإثباتِ عِلْمٍ لَهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الأزلِ ، فذلك مَلْزُومٌ عنه لازمُ الحكمِ والشَّرْعِ يَثْبُتُ ، فَإِنَّ مَنْ خَلَقَ بالعلم هو مَنْ شَرَعَ بالعلمِ ، إذ يعلم ما فَطَرَ فَأَنْزَلَ له من الشرع ما يَنْصَحُ ، وذلك ما عَمَّ التصور والحكم ، فذلك المبدأ في جدال الخصم الجاحد ، الإقرار بالصانع الأول بما يخاطِب المناظِرُ من معادن الفطرة الأولى في وجدان الخصم ، وإن جحد وأنكر ، فيكون من جداله ما يَفْضَحُ ، إذ يُنْكِرُ ما استقَرَّ ضرورةً في العقل والفطرة والحس ، فإذا أَقَرَّ الخصم بالصانع الأول فَالْتَزَمَ لَوَازِمَ الفطرةِ الأولى ، وأقر بما كان من صُنْعٍ متقَن محكَم ، وذلك ما يُلْجِئُ إِلَى آخر من الإثبات ، إثباتِ العلمِ المحيطِ المستغرِقِ ، فلا حكومة في الشرع تُؤْمَنُ كحكومةِ مَنْ ذَاكَ وَصْفُهُ ، إِذْ سَلِمَ من العوارض الذاتية في الماهية البشرية ، فلا تنفك تقترح مِنْ نَظَرٍ في الشرع والسياسة ما لا يجاوز مدارك الحس ، فَلَيْسَتْ شِرْعَتُهَا المحدَثة ، كما يقول بَعْضُ نُظَّارِهَا ، إلا تأويلا لمصالح الأقوى ، وإن لم يكن الأعدل ، فلا تخلو شرعتها من نِسْبِيَّةٍ تَضطَّرِبُ ، فحكومتها ، كما يقول بعض النظار ، تحكم بين اثنين قد استويا في الرتبة ، قوة أو ضعفا ، فلا تحكم بين قوي وضعيف إذ المرجع لا يجاوز الحس ، والقوة أداته ، كما اللذة غايته ، فَثَمَّ ، كما يقول بعض من حقق ، وهو يعالج من ذلك مثال الدعاية الذي يُرَوِّجُ ، فهو يخاطب في الجسد غريزة الاستهلاك وَيُهَيِّجُ فيها معادن الشبق ، فتلك الغاية في الأرض ، إذ لا مرجع من خارجها في الشرع ، فليس ثم إلا اللذة غاية ، وهو ما اختزل في المثال الأدنى ، لذة الجسد التي لا تجاوز ، وليس ثم أداة إلا القوة ، وذلك ما يفضي إلى اضطراب في التصور والحكم ، فالقوة مما تَتَغَايَرُ مقاديرُه ، دُوُلًا بَيْنَ النَّاسِ تَتَفَاوَتُ ، فلا ينفك القوي الغالب ينسخ ما سبق ، فإذا ضعف وهرم ، فَثَمَّ قوي جديد ينسخ ما سبق ، وكلٌّ يصدر عن مرجع ذاتي لا يجاوز ، فلا ينفك الجميع ضرورة يطلب المرجع المجاوز من خارج ، وهو السالم من الأهواء والحظوظ ، وهو القوي الذي لا يُغْلَبُ ، العليم الذي لا يجهل ، الحكيم لا يخطئ ، الفاطر الذي رَكَزَ في الوجدان مبادئ ضرورة من الحسن والقبح ، فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج ، وهو الذي يُصَدِّقُهَا ، فلا يأتي بما يَنْقُضُهَا ، وذلك ما عَمَّ الحس والمعنى ، فمن جحدها إذ يَرُومُ حيدة من لوازمها ، إثبات الفاطر وإثبات الشارع ، فمن جحدها فقد وَقَعَ في حرج يَعْظُمُ ، ولو في أفعال الجبلة ، فَثَمَّ من الفطرة ما يطلب الطيب من المطعم والمشرب والمنكح ، ويدفع آخر على ضد من الخبيث الذي تستنكفه النفوس ، فلا بد من ركز أول في الوجدان ، وإن المجمل مبدأ الميلاد ، فهو يطلب الطيب النافع ، كما الوليد يطلب ثَدْيَ أُمِّهِ فَيَرْتَضِعَ من لَبَنِهَا ما به البدن يَغْتَذِي وَيَنْبُتُ ، فَثَمَّ فطرة أولى تُلْجِئُ ضرورةً ، وهو ما عم الحس الذي يُجَادَلُ به المنكِر لما جاوز المادة ، والمعنى ، كما فطرة اللسان الناطق الذي يحكي ما يقوم بالوجدان من المعنى التام الناصح ، وبه امتاز الإنسان المكلف من الحيوان الأعجم ، فلا غاية له تجاوز الحس ، ولا تكليف له بخبر أو حكم ، فالمحل لا يحسن يَفْقَهُ المعاني المركبة ذات الدلالات المجاوزة لمعاني اللذة والألم ، لا جرم عظمت جناية من صَيَّرَ اللذة غاية ، وصنع لها في الوجدان إلها تنسخ ألوهيته ألوهية الخالق الأول ، وأثبت لها من المثل في الخارج ما يُبَاشِرُ غَرِيزَةَ الجسدِ الحادث ، وصير ذلك مادة من الفنون تجذب ، فقد ضَمَّنَهَا من المعاني ما لطف في الدعاية ، وله من التأويل ما يأتي بالإبطال على أصول الأخلاق والديانة ، ويفسد اللسان ، إذ فَسَدَ الذوق أولا ، فمعاني الحسن والقبح قد بُدِّلَتْ ، على قاعدة من الدلالة لا تجاوز الحس ، فاللذة ، كما تقدم ، غاية الحركة والفعل ، وهي مما اضطَّرَب فِي نَفْسِهِ ، فَحَدُّهُ يَعْسُرُ إذ الأذواق متفاوتة وقوى الشهوة والشبق متفاوتة ، وليس لها حد إليه تَنْتَهِي مع ما يسارع إليها من السآمة والملل ، لا جرم لم يَرْضَ صاحبها بما رُكِزَ في الجسد ابتداء من معادن اللذة ، فَرَاحَ يطلب آخر ، وإن خالف عن الفطرة والذوق ، فَصَارَ من ذلك اضطِّرَابٌ في الدلالة يَعْظُمُ إذ أَبْطَلَ مقدِّمات الضرورة الأولى في الوجدان ، ولو معادنَ الحسِّ التي لا تجاوز ، وهو ما أَفْضَى ، كما يقول بعض من حقق ، إلى آخر يُفْسِدُ اللِّسَانَ بما تكلف من التأويل الباطن الذي يُبَرِّرُ هذا المسلك الفاحش ، فقد صار دِينًا يُنْتَحَلُ ، فليس حركة حادثة بلا فكرة باعثة ، بل ثم أول من الاعتقاد والتصور ، وهو المعنى الذي يقوم بالنفس ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، شطر من الكلام أول ، فالمبدأ معنى يَقُومُ بِالنَّفْسِ ، فإذا فَسَدَ فَقَدْ فَسَدَ الكلام ، إذ الألفاظ تحكي ما قام بالنفس من المعنى ، فغاية الكلام المعنى ، ودليله ما يَظْهَرُ في الخارج من اللفظ الحادث ، وإن كان ، من وجه آخر ، قسيم المعنى في حَدِّ الكلام المفهِم معنى يَحْسُنُ السكوت عليه إذ تَمَّ ، ولو أَوَّلًا يواطئ قانون النحو المركب ، فذلك أدنى ما يصدق فيه حَدُّ الكلامِ لدى النحاة ، أَنْ يُفِيدَ معنى تاما يَحْسُنُ السكوت عليه ، إِنْ نَصًّا يجزم ، أو ظاهرا يَرْجُحُ ، وما تلا من المعنى ، فهو ثَانٍ لَا يَتَنَاوَلُهُ الناظر إلا بعد سلامة الأول ، فهو يواطئ ما استقر من عرف اللسان المشتهر ، فمنه عرف النحو في نَظْمِ الكلام ، فإذا سَلِمَ من قوادح النحو ، فَوَاطَأَ منه قواعد النَّظْمِ ، فَثَمَّ تَالٍ يَلْطُفُ بما يكون من وجوه بَيَانٍ أخص ، وذلك ، أيضا ، مما يدخل في حد العرف بما اشتهر من وجوه الكناية والاستعارة ....... إلخ ، وكلٌّ ، النحو ذو الدلالة الأولى والبيان ذو الدلالة الثانية ، كلٌّ قد استوجب أولا من المرجِع ، مرجِعِ اللسان ، وذلك مجموع مركب من فطرة أولى في النفس تثبت ، إِنْ فِطْرَةَ النُّطْقِ ، وهي ، كما تقدم ، خاصة الإنسان العاقل ، فهو المتكلم بكلام ذي معنى يحصل في النفس أولا ، فهو المراد الذي يَرْجُحُ في التصور ، أَصَابَ الحق أو لم يُصِبْ ، لا جرم اشترط النحاة له إرادة تُرَجِّحُ ، وذلك قياس العقل المصرح ، فما يُرَادُ مِنَ المعاني لا يكون إلا عن إرادة تسبق ، فهي ترجح المعنى الذي اختاره المتكلم ، فلم يحصل في نفسه اضطرارا ، وإنما سُبِقَ بمرجِعٍ من خارجٍ يميز الحسن من القبيح ، فيختار الأول ، أصاب في الاختيار أو لم يصب ، فقد يفسد الذوق والتصور ، فيصير الحسن قَبِيحًا يُهْجَرُ ، فهو مَاضٍ خَلْفَ الظَّهْرِ يُلْقَى ، وَإِنْ وَاطَأَ معادِنَ الضرورةِ في فطرةٍ أولى تَنْصَحُ ، فما كان ذلك إلا بعد إفساد الخلقة الأولى ، فصار الحسن قَبِيحًا يُلْقَى خلف الظهر ، وصار الْقَبِيحُ حَسَنًا يُسْتَقْبَلُ به الوجه ، فهو حكاية التقدم والتمدن ، وإن سلك جادة من الفعل يستنكِفها الحيوان الأعجم ، فكان من شرط الإرادة ما به مراد المتكلم يَرْجُحُ ، فهو المرجِّح من خارج ، ولا بد له من مرجع يَسْبِقُ ، وفيه معاني الحسن والقبح تَثْبُتُ ، فَثَمَّ مرجع أول في التصور ، وثم إرادة تُرَجِّحُ وَتَخْتَارُ ، فهي تَتَأَوَّلُ ما حصل في النفس من صورةِ العلمِ ، حكومةِ الحسنِ والقبحِ ، وثم معنى يرجح ، وهو أول في النفس يحصل ، ولا ينفك يطلب الدليل المظهِر في الخارج ، فَثَمَّ اللفظ الذي يشاطر المعنى قسمة الكلام ، وله من قانون المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ما تَرَاكَمَ في الوجدان ، فحصل منه عرف أخص ، فكل أولئك مما يحكي فطرة الكلام ، خاصة التكليف التي امتاز بها الإنسان ، فمن عجب أن صَدَّقَ بها بَعْضُ من حقق في مسائل اللسان والمعجم ، فأثبت الفطرة الأولى ، فطرة الكلام ، ثم لم يلبث أن خالف عن مقدمة الضرورة في القياس ، أن الحدَث لا بد له من محدِث أول يسبق وهو مما تَسَلْسَلَ في التأثير ، فلا بد من أول إليه النِّهَايَةُ في الخلق والتقدير ، وإلا لَزِمَ ما يخالف عن قياس العقل الصريح ، تسلسلا في المؤثرين أزلا ، ، فَأَثْبَتَ مَنْ أَثْبَتَ فطرة النطق الأولى ، ثم لم يلبث أن خالف عن مقدمة الضرورة في القياس المصرح ، فهو ينكر الخالق الأول الذي به حسم الممتنع ضرورةً من مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، وهو ، في نفس الآن ، يُثْبِتُ الفطرة ، وذلك تَنَاقُضٌ يُفْسِدُ الفكرة ، فالفطرة لا بد لها من سَبَبٍ يَسْبِقُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى فاطر أول لا فاطر قَبْلَهُ ، فلم يجد إلا رَدَّ الفطرَةِ في الكلام إلى الحس ، فتلك فطرة في الجسد قد رُكِزَتْ ، إذ لا مرجع له من خارج يجاوز ، فصارت خاصة الكلام خاصَّةَ حِسٍّ مجردة فلا مرجع لها من المعنى يجاوز ، وإن كان من الكلام فطرة تجاوز الحس بما لَطُفَ من معنى أول يَقُومُ بالنفس ، فلا يجزئ في إثباتِه غَرِيزَةُ الحسِّ ، وإن كان من ذلك ما رصد التجريب والبحث من مركز النطق في الدماغ ، وما يكون من نَبْضٍ وإفرازٍ ، وهو استجابة لما يسبق من معنى في النفس يحدث ، كما معاني الفرح أو الحزن ، الرجاء أو الخوف ، فثم من كلٍّ : باعثٌ لِنَبْضٍ وَإِفْرَازٍ أخص وبه امتازت الظواهر في الصُّورَةِ والرَّدِّ ، فامتاز في الخارج ضرورةً : الْفَرِحُ من الحزينِ ، الرَّاجِي من الْخَائِفِ ، فَثَمَ أَمَارَاتٌ في الحس تَثْبُتُ وهي في قسمات الوجه تظهر ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، لسان أول يُبِينُ ، وهو لسان الحال ، ومبدؤه ما قام بالنفس من المعنى ، فكان من ذلك علة أولى عنها مراكز الدماغ تصدر في إفراز ونبض آثارُه في الخارج تظهر ، فمنه لسان الحال في قسمات الوجه وحركات الأعضاء ، لا جرم كان من الاصطلاح المتأخر : لغة الجسد فهي تحكي في مواضع ما لا تحكي لغةُ الْبَيَانِ الناطق ، وكذا يقال في الكلام ، فَلَهُ من فطرة النفس أول يجاوز مدارك الحس بما يقوم بالعقل من المعنى التام ، وهو مرجع التصور والحكم في الخارج ، وله تَنْقَادُ الجوارح ، ومنها اللسان ، فهو يَتَنَاوَلُ المعنى الحاصل بالنفس ، ويكون من ذلك ما يُبَاشِرُ مَرْكَزَ النطق ، وعنه يصدر الإفراز والنبض الذي يعالج آلة الكلام بما أُحْكِمَ من السَّنَنِ ، سَنَنِ الحسِّ في حدوث النطق ، فلكلٍّ من السنن ما أُحْكِمَ ، إن تَصَوَّرَ المعنى الأول في النفس ، أو ما يكون بَعْدُ من الدليل المظهِر من حركة اللسان واندفاع الهواء في مجرى النطق واهتزاز الأحبال قُرْبًا وَبُعْدًا ..... إلخ ، فَكُّلُ أولئك حكاية الآلة ، فالمعنى يجاوزها ، إذ يقوم بالعقل اللطيف الذي جَاوَزَ الدماغ الكثيف ، ومعدنه الروح اللطيف الَّتِي جاوزت الجسدَ الكثيفَ ، وذلك قياس الحكمة ، فالكثيف يقوم بالكثيف ، واللطيف يقوم باللطيف ، وكلُّ أولئك ما يَرُدُّ عَجُزَ كَلَامٍ إلى صَدْرٍ ، إذ ثم فطرة أولى تَثْبُتُ ضرورةً ، وهو ما الْتَزَمَ بَعْضٌ في الكلام ، فَرَدَّهُ إلى الفطرة ، وإن جحد أولا من الخلقة ، فلم يكن منه إلا التَّنَاقُضُ الذي يُفْسِدُ الفكرة أَنْ أَثْبَتَ فطرةً بلا فاطرٍ ، فذلك من جِنْسِ القول بحادث بلا محدِث أول يسبق .
فَثَمَّ فطرة في الكلام ، ومنها ما ظُهِرَ من النطق ، ومنها ما بَطَنَ من فطرة التَّصَوُّرِ ، وهي ما تَنَاوَلَ وصف الحسن والقبح ، وذلك مَا عَمَّ القولَ والفعلَ ، ولو الجبلَّةَ الأولى في أفعال الحس ، وهي مما يجادل به الخصم المنكِر ، فَإِنَّهُ لا ينفك يصدر عن مقدِّماتِ ضرورةٍ ، وَإِنْ في أفعال الجبلة ، وإن طالها من الفساد ما طال الفكرة ، كما بَلْوَى من الْفُحْشِ قد عمت في الجيل المتأخر بما كان من مسالك تَقْبُحُ في حركة وفعلة في الخارج تظهر ، فذلك مما لا يكون إلا بمؤثِّر من خارج يحرف ، كما أول من التوحيد يَثْبُتُ ، حتى يكون من الخارج سبب يبدل ، فكلُّ أولئك : تأويل "أل" في "الفطرة" ، في قول صاحب الشرعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" ، فهي ، كما تقدم ، في موضع ، حكاية الاستغراق لوجوه المعنى ، فهي الفطرة الأولى التامة التي خلق عليها الخلق ، وبها توجه الأمر ، أن : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وحكاية آخر من الاستغراق قد تناول آحاد المدخول ، فَثَمَّ فطرة في المحسوس الذي لا يجاوز ، فالجسد معدنه ، وأخرى في المعقول تجاوز فالروح معدنها ، ولئن جَحَدَ مَنْ جَحَدَ فطرةَ المعقولِ فلا يطيق جَحْدَ أولى من المحسوس بما يباشر من أفعال الجبلة ، فحصل من ذلك فطرةُ ضرورةٍ أولى في الإنسان ، في الروح اللطيف والجسد الكثيف ، وهو ما جاء الوحي له يصدق ، مرجعا من خارج يجاوز ، فَمِنْ نَصِّ النبوات ما رَفَدَ الفطرة الأولى ، فهو يصدقها ، من وجه ، وهو يُبِينُ عما أُجْمِلَ مِنْهَا ، من آخر ، وهو يقوم ما اعوج مِنْهَا ، من ثالث ، إن في الفكرة وهي أول في المعنى الذي يقوم بالنفس فذلك باعث لما تلا من الفعل أو الترك ، ومنه ما يكون من اللفظ ، فهي ما يبين عن المعنى القائم بالنفس بما استقر من معجم الألفاظ وقانون النظم ، فلا ينفك الناظر ، أبدا ، يعالج في هذا الباب ما يجب ضرورة من المرجع الأول ، مرجع الفكرة ولها مبادئ من المقدمات الضرورية التي رُكِزَتْ في الفطرة الأولى ، وعنها آخر من الحركة يُصَدِّقُ . والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
ولا يكون ثَمَّ كفران أو عصيان إلا وهو يحكي خروجا عن فطرة أولى تَنْصَحُ ، قد فُطِرَ عليها الخلق كافة ، فهي أول في الوجدان يُسْتَصْحَبُ ، فلا تطلب دليلا من خارج يُثْبِتُ ، وإن كان ثم مرجع من الوحي فهو يُصَدِّقُ فطرة التكوين بما كان من حكمة التشريع ، وهو بعد يُفَصِّلُ ما منها قد أُجْمِلَ ، وَيُقَوِّمُ ما اعوج ، إن من فطرة الاعتقاد أو القول أو الفعل ، وإلا كان الفساد الذي يَعُمُّ التصور الحكم إذ ليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، ولو تكلف بعض من ذلك العقل الجامع ، فيصدق فيه أنه موضوع من خارج ، ولكنه ، من آخر ، ليس الموضوع المطلق ، فلا يصدق فيه أنه المرجع المجاوز من كل وجه ، بل لا ينفك يصدق فيه أنه المحدَث بعد أن لم يكن ، وهو ، مع ذلك ، مما لا يسلم من تهمة النقص والجهل ، والميل إلى ما يواطئ الهوى والذوق ، وهو مجموع مركب من العقول المفردة التي لا تسلم من النقص ، أيضا ، وإجماعها ليس الإجماع المعصوم ، فقد أجمعت في أمم وجموع على ما يخالف عن المنقول والمعقول والمفطور والمحسوس ، فَحَسَّنَتْ مَا قَبُحَ ضرورةً في الوجدان الأول ، إذ طرأ من العارض ما أفسد الفطرة الأولى ، وهو ما يعالجه الناظر إذا استقرأ تَارِيخَ أُمَمٍ قَدْ أَبْطَلَتْ مَرْجِعَ الوحيِ ، ولو المبدَّلَ أو المحرَّفَ ، فَنَفَتْ كُلَّ اسمٍ يصلها بالسماء ، ولو في الجملة ، فَكَانَ مِنْ فطرةٍ أولى قد نَصَحَتْ ، وهو ما واطأ بَقَايَا من الوصايا الأولى قد حَرَّمَتِ القبيحَ من الفواحشِ التي تَشْمَئِزُّ منها النفوس ضرورةً ، إذ ثم معنى في الوجدان قد جاوز المادة ، وتلك الفطرة التي اجتهدت الحداثة أن تَنْسَخَهَا ، فَتَصِيرَ المادَّةُ هِيَ الأصلَ ، ولو أَثْبَتَتْ معانٍ تجاوزها من أخلاق وأحكام ومشاعر ، فَلَا تَنْفَكُّ تَرُدُّهَا ، كما قال بعض النظار ، إلى العقل الفعال ، وهو اصطلاح محدث يُغَايِرُ ما كان في الحكمة الأولى من العقل الفعال الذي رُدَّ إليه الخلق ، فهو الصادر عن عقول تسبق ، وهو بعد الخالق المحرك لما تحته من هذا العالم ، وهو مرجع العرفان إذ تَفِيضُ منه العلوم على العقل الجزئي المحدَث في الأرض ، فذلك تأويلٌ آخر للنبوات قد رَدَّهَا إلى مرجعٍ يَقْبَلُ الاكتساب بما يكون من معالجة رياضات نظر وروح ، وبها المحال تَلْطُفُ ، فَتَكُونُ أهلا لِعِلْمٍ من العقل الفعال يَفِيضُ ، فَتَقْبَلُهُ النفوس إذ المحل قد تهيأ ، وثم ، والشيء بالشيء يذكر ، آخر من تأويل النبوات في مثال الحكمة الأولى ، لم يجاوز بها الذات ، كما التأويل آنف الذكر ، فَلَهُ مرجع من خارج يجاوز وهو العقل الفعال الذي تَقَدَّمَ ، فَثَمَّ آخر لا يجاوز ، فذلك المرجع الذاتي من العقل الجزئي الذي يُبَاشِرُ ، أيضا ، رياضات نظر وروح ، فيصفو المحل ويحصل له العلم بلا مُعَلِّمٍ ، ويكون من عقله مَرْجِعٌ لِوَحْيٍ تَتَمَثَّلُهُ في الخارج صُوَرٌ تخاطِبُه بالخبر والحكم ، وليس إلا ما صدر أولا عن العقل ، فهو المصدَر والمرجِع ، وهو بَعْدُ المخاطَب من صورة في الخارج تحدث ، وليست إلا الخيال الذي امتاز به النبي ، فَثَمَّ ملكة تخييل ، وأخرى بها التأثير ، وكل أولئك مما يعالجه كل أحد إذ استقر في نفسه أولى تثبت ، فَهُوَ نَبِيٌّ بالقوَّةِ حَتَّى يَتَأَوَّلَهَا فَيُخْرِجَهَا إلى فعلٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فيكون من التأويل : نَظَرٌ وَرِيَاضَةٌ ، وبها النبوةُ تُكْتَسَبُ ، فَلَيْسَ ثَمَّ اصطفاء أخص ، ولا زيادة من الوهب ، بل ذلك الكسب الذي يفتح ذرائع التبديل والتحريف ، بل والنسخ الذي يأتي بالإبطال على الأصل ، فذلك تأويل آخر للنبوات في الحكمة الأولى ، فَثَمَّ تأويل مرجعه العقل الجزئي ، وثم آخر مرجعه العقل الكلي ، العقل الفعال ، وهو محل الشاهد في اصطلاح آخر قد تأخر ، فكان منه عقل قد تَذَرَّعَ بِهِ بَعْضُ مَنْ تَأَخَّرَ أن يجحد ما استقر أولا في الوجدان من الفطرة ، فهو عقل يعالج المحسوس من المادة في الخارج ، فَلَيْسَ إلا هي المرجع في التصور والحكم ، ولو انحط الوجدان فلم يجاوز الحيوان الأعجم ، فَلَيْسَ ثم من تَصَوُّرِهِ وحكمه الذي يُبَاشِرُ ، إلا أفعال جِبِلَّةٍ وغريزةٍ لا تجاوز ، فالمحسوس مَرْجِعُهَا في الباعث والحكم دون آخر يأطر من معنى يَلْطُفُ ، فَذَلِكَ مما امتاز به العقل المكلَّف ، فَثَمَّ جُمَلُ فِطْرَةٍ أولى في باب الحسن والقبح ، وَتَلِكْ مَعَانٍ تجاوز ضرورةً الحسَّ ، فَلَيْسَتْ تحصل بمعالجة المحسوس ، ولو على مثال التجريد الذي يُحَرِّرُ المعاني ، فيكون من العقل أول من الصحف لَمْ يُسْطَرْ فِيهِ شَيْءٌ من الْكَتْبِ ، فإذا باشر المحسوس حصل من ذلك كَتْبٌ من خارج ، فالحس هو الأصل في صناعة المعنى ، إذ المادة تَسْبِقُ في الوجود والتصور ، وهي مما لا يجاوز مدارك الحس ، وذلك ما أفضى بَعْدًا ، كما يقول بعض من حقق ، إلى اعتماد التجريب والبحث سَبَبًا هو الأول ، بل والأوحد ، فلا تحصل العلوم والمعارف إلا بمباشرة التجربة في المعمل ، ورصد النتائج التي تظهر فهي بالحس تُدْرَكُ ، ولو فِي إثباتِ مَعَانٍ تَلْطُفُ ، كما تقدم من مثال العقل الفعال ، فإن ما يحرر من جمل الضرورة في وجدان الناظر ، كما الأخلاق والمشاعر والإحساس بالجمال ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يَلْطُفُ ، فَرُدَّ إلى مادة أولى في الخارج تَثْبُتُ ، فهي التي تصنع الفكرة والشعور ، وتحد القيم والمبادئ التي تأطر الأفراد والجموع ، فالمرجع من خارجِ النَّفْسِ ، وليس المرجع المجاوز من الوحي أو الغيب ، لا جرم كان من هذا المذهب ، كما يقول بعض من حقق ، كان منه ما يجحد الخارقة التي تجاوز قانون الطبع ومدارك الحس ، فذلك خيال يُتَوَهَّمُ ، فليس ثم في الخارج مَرْجِعٌ لِجُمَلِ الضرورة من المعرفة والأخلاق والجمال ، ليس ثم إلا المادة ، فكلُّ معيارٍ يُجَاوِزُهَا فَيَتَنَاوَلُ مَا لَطُفَ من المعاني فلا يدرك بالحس ، كُلُّ معيارٍ ذلك وصفه ، فهو خيال لا حقيقة له في نَفْسِ الأمر ، واعتبر بما كان من حد الجمال ، فَثَمَّ من قصره على جمال الصورة في الخارج ، إذ بالحس يدرك ، وذلك مما لا يجحده الناظر ، بل به قد ثبت مسلك من الغزل في نظم الأولين فهو يتناول مفاتن الجسد التي تدرك بالحس ، فذلك دليل على نوع من الجمال ، الجمال المحسوس ، وهو مما اعْتُبِرَ ضرورةً بما كان من مَيْلِ النُّفُوسِ إلى الصور الجميلة ، ولو تَدَبَّرَ الناظر هذا الجنس من الجمال ، ولو اقتصر على المحسوس ، فلا ينفك يطلب مقدمات أولى في النفس ، بها حد المعاني من جمال وَحُسْنٍ ، فتلك أجناس دلالية تطلب أولا في النفس قبل معالجه الصورة في الخارج ، ولو قُصِرَ الجمال عليها فلم يجاوز إلى آخر من المعنى ، فلا ينفك جمال الحس ، ولو عالج الناظرُ مادته في الخارج ، لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ معنى أول فِي النَّفْسِ يَثْبُتُ ، فهو ، أيضا ، من قوة تُجْمَلُ فِي النفوسِ ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب السبب الذي يُخْرِجُهَا من القوة إلى الفعل ، فالمعنى حاصل أولا في النَّفْسِ ، لا مُكْتَسَبٌ بما يُعَالِجُ فِي الخارجِ بالحسِّ ، ولو معنى الغريزة التي تطلب الصورة الجميلة ، فتباشرها بما رُكِزَ في الأجساد من قوى ، فتلك أولى في النَّفْسِ قَبْلَ حصول المادة الباعثة المهيِّجة على الطلب ، فلم يكن من صورة الحس في الخارج ما صَنَعَ المعنى الذي بَعَثَ النفس أن تعالج الصورة الجميلة بالمباشرة أو المباضعة ...... إلخ من أفعالٍ تُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن كان من ذلك سبب مهيِّج ، فلا تنفك تطلب أولا من الغريزة والطبع ، فهو سابق لما يُعَالِجُ في الخارج من المادة المهيِّجة ، فَلَيْسَتِ المادة هي ما صنع الطبع والغريزة ، ولو المحسوسة التي لا تجاوز أفعال الجبلة ، وإنما ثم أول من المعنى قد سَبَقَ ، وهو مما استقر من فِطْرَةِ الضرورةِ فِي النفوسِ ، ولو في المحسوس ، فكيف بآخر ألطف من المعقول ، وذلك آخر من مَسَالِكِ النَّظْمِ قد حَرَّرَ من الغزل ما عَفَّ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مفاتن الحس ، وإنما باشر أخرى ألطف من معادن الروح التي لا تُدْرَكُ بالحسِّ ، فكان من الميل والجذب ما لا تجد النفس له تأويلا يطرد على مثال المادة ، بل قد تكون الصورة على ضد من معيار الجمال المدرك بالحِسِّ ، أو دونه في الحد ، والنفس مع ذلك تحب وترغب ، فلو خُيِّرَتْ بينها وبين أخرى أجمل ، ما اختارت إلا هي ، فهي الأجمل في نظر المحب ، والأوقع في نفسه ، والحالَّة في جنانه محلا إليه لم تسبق ، كما قال قيس بن الملوح :
مَحا حُبُّها حُبَّ الأُلى كُنَّ قَبلَها وَحَلَّت مَكاناً لَم يَكُن حُلَّ مِن قَبلُ . فحلت سواد القلب ، فليس المحب يَبْغِي سواها أو يطلب ، كما قال ذو الرمة : حلَّت سَوَادَ القَلبِ لا أَنا باغِياً سِواها وَلا في حُبِّها مُتَراخِيا . وتلك معان حدها المحبون في نَظَمٍ لطيفٍ رَائِقٍ ، لا يجري على معيار الحس الحادث ، فكان من معنى الجمال آخر أَلْطَفُ ، جمال المعنى ، فذلك تأويل يَنْصَحُ لما كان من قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»" ، وهو إلى مقدمات أولى في الوجدان أحوج من آخر لا يجاوز الحس ، فإذا كان الجمال المحسوس يأرز آخر أمره إلى معادن في الغريزة تَسْبِقُ ، ولو لم تجاوز الحس المحدث ، فَثَمَّ فطرة أولى في الحس ، فكيف بأخرى ألطف ، وهي ما يُعَالج المعنى ، وهي إلى الوجدان أَقْرَبُ ، وجدانِ الباطن ، فهو فطرة أولى تسبق ، إن في الحس أو في المعنى ، فَلَيْسَ مَا اقْتَرَحَ أولئك من صيرورَةِ المادَّةِ فِي الخارج هي الأصل الذي يحد الأخلاق والجمال ..... إلخ ، بل ثَمَّ أول يَسْبِقُ من المعنى في الوجدان الباطن ، إِنْ فطرةَ الحسِّ أو أخرى من المعنى ، فكان من الحداثة ما انْحَطَّ بِالنَّفْسِ ذات المدرك الوجداني اللطيف ، فَلَيْسَ إلا صُنْعًا لموضوعٍ من خارج ، وهو المادة ، كما نَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ عن نُظَّارٍ قد جحدوا الفطرة والمعنى ، فكان من ذلك حد الإنسان أنه : "مِنْ صُنْعِ الموضوعات المحيطة في الخارج لا أكثر" ! ، فالإنسان ابن هذا العالم المحدث ! ، فهو دليل على محدِث أول يسبق ، وتلك مقدمة صحيحة ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، وهو ما تَسَلْسَلَ حتى انتهى ضرورة إلى خالق أول لا أول قبله ، فتلك مقدمة صحيحة في النظر ، أن المحدَث لا بد له من محدِث أول يسبق ، وإنما فَسَدَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ قِيلَ بَعْدًا إن الإنسان دَالٌ على خالق لا يجاوز الحس ، فهو الموضوع المحيط من هذا العالم المحدَث ! ، وهو ، في نفسِهِ ، محدَث لا ينفك يطلب المحدِث ، فكيف يكون هو الخالق الأول ، ولو سُلِّمَ أَنَّ لَهُ فِعْلًا في التكوين أو في التأثير ، فليس به حَسْمُ التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، بل ثم من التَّسَلْسُلِ مَا اطرد ، فلا ينفك يطلب الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فهو المحدِث الذي لا محدِث قبله ، لا كما هذا العالم المحدَث الذي يطلب المحدِث كما الإنسان ، فكلاهما محدَث في الخارج بعد أن لم يكن ، ولو نصح الناظر في الاستدلال ، لفال إن الاثنين : الإنسان والعالم ، كلاهما محدَث دال على محدِث أول يسبق ، فَلَهُ من الأولية ما يُطْلَقُ ، فَلَا أول له يَسْبِقُ ، وثم من الإتقان والإحكام في كُلٍّ ، العالم والإنسان ، فـ : (فِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ، الآفاق والأنفس ، فـ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، فَثَمَّ فِي كُلٍّ من الإتقان والإحكام ما يدل ضرورة على متقِن محكِم أول ، فَلَهُ من الوصف ما جاوز ، عِلْمًا محيطا قد استغرق ، وآخر من الحكمة في التقدير ، وثالثا من الإرادة بها التخصيص والترجيح ، وبهما خروج المقدور الآفاقي أو النَّفْسَانِيِّ من العدمِ إِلَى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فيعالج الناظر ما اصطلح النظار أنه دليل الاختراع والعناية ، الاختراع لا على مثال تَقَدَّمَ ، بَدْعًا يحكي ما تقدم من الإتقان والحكمة والإرادة والقدرة ، والعناية بما أجرى الخالق الأول ، جل وعلا ، من أسباب الحس والمعنى ، وبهما استصلاح الجسد والروح كَافَّةً ، فذلك استدلال الرسالة المحكمة لا آخر من الحداثة لم يجاوز في الخلق أنه من صنع هذا العالم الذي لا يعلم ولا يقدر ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يرفد فَرْضَ التطور الذي عمت به البلوى في الجيل المتأخر إذ لا يخلو من جبرية يخضع فيها الإنسان للموضوعات المحيطة من خارج ، فهي حركة تُلْجِئُ ، ولو بلا غاية تنصح ، فَثَمَّ ضرورة لا يطيق الإنسان الخروج عنها إذ جُرِّدَ من معاني التصور والإرادة .... إلخ ، فهو مادة كسائر المواد ، فلا حياة فيها تجاوز الحس ، وإنما تخضع لقوانين الحركة والسكون ، فالتطور يَنْفِي خاصة التكليف التي امتاز بها الإنسان من سائر الأنواع ، وهو قبلا ينفي خاصة الإنسان العاقل المفكر ، وهو ما اصطلح بعضٌ أنه الإحساس فهو قدر يجاوز الحس المجرد الذي اشترك فيه الإنسان وسائر الأنواع ، وإنما امتاز بما لَطُفَ من الإحساس فذلك معنى أدق ، وهو ما افتقر إلى تصور أول وعنه يكون الاختيار بِإِرَادَةٍ تُرَجِّحُ ، وَاعْتَبِرْ بآخر مما يجرد الذهن ، كما الألم ، فهو مما يتفاوت في الخارج ، فَثَمَّ ألم الحس الذي يستوي فيه الإنسان وسائر الأنواع ، وثم آخر يجاوز فهو ألم الإحساس ، فيجد الناظر من تتألم روحه ما لا يتألم جسده ، فألم الجسد له علاج من المادة ، وليس يجزئ ، بداهة ، في علاج آلام الروح ، وإن ظهر ذلك ، بادي الرأي ، فهو علاج العرض بما يكون من استجابة الدماغ وسائر الجسد لما يكون من الروح ، فآثاره تظهر في الحس ، فيكون من الدواء المحسوس ما يعالج العرض الذي طرأ على الجسد ، لا الأصل فمعدنه يلطف ، وليس يَتَنَاوَلُهُ علاج حس يَكْثُفُ . والشاهد أَنَّ التَّطَوُّرَ يَنْفِي خاصة التكليف التي امتاز بها الإنسان من سَائِرَ الأنواعِ ، فَيَنْفِي الإرادة إذ المسار جَبْرٌ يَطَّرِدُ ، والكائنات فيه خاضعة خضوع المادة لقوانين الحركة والسكون ، فَكَيْفَ صَحَّ في الأذهان أن يجحد أولئك الأديان فهي تُقَيِّدُ الحريات ، ومذهبهم يسلبها ابتداء ! ، فليس إلا العشواء والخبط على قاعدة من الإلجاء والجبر ! ، فالإنسان هو المنفعل بِفَاعِلٍ من خارج لا يجاوز المادة المدركة بالحس ، ولو في أشرفِ خَاصَّةٍ من الفكر الذي يحد المعاني والأخلاق والجمال ، فَرَدَّهُ بعض آخر إلى درس الطب الذي يعالج الجسد ، فمنه علم الوظائفِ ، وظائفِ الأعضاء التي يعالجها التجريب والبحث ، فـ : "إن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة ، وكما يفرز الكبد الصفراء" ، وذلك نص طبيب قد مهر في بابه ، ولكنه تحكم في مقاله ، فَصَيَّرَ البدنَ هو الأصل بما يعالج من مدركات الحس ، فَمَا جَاوَزَهَا ، فَهُوَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، الخيال المتوهم ، فليس ثم فطرةُ ضرورةٍ تعالج من المعاني ما لا يدرك بالحس ، وهي ضرورةٌ تَثْبُتُ ، ولو في المواجيد والمشاعر التي أجمع عليها العقلاء كافة ، كالحبِّ والبغضِ ، وإلا بِمَ يُفَسَّرُ ما يجد كل أَحَدٍ في نفسه ضرورةً من انْبِسَاطٍ في الوجه يحكي آخر في الجنان يَسْبِقْ إِذَا أبصر من يحب ، بل قد يحصل إذا أبصر أحدا لم يَرَهُ قَبْلًا ، فَيَجِدُ من المحبة ما لا دليل له في الحس يشهد ، فالحب فِي نَفْسِهِ مَعْنًى لا يعالجه الحس قياسا يضبط ، مع آخر يَزِيدُ في انْبِسَاطٍ وَانْشِرَاحٍ في النفس وقد أبصرت من لم تَرَهُ مِنْ قَبْلُ ، فحصل لها من المعنى ما لا يحده مبنى أو قياس في الخارج يضبط ، فَلَا يَخْضَعُ لِحَتْمٍ وَجَبْرٍ قد صدرت عنه مذاهب لم تجاوز حد المادة بما لها من سَنَنٍ محكَم قد عالجه البحث المحدَث ، فَاقْتَرَحَ له من الآلة ما يقيس ويضبط ، واعتبر بآخر من المشاعر يَنْقُضُ مَا اسْتَقَرَّ في مذاهب المادة من مبادئ ، فالحتم في مُثُلِ الاجتماع التي اقْتَرَحَتْهَا المذاهب المادية ، الحتم فيها يُوجِبُ صَيْرُورَةِ الجمع على طِبَاقٍ ، وكلٌ منها لا يطيق الخروج عنها ، أو الميل إلى غير ، فالغني لا يميل إلى الفقير ، وكذا الفقير لا يميل إلا لمثله ، فيكون من ذلك حد يميز ، وهو مادة التغيير على قاعدة الصراع بين الطِّبَاقِ ، فالحقد مادة تُذْكِيهَا ، كما قال بَعْضٌ وهو يبين عن مثاله في التغيير ! ، وهو ما يزيده اشتعالا كِبْرُ الغنيِّ وَصَلَفُهُ ، فهو مادة تُذْكِي نار الحسد والبغض في صدر الفقير ، فيكون من كل مادة تذكي النار التي تَشْتَعِلُ فتأكل الجميع إذ لم يكن ثم رائد من النُّبُوَّةِ والتَّنْزِيلِ ، فَهِيَ تُجَاوِزُ كُلًّا ، وتحكم فيهم حكومة العدل ، فلا ظلم ، وهو ما يبطل مادة الصراع على قاعدة من المادة لا تجاوز ، ومنها ما تقدم من مثال الطِّبَاِق الذي يجري على قاعدة الحتم والإلزام ، فلا تقارب بين الطباق ولا تقارب بين الآحاد ، إذ كلٌّ يسلك جادة من الجبر والإلجاء ، فلا إرادة له تُخَالِفُ عَنِ الطَّبْعِ ، إن في الخير أو في الشر ، وهو ما يَلْزَمُ منه سقوطُ التكليفِ ، وحصول العذر ، فَلَيْسَ ثَمَّ اختيار بل الأمر جَبْرٌ مَحْضٌ ، إن في سَنَنِ الاجتماع أو في آخر من الأحكام ، وهو ما تكذبه الحال ، فإن من المحبة ما يحصل بين اثْنَيْنِ لَيْسَا من طِبَاقٍ واحد ، فلم يحل الحتم والجبر الذي يميز كُلًّا على قاعدة من المادة لا تجاوز ، لم يحل دون المحبة والتَّقَارُبِ ، وإن كان الغالب في الباب أن يكون ذلك بين اثنين من طباق واحد ، إذ لا يَتَشَوَّفُ المحب ، بادي النظر ، إلا لمن يرجو وصاله فليس البعيد أو المحال ، فيعالج من ذلك ما يطيق مؤنته ، لا جرم كانت كفاءة المال مما اعتبر في النكاح ، وإن لم يكن الأول ، وكذا كفاءة العلم والشرف والحسب ، وإن قُدِّمَ الدين فهو الأصل ، كما قال صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لِمالِها، ولِحَسَبِها، وجَمالِها، ولِدِينِها، فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ" ، فَثَمَّ اعتبارٌ لِمَا تَلَا ، وإن لم يكن الأول ، وهو مِمَّا في الباب يَغْلُبُ ، بل قد يحسن ، من وجه ، فهو أحرى أَنْ يُؤْدَمَ إِذْ كان من الحال ما يَقْرُبُ ، فلا يَتَكَلَّفُ الرجل مُؤْنَةً تجاوز ما اعتاد مِثْلُهُ في المهر والنفقة ، وَلَا تَتَكَلَّفُ المرأة ما لا تطيق إذا كانت ذَاتَ يَسَارٍ وَحَسَبٍ ، فقد اعتادت ما زَادَ مِنَ السبب ، سبب الرَّفَاهِ والتَّرَفِ . فذلك غَالِبٌ في الباب قد اطرد ، ولكنه ليس الجبر الذي يبطل خاصة الاختيار وهي مناط التكليف في الأحكام ، فقد يكون من ذلك خروج عن الغالب ، فيكون من باعث الحب ما يُقَارِبُ ، وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ ، المعنى اللطيف الذي يجاوز معيار المادة الكثيف ، فليس له يَقِيسُ ، بل المحبة مطلقا ، تَقَارَب المحِبَّانِ في مثال الاجتماع أو تَبَاعَدَا ، تلك المحبة ، كما تقدم في موضع ، سِرٌّ يدق ، وله من جوهر الروح محل يَلْطُفُ ، فَلَيْسَ الجسدُ لَهُ يُفَسِّرُ ، وليست المادة له تَحْصُرُ ، فَثَمَّ معنى لطيف يجاوز المادة ، فلا يخضع لقياسها في الخارج ، فحصل من ذلك دليل يميز المعنى من المادة ، فلم يحل المعنى في المادة ولم يَتَّحِدْ بها ، كما اقترح مذهب حلول واتحاد محدث قد تَوَسَّلَ بذلك أَنْ يُنْكِرَ المرجع المجاوز من خارج في الإخبار بالغيوب ، فهي معان لا يعالجها الحس ، وإنما لها أول من العقل يُجَوِّزُ التجويزَ المحضَ ، ثم تال من الخبر يُرَجِّحُ ، فَيُصَيِّرُهَا واجبة تَثْبُتُ ، فإثباتُها لَا يكون بالحس ، بل ثَمَّ مرجع من خارج يجاوزه بما كان من الخبر الذي يصدق ، وبه الغيب يَثْبُتُ ، فَثَمَّ من المعنى ما جاوز المادة فلم يحل فيها ، فحصل من المعاني ، محبة وبغضا ، ما لا يقاس بالحس ، وهو ، مع ذلك ، ثابت في نفس الأمر قد وجده صاحبه من نفسه ضرورة لا يُطِيقُ حَدَّهَا ، وَلَا يُطِيقُ آخر من قياسِها ، بل معيار الحس في باب المحبة والجمال .... إلخ ، لا يجاوز الظاهر من الصورة ، فَيُجِيبُ عن سؤال الجسد بما رُكِزَ فِيهِ من غرائز الحس ، ولا يجيب عن سؤال الروح بما رُكِزَ فِيهَا من غريزة العقل ، فَثَمَّ صورة في الخارج لا تجيب عن سؤال الروح ، ولا عن سؤال الجسد إلا ما يُوَاطِئُ أولا من مَيْلٍ في الجبلة قد رُكِزَ ، مَيْلِ الزوجِ إلى زوجِه الذي يخالف في النوع ، فذلك أصل عام قد استغرق آحاد الباب في الخارج إلا ما خالف عن الطبع والجبلة ، وهو مَا قَبُحَ فِي الْفِطْرَةِ وَالشِّرْعَةِ ، وَلَيْسَ يصح مثالا لأصل ناصح ، بل ذلك الاستثناء الفاحش الذي يخالف عن الْخَلْقِ السليم وَالْخُلُقِ القويم ، ومن أَرَادَ تحريرَ أصلٍ جامعٍ لآحاد في الخارج ، فَعَلَيْهِ بالغالب لا بالنادر الذي لا حكم له ، وعليه بالصحيح لا بالفاسد ، فَحَدُّ الأشياء في الخارج باستقراء أوصافها ، لا يكون باختيار فاسد منها مِثَالَ نَظَرٍ ، كَمَا يَضْرِبُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثل بمن يحد ثمرة في الخارج ، فلا يختار منها الفاسد ، ويصيره الحاكم في آخر قد سَلِمَ من الآفة ، وهو ما يخالف عن فِعْلِهِ في الخارج ، فإنه إذ اشْتَرَى منها فلا يَشْتَرِي إلا السليم ، ولو قُرِّبَ إِلَيْهِ الفاسد ما رَضِيَ ، فالبائع غاش أو ظالم ، ولو قُرِّبَ إليه منها شيء ، فهو يختار السليم ، فذلك تصديق لما ثَبَتَ أولا في النفس من خصائص المطعوم الطيب الناصح الذي تطلبه النفس حال الصحة لا المرض أو الفساد ، فساد الجبلة أو آخر من العلة ، فلا يختار الخبيث إلا وقد فَسَدَ طَبْعُهُ ، فلا يُقَاسُ عليه غيره ، وإنما يقيس الناظر في حد الحقائق على ما سَلِمَ من الأجساد والطبائع ، واعتبر بما كان من رؤيا المعراج ، فقد عالج منها صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قُرِّبَ إليه لحمٌ طيب وآخر خبيث ، فخالف عن الطبع السليم واختار الخبيث ، فذلك مثل الزاني الذي يترك الطيب الطاهر من المنكح ويعدل عنه إلى آخر يخبث ، فلا يكون ، بداهة ، المثال الذي يَتَنَاوَلُهُ الناظر لِيَحُدَّ الحقيقة في الخارج ، فذلك المثال الفاسد الذي لا يحكي الحقيقة الناصحة في نَفْسِ الأمرِ ، وكذا يقال في حد الحقائق اللطيفة بِلَوَازِمَ كثيفة لها في الخارج ، فذلك آخر يحكي انحطاط العقل الذي لا يجاوز المادة المدرَكة بالحس ، إذ يُصَيِّرُهَا الأصل الأول ، فَعَنْهَا الإنسانُ يَصْدُرُ ، صدور الحتم والجبر الذي يُصَيِّرُهُ آلةً صماء لا تَعْقِلُ ، فَلَا يَسْتَقِلُّ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، عَمَّا حوله ، بل ثم مثال رياضي واحد يستغرق الجميع ، فَيُسَوِّي بين الإنسان ذي العقل والمشاعر ، وسائر الأشياء في الخارج ، وليس له من الحرية فِي الاختيار إلا مَا رَشَدَ عَلَى معيارٍ مادِّيٍّ يَصْلُبُ ، فَالرَّشَادُ قَدِ اقْتَصَرَ على ما به يستجيب لقواعد الحس التي تحكمه حُكْمَ المادة التي لا حياة فيها ولا حس ، فحريته عَيْنُ عبودِيَّتِه ، فهي كما يقول بعض من حقق ، حكاية انصياع لقوانين الضرورة المادية التي لا تجاوز الحس ، إذ ليس إلا مادة كما الحياة كافة ، فهي ، كما شعار المذهب ، مادة ولا إله أول قد خَلَقَ وَقَدَّرَ بعلم محيط قد استغرق ، وَإِرَادَةٍ بَعْدُ تخصِّص وترجِّح ، وليس ثم بداهة منه ما حَكَمَ وَشَرَّعَ ، فذلك أشد على المذهب من الأول الذي لم يجاوز حد الإيجاد والخلق ، فلا معنى يجاوز الحياة ، ولا غاية لحركتها في الخارج ، فليس إلا الاضطراب والعبث ، في مثال ذَرِّيٍّ يجحد كل معيار حاكم ، ولو المادِيَّ الذي لا يجاوز ، إمعانا في نَفْيِ الحكمة في كل فكرة أو حركة ، وهو ما يُفْضِي إلى تجريد الاختيارِ من الباعث الأخلاقي المجاوز للمادة ، فَقَدِ اضْمَحَلَّتِ الحقيقةُ الإنسانية ، فَلَيْسَ ثَمَّ إلا الحقيقة المادية ولا أخلاق لها بداهة ، ولا معنى له تحتمل ، فالمعنى يجاوزها من خارج ، وإن اقترح بَعْضٌ ما يخالف عن النظر المصرح أن الخالق الأول قد خلق في هذه المادة قواعد بها إدراك المعاني ، وهو ما يخالف عن البدائه ، فَإِنَّ الْحَجَرَ مَادَّةٌ لا إرادة فِيهَا ، وإن كان ثم تسبيح ، فليس مناط تكليف ، بل هو تسبيح الاضطرار فَلَا إِرَادَةَ ولا اختيار ، فـ : (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ، فَثَمَّ تفضيل الإنسان المكلَّف إذ ثَمَّ معنى يجاوز المادة ، وقواعد الجسد في الحس لا تجزئ في آخر أَلْطَفَ من إحساس بمعان تجاوز المادة ، فَمَحِلُّهَا روحٌ تَلْطُفُ ، ولها من الحقيقة ما يغاير الجسد ، وبهما حد الإنسان في الخارج ، فَلَيْسَ المادة المحضة التي لا تُدْرِكُ المعاني المجاوزة ، فَلَيْسَ لها من ذلك شيء إذ لم يُرْكَزْ في الجسد إلا غرائز بها درك المحسوسات ، فالمعقولات تطلب آخر يجاوز . فلم تجاوز الحداثة الحقيقةَ المادية ، ولا أخلاق لها بداهة ، ولا معنى له تحتمل ، فالمعنى يجاوزها من خارج ، فضلا عن مرجع الوحي المجاوز للإنسان والمادة كَافَّةً ، فقد اضمحلت الحقيقة الإلهية فليس إلا الإنسان ، ثم كان التسلسل في الوسواس الذي انتهى إلى اضمحلال الإنسان ذي المرجع الأخلاقي ، فليس إلا المادة التي اضمحلت أيضا ! ، فليس إلا ذارت تخبط عشواء ! ، فلا معيار يحكم ، ولو الْمُدْرَكَ بالحسِّ المحدَث ! ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، تَجْرِيدٌ للاختيار من الباعث الأخلاقي كما اختيارٌ بين خير وشر ، فلا معنى من التكليف يجاوز الحس ، فاستوجب ذلك عبثا آخر في معجم اللسان إذ يعيد حد الخير والشر بما يواطئ الجبلة والحس ، فالخير ما تحصل به اللذة والكسب ، وإن خالف عن جادة العدل فذلك معنى يجاوز المادة فلا وجود له في نفس الأمر بما تقدم من صيرورة الحس حصرًا : مرجعَ الإثبات والنفي الأوحد ، وَالشَّرُّ ما يُفَوِّتُ اللذة والكسب ، وإن سلك جادة العدل في نفس الأمر ، على مثال ما نظم أبو الطيب : لَولا المَشَقَّةُ سادَ الناسُ كُلُّهُمُ الجودُ يُفقِرُ وَالإِقدامُ قَتّالُ . فالفقر والقتل مما يخالف عن مرجع المادة التي لا تجاوز الحس ، فلا تحتملهما النفس إلا وثم معنى يجاوز وليس يَثْبُتُ ، بداهة ، إِلَّا أن يكون ثم باعث أخلاق يجاوز المادة ، وهو مما يُحَسِّنُهُ العقلُ الناصحُ الذي جاوز الدماغ المدرَك بالحس ، فهو آلة تُتَرْجِمُ ، وعن معان تَلْطُفُ في الجنان تصدر ، فيكون من فعل الدماغ ما لا يُفَسِّرُ بواعث الأديان والأخلاق ، فهو المنفعل لا الفاعل ، وكذا يقال في المحبة والبغض ، فليس الدماغ هو الأصل بما يكون من إِفْرَازٍ به انبساط الوجه ..... إلخ من أمارات الفرح والسرور عند رؤية المحبوب ، أو آخر به انقباض الوجه ..... إلخ من أمارات الحزن والغم عند رؤية المكروه ، فذلك انفعال يُدْرَكُ بالبحث والتجريب ، وهو تأويل سابق من الإفراز يجيب ، أيضا ، عن سؤال المادة ، ولا يجيب عن آخر من المعنى يجاوز ، فما حَمَلَ الدماغ أَنْ يُفْرِزَ في الفرح برؤية المحبوب ما به انبساط الوجه ، وأن يُفْرِزَ في الحزن برؤية المكروه ما به انقباض الوجه ؟! ، فالإفراز لا يحسم سؤال التسلسل في العلل المؤثرة ، فلا بد من علة تجاوز المادة ، فذلك معنى يقوم بالعقل الذي يجاوز الدماغ ، فالعقل وصف الروح التي تجاوز الجسد ، وهو من الغيب الذي لا يدرك ولا يقاس بالحس ، وذلك ، أيضا ، مما استوجب سَبَبًا يَسْبِقُ ، فَتَسَلْسَلَتِ الْعِلَلُ في الغيب كما تَسَلْسَلَتْ في الشهادة ، وهو ما أوجب رَدَّهَا إلى أول لا أول قبله ، قَدْ قَدَّرَ من الأرواح جنودا مجنَّدة ، ثم أخرجها من القوة إلى الفعل بما كان من آحاد إرادة تخصِّص وترجِّح ، فَثَمَّ المرجع المجاوز من خارج العقل والحس ، بل قد جاوز أسباب الغيب كافة ، فهو الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فجاوز في التكوين أسباب الخلق ، وجاوز في التشريع أسباب الهوى والذوق ، إن عقل الفرد أو عقل الجمع الذي صار الإله الحاكم كما اقْتَرَحَ بَعْضُ من صَاغَ عقد الاجتماع المحدَث لا على مثال من الوحي قد أُحْكِمَ ، وَإِنَّمَا صَيَّرَ عقل الجمع الذي يَتَوَاطَأُ على معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، وآخر من الإباحة والشرع ، صيره الإله ، فدينه ، كما يقول بعض من حقق ، دين عادة وطبع لا نبوة ووحي ، وهو آخر من الْمُثُلِ الَّتِي تُبِينُ عَمَّا نهجت الحداثة في الجيل المتأخر من مثال الحلول والاتحاد ، فالإله أو المطلق الأعلى قد حَلَّ فِي الجمع فِي هذا المثال ، فَصَارَ مِنْ عَقْلِ الجمعِ إِلَهٌ يَحْكُمُ ! ، فليس ثم مستند من الوحي يعصم ، إذ الإجماع في نفسه لا يُعْصَمُ إلا أن يكون ثم مستند من خارج العقل يجاوز إذ قد سَلِمَ مِنَ الأهواءِ والحظوظ ، وليس ذلك ، كما تقدم في مواضع ، إلا الوحي مرجعا من خارج يجاوز ، إِنْ فِي التَّصَوُّرِ أَوْ فِي الحكمِ ، فَهُوَ في الباب الأول الذي لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حَسْمُ التسلسلِ في التشريع أن يَنْتَهِيَ إلى مَرْجِعٍ مُحْكَمٍ قَدْ جَاوَزَ متشابهات العقول إذ تَتَفَاوَتُ ، إن المفردةَ أو المجموعةَ ، كما الخالق ، جل وعلا ، الأول الذي لا أول قَبْلَهُ فِي التَّقْدِيرِ والخلق ، إذ ثم أول من العلم المحيط المستغرق ، وآخر من نَوْعِ إرادةٍ تَقْدُمُ ، فآحادُها في الخارج تحدث ، وبها تأويل المقدورات الأولى أن تخرج من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فأولية التكوين والتشريع كَافَّةً مما يطلب الأول الذي لا أول قبله ، وله من العلم عِلْمُ إحاطةٍ قد اسْتَغْرَقَ ، فَثَمَّ معلومات الخلق ، وثم أخرى من الحكم ، فالخالق المدبِّر قَدْ عَلِمَ من حال المخلوقات ما له الشرع قد اعتبر ، فكان من رحمة مَنْ خَلَقَ أَنْ أَنْزَلَ من الشرع ما حكم ، وبه المصلحة يقينا تحصل ، إذ قد سَلِمَ المشرِّع ، جل وعلا ، من الهوى والحظ المحدَث ، فَلَهُ من الغنى أول قد استغرق وجوه المعنى ، وذلك أصل قد اطرد في الصفات كافة ، إن الجمالَ أو الجلالَ ، فَثَمَّ أول من الكمال قد أُطْلِقَ ، فَتَنَاوَلَ وجوهَ المعنى وآحاده كافَّةً ، وَإِنْ كَانَ ثم حكمة تَخْفَى ، وذلك موجب الابتلاء ، فلا يكون في الأصول ، وإنما يتناول الفروع التي تدق ، أو أحكام تعبد يجد المتعبد من حكمتها الأعم مَا يَنْصَحُ النفس وَيُزَكِّيهَا ، وهو ، مع ذلك ، لا يَعْلَمُ لَهَا تَعْلِيلًا أخص ، كما ميقات الصلاة والصوم والحج ، وكما هيئاتها المخصوصة ، وهي مِمَّا جَاوَزَ حَقَائِقَهَا اللسانية المنطوقة إذ زَادَهَا الشَّرْعُ في الحد ماهيات أخص لا يدرك الناظر فيها وجه تعليل أخص ، وإن وجد من حكمتها آخر أعم ، قد تَنَاوَلَ مَنْ تَفَكَّرَ ، فَجَاءَ من ذلك بما ينصح ، وإن لم يقطع بالعلم ، العلم بالعلة الأخص ، فَذَلِكَ مما لا يُنَالُ فِي التَّوْقِيفِيَّاتِ ، وإنما تجتهد العقول الصريحات فِيهَا أَنْ تُدْرِكَ مَا لَطُفَ مِنَ المعاني النافعة ، وهي أبدا مسلِّمَةٌ تَنْقَادُ ، عَلِمَتِ العلَّةَ أو لم تَعْلَمْ ، فَقِهَتِ الحكمة أو لم تَفْقَهْ ، ومدار الأمر أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ وَيَصْرُحَ المدلولُ ، فَثَمَّ الابتلاء بما صَحَّ من الوحي ، فليس منه المبدَّل أو المحرَّف أو آخر قد تناوله التأويل المحدَث الذي خرج عن قانون الوحي واللسان المحكم ، وخرج عن قانون الفطرة الأولى ، فطرة اللسان بما اسْتَقَرَّ من خاصة الكلام التي امتاز بها المكلَّف ، فَهِيَ معان تحصل في النفس ، ومنها الضروري ، وآخر يَتَنَاوَلُهُ النَّظَرُ المرَكَّب ، فيكون من ذلك علم نظري يُنَالُ بِالتَّفَكُّرِ والاستنباطِ ، وذلك عمل في العقل أخص ، فَجَاوَزَ مُدْرَكَاتِ ضرورةٍ في الحس ، وإن كانت مَبَادِئُهُ مقدماتِ ضرورةٍ تُلْجِئُ ، فلا تطلب دليلا يسبق ، بل هي دليل على تَالٍ من النَّظَرِيِّ المستنبَط بما يكون من نَظْمٍ وتأليف يَسْلُكُ بِهَا جَادَّةً من النظر المصرَّح ، فهو يواطئ ما استقر من عرف اللسان ، فَثَمَّ فطرة النطق ، خاصة المكلَّف بالوحي ، إذ له من العقل مَا يَفْقَهُ حُجَّةَ النبوةِ بَلَاغًا وَبَيَانًا يُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ ، فتلك فطرة العقل ، فإن اللسان ، لو تدبر الناظر ، معنى أول في النفس يَحْصُلُ قَبْلَ تال من لفظٍ يُبَيِّنُ ، فَمَرَدُّ الأمرِ إلى جُمَلِ ضرورةٍ فِي النَّفْسِ ، في مواضع الحسن والقبح ، وما يكون من إثبات ونفي ، وإباحة وحظر ..... إلخ ، فتلك مبادئ الاستدلال في العقل الصريح الذي يُنَاطُ به التكليف ، فيكون من ذلك نَظَرٌ مُرَكَّبٌ يُعَالجُ الأوليات الضرورية ، ولا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ المرجِعَ المجاوز من خارج إذ يَفْصِلُ في خصوماتٍ أَخَصَّ ، فإن إجماع العقول على المجملات حُسْنًا أَوْ قُبْحًا ، إلا ما يكون من جحود أو سفسطة تُرَدُّ بها الضروريات ، فلا اعتبار بقول المخالف فيها ، فإن هذا الإجماع على المجملات في باب التحسين والتقبيح ، وإن كان أولا في الاستدلال إذ يُسَلِّمُ بالمقدمات الضرورية ، فليس يجزئ في حصول الاختلاف في مواضع البيان الأخص ، إذ ثم لكلٍّ من الهوى والحظ ما يظهر أو يخفى ، وذلك ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ العقول كافة ، المفردة والمجموعة ، فلا ينفك كلُّ أحدٍ ، وكلُّ جمعٍ قد ائْتَلَفَ على فكرةٍ عَنْهَا يَصْدُرُ فِي الشرعةِ ، لَا يَنْفَكُّ الجميع يطلب الحاكم من خارج ، وإلا فلكلِّ أحدٍ عقلٌ مفرَدٌ ، ولكلِّ جمعٌ عقلٌ مركَّبٌ ، وهو به رَاضٍ كما غَيْرٌ يَرْضَى ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الرأيُ ، فمن يحسم في مواضع الخلاف ، لا سيما في الأصول المحكمات التي تجيب عن سؤالات الضرورة الملجئة في الخلق والشرع ، وأخرى من الغيب تجاوز الحس ، كما دُورٌ بعد الموت ، وأحوال منها لا تُدْرَكُ بالعقلِ ، وإن كان من حكمه أوَّلٌ في الباب يُسْتَصْحَبُ ، أن يكون الخبرُ ، باديَ النظرِ ، جَائِزًا ، فلا يكون المحال الذاتي الذي يمتنع في العقل الصريح ، لا في أَيِّ عقلٍ ، فالجاحد الذي فسدت منه فطرة النطق ، فَلَمْ يُثْبِتْ من المعاني إلا المدرَك بالحس ، يحيل كثيرا من مسائل الغيب ، بل ثم من جحد الباب كُلَّهُ ، فَطَرَدَ الإنكارَ في المسائل كَافَّةً ، فليس من مرجع إِثْبَاتِهِ ونفيِه ما يجاوز حسه المحدَث ، وليس ذلك ، أيضا ، ممن يعتد بخلافه ، فإن خاصة الإثبات للغيب ، ولو التجويز المحض ، ذلك مما به امتاز المكلف من الحيوان الأعجم ، ولا ينفك ينقض بحاله مقالَه ، فلا بد من قَدْرٍ من الغيب يَثْبُتُ ، ولو مَا وَرَاءَ جدارٍ مصمَت ، فمهما اجتهد في التخمين ، فلا يبلغ به حد اليقين ، فإن جاءه الخبر عما وَرَاءَ الجدار ، وكان المخبِر من أهل الصدقِ والبيانِ ، فَيَصْدُقُ فِي اللَّفْظِ وَيُحْسِنُ يُبِينُ عن المعنى ، ويكون من لسانه ما به بَلَاغٌ يُجْزِئُ في الإثبات والنفي ، فإذا جاءه الخبر فهو المذهب الذي يُثْبِتُ من الغيب ما لا يُدْرَكُ بالعقلِ والحسِّ ، ولو الغيبَ النسبيَّ في هذا العالم المحدَث ، فَلَا يَنْفَكُّ عاقلٌ يُثْبِتُ الغيب ، ولو الجنسَ الأعمَّ ، وبه يمتاز مِنْ وَصْفٍ يُذَمُّ ، وصفِ الحيوانِ الأعجم ، فوحده ما لا يجاوز عقلُه مداركَ حسِّه من غرائز الجسد ، فلا فطرة له تجاوز فطرة الجسد ، وإن كان من التَّسْبِيحِ مَا تَقَدَّمَ ، تسبيح كل شيء ، وإن لم يفقه الإنسانُ لسانَه ، فليس مناط تكليف باختيار يُرَجِّحُ ، فهو عن علم ونظر أول يَصْدُرَ ، فَتِلْكَ خاصة الجنس المكلَّف ، إنِ الإنسَ أو الجنَّ ، والإنس في ذلك أكمل ، لا جرم كانت منهم الرسل خاصة ، فلم يكن من الجن إلا نُذُرٌ تُبَلِّغُ وَتُبِينُ عن رسالةٍ في عالم الإنس قد نَزَلَتْ ، فَثَمَّ من فطرةِ البيانِ ما جاوز آخر من الأبدان ، وبالأولى نظر في نصوص الوحي ، إن الخبرَ أو الحكمَ ، كما بالثانية معالجة سبب به حفظ النفس أو النوع ، فالأولى ، لو تدبر الناظر ، أشرف ، فإنها تتناول الأديان التي بها صلاح الأولى والآخرة ، فالأديان نصوصٌ من الوحيِ قد تَنَزَّلَتْ ، ومدار الاحتجاج بها ، كما تقدم ، أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ ، وذلك ، أيضا ، مما افْتَقَرَ إلى أول من العقل يُحَرِّرُ شروط النقل الصحيح ، فإذا صَحَّ ، فَثَمَّ تَالٍ من العقل الصريح الذي يَتَنَاوَلُ من النَّقْلِ : النص الذي يجزم أو الظاهر ، فدلالته ظن يغلب ، أو المؤول الذي نصح في بابه ، إذ كان من القرينة المعتبرة ما يرجح ، وإن خالف عن ظاهر أول يستصحب ، فلم يكن منه التأويل الفاسد الذي يسلك به صاحبه جادة بعيدة أو أخرى باطنة تأتي على أصول المعاني بالإبطال ، فيكون من ذلك جحدٌ لمعلومٍ ضروريٍّ أول ، وبه فساد الدين والدنيا ، فشرط الانقياد في القول والفعل أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ ، إن المتواتر أو الآحاد ، فإذا صح فهو المذهب في باطن فكرة أو ظاهر حركة ، فكان من ذلك أولية تقدمت بها ائْتِلَافُ الحد المجزئ في حصول اسم توحيد يَنْصَحُ ، توحيد الخالق الأول ، وتوحيد الشارع الأول ، فله من كل أولية لا أولية قبلها ، وبها حسم ما امتنع ضرورة في العقل المصرَّح أن يكون ثم تسلسل في المؤثرين أزلا ، فذلك مما امتنع في التكوين وفي التشريع كافة ، فالفطرة ضرورةً تَدُلُّ أن ثم أولا لا أول قَبْلَهُ في الخلق ، وآخر له من حكومة العقل عاضد أخص ، إذ العقول تختلف ، فكلٌّ على رَأْيٍ ، ولكلٍّ هوى وذوق هو المرجع ، إن الفرد أو الجمع ، فلا ينفك يطلب مرجعا من خارج يجاوز ، فهو يحسم الخلاف ، إذ لا يُسَلِّمُ فَرْدٌ لفردٍ ، ولا جمعٌ لجمعٍ ، إذ لكلٍّ عقلٌ ، فما يحمل عاقلا أن يُسَلِّمَ لِمِثْلِهِ ، فلا يُسَلِّمُ كلٌّ إلا لمرجع من خارج يجاوز الجميع ، وله من الوصف كَمَالٌ قَدْ أُطْلِقَ ، فَسَلِمَ مما لم تَسْلَمْ منه العقول المحدثة من الهوى والحظ الباعث على التأويل ، ولو حيلةً بها يتوسل إلى ما قَصَدَ من المصلحة الخاصة ، وإن خالفت عن أخرى أعم ، بل وإن خالف في مواضع عن النقل والعقل والفطرة والحس ، كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر إذ صار من المذهب ما يَتَبَجَّحُ بغايات اللذة والكسب ، صَحَّتِ الوسائلُ أو فَسَدَتْ ، وَاطَأَتْ فِطْرَةَ الخلقِ أو خالفت عنها ، فكان منها ناقض لكلِّ دليل معتبر ، ولم تعدم من يَنْتَحِلُ ، بل وينصر على قاعدة من التأويل تَتَكَلَّفُ في باب التحسين والتقبيح ما يُخَرِّجُ المسلك على ناصح من المذهب ! ، وإن لم يكن من المرجِع إلا المحدَث الذي يضطرب ، فلا ينفك ، أبدا ، يطلب المرجع المحكم من خارج ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، دليل من العقل ينصح ما كان من حجية الوحي فهو الأول . وقد التزم آخرون من لوازم هذا المذهب الذي يجحد فطرة المعنى ويرد الأمر كله إلى الحس ، فكان من ذلك مثل من الرياضة والفيزياء تحكم قواعد العمران والاجتماع ، فَجَرَّدَ الاجتماع الإنساني من معنى الروح التي تجاوز الجسد ، وَصَيَّرَ الإنسان على حَدِّ الأداة أو الآلة أو الترس الذي تحكمه قواعد محكمة في الحس ، فَتَحْكِيهَا مثل من الرياضة والفيزياء تعالج الحركة والسكون ..... إلخ ، كما تحكي ظواهر الحس ، فالقانون واحد إذ يعالج المعقول والمحسوس ، فَلَيْسَ ثَمَّ في الخارج ما يجاوز الحس ، فالمعنى المعقول بَيْنَ طرفي قسمة ، فإما جحده فهو أولا ليس يثبت ، فليس ثم إلا المادة في الخارج فهي الحقيقة في نفس الأمر ، وهي المرجع في التصور والحكم ، وإما حلوله في المادة واتحاده بها ، فليس ثم في الخارج ، أيضا ، إلا المادة ، وهو ما عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، فقد نشأت مُثُلُ صناعةٍ تَدقُّ ، ولم يكن ثم تصور أول يجاوز الحس ، فعنه يصدر الحكم ، فَدَرَسَ مَنْ دَرَسَ النفس التي تعالج هذا الأمر على قاعدة من الحس لا تجاوز ، فَثَمَّ مُثُلٌ محكمة من قَوَانِينِ الحركة والسكون ، وتأويلها معادلات في الرياضة والفيزياء بها تجريد الظواهر دون نظر في مرجع يجاوز من خارج فيرد هذا السنن المحكم إلى أول قد قَدَّرَ على مِثَالِ حكمةٍ تأويلها ما يُعَالِجُ الحس من إتقان في الخلق وإحكام في السَّنَنِ الذي عليه يجري ، فَقَدَّرَ على مثال حكمة ، ثم أوجد بَعْدُ بإرادةٍ تخصِّص وترجِّح ، فهي تُخَرِّجُ المقدورَ من العدم إلى الوجود المحدَث ، إذ كان منه لدى المبدإ : جائر يطلب من خارج المرجِّح ، وبه خرج المقدور من القوة إلى الفعل المصدق ، فكان من فعل أولئك الصُّنَّاعِ المهرةِ بما لهم من أدوات نظر وبحث ، كان منهم ما لا يجحد الناظر حسنه ونفعه ، وإنما قَبُحَ منه ما صدر عنه أولئك من الفكرة الباعثة ، فهي القيمة الحاكمة ، ولو في تجريبٍ وبحثٍ لا يجاوز مدارك الحس ، فلا ينفك يطلب المرجع ، ولو كان الحس فلا مرجع يجاوزه ، كما تقدم من مذاهب تجحد الوحي خاصة والغيب عامة ، فكان من أولئك الصناع مُثُلٌ قد صدرت عن مرجع من خارج لا يجاوز ، فليس ثم إلا التحكم الذي يخالف عن مقدمات الضرورة في الاستدلال أن المحدَث لا بد له من محدِث ، فكذا السنن المحكم الذي عليه المادة في الخارج تجري ، فلا بد لَهُ من سَانٍّ هو الأول الذي خلق ، وإحكام المخلوق المحدَث في الخارج دليل على علم يجاوز ، علم التقدير الأول ، فذلك مما أحاط بالمقدورات كَافَّةً وَاسْتَغْرَقَ ، فَلَيْسَ ثم إيجادٌ مطلقٌ ، مرجعُه إلى عِلَّةٍ فاعلةٍ بالطبع مجرَّدة من الوصف ، فاعلة بالجبر ، فلا علم به التقدير ولا إرادة بها الترجيح ، فليس ثم في الخارج إيجاد مطلق ، بل ثم آخر قد أُتْقِنَ ، وجرى على سنن هو المحكم ، وآيته ما يعالج النظر في الخارج من الإتقان والإحكام ، إن في الأنفسِ أو في الآفاق . فَجَحْدُ هذا الأصلِ ، وصدورُ الباحثِ عن أول لا يجاوز مدارك الحس ، ذلك مما يصيب الوجدان في مقتل ، إذ ليس ثم من مرجع الوحي ما يجاوز ، فليس إلا مُثُلُ الرياضة التي تأطر الأشياء ، فمن يعالجها في معامل الأبحاث وليس له مرجع يجاوز في حد الأحكام والأخلاق ، فلا ينفك يُصِيبُهُ من العدوان والطغيان بَعْضٌ ، فَيَرَى الخلق آلات فيها يتحكم ، فَلَيْسَ البشر إلا آلات وتروسا تَتَحَرَّكُ وتسكن بما يَسْطُرُ من معادلاتٍ في المعمل ، فالفاعل يتأولها في المصنع ، فصار الإنسان ذو الروح المجاوزة للجسد ، العقل المجاوز للدماغ ، المشاعر المجاوزة للغرائز ، المعنى المجاوز للمادة ، صار شيئا من جملة أشياء لا غاية لها في الوجود ، فهي تتحرك حركة المادة ، فلا مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما أَفْضَى ضرورةً إلى اختزالِ معنى الإله الحاكم من خارج ، فهو ، كما يقول بعض من حقق ، بين إلحاد يصرح ، فليس ثم إله من خارج يُقَدِّرُ بالعلم ويوجد بالإرادة ، فصار الإله بين الإلحاد آنف الذكر ، وآخر لا يجاوز في الحد أنه الرب الذي خَلَقَ وَانْتَهَى فعله ، فلا تأثير له بعد في الكون يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ إلا العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، وثم آخر قد اقترح ثالثا من الحلول والاتحاد ، فالمطلق الأعلى قد حَلَّ في هذا الكون المحدث ، حلول المعنى في المادة المحدثة في الخارج ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، ما حَمَلَ بَعْضًا أن يَلْتَزِمَ لوازمَ ذلك ، فالإله قد حَلَّ في طبيعةٍ تَفْسَدُ وَتَفْنَى ، فَكَذَا الإله الذي حَلَّ فيها فهو يَفْنَى ويموت ، واعتبر بِطُرْفَةٍ قِيلَتْ للواثق العباسي ، وقد كان ممن يقول بقول عمه المأمون في خلق القرآن ، فجاءه بعض مُعَزِّيًا أَنْ : أحسن الله عزاءك يا أمير المؤمنين في القرآن ، فأجاب : ويحك ، وهل القرآن يموت ؟ ، فألزمه القائل بلازم مذهبه أن القرآن مخلوق ، فكل مخلوق لا محالة يموت ! . فكان التدرج في خطوات وسواس يُضَلُّ وَيُفْسِدُ ، فَثَمَّ أول من التوحيد الذي جاءت به النبوات ، وبه امتاز القديم من المحدَث ، الواجب من الجائز ، الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، وهو ما انحط عنه العقل إذ اتَّبَعَ وَسْوَاسَ الفكرةِ ، فَثَمَّ حلول واتحاد ، قد أفضى إلى واحدية لا يمتاز فيها واجب من جائز ، فَحَلَّ المطلق الأعلى الذي عُطِّلَ من الوصف وَجُرِّدَ ، فَلَيْسَ إلا المطلق بشرط الإطلاق ، حَلَّ فِي المادَّةِ ، فتلك واحدية لا زال لها من الإطار ما يُحْكِمُ ، ولو المحدَثَ الذي لا يجاوز الحس ، ثم كان ثالث من السفسطة والجحد ، فانتهى النظر ، كما يقول بعض من حقق ، إلى واحدية قد سالت فلا تَنْضَبِطُ ، فَلَيْسَ ثم معيار يأطر إذ الأشياء في الخارج ذرات تَتَدَافَعُ على مثالِ فوضى فلا غاية لحركتها تَنْصَحُ ، أو هو ، لو تدبر الناظر ، انْتِقَالٌ قد تَدَرَّجَ من الإله المجاوز من خارج هذا العالم المحدَث ، فلا بد له من واجب أول ، والواجبُ ضرورةً يُبَايِنُ الجائزُ ، فانتهى الأخير إلى واجب وجود أول ، وجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وكمال اسمه ووصفه هو المطلق ، وهو ، بعدُ ، الموجِب في الجائز بِفِعْلٍ يُرَدُّ إِلَى إِرادةٍ تُرَجِّحُ ، وعلم تقدير قد أحاط فاستغرق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما عم علم التكوين ، فذلك وصف الرب المكوِّن ، جل وعلا ، وعلم التشريع ، فذلك وصف الإله المشرِّع ، فكان الوسواس الذي مَكَرَ بالعقلِ ، فَانْتَقَلَ به من الإله المجاوز من خارج إلى الإنسان فهو المركز الناسخ لأول من مرجع الوحي النازل ، فَنَسَخَهُ الإنسانُ بِمَا كَانَ من عقلِ الفردِ أو الجمعِ ، فَلَا يَنْفَكُّ كُلٌّ يُوصَفُ أنه المحدَث ، وله من الوصفِ نَقْصٌ وَجَهْلٌ أول ، وتهمة بهوى وحظ يطلب ، ولو تكلف لذلك من التأويل ما تَكَلَّفَ ، فليس عقل الجمع ، كما تقدم ، مرجعا تؤمن حكومته إن لم يرد إلى مرجع من خارج يجاوزه قد سلم من أعراض النقص والجهل ...... إلخ ، لا جرم اشترط في الإجماع المعتبر في درس الأصول ، أن يكون له مستند من خارج ، فَثَمَّ وحي عنه يصدر ، وكذا قِيلَ فِي النَّسْخِ ، فالإجماع لا يَنْسَخُ نَصًّا من الوحي ، وإنما الإجماع دال على النَّاسِخِ ، فلا بد من ناسخ من الوحي المنزل ، فهو الأصل في الإحكام أو في الرَّفْعِ ، فإن رُدَّ الأمر إلى عقل الفرد أو الجمع ، فلا ينفك يُزَيِّنُ من ذلك مصالح ملغاة بِنَظَرِ الشريعة المجاوز ، وَيُقَبِّحُ أخرى قد اعتبرها الوحي ، إذ المرجع مادة لا تجاوز الحس ، ولها ، كما تقدم في مواضع ، عُرْفٌ بِهِ قد أُعِيدَ الحدُّ والتعريف ، ولو الجمل الضرورية من معاني المعجم ، فلا يَنْفَكُّ تصوره يَفْسَدُ في حدِّ الأخلاق والمعايير الحاكمة في الحسن والقبح ، إذ اقتصر على المحسوس المشاهد ، فصار وحده مناط الإثبات والنفي ، وقد تكلف له بعض من التأويل ما يَبْطُنُ ، فصيره مرجع الأخلاق والأحكام ومشاعر الوجدان ، وهي مما استقر في الوجدان فطرة أولى تَنْصَحُ ، فتلك مجملات من الحسن والقبح تحكي من فطرة الخلق الأول جُمَلَ ضرورةٍ لا تفتقر إلى دليل من خارج ، بل هي مقدمات في الاستدلال تَنْصَحُ ، فلا تُسْبَقُ بأخرَى ، وإلا كان التسلسل الذي يمتنع ، وبه بطلانُ كُلِّ استدلالٍ ، فَلَا يَنْصَحُ في الدلالة إلا أن يُرَدَّ إلى مقدماتٍ أولى في النظر ، فهي العلم النظري الذي يُكْتَسَبُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى أوَّلٍ من العلم الضروري الذي لَا يُكْتَسَبُ ، فقد ثَبَتَ ضرورةً في النَّفْسِ ، فتلك مقدماتٌ من الفطرة ، فلا تَنْفَكُّ ، أيضا ، تطلب أولا هو الفاطر ، وإلا كانت المخالفة عن القياس الناصح ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، وهي ، من وجه آخر ، مما أُجْمِلَ في الوجدانِ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ مَرْجِعًا من خارجٍ يَفْصِلُ ، وآخر يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ فخالف عن الجادة ، وتلك ، كما تقدم مرارا ، خاصة النبوة التي نصحت العقل بما احتملت من مادة الوحي . ثم كان الانحطاط بعد إلى مرجعه المادة ، ولها معيار يَنْضَبِطُ بما استقر من قانون الحركة والسكون ، ثم لم يَزَلِ الوسواس حتى انحط بها إلى دركة سفلى ، فليس ثم إلا ذارت تَتَدَافَعُ على مثال خبط وعشواء ، فلا معيار يحكم ، ولو محدثا بالتجريب والبحث يُدْرَكُ ، فَلَيْسَ إلا حركة عشواء بلا غاية ، فالعبث هو الأصل في خلق هذا الكون وفي حركته ! ، فلا سَنَنَ في التكوين يَأْطِرُ ، وذلك ما يُفْضِي إلى نَفْيٍ آخر من التشريع يحكم ، فليس ثم غاية تجاوز الحس ، اللذة والكسب ، ولو خالف ذلك عن فطرة أولى في النفس قد استقرت ، فهي الأصل المحكم في الحس والمعنى كافة . والله أعلى وأعلم . |
#4
|
|||
|
|||
واعتبر ، كما يقول بعض من حقق ، بحال قوم لوط ، عليه السلام ، فليس لهم سلف في الفاحشة ، ليصح لهم الاحتجاج ، ولو باطلا ، بِأُمَّةٍ كَانَ عليها الآباء فهم بها يقتدون ، فكان من أولئك خروج عن فطرة الخلق الأولى ، بلا مثال يَقْدُمُ مَعَ آخر يَقْرِنُ ، فَثَمَّ الخروج عن فطرة الشرع الأولى ، فطرة التوحيد ، فكان التلازم بينهما ، إذ مَنْ خَلَقَ فهو من شَرَعَ ، فَثَمَّ علم أول قد أحاط فاستغرق الكونيات والشرعيات ، فكان من ذلك مثال حكمة ينصح ، بما كان من آي في الآفاق والأنفس ، فلا يكون هذا الإتقان والإحكام إلا عن علم أول يجاوز ما اقترحت الحكمة الأولى من العلم الكلي المجمل ، وما اقترحت الحداثة بَعْدًا من رَدِّ الخلق إلى مثال من المادة لا يجاوز مدارك الحس ، فَثَمَّ من سَنَنَ الحركة المشهودة ما أَغْنَى عن تَفْسِيرٍ من الغيب يجاوز ، ففي الكون المحدَث معادن سنن محكم قد رُكِزَتْ في المادة ، فهي تجزئ في التفسير والتأثير ! ، مع آخر يقترح من الغيب ما يجاوز أن المادة قديمة لم تخلق ، فَثَمَّ من العلة المادية أو الهيولى مَا قَدُمَ في الأزلِ ، وذلك آخر يخالف عن مقدمات الضرورة في القياس المصرَّح ، أن المحدَث لا بد له من محدِث أول يسبق ، وهو ما تَسَلْسَلَ حتى انتهى ضرورة إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وعنه هذا العالم المتقَن المحكَم قد صدر ، فلا يكون ذلك عن عشواء تخبط فهي تجرب في الخارج حتى انتهت إلى هذا المثال الكامل ، فلا علم به تُقَدِّرُ ، ولا إرادة بَعْدُ تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، بل ثم عدد لا يحصى من الخبط على قاعدة العشواء والجبر ، فلا إرادة ، وذلك أصل في هذا الفرض ، فرض التطور على قاعدة العشواء والخبط ، فإن إثبات الإرادة يبطله ، إذ لا تكون إرادة إلا عن علم أول يقدر ، وهو الأليق بالعقل السالم من الآفة ، ولو قياسَ أولى على المخلوق المحدَث ، فَثَمَّ من وصف الكمال ما يُحْمَدُ ، أَنْ يُقَدِّرَ الفاعلُ قَبْلَ الشروعِ في الفعل ، فلا يفعل فعل الطبع ضرورةً ، فلا تقدير في فعلٍ أو في تَرْكٍ ، فإذا قَدَّرَ فهو بعد يَقْدِرُ ، فَثَمَّ من الإرادة ما يرجح في المقدور الأول فيخرجه من العدم إلى الوجود على مثال يواطئ المقدور الأول ، فإثبات العلم والإرادة واجب في القياس الناصح ، وهو ما يبطل صدور هذا العالم عن مادة لا حياة فيها تثبت ، فلا علم لها أولا ولا إرادة تَبَعًا ، فإن الحياة صفة الذات الأولى ، وهي أصل الصفات كافة ، الذاتية والفعلية ، فلا يقوم ثَمَّ علم ولا إرادة إلا بِحَيٍّ ، ولا يكون ما اقْتَرَحَ أولئك من الحركة بعد السكون ، فالمادة الميتة التي لا حياة فيها قد تحركت بلا محرِّك ، وكان من حركتها عشواء تخبط ، وهو ما أفضى إلى انقسام ثم تراكب ، وليس ثم علم أول يقدر ، ولا إرادة بعد تخصص وترجح فيكون بها تأويل أَوَّلٍ من الإحكام والإتقان أن يخرج من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى فعل في الخارج يُصَدِّقُ ، فَلَيْسَ إلا الخبط والجبر عن جهل محض فلا علم ، وهو ما به الحياة قد وجدت بلا أول يحيي ، ثم كان الخبط الذي يُجَرِّبُ ، فَثَمَّ عدد من ذلك لا يحصى ، وهو ما استغرق أحقابا تطول ، قد أثبت علم التجريب أنها ترجح العمر المقدَّر لهذا الكون أضعافًا ، وثم من حد لها من الحساب ما صير ذلك المحال الذاتي ، فلا يتصور ، وإنما ذلك الفرض المجرد الذي يُتَنَزَّلُ به في جدال خصم يجحد الخلق الأول ، ثم كان الإتقان والإحكام ، وهو ما يعالجه الحس في الخارج ، إن في الظاهر أو في الباطن بما حصل من آلة تجريب وبحث ، فلم تَزَلْ تُصَدِّقُ بَدَائِهَ العقلِ المصرَّح أَنَّ هذا العالم المتقن المحكم قد صدر عن أول له من الوصف : علم تقدير ، وإرادة بها التخصيص والترجيح ، فآثارهما ما يعالج الناظر في هذا الكون الحادث من الخلق المتقَن والسنن المحكَم ، فلا يكون ذلك ضرورة إلا عن أول له من الوصف ما يُجَاوِزُ وَصْفَ المطلَقِ بشرطِ الإطلاقِ ، فذلك المجرد الذهني الذي اقترحته الحكمة الأولى ، وليس إلا العدم فلا وجود له يجاوز الذهن ، خلافا لمن تحكم فَجَوَّزَ حصولَ هذه المطلقات في الخارج بلا قَيْدٍ يميزها من آخر ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما صار بَعْدًا ذريعةً لمقالِ حلولٍ واتحادٍ محدَث ، فالمطلَق الأول قد حَلَّ في المادة القديمة ، مادة هذا العالم ، فحصل من ذلك وجود واحد ، فهو واحد بالعين في الخارج فلا امتياز فيه لواجب من جائز ، لخالقٍ أول من مخلوقٍ محدَث ، وهو ما يخالف عن ضرورات في العقل والحس ، فإن معالجة هذا العالم المدرك بالحس مما يَقْطَعُ ضرورةً أنه المحدَث بعد عدم ، وذلك معلوم أول بالفطرة ، فطرة النظر بما ثبت من مقدمات ضرورة في الاستدلال ، فَكُلُّ أولئك مما يَقْطَعُ ضرورةً أَنَّ هذا العالم هو المحدَث بعد عدم ، فليس القديمَ في الأزل ، فَثَمَّ من أعيانه في الخارج ما يحدث ، وهو ما يَطْلُبُ عِلَّةً أولى تَسْبِقُ ، وكلٌّ مما يُوصَفُ بِالنَّقْصِ ، إذ افْتَقَرَ إلى شرطٍ يُسْتَوْفَى ، ومانع يُنْفَى ، فحصل من التسلسل ما جاوز الشهادة إلى الغيب ، فَجَاوَزَ المحدَث المخلوق من السَّبَبِ فَلَا بُدَّ من عِلَّةٍ تامة إِلَيْهَا تَنْتَهِي العلل كَافَّةً ، وهي الفعل الذي به المفعول يحدث ، فليس الفعل عين المفعول ، وإلا لَزِمَ التسلسل فهو يطلب فِعْلًا أولا يَسْبِقُ ... إلخ ، فلا بد من فعل أول لا فعل قَبْلَهُ ، فلا يفتقر إلى فعل يسبق ، وإن كان من آحاده ما يحدث ، فذلك مما يُرَدُّ إلى نوع أول يَقْدُمُ ، وهو ما قام بداهة بذات توصف به ، فالفعل لا يقوم إلا بفاعل ، فَثَمَّ الخالق الأول ، جل وعلا ، وله من وصف الأولية ما يطلق ، فهو القديم في الأزل ، إن الذات أو الوصف أو الفعل ، وإن كان من الفعل عِلَلٌ في الخلق والتدبير تحدث ، فَنَوْعُهَا ، كما تقدم ، أول يَقْدُمُ ، فَثَمَّ من الفعل ما قُدِّرَ مفعوله في الأزل ، فذلك المقدور الذي أحاط به العلمُ الأوَّلُ ، فَحَصَلَ من ذلك وجود بالقوة لما يَزَلْ على قَيْدِ العدم ، إذ لم يكن في الأزل إلا واحد لا ند له ولا شريك ، وليس له سابق في الوجود ، فلا يفتقر إلى سبب أول يسبق ، أو آخر من نَقْصٍ يُكْمِلُ ، بل ثم من الأولية ما عَمَّ فاستغرق الذات وما يقوم بها من وصف الكمال المطلق ، فتلك الأولية التي جاءت بها الرسالة السماوية ، وهي المصدِّقة لما رُكِزَ في العقل من العلوم الضرورية إذ توجب رَدَّ هذا الجائز من هذا العالم الحادث إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فهو الواجب ، فلا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج ، وهو بَعْدُ الموجِب المرجِّح في الجائز المحتمل ، فَثَمَّ منه مقدور في علم إحاطة قد استغرق بما تقدم من آي إتقانٍ وحكمةٍ في الْخَلْقِ وَالسَّنَنِ ، فلا يكون كل أولئك عن علم كلي مجمل ، أو علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف ، ليس لها من الإرادة ما يرجح ، بل ليس لها من الوجود في الخارج ما يثبت بما اقْتُرِحَ لها من الحد المطلق بشرط الإطلاق ، فذلك عدم في الخارج يطلب المرجِّح الذي يوجِب ، فكيف يكون منه إيجابٌ لغير ؟! ، وهو الذي يطلب الموجِب ، فلا يكون وجود من عدم ، فذلك مما يخالف ضرورات أولى في النظر ، فَثَمَّ من الواجب الأول ما ثَبَتَ ضرورةً في القياس المصرح ، وإليه يرد هذا العالم المحدَث ، فلا بد من محدِث أول يَسْبِقُ ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما لا يَتَسَلْسَلُ فِي الْقِدَمِ إِذِ التسلسل في المؤثرين أزلا قد امْتَنَعَ ، فَوَجَبَ رَدُّ هذا العالم الجائز في أعيانه وأحواله ، فالمبدأ احتمال قد استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب الموجِب المرجِّح من خارج حتى انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فهو واجب الوجود لذاته ، الموجِب لغير بما كان من إرادة تُرَجِّحُ ، ونوعها أول يَقْدُمُ ، ولها من الآحاد ما يحدث ، وعنها كلمات التكوين تصدر ، وبها تأويل المقدور الأول أن يخرج من العدم إلى وجودٍ تالٍ يُصَدِّقُ ، فيكون من الوجود بالفعل ما يُصَدِّقُ أَوَّلًا من الوجود بالقوة ، فكان المقدور عدما في علم قد أحاط أزلا ، ثم كان من وجوده تال يصدق بما كان من كلماتِ تَكْوِينٍ تَنْفُذُ ، وهي تأويل لأول من الوصف يَقْدُمُ ، وصفِ الكلامِ ، فالإرادة تُرَجِّحُ ، وعنها آحاد من الكلمات تحدث ، وبها تأويل مقدور أول في العلم المحيط المستغرق ، فيكون من هذا العالم المحدَث تأويلٌ يصدق ما كان من العلم الأول ، فَثَمَّ وجود بالقوة في العلم قد صَدَّقَهُ في الخارج وجودُ بالفعلِ يعالجه الحس ، فكان منه لدى المبدإ : جائز قد استوى طرفاه في الاحتمال ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الموجِب المرجِّح من خارج ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى واجبٍ به اكتمال القسمة ، فهي بين الواجب والجائز ، الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، وذلك ما يدحض مقال الحلول والاتحاد المحدَث ، فليس الوجود واحدا بالعين لا امتياز فيه لخالق من مخلوق حادث ، وليس من مادة هذا العالم قديم في الأزل ، وليس ثم من المطلق الأول ما حَلَّ في مادة هذا العالم أزلا ، فحصل منها واحد بالعين ، فتعطيل الخالق الأول ، جل وعلا ، من الاسم والوصف والفعل والحكم ، ولو الضروريَّ الذي يَدُلُّ عليه العقل بما يُعَالجُ من آي الكون المحدث ، إِنِ الآفاقَ أو الأنفسَ ، وما يحصل له من علمٍ بدقائقَ لا تحصل في الخارج بداهة إلا عن تقدير متقَن محكَم ، فلا تكون عن فَعْلِ عشواء تخبط ، ولا تكون فعلَ الاضطرارِ جَبْرًا ، بل ثم ضرورةٌ أولى من مقدماتِ النَّظَرِ ، وهي من فطرةٍ أولى قد جُبِلَ عليها الخلق ، وهي ، لو تدبر الناظر ، مما يجاوز العقل المادي الذي اقترحته الحداثة ، وأوجزه بَعْضٌ أَنَّهُ النسبيُّ ، فَلَا يُقِرُّ بأيِّ مطلقٍ يَسْبِقُ ، فيجحد المطلقات والماورائيات أو الغيبات التي تجاوز الحس ، فَهُوَ وَرَاءَ الجسد الذي صَيَّرَتْهُ الحداثة المركزَ ، مركزَ التَّصَوُّرِ والحكمِ ، وهو ، كما تقدم في موضع ، معدن التحسين والتقبيح على قاعدة اللذة والاستهلاك ، وهو ما استوجب آلة إنتاج فاعلة ، لا يجحد الناظر قدرتها عَلَى الابتكارِ وَالتَّنَوُّعِ الذي يُلَبِّي رغائِبَ الجمهورِ على اختلاف أذواقه وَطِبَاقِهِ ، فَثَمَّ سياسةٌ في التَّرْوِيجِ تَدْرُسُ أَحْوَالَ الجمعِ على قاعدةٍ لا تجاوز مدارك الحس ، فَتُقَسِّمُهُ إِلَى طِبَاقٍ ، ولكلٍّ حَدٌّ في الدخل والاقتصاد ، وأولويات في الإنفاق ، ولو في فضول المتاع ، وإن كان ثم غَرَائِزُ يَشْتَرِكُ فِيهَا الجمعُ كَافَّةً ، وهي ما تخاطبه نَظَرِيَّةُ الإنتاج في الحداثة ، فَتَضَعُ لكلِّ طباقٍ من المنتَجِ ما يُوَاطِئُ دَخْلَهُ ، ولو أَضَرَّتْ بالطباق الأدنى بما يكون من تلاعب في المكوِّن ، فَيَخْتَارُ الأردأَ ، وليست لمن يستهلك تَنْصَحُ ، بل ثم من الدعاية ما يُزَخْرِفُ ، مع تجريبٍ وبحثٍ مُوَجِّهٍ ، فَهُوَ يضع النتائج بما يواطئ رغائب الداعم والمموِّل ، فرأس المال رائد في الباب ، وهو حكاية المرجع المادي الذي لا يجاوز ، أَنْ صَارَ الكسبُ واللَّذَّةُ غايةً تُطْلَقُ ، وَإِنْ كَانَ من قولِ المذهَبِ بَادِيَ الأمرِ أَلَّا مُطْلَقَ ، فَثَمَّ نَفْيٌ لمطلقٍ يجاوز من خارج العقل والحس ، ولا يطيق الإنسان ، مع ذلك ، أن يحيى ويتحرك بلا مطلق ، ولو اقترح منه ما لا يجاوز الجسد ، ذا المرجع النسبي الذي يَتَفَاوَتُ بما يَعْرِضُ له من عِلَّةٍ وآفة ، وأول من الماهية لا يَسْلَمُ مِنَ النَّقْصِ ، جِبِلَّةً أولى ، فالأصل فيه الجهل ، وما يحصل له من العلم فهو حادث بما يكون من التَّعَلُّمِ ، ولا بد له من مرجِع وسببٍ ، وذلك ما تَحَكَّمَ المذهبُ فيه أخرى ، فَلَيْسَ إلا الجسد ، كما تقدم ، آلة تُدْرَكُ وغاية تُطْلَبُ ، على قاعدةٍ من اللَّذَّةِ هِيَ المطلقُ ، وَإِنْ زَعَمَ المذهب أَلَّا مُطْلَقَ ، فكان من السعي الحثيث في امتلاك الأسباب ، أسبابِ المادَّةِ ، فَثَمَّ رأس المال الذي يحتكر ، وثم القوة التي تَقْهَرُ ، وثم الآلة التي تُنْتِجُ على قاعدة لا تجاوز الحس ، وهو ما جاوز المنتَج ، فَثَمَّ فكرة أولى هي المرجع ، فهي باعث الحركة في البحث والتجريب ، وما يكون من الإنتاج والتصنيع الذي يرصد الكفاءة على قاعدةٍ من الحس لا تجاوز معيار الكسبِ المجرَّد ، فَمَا حَقَّقَ أرباحا أعلى فهو الحسن قطعا ، وذلك ، كما تقدم ، المطلق ، وإن زعم المذهب ألا مطلق ، وكذا يقال في اللذة التي تحصل من استهلاك المنتَجِ ، سواء أكان مباحا أم محرَّما ، بل ذلك سؤال منه الخصم يَسْخَرُ ، فَهُوَ مَئِنَّةُ الرجوعِ والتخلُّفِ ، إذ جاوز بالحكم مرجع الحس ، فَحَسَّنَ وَقَبَّحَ ، وأباح وحظر ، على قاعدة من الوحي السماوي المجاوز ، أو أخرى من الأخلاق ذات الطَّابِعِ الإنساني المجرَّد ، لَوْ سُلِّمَ أَنَّ ثَمَّ أخلاقًا لا تصدر عن مرجع من الدين يجاوز الإنسان ، وإن كان من الفطرة ، أيضا ، ما رُكِزَ في الوجدان لدى المبدإِ ، فَثَمَّ جُمَلٌ من الأخلاقِ والمبادئِ ، وهي من الْقَبْلِيَّاتِ أو المقدمات التي لا تَكْتَسِبُ ، فَثَمَّ مِنْهَا أول في النَّفْسِ قَدْ ثَبَتَ ضرورةً تُلْجِئُ ، وهو ما يَنْقُضُ العقل المادي الذي لا يجاوز مدارك الحس ، فثم آخر قد ركز في الوجدان ، وهو مما لَطُفَ فلا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وله من المعاني ما جاوز التجريب والبحث ، فلا يرصد بالآلة ، وإن كان من آثاره في الخارج ما يرصد ، فالصدق والثقة معان لا يمكن حَدُّهَا بالحسِّ ، فهي معان تَلْطُفُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب من العقل ما يجاوز العقل المادي المجرد ، فلا تُرْصَدُ هذه المعاني بالحسِّ ، وإن رُصِدَتْ آثارُها كما حد الأخلاق النفعية في المثل الرأسمالية ، فإن الصدق والثقة ودقة الموعد ...... إلخ ، كل أولئك مما آثاره في الخارج تُشْهَدُ ، فَثَمَّ زيادةٌ في الأرباح ، وعلامة في التجارة تُسَجَّلُ ، ومعيار في التصنيف يميز الجيد من الرديء ، فذلك باعث الالتزام ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز الحس ، وليس ثم مطلق يحكم ، فَيُرَدُّ إليه ما تَشَابَهَ من الحظوظ والمصالح ، فقد صارت في نَفْسِهَا المركز ، إن في التصورِ أو الحكمِ المصدِّق ، فالصدق والثقة لم يَحْسُنَا ضرورةً في الوجدان ، فيكون من ذلك مقدمات ضرورة أولى في النظر ، وإنما حُسُنَا أَنْ صَارَا سَبَبًا فِي كَسْبٍ يزيد ، وهو ما يُرْصَدُ بالحس ، فإذا صارا سَبَبًا في ضِدٍّ من النَّقْصِ ، فَلَيْسَا يحسنان ، بل لهما من الحكم ضِدٌّ ، وهو القبح ، فَلَيْسَ ثَمَّ قَبْلِيٌّ يَسْبِقُ ، فيكون هو المرجع ، ولو أخلاقًا ذاتَ مرجعٍ إنسانيٍّ مجرَّد لا يجاوزه إلى آخر رِسَالِيٍّ مُنَزَّلٍ ، فَثَمَّ ، كما يرصد بعض من حقق ، مركزُ الإنسان الذي استبدل بالإله بواكيرَ الحداثة ، فكان من النظر ما اقترح موت الإله وصيرورة الإنسان عوضا منه ، فهو المرجع ، وله من الأخلاق ما ثَبَتَ ضرورة في الوجدان والفطرة ، وهو ما جَاوَزَ الحسَّ بداهةً ، فَثَمَّ بَقِيَّةٌ من غيبٍ لا يُشْهَدُ ، فذلك معنى يَلْطَفُ ، وليس بالحس يُدْرَكُ ، وَإِنْ أَدْرَكَ آثارَه في الخارج على قاعدةٍ من الكمِّ تَقِيسُ الرَّبْحَ والخسارةَ ، كما تقدم من مُثُلِ الصدقِ والثقةِ والالتزامِ في الموعد ، والوفاء بالعقد المبرَم ....... إلخ ، فَثَمَّ في مرجعِ الإنسان بَقِيَّةٌ مِنْ غَيْبٍ لَا يُدْرَكُ بالحسِّ ، فالأخلاق معان تلطف ، وهي مما يجاوز الحس المحدَث ، ولا تُتَصَوَّرُ الأخلاق إِلَّا وثم دين ، فرباط الأخلاق بالدين وثيق ، وقد شهد به شاهد من أهلها ، فهو من كبار الجاحدين لمرجع الوحي والدين ، ولأجله يَلْتَزِمُ بَعْضٌ إنكارَ الأخلاقِ ، ولو كان الإنسان هو المرجع ، فإنها تُفْضِي إلى ما لا يحمد ! ، وهي ، أيضا ، مطلق أول لا يُحَدُّ بالحسِّ ، والمذهب المحدث لا يَنْفَكُّ ينكر المطلقات ، ويصدر عن مثال نسبي يَتَأَوَّلُ المقدمات الضرورية ، فَيُصَيِّرُهَا جميعا من النسبيات المحتملة ، كما تقدم من مُثُلِ الصدقِ والثقةِ ، فإنها لا تُحْمَدُ مطلقًا ، بل الذم قد يَلْحَقُهَا ، إذ ثم مرجع من خارج يجاوزها وهو الكسب واللذة ، فإذل صار الصدق والثقة سَبَبًا في حصول الكسب واللذة ، فهما يُحْمَدَانِ في الوصف ، ويجريان في الحكم ، فَيَصِيرُ ضدُّهما من الكذب والغش قَبِيحًا ، لا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ حَسَنَانِ لِذَاتِهِمَا ، والآخرين قَبِيحَانِ لِذَاتِهِمَا ، وَإِنَّمَا ثَمَّ مرجِعٌ من خارجٍ يحكم ، فالكسب واللذة هما الأصل في التصور والحكم ، فإن لم يَحْصُلَا بالصدقِ والثقةِ ، فالكذب والخديعة يُحْمَدَانِ ، فهما يَحْسُنَانِ في الوصف ، ويحكمان في القول والفعل ، وليس يشعر صاحبهما بالخزي ، بل ثم من المذهب ما يأطر ذلك على جادة من النظر تُحْمَدُ ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مطلق في الوجدان أول ، وإنما يُصَاغُ مِنْ خَارِجٍ بما تَتَنَاوَلُهُ مداركُ الحسِّ حَصْرًا ، فَثَمَّ مرجِع لا يجاوز الحس ، فلا مطلقَ من خارجٍ يجاوزه ، إن المطلق الرسالي أو الإنساني ، فليس إلا النسبي الذي يرجع إلى الحس ، وهو ما ظهرت آثاره في مثال من العلم بَشَّرَ به بعض ، فهو ، كما ينقل بعض من حقق ، ذو مرجع ثلاثي محكم : الفيزياء والسياسة والفلسفة ، ولعل تقديم الفيزياء ، وهي ما يعالج المحسوس في الخارج بما اكتشف من قوانين الحركة المحكمة ، لعله مما صُدِّرَ قصدا ، أن يكون الحس هو المرجع ، فعنه تصدر الفكرة التي يصنعها الفلاسفة ، والحركة التي يباشرها الساسة ، وقد يُزَادُ في ذلك المرجع الثلاثي رَابِعٌ وهو الاقتصاد والكسب ، فحركته في الإنتاج والدعاية .... إلخ ، تصدر ، أيضا ، عن مرجعٍ من الحسِّ لا يجاوز ، وليس له غَايَةٌ إِلَّا اللَّذَّةُ ، وهي الغاية العظمى ، وبها حَسْمُ التَّسَلْسُلِ في الرَّغَائِبِ ، كما ينقل بعض مَنْ حَقَّقَ مِنْ طَرَائِقَ في التأمل والتدبر ، تسلك جَادَّةً من الرغائب تَتَسَلْسَلُ ، فيقترح الناظر من ذلك ما يرجو ، وهو ضرورة لا ينفك ينتهي إلى غاية لا غاية وَرَائَهَا ، وتلك ، والشيء بالشيء يذكر ، أخرى تَنْقُضُ المذهَب المحدث الذي يجحد العلة الغائية من الخلق ، وهو ، مع ذلك يقترح اللذة غاية ، والبحثُ في الغاية لا يستقيم على جادة مذهبٍ لا يجاوز بحثُه الصًّورَةَ ، وهو ما يخالف عن مبادئِ الضرورةِ ، فَلَا نَفْسَ تَتَحَرَّكُ بلا غاية ، فَثَمَّ تصور أول في الوجدان يثبت ، وعنه القول والفعل في الخارج يصدر ، فالعلة الفاعلية التي تعالج العلة المادية ، وَتَسْتَخْرِجُ منها العلة الصورية ، لا تنفك تطلب أولا من العلة الغائية ، ولو المحدثَة التي يعالجها الحس ، فالإنسان ، كما يقول بعض من حقق ، كائن حي حساس يتحرك بالإرادة ، وهي ما يطلب أولا من التصور ، فلا يتحرك صاحبها اضطرارا ، كَمَا اقْتَرَحَ بَعْضٌ من تفسير هذا الكون المحكم المتقن أَنْ رَدَّهُ إلى أول يفعل بالطبع ، فهو المجرَّد من الوصف ، فلا عِلْمَ به يُقَدِّرُ ، وذلك التصور الأول ، ولا إرادة بها يخصِّص ويرجِّح ، وذلك الحكم الذي يعقب ، وهو مما يجري مجرى القياس ، قياسِ الأولى ، فإن الإنسان وهو الأدنى ، لَا يَتَحَرَّكُ خبط عشواء ، فلا يكون ثم علم يَتَصَوَّرُ ، ولا بد له من مبادئ في النظر بها يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، ولا يكون ثم إرادة تُرَجِّحُ ، وبها يخصِّص ويرجِّح ، فيخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، وذلك ما يَصْدُقُ فِي أَيِّ حَرَكَةٍ عن الإنسان تصدر ، ولو معالجةَ المحسوسِ من مطعومٍ أو مشروبٍ أو منكوحٍ ....... إلخ ، فلا يباشرها اضطرارا ، فيكون من الجبر ما يحكم ، فلا يملك الخروج عن حكمه الملجئ ! ، فذلك ، بداهة ، مما يَبْطُلُ في الوجدانِ والحسِّ ، بل قد يَتْرُكُ ما يشتهي مختارا أن كان من التصور ما يسبق ، ولو صدر عن غاية لا تجاوز الحس ، كما تَرْكُ المطعومِ أو المشروبِ أو المنكوحِ حَمِيَّةً ، فذلك فعل يصدر عن إرادةٍ ، وله من التصور ما يَسْبِقُ ، وهو ما يُبْطِلُ دعوى الإلجاء والحتم ، فليس ذلك المطَّرد في الحكم على قاعدة الجبر الذي يَنْفِي الاختيارَ والتكليفَ ، فكيف بهذا الكون ؟! ، وهو ، بداهة ، أعظم في الخلق والفعل من مطعومٍ أو منكوحٍ يُبَاشَرُ ، فلا ينفك ضرورة يطلب علما أول يُقَدِّرُ ، وإرادةً بَعْدُ تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، وغايةً تُطْلَبُ ، فإن الإنسان الذي يطعم وينكح لا ينفك يطلب غاية لما يصنع ، وهو مما يتفاوت تَبَعًا لِتَفَاوُتِ المرجِع ، فَمَنْ يَصْدُرُ عن مرجعٍ لا يجاوز ، فهو يرصد الآثار في الخارج ، فَثَمَّ لذة في الحس تُدْرَكُ ، وثم قوة في البدن إذ يَطْعَمُ ، وهي في نفسها غاية لا تجاوز ، فالصحة والجمال معان كلية تُرَادُ لذاتها ، وثم أخرى في النكاح ، وهي من أعظم لذات الحس ، بل هي الأعظم في مُثُلٍ من الفكر المحدَث ، لا جرم كانت مصدر إلهام وباعث إبداع ! ، فذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما يجاوز مُدْرَكَ الحسِّ العاجلِ بما يكون من لَذَّةِ الوقاعِ ، فَثَمَّ آخر يَرْمُزُ ، فَيُصَيِّرُهَا حكايةَ المرجِع ، مرجِع الحس الذي لا يجاوز ، ولو جاوز به الناظر ، فالنكاح مما يكثر به العدد ، وتعظم به قوة البشر ، وهي قوة الإنتاج المادي ، فيكون من ذلك مؤشر في الاقتصادي يحسن ، وهو ما اصْطُلِحَ أنه رأس المال البشري الذي يتحرك في الخارج ، وذلك ما يحسن الاستثمار في صناعته ، إِنِ الكيفَ أو الكَمَّ ، وهو إجماع العقلاء كافة ، فتحسن العناية بتهذيبه وتعليمه ، وذلك ، أيضا ، مما تختلف محدداته تَبَعًا لِتَصَوُّرٍ أول عنه واضع السياسة والمخطِّط يصدر ، وبه مُؤَشِّرُ السعادة والتقدم ....... إلخ يَنْطِقُ ، فَثَّمَ المحدِّد المادي الذي لا يجاوز ، إذ يصدر عن العقل المادي آنف الذكر ، فَيَسْعَى في معيار من الجودة ينصح ، جودة التعليم والصحة ..... إلخ ، وكلُّ أولئك ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، مما يَحْمَدُهُ العقلاءُ كَافَّةً ، فليس ثم عاقل يجحده ، فهو محل الإجماع بالنظر في الأدوات والوسائل ، وهو ما اصْطَلَحَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أنه الفاعلية فتلك عِلَلٌ فاعلية يعالجها كلٌّ ، لا في الغايات والمقاصد وهو ما اصطلح أنه الصلاحية ، فلا بد من امتياز فيها يحكي آخر من المرجِع ، فالحداثة تروم من ذلك زيادة في الكفاءة والإنتاج ، وإن باشرت لأجل ذلك مسالك من الأخلاق ، فلا تجاوز بها حَدَّ الكسب ، وإن كان ثم عناية بمعان في النفس تَلْطُفُ ، وهو ما يجاوز الحس المحدَث ، فلا ترجو من ذلك ، بداهة ، ثَوَابًا يُؤَخَّرُ فِي دارِ حسابٍ وجزاءٍ تجاوز ، وإنما تَرُومُ آخر هو المعجَّل إذ تزيد كفاءة العامل فيزيد إنتاجه فهو خِلْوٌ من القلق والكآبة .... إلخ من عوارض بها العقل يذهل فلا يحسن يعمل وينتج ! ، فتلك ، كما تقدم ، القيمة العظمى في المثال المحدَث ، فَلَا يُرَادُ مِنْ تعليمِ الإنسانِ والحفاظ على صحته إلا تَثْمِيرُ العقلِ الذي يِخُطِّطُ وَيَبْتَكِرُ ، وتحريكُ الآلةِ التي تُنْتِجُ ، على قاعدة من اللذة والكسب لا تجاوز ، فَلَيْسَ ثَمَّ معنى يجاوز المادة ، إذ الأول قد حل في الثانية وبها اتحد ، ومؤشرات السعادة والنجاح تَبَعٌ لذلك ، فهي تَرْصُدُ الأسباب المادية ، فالسعادة في تَوَفُّرِ السلع التي تُسْتَهْلَكُ ، وأسباب العلاج الناجع ، وأخرى من الرِّزْقِ الواسع ، وثالثة من رَفَاهِ في العيش على قاعدة محكمة في حركة التجارة والأفراد ..... إلخ ، وذلك ، كما تقدم ، محل إجماع ، وإنما وقع الاختلاف في العلة الغائية ، وهي من جملة العلوم الضرورية ، ولو في مذهب يَنْفِي الغائية ! ، فإنه يُبَاشِرُ من أسباب المادة ما يطلب به اللذة والراحة ، ولو لم يجاوز بها حَدَّ الحس المحدَث ، فإثبات هذه المعاني ، ولو على قاعدةِ حِسٍّ لا تجاوز ، يَنْقُضُ مذهب النسبية التي تجحد المطلقات ، فتلك مطلقات تحصل في الوجدان ضرورةً ، وهي محل إجماع لدى العقول كافة ! ، إن في المقاصد ، أو في الوسائل ، فَثَمَّ آخر من قَبْلِيَّاتٍ في العقل ، وإن في تعليمٍ لا يجاوز مَدَارِكَ الحسِّ المحدَث ، فَهُوَ جُمَلٌ من المسائل الرياضية الصارمة ، فَلَا تَنْفَكُّ تصدر عن مقدماتِ ضرورةٍ في العقل الذي يعالجها وَيَسْتَنْبِطُ منها نتائج نظرية ، فهو يفتقر إلى أوليات وَقَبْلِيَّاتٍ قدر ركزت أولى في الفطرةِ ، وهي المطلقات الثابتة ، وإلا اضطربت العلوم كافة ، ولو المدرَكَة بالحس ، فإن لها من الأوليات ما أَجْمَعُ عليه العقلاء كَافَّةً ، وكذا أخرى من المقاصِدِ ، كما حفظُ النَّفْسِ والنوعِ والمالِ والعقلِ ، فَتِلْكَ قوى بها يعالج الإنسانُ الكونَ طلبًا لمعاش يحسن ، وبه الكفاية تَحْصُلُ ، فَثَمَّ من ذلك محل الإجماع ، وثم آخر قد وقع فيه الخلاف ، بل هو أصلٌ لكلِّ صراعٍ في العالم يحدث ، فالعلة الغائية الأولى ، وهي المقصد الجامع ، مما وقع فيه الاختلاف والتدافع ، فالإجماع في الأدوات الفاعلة ، والاختلاف في المقاصد الصالحة ، فلكلٍّ وصفٌ في الحسن ، وحكم في الصلاح يحكي المرجع الذي عنه يصدر ، فَثَمَّ مرجع الحداثة الذي لا يجاوز المادة ، وقد انتهى إليه المذهب ، فكان من الإنسان أول قد اتُّخِذَ ذريعة لما تلا ، فالإنسان لا يخلو من جُمْلَةِ بَوَاعِثَ في النفس تجاوز مدارك الحس ، كما الأخلاق آنفة الذكر ، فكان من ذلك ما اقْتَرَحَ بَعْضٌ أنه موت الإله ، فقد صار الإنسان هو المركز ، فموت الإله ، لو تدبر الناظر ، موت المرجع الديني المجاوز من السماء ، فليس إلا المرجع الإنساني في الأرض ، ثم لم يلبث آخر أن زاد في الموت ! ، موت الإنسان ، فلم يعد ثم إلا المادة ، فموت الإنسان موت لمرجع الأخلاق ، وفيه بقية من الفطرة تَنْصَحُ ، وهي مما يجاوز المادة ، فكان من المادة آخر قد نَسَخَ الجميع ، فوحده المرجع في التحسين والتقبيح ، وآخر من الحكم والتشريع ، فالتصور للأسباب لا يجاوز هذا العالم المحدث ، فهي تصدر عن قيمة عظمى في المركز : الكسب واللذة ، وما يستلزِمانه من احتكارٍ لأدواتِ القوة ، لا عن مرجع رسالي من خارج العقل والحس ، فهو يُوَظِّفُ هذه القوة أَنْ تَصِيَر أداةً بها الحق يحكم ، مع آخر لا يجحد قوتها في الفعل ، فذلك ، كما تقدم ، من مقاصد الشرع ، فَبِهَا حصول الإنتاج والكسب ، وحفظُ المال وَتَثْمِيرُهُ ، وذلك من مقاصد الرسالة ، ولكنه ليس الأول ، فَثَمَّ آخر يجاوز أبدا ، وهو الوحي الذي يأطر الفرد والجمع على جادة تَنْصَحُ ، فلا غاية لها في لذة أو كسب ، بل وصف الأول فيها ، وهو مرجع التصور والحكم ، وصفه ، جل وعلا ، ما نَزَلَ من الآي المحكم ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ، ولا نقص فيها ، من وجه ، بل لها من وصف الكمال أول يُطْلَقُ ، فالوحي قد جاء بغاية عظمى تَنْصَحُ ، فَشَارَكَ غَيْرًا في مقاصد الدنيا ، وَزَادَ أخرى تُجَاوِزُ ، فهو يَرْجُو من ذلك غَايَةَ الثوابِ الآجل ، ولو في مباشرةِ مباحٍ ، بل ولذيذ تميل إليه النفس طبعا ، كما في الخبر المصدق أنْ : "فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»" ، مع آخر يرجو مقاصد من الأحكام تنصح ، فحفظ النفس وحفظ النوع من الكليات الجامعة في الشرع ، وكذا حفظ المال ، فيكون من ذلك الاتجار والصفق ، وتلك أفعال يتناولها الحس ، وهي في نفسها غايات يَحْمَدُهَا الشرع المجاوز ، ولكنها ليست المقصد الأول ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، مقاصد وحي تسبق ، فحفظ الدين هو الأول ، وتلك الغاية العظمى من الخلق ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|