|
#1
|
|||
|
|||
عرف اللسان
ومما يَنْصَحُ مبدأَ الاستدلالِ بالكلام العربي المفصِح ما كان من المعنى المجرَّد في درسِ المعجمِ ، وهو ما يحصلُ باستقراءٍ لكلامِ العرب المفهِم الذي نَزَلَ به الوحي المحكم ، فلا يكون من ذلك ما يُعْتَبَرُ في التفسير إلا عرف الجيل الأول الذي شهد التنزيل المحكم ، فَبِلِسَانِهِ قد نَزَلَ ، ومن جاء فهو له تَبَعٌ ، فكان من ذلك دَرْسٌ قَدِ اجتهدَ في حدِّ الاحتجاجِ ، وَهُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إذ تَفَاوَتَ ، فَثَمَّ مِنْ عُرْفِ الْبَادِيَةِ مَا نَصَحَ ، وإن كان في التصورِّ أَضْيَقَ ، إذ ليس في الْبَادِيَةِ مِنْ ضروب الحضارة ما يكثر ، فيكون من ذلك اسْتِنْبَاطٌ لجديدٍ من المشتَقِّ يَنْصَحُ في الحكاية ، ولا يخالف عن جادة الْبَيَانِ الناصع ، فهو يُضَاهِي سماء البادية في الصفو ، فكل أولئك مما زَادَ في زَمَنِ الاحتجاج بِلِسَانِ الباديةِ ، فَبَلَغَ به أهل الشأن منتصفَ القرن الثالث من الهجرة ، وليس ذلك في الحضر يُسْتَصْحَبُ إِذْ كان من مخالطة الأعاجم ما أَفْسَدَ اللِّسَانَ ، فلا يُحْتَجُّ بكلامِ المحدَثين ، وإن كان منه بعض قَدْ وَرَدَ في دَوَاوِينِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ ، فهو من الشاهد الذي به المصنِّف يَسْتَأْنِسُ ، فَلَيْسَ مِنَ الدليل الذي يَثْبُتُ ، بل منه ما طَرُفَ في الذكر ، ، كما يذكر بعض من حَقَّقَ ، إِذْ دَارَى سِيبَوَيْهِ بشارَّ بن بُرْد ، فقد هجاه الأخير إذ لم يُضَمِّنَ "الكتاب" شواهد من نظمه ، فَأَوْرَدَ سِيبَوَيْهِ بَعْضَهُ ، لا احتجاجا وإنما استشهادا ، والباب في الأخير أوسع ، كما استشهد بَعْضٌ بشعر أبي الطيب لما له من علم بالعربية قد وسع ، وإن كان من جِيلٍ قد تأخر ، وكذا قِيلَ في استشهاد صاحب "الكشاف" بشعر أبي تمام ، فذكر من العلة أن أبا تمام من علماء اللسان ، فَاجْعَلْ مَا يَقُولُ بمنزلةِ ما يَرْوِي ، وذلك ، كما يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مذهبٌ له ليس عليه يُتَابَعُ ، فظاهر كلامه : صحة الاحتجاج بكلام المحدَث إذا كان من أئمة اللسان ، فعلمه بطرائق البيان أمانٌ من الخطإ ، إذ يَتَحَرَّى في نظمِه ونثرِه ما لا يَتَحَرَّى غَيْرٌ ، وهو ما لم يُسَلِّمُ بِهِ أهل الشأن ، فَلَيْسَ العالِمَ باللسان وإن امْتَازَ مِنَ الْعَامِيَّ الذي يَلْحَنُ ، ليس العالم بالعربيةِ كمن ينطق بِهَا سَلِيقَةً ، وإن كان في زمانه عَامِيًّا لا حظ له من العلم ، فَنُطْقُهُ المجرَّد ، ولو في عامَّةِ شأنِهِ ، ذلك دليل يَفْزَعُ إليه العالم ، بل ويرحل في طلبه ، كما نَزَلَ من نَزَلَ من أهل الكوفة بَوَادِيَ العرب فسمعوا من كلامهم ما نَصَحَ وَدَوَّنُوا منه أدلَّةً تُعْتَبَرُ ، فلا يَسْلَمُ العالِمُ المتأخِّر ، وإن كان إلى الصواب أَقْرَبَ مِنْ غَيْرٍ ، لا يسلم من الخطإِ واللَّحْنِ ، وإن تَحَرَّى الصوابَ في النظمِ وَالنَّثْرِ ، وهو ما أُحْصِيَ من شعرِ أبي تمام ، إذ أَخْطَأَ فِي أَبْيَات ، وهو مَنْ هو في الفصاحة والبيان ، فَمَلَكَتُهُ لَيْسَتْ مَلَكَةَ الجيلِ الأوَّلِ الذي أَفْصَحَ ضرورةً بما عَالَجَ من عُرْفِ زمانِه المتداوَلِ ، وإنما مَلَكَةُ أَبِي تمام مما اكْتُسِبَ بِالنَّظَرِ ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ ، من وجه ، التَّفَاوُتَ بَيْنَ التواتر العام الذي يفيد العلم الضروري ، وهو ما استوى فيه العالم والعامي ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ أَخَصَّ ، فَكَذَا كانت ملكةُ الجيلِ الأوَّل قَبْلَ فَسَادِ اللِّسَانِ ، لا كما آخر قد حدث ، وإن كان منه عِلْمٌ ، فَهُوَ العلم النَّظَرِيُّ الَّذِي يُكْتَسَبُ ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ تَوَاتُرٌ أخص قد اقْتَصَرَ على أهل الشأن ممن عالج العربية استقراءً وسبرًا ، فَحَرَّرَ من قواعدِها فِي الْبَيَانِ وَالنُّطْقِ مَا يَنْصَحُ ، فَعِلْمُهُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ نَظَرٍ لا كما أول قد نطق بالفصحى عِلْمَ ضرورةٍ لَا يُكْتَسَبُ بِنَظَرٍ أو استدلال أَخَصَّ ، فقد استوى فيه كُلٌّ ، العالم والعامي ، فحصل من قانون اللسان العربي المفصِح ما استقر في وجدان الجيل الأول الذي نَزَلَ الوحي بِلِسَانِهِ ، فكان من مادة العرف المشتَهِر لدى أولئك ما تَرَاكَمَ فِي الوجدان ، وهو مَا ائْتَلَفَ مِنْ عُرْفٍ أَوَّلَ قَدْ تَقَدَّمَ وآخرَ قَدْ حَضَرَ لدى التَّنَزُّلِ ، والأخير ، لو تدبر الناظر ، نِتَاجُ الْأَوَّلِ ، فَكَاَن مِنْ ذَلِكَ رِكْزٌ فِي وجدانِ العربيِّ الذي نَطَقَ بالعربيةِ سَلِيقَةً ، فإذا سُئِلَ عَنِ الرَّفْعِ والنصبِ والجرِّ والجزمِ المحدَث لم يحسن ذلك بل عده عجمة في النطق ، كما أعرابي قد وفد على حاضرة من حواضر الإسلام ، فدخل مسجدا من مساجدها ، وقعد يسمع عالما والتلاميذ حوله قعود ، وكان دَرْسَ عربيةٍ وَنَحْوٍ ، فسمع ما يُغْرِبُ مِنَ الاصطلاح فلا يُفْقَهُ ، فذلك من كلام الجن أو نحوه ! ، وهو ، مع ذلك ، يفقه ما يسمع من شواهد النظم والنثر ، فتلك العربية الناصحة التي يَنْطِقُ بِهَا بداهةً دُونَ تَكَلُّفِ دَرْسٍ ، بل لو عَلِمُوا حالَه لَانْفَضُّوا عن شيخهم وقعدوا يدونون كلامه ، وهو الأعرابي الذي لا يحسن يقرأ ويكتب ، ولكنه يحسن يُفْصِحُ بِمَا رُكِزَ في وجدانِه ضرورةً من مجموعِ العرفِ المستَقِرِّ الذي تَلَقَّاهٌ أَبًا عن جًدٍّ ، فَلَهُ من ذلك إسنادٌ قَدِ اتَّصَلَ ، لا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا طَلَبَ ، بل قد جاءه من طريق يسيرة إذ سمع وَقَلَّدَ ، وَبَاشَرَ لسانَ الجمعِ الذي فيه قد نَشَأَ ، وكان من عَامَّةِ كلامِه في أمورِ المعاشِ مَا يَتَلَقَّفُهُ أَئِمَّةُ البيانِ ! ، فتلك الْمَلَكَةُ الَّتِي لا تُكْتَسَبُ بِالتَّعَلُّمِ ، تَعَلُّمِ الاصطلاحِ المحدَثِ الَّذِي اسْتَقْرَأَ كلامَ الأوائلِ نَظْمًا وَنَثْرًا ، ثُمَّ اسْتَنْبَطَ وَجَرَّدَ مَا دُوِّنَ بَعْدًا من اصطلاحِ المعجَم والاشتقاقِ والنحوِ والبيانِ ، فكل أولئك مما لا اجتهاد فيه يَسْتَأْنِفُ اصطلاحًا بلا مأثور يعالجه ، فمدار ذلك التوقيفُ ، فَلَا اجْتِهَادَ فِيهِ إلا ضرورة تُقَدَّرٌ بِالْقَدَرِ ، فالقياسُ لَا يَنْهَضُ إِلَى مخالَفَةِ النَّصِّ ، فذلك من فساد الاعتبار ، كما قَرَّرَ أهل الشأن من الأصوليين ، وذلك مما عَمَّ اللسان كما الأحكام ، فكلاهما مداره التوقيف ، وإن صح فِيهِمَا القياس ، فلا يكون من ذلك ما يخالف عن النص ، وإنما شرط القياس في كلٍّ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أصلٍ منصوصٍ عليه ، لا جرم كان من الاستدراك على القول : إِنَّ مَا قَلَّ في السماع إن كان مقبولا فِي القياس صَحَّ القياس عليه ، وذلك مما يسلم به فلا اسْتِدْرَاكَ ، وَإِنْ وُجِدَ ما يعارضه في القياس ، فَالْوَاجِبُ الوقوفُ على السماع دون التوسع في القياس عليه ، وذلك مما قَدْ يُخَالِفُ فيه بعضٌ ، كما ذكر مَنْ حَقَّقَ ، فَثَمَّ مَنْ يُجْرِي السماعَ في هذه الحال مَجْرَى الحكم التَّوْقِيفِيَّ الذي لَا تُعْلَمُ عِلَّتُهُ لِيُقَاسَ عليه غَيْرٌ ، فيشبه ، من وجه ، حكم التعبد المحض ، فإن له حكمة بَلْ وَعِلَّةً ، ولكنَّ العقل لا يُدْرِكُهَا ، وليس عدم وجدانِها بالعقل دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل هي الموجودة الثابتة ، وإن لم تدركها العقول ، إذ ابْتُلِيَتْ فِي مَوَاضِعَ أَنْ تُؤْمِنَ وَتُسَلِّمَ ، فَتُصَدِّقُ وَتَمْتَثِلُ ما لا تُدْرَكُ عِلَّتُهُ ، وَإِنْ وُجِدَتْ آثارُ حكمتِه ، فَالتَّعَبُّدُ فِي نَفْسِهِ مما بِهِ استصلاحُ النَّفْسِ ، ولكنَّ الحكمةَ فِي النَّظَرِ أَعَمُّ فَلَا يُنَاطُ بِهَا تَعْلِيلُ حُكْمٍ أَخَصَّ ، وَلَيْسَتْ تُجْزِئُ فِي تَعْدِيَةِ الحكمِ من الأصلِ إلى الفرعِ ، بل لا بد من معنى أخص ، وهو ما يجرِّده الذهن ، فيكون من ذلك معنى يُعْقَلُ ، وهو في الحكم يُؤَثِّرُ وُجُودًا وَعَدَمًا ، فذلك الدَّوَرَانُ الوجوديُّ العدميُّ الذي اشترطه أهل الشأن في تحريرِ الْعِلَّةِ الَّتِي يُنَاطُ بِهَا الحكم ، وَثَمَّ من المعنى أعم لا يُنَاطُ به الحكم ، وهو معنى الحكمة ، فلا تجزئ في قياس ، على تفصيل ذكره أهل الشأن ، فَثَمَّ من أناط بها جُمَلًا من الأحكام ، فَجَاوَزَ الْعِلَّةَ المنصوصَ عَلَيْهَا ، وهو ما يُضَاهِي فِي الحدِّ ، ولو في الجملة ، ما كان من الاستحسانِ ، وهو من الأدلة الكلية الجامعة ، فَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَوَسَّعَ ، كما المالكية رحمهم الله ، ولهم ، والشيء بالشيء يذكر ، غِنًى في الأصول ، فهم ، كما يَسْتَقْرِئُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أكثر المذاهب المدونة أصولا ، ولهم في باب الذرائع والمصالح والاستحسان قَدَمٌ تَرْسَخُ ، ومحل الشاهد منه الاستحسان ، فهو عندهم كالمخصِّص أو المقيِّد لما يَطَّرِدُ من القياس ، فطرد القياس في مواضع قد يوقع الناظر في التَّكَلُّفِ ، فَيُخَالِفُ عن السنة أو مقاصد الشريعة ، فكان من الاستحسان ، من هذا الوجه ، قَيْدٌ يأطر القياس على جادة السنة ، وما قَصَدَتْ إِلَيْهِ الشريعة من الكليات الجامعة ، وَذَلِكَ فَضَاءٌ تَنْصَحُ فِيهِ الحكمة الأعم ما لا تَنْصَحُ عِلَّةُ القياس الأخص ، فَيُنَاطُ الحكم بالحكمة في هذه المواضع ، ولو ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فالأصل أن تُنَاطُ الأحكام بالعلل معقولة المعنى التي تدور معها الأحكام وجودا وعدما ، وبه الأحكام تَنْضَبِطُ أن تُرَدَّ إلى أصول ثابتة بالنص في مسائل مَبْنَاهَا التوقيفُ ، فاللسان ، في الجملة ، مما يَطْلُبُ أَوَّلًا من المادة ، نَظْمًا وَنَثْرًا ، فالحوافظ تستجمعها ، والدواوين بَعْدُ تَسْتَوْعِبُهَا ، أو تَسْتَوْعِبُ منها جملة وافرة بها الاستقراء المعتبر في الباب ، فلا يشترط فيه ، كما تقدم في مواضع ، تمام يقطع به الناظر أنه قد استوعب كُلَّ شَاهِدٍ من النظمِ أو النَّثْرِ ، فَلَا يَفُوتُهُ بَيْتُ شعرٍ ، ولا سَطْرُ نَثْرٍ ، فَأَنَّى يكون ذلك لأحد ؟! ، وَإِنْ أَطَاقَهُ زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فكيف بما كان من أجيالٍ تَسْبِقُ ، وهي ، كما تقدم ، طباق في الوجدان قد تَرَاكَمَ حَتَّى انْتَهَىَ إلى صورة الفصحى ، وهي الطريقة المثلى التي نَزَلَ بها الوحي ، فليست مما نَجَمَ دفعةً بلا سابقٍ من الأثرِ ، بل هي طِبَاقٌ أخير يحكي ما تَرَاكَمَ قَبْلًا في وجدانِ الجمعِ ، فحصل من ذلك سَلِيقَةٌ تُفْصِحُ ضَرُورَةً ، فلا تُعالجُ من النظر والدرس ما يُعالجُ المتأخر ، فالاستقراء أول في تحرير الأصول التي يُقَاسُ عليها ، فَثَمَّ استقراء يجتهد في الجمعِ ، سواء أصاب التام الذي يُفِيدُ القطع الجازم أم الناقص الذي يفيد الظن الغالب ، فكلاهما يُجْزِئُ في الاستدلال ، وإن رَجَحَ الأوَّلُ الثانِي ، فكلاهما حُجَّةٌ إذا انْفَرَدَ ، على تفاوت في الرتبة ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما حَرَّرَهُ أهل الرواية في الحكم على الأخبار ، فَإِنَّ مِنْهَا طَيْفًا من الصحيح المحتَج به قد وَسِعَ ، مِنَ المتواترِ الذي يفيد القطع الجازم إلى آحاد تفاوتها أعظم ، من صحيح قد احتفت به قرائن ، فأفاد أولا من الظن الغالب ، ثُمَّ كان من القرائن ما زَادَ في الحد ، فَانْتَهَى به إلى العلم النظري ، وهو دُونَ الضروريِّ الذي يُفِيدُهُ المتواتر ، فكان من الصحيح الَّذِي احتفت به القرائن ما عَلَا في الرتبة ، فهو أَصَحُّ الصحيحِ ، سواء أذكره صَاحِبَا الصحيحين ، وقد اشترطاه ، أم فاتهما فَاسْتُدْرِكَ عليهما ، فَلَيْسَ أَصَحُّ الصحيح ما وَرَدَ في كِتَابَيْهِمَا حصرًا ، وإن اسْتَوْعَبَا منه الجمهرة العظمى ، وليس الصحيح ، من باب أولى ، ما ورد في كتابيهما حصرا ، بل ثم من الصحيح آخر قد وَرَدَ في دواوين السنة ، كما السنن والمسانيد والموطأ والمعاجم والمشيخات ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي قَدْرِ الصحيحِ مِنْهَا ، فَثَمَّ كثيرٌ في الباب ، وهو ما تَفَاوَتَ في الرُّتْبَةِ ، وإن كان الاشتراك في الجنس الأعم ، جنس الصحة ، فَلَيْسَ واحدا في الخارج بالعين ، بل ثم وحدة النوع الذي تَتَفَاوَتُ أعيانه في الخارج ، فَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ ، وذلك الطيف الذي وسع ، فمنه أصح الصحيح ، ومنه ما دونه ، ومنه ما صَحَّ لِغَيْرٍ ، فليس ذلك وصفه مبدأ الأمر ، بل هو من الحسن الذي كَثُرَتْ طرقه ، فأفاد بمجموعها ما لا تفيد آحادها ، وكذا الحسن يدخل في حد الصحة بالنظر في كونه حُجَّةً تَسْتَقِلُّ ، فهو صحيح في الاستدلال ، وإن كان دون الصحيحِ في الاصطلاح ، ومنه الحسن لِغَيْرٍ ، فهو مجموع قد اعتضد من طُرُقٍ ضعيفةٍ تَنْجَبِرُ ، فليس ضعفها مما اشتد ، كما الشاذ والمنكر والمتروك والموضوع المكذوب ..... إلخ ، على تَفْصِيلٍ في حدِّها قد تَنَاوَلَهُ أهل الشأن في كتب الاصطلاح ، فالحسن لغيره ، أيضا ، مما يحتج به ابتداء ، وإن كان أدنى الصحيح ، على اصطلاح من يُدْخِلُ الحسن في حد الصحيح ، فالخبر عنده : صحيح أو ضعيف ، وهو ، أيضا ، مما يَسْتَأْنِسُ به على قَوْلِ مَنْ يسلكُ القسمة الثنائية آنفة الذكر ، ولكنه يدخل الحسن في حد الضعيف ، فَيُوصَفُ الحسن بأن فيه ضَعْفًا ، كَخِفَّةِ ضبطِ راوِيهِ الذي يَنْقِلُ ، ولكنه الضعف المحتمل ، أو المنجبِر ، فيستأنس به شاهدا ، ويحتج به إذا وَرَدَ من طرق تَكْثُرُ ، فمخارجها تختلف ، وبعضها يَعْضِدُ بَعْضًا ، وهو ما يبلغ بها رتبة الاحتجاج ، وإن الأدنى ، وثم مَنْ جاوز بها الحسن ، فكثرة طرق الضعيف المنجبر كَثْرَةً ظاهرة مما يزيد في قدره ، فيبلغ به حد الصحيح لغير لا الحسن لغير ....... إلخ من تفاوت في الرتبة ، وإن كان كل ما تَقَدَّمَ حُجَّةً ، على تفصيل ، وإنما يفيد التفاوت في الرتبةِ : الترجيحَ إذا كان ثم تعارض ولم ينصح في الباب وجه جمع يُعْمِلُ الأدلة جميعا ، فإعمالها خير من إهمالها ، فإن تَعَذَّرَ الجمع إذ الجهة واحدة لا تنفك ليصح حملانُ كلٍّ على وجه ، وإن تعذر بَعْدُ النسخ فَلَيْسَ ثم تاريخ يميز المتأخِّرَ من المتقدِّم ، فيكون الأول ناسخا ، والثاني منسوخا يَرْفَعُ ، فإن تَعَذَّرَ كلاهما ، فليس إلا التَّرْجِيحُ ، وله من الطرق والوجوه ما كَثُرَ ، إن في الإسنادِ أو في المتنِ ، إن في صحةِ الدليلِ أو صراحةِ الاستدلالِ ، ومنها ما تَقَدَّمَ من الترجيح في الصحة ، ومبدأ البحث فيها ، أيضا ، الاستقراء آنف الذكر ، فالاستقراء التام لِطُرُقِ البابِ يفيد يقينا يجزم ، وهو ما يُرَجِّحُ آخر هو الناقص ، وإن أفاد ظَنًّا يَغْلِبُ ، وهو ، أيضا ، يجزئ في الاحتجاج ، وإنما حصل من التفاوت بين التام القطعي والناقص الظني ، حصل من ذلك ما ينصح المستدل حال الترجيح ، على التفصيل آنف الذكر ، ومحل الشاهد منه في شواهد اللسان ، أن أكثرها مما استقرئ الاستقراء الناقص ، جملا ناصحة من الشواهد تجزئ في تحرير الأصل الذي يقاس عليه الفرع ، عند من يجوز القياس في اللسان ، بل ثم من زَادَ فيه فَصَيَّرَهُ عوضا من قِيَاِس الشرع يجزئ ، فإن اشتقاقَ الموصوفِ الذي يُنَاطُ به حكم مخصوص يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ، وذلك بحث في اللسان ، كما المثال يضرب بمادة السكر التي اشتق منها اسم "الْمُسْكِرِ" في الخبر : "كل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكل مُسْكِرٍ حرام" ، فذلك من قياس الشمول الذي يتناول الكليات ، إذ ثم معنى كلي جامع وهو ما يجرده الذهن من مادة الإسكار ، فهي وصف قد اشتق منه اسم المسكر ، وهو معنى معتبر في حصول الحكم ، فَيَتَعَدَّى إلى آحاد في الخارج تكثر ، ولا زالت في كلِّ جيلٍ تَظْهَرُ ، فَأَجْزَأَ قياس الشمول الذي حَرَّرَ الكلي الجامع ، أَجْزأَ فِي تَعْدِيَةِ الحكم إلى كلِّ ما يَصْدُقُ فيه المعنى الذي يناط به الحكم ، سواء أكان السائل أم الجامد أم ذا أبخرة تُسْتَنْشَقُ ..... إلخ ، فأجزأَ في ذلك بِنَظَرٍ مجرد في اللسان ، فأغنى ذلك عن قياس الشرع الأخص ، وهو قياس التمثيل على الجزئي المنصوص عليه في خبر عمر ، ، إذ قال على المنبر : "إن تحريمَ الخمرِ نزلَ وهي من خمسةٍ : العنبِ والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ" ، فَثَمَّ مَعْنًى قَدْ نَصَّ عليه الخبر الأول ، وهو ما أجزأ في تعدية الحكم إلى كلِّ حادثٍ في الباب دون حاجة إلى قِيَاسٍ على أخص في الخبر الذي نص على مثل مخصوصة من الخمر ، فَذِكْرُهَا ، من هذا الوجه ، يجري مجرى المثال لعام ، فلا يخصِّصه ، وإنما يُبِينُ عنه ، أو هو الاستقراء لما كان من الخمر زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فلم يكن من ذلك قَصْرٌ للخمرِ على المذكورات ، وإنما أَرَادَ الحصر لِخَمْرِ زمانِه لَا حَصْرَ الخمرِ في كلِّ زمانٍ تَالٍ .
والشاهد أن من الاستقراء في اللسان ما غلب عليه النَّقْصُ الذي يفيد الظن الراجح ، بل لو قال قائل بل كله من النَّاقِصِ لكان لقولِه وجه معتبر بما تقدم من تَعَذُّرِ الجمعِ لكلِّ ما تَكَلَّمَتْ به العرب ، فذلك ما استوجب استقراء يجاوز زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فيكون من ذلك ما تَنَاوَلَ طِبَاًقا تَسْبِقُ ، وهو ما كَثُرَ فَأَنَّى لأحدٍ أَنْ يَجْمَعَ ، فَمَنْ نَزَلَ بَوَادِيَ العربِ فَاسْتَقْرَأَ من كلامِهم ، نَظْمًا وَنَثْرًا ، ما أجزأ في الاستدلال لمسائل النحو ، فليس يقطع أن ذلك كلُّ مَا وَرَدَ في البابِ ، بل قد حصل منه جملة معتبرة تجزئ في تحرير الأصل والاستدلالِ لَهُ دون اشتراطِ الجمعِ ، وإلا كان الحرج الذي يَعْظُمُ في الاستدلال لأيِّ حكمٍ ، إن في اللسانِ أو في الشرعِ ، فكان من ذلك الحرج ما رُفِعَ ، إذ ضاق الأمر فَاتَّسَعَ ، فالمشقة تجلب التيسير بَعْدًا ، فكان من ذلك الاجتزاءُ بالظنِّ الراجحِ ، إن في الحكمِ على الأسانيدِ ، أو في تحرير المعاني ، فالاستقراء في كلٍّ يَنْصَحُ ، وليس في كلٍّ من اليقين ما يجزم ، بل ثم الناقص الذي يجمع طرقا في الباب تَكْثُرُ ، وبها تحرير الأصل ، وإن ظاهرا يرجح ، فذلك مما أجزأ في الاستدلال إذ يُسْتَصْحَبُ حتى يكون ثم قرينة معتبرة تَصْرِفُ إِلَى ضِدٍّ مرجوحٍ ، فَلَيْسَ يُصَارُ إِلَيْهِ ، بَادِيَ النَّظَرِ ، دون دليل يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، بل ثم منه ما يزيد في التحكم ، فهو تَرْجِيحُ المرجوحِ بلا مرجِّح ، فترجيح المساوي لآخر مثله كما طرفي الجائز لدى النظار ، فترجيح هذا المساوي على مساويه بلا دليل من خارج يُرَجِّحُ : تَرْجِيحٌ بِلَا مرجِّحٍ ، فكيف بترجيحِ المرجوحِ بلا مرجِّح ، فذلك في الحكم أَبْطَلُ . فَأَجْزَأَ الاستقراء الناقص في مسائل اللسان ، وهو ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ، فلا يطيق أحدٌ جَمْعَ الطُّرُقِ كَافَّةً ليحصلَ له من ذلك استقراء تام يفيد اليقين والجزم ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ما به مِنَّةُ الوحيِ على لسان العرب تَعْظُمُ ، فهو الذي حفظه من التغير ، ولم يحل دون آخر من التطوُّرِ يَنْصَحُ أن يكون من مادة اللسان ما يَسْتَوْعِبُ المحدثات في العلوم والفنون ، والوحي ، مع ذلك ، قد أَتَاحَ لِلِسَانِ العربِ جُمَلًا من الأدلةِ المتواترةِ الَّتِي تُفِيدُ اليقينَ الجازِمَ الذي تَعَذَّرَ بالاستقراءِ لِمَا انْتَشَرَ من شواهد النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، واندثر من آخر لم يُنْقَلْ أو يُدَوَّنْ ، فَلَيْسَ كلُّ مَا نَطَقَتْ به طباق العرب قد نُقِلَ فَبَلَغَ المتأخِّرَ ، فكان منه استقراء تَامٌّ يَقْطَعُ ، فَلَا يَقِينَ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ ، بل غايته ظَنٌّ يَرْجُحُ ، وهو المعتبر في الاستدلال ، ولكنه لا يَبْلُغُ حَدَّ اليقين الجازم ، فكان من الوحي ما أفاد ذلك ، فَمَنَحَ اللِّسَانَ أَصْلًا هو الأول ، فأدلته في النَّقْلِ متواترةٌ قَطْعًا ، فأفادت من اليقين ما يَجْزِمُ ، وكان من القياس عليها ما رَجَحَ القياس على غَيْرٍ من كلام العرب المأثور ، وذلك مَلْمَحٌ يَلْطُفُ قَدْ أَبَانَ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَلَئِنْ صَحَّ فِي شواهدِ اللسان ما تَقَدَّمَ من القول : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وذلك مما يُسَلَّمْ به فلا استدراك ، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس ، فَيُوقَفُ على السماع ، وذلك مما لم يُسَلِّمُ بِهِ بَعْضٌ ، بل السماع في نفسه أصل يحتج به وَيُقَاسُ عليه ، فلا يُعَارَضُ بِفَرْعٍ ، ولا يشترط له موافقة لقياس ، إذ القياس من النص ، كالفرع من الأصل ، وإن كان من القياس في نفسه : أصل من أصول الاستدلال ، فَشَاهِدٌ واحد من السمع في مسائل اللسان يجزئ في حصول أصلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وإن خالف عن القياس المطَّرد ، فكان من عمل بعض النحاة أَنْ يُقَيِّدُوا أصولهم بما يحصل لهم من الشاهد العربي المعتبر ، فيكون من زَمَنِ الاحتجاج ، ولو صَدَقَ فيه أنه لغة قليلة ، أو لغة بعيدة ، وذلك ، كما ينقل بعض من حقق ، من اختيار ابن مالك ، ، فقد اعتمد لغات قبائل في أطراف الحجاز قد جاورت العجم ، فليست تَنْصَحُ في النطقِ كما أخرى عن بلاد العجم أَبْعَدُ ، وبها نصحت لغة قريش التي نَزَلَ بها الوحي ، مع آخر من مجامعها في الموسم ، فهي سوق في اللسان تُنْصَبُ ، وكلٌّ يُجَوِّدُ بضاعته التي يَعْرِضُ ، وَقُرَيْشٌ بما لها من السيادة فهي تختار من البضاعة الجيِّدَ المستحسَنَ ، فكان من لسانهم لسانٌ جامع كما اللغة الأم ، وكان من لغاتِ غَيْرٍ ما يُشْبِهُ اللَّهْجَاتِ في هذا العصر ، فأصحاب اللَّهْجَاتِ يَتَحَادَثُونَ باللسان الجامع ، فكلٌّ يُحْسِنُهُ ، وليس كلٌّ يَفْقَهُ لهجةَ غيرِه ، وذلك وجه من جُمْلَةِ وجوهٍ قد فُسِّرَتْ بها الأحرف السبعة التي نَزَلَ عليها الكتاب الخاتم ، فكانت الرخصة حتى يُتْقِنَ الجميعُ لِسَانَ قريشٍ الجامِعَ ، وهي الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فَلَمَّا زَالَ سَبَبُهَا ، بل قد صَارَ مظنَّةَ ضِدٍّ من حَرَجٍ يَعْظُمُ أَنْ يُنْكِرَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ ، وكلٌّ قد صح له من التَّنْزِيلِ وجهٌ ، فيكون من ذلك الفتنة إذ ليسوا من أهل الفطنَةِ ، فَجُلُّهُمْ حَدَثٌ في الدين ولا سابقة له كما الأولين ، وهو ما وجد حذيفة ، ، مبادئه في الغزوِ ، فكان من ذلك سبب فِي ثَانٍ من الجمع ، أَنْ جُمِعَ كُلٌّ عَلَى حرفٍ واحد يُجْزِئُ فِي نَقْلٍ مُتَوَاتِرٍ به الحجة تَنْصَحُ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ حَرْفُ قُرَيْشٍ ، وهو محل الشاهد ، فذلك الحرف الجامع الذي تُرَدُّ إليه الحروف الأخرى من لهجات القبائل ، رَدَّ المتشابِهِ إلى المحكَمِ . فاختار ابن مالك من لسان لخم التي سكنت العراق ، ومنهم كان المناذرة الذين اتخذهم الفرس حاجزا دون جزيرة العرب ليكفوهم مؤنة من وراءهم من عرب الجزيرة ، وجذام التي سكنت جنوب الشام فتاخمت شمال الحجاز ، وقضاعة ولها ، أيضا ، بطون قد سكنت الشام ، وغسان ، وقد كانت لهم المملكة المشهورة التي اتخذها الروم حاجزا آخر دون جَزِيرَةِ العربِ ، لِتَكْفِيَهَا مُؤْنَةَ مَنْ وراءها من عَرَبِ الجزيرةِ ، فاختار ابن مالك من لسان أولئك ما لم يَخْتَرْ غَيْرٌ إذ اشترطوا ما بَعُدَ عن مواطن العجم دون ما قَرُبَ ، فما بَعُدَ من الأمصار ، فلم يجاور العجم في تخوم الجزيرة ، فهو من العجمةِ أَبْعَدُ ، وما قَرُبَ مِنْهَا فهو إلى العجمةِ أَقْرَبُ . والشاهد أَنَّ قول القائل : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وَإِنْ وُجِدَ ما يُعَارِضُهُ في القياس ، فَيُوقَفُ على السماع دون القياس عليه ، ذلك ، وإن لم يُسَلَّمْ لِقَائِلِهِ مِنْ كُلِّ وجهٍ ، على التفصيل آنفِ الذِّكْرِ ، إلا أنه لا يَطَّرِدُ في التَّنْزِيلِ المتواترِ ، فإنه أصل في الفصاحة والبيان ، ولو شاهدًا واحدا في آي لم يتكرر ، فهو في نفسه الأصل المحكم ، فلا يشترط منه كثرة ، فقد نَزَلَ بالأفصح أو الفصيح ، وكلاهما يجزئ في الاستدلال ، وهو أصل ناصح يقاس عليه الحادث ، فلا يجتَزِئُ المستدل على المذكور منه ، وله قد ضَرَبَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثل بقوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، فَحُذِفَ حَرْفُ المصدَرِ "أَنْ" ، وَرُفِعَ المضارع بعده "يُرِيكُمْ" ، على تقدير : ومن آياته أَنْ يُرِيَكُمْ ، فيكون من ذلك المصدر المؤَوَّل من "أَنْ" المقدَّرَةِ وما دخلت عليه من المضارع ، فحذفت في النطق ، وَارْتَفَعَ المضارع إذ زَالَ العامل الناصب ، وإن قُدِّرَ قياسا على ما تقدم في السياق من قوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ، فالمضارع ، من هذا الوجه ، مرفوع بِنَزْعِ الناصب ، منصوب إذ قُدِّرَ النَّاصِبُ قِيَاسًا على ما تَقَدَّمَ في السياق ، فيكون من ذلك تأويل معتبر ، إذ ثم من القرينة ما يَشْهَدُ ، وهو ما تَقَدَّمَ من المذكور ، فَدَلَّ عَلَى مَا تَأَخَّرَ من المحذوف ، وذلك المطرد المشتهر في باب التقدير ، فَثَمَّ أول مذكور وبه المرجع قد ثَبَتَ في العقول ، فَقِيسَ عليه المحذوف المتأخر إذ رُدَّ إلى مرجع أول قد تقدم ، وهو ما يشبه من وجه ما اشتهر في كتب النحو من قول القائلِ : تَسْمَعُ بالمعِيدِيِّ خير من أن تَرَاهُ ، وقد روي بالرفع على نَزْعِ الناصب ، وإن قُدِّرَ في المعنى ليكون من ذلك مصدرٌ مؤول به الابتداء على تقدير : سماعك بالمعيدي خير من أن تَرَاهُ ، وفي هذا السياق يكون المذكور المتأخر من "أَنْ تَرَاهُ" دليلا على المحذوف المتقدم ، وهو مما جاز في الاستدلال ، وإن خالف عن الأصل آنف الذكر ، أن يدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر لا ضده ، وروي ، أيضا ، بالنصب : تَسْمَعَ بالمعيدي خير من أَنْ تَرَاهُ ، وهو أظهر في الدلالة ، فلا بد من ناصب لهذا المضارع ، وإن اسْتُدْرِكَ عليه أن الناصب عامل ضعيف ، فلا يعمل حال الحذف ، فرواية الرفع أرجح من هذا الوجه ، وهو ما جاء به التنزيل في الآي آنف الذكر : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، فجاء على الوجه الأقوى ، وإن خالف الأفصح ، من وجه آخر ، إذ نُزِعَ الناصب ، مع ما تقدم من سعة في الأمر ، فإن من السياق المتقدم ما دَلَّ ، وكل أولئك مما أجراه بعض مجرى التَّوَقُّفِ على المسموع كما هذا الموضع من الذكر المحكم ، فلا يقاس عليه ، فأجرى عليه الأصل آنف الذكر : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وَإِنْ وُجِدَ ما يُعَارِضُهُ في القياس ، فَيُتَوَقَّفُ على المسموعِ ولا يقاس عليه ، وثم من خالف ، كما تَقَدَّمَ مِنْ كلامِ بَعْضِ مَنْ حَقَّقَ ، فَقَدْ وُضِعَ هذا القيد في كلام العرب لاحتمال الخطإ أن يزيغ لسانهم عن القصد ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يطرد في التنزيل المحكم ، فلا خطأ فيه ولا باطل ، فـ : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) . فهو أصل الأصول في النحو ، وثم تال من السنة ، على الخلاف المشتهر في جواز الاحتجاج بها ، وإن كان من الخلاف يسير في مواضع توقيف كما الأذكار المخصوصة ..... إلخ ، فالراوي يَنْقِلُ ما سمع من صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما تحرى في لفظه ، إذ به محل تَوْقِيفٍ مِنَ التَّعَبُّدِ ، كما رُوِيَ عن ابن عباس ، ما ، في التشهد ، فـ : "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ" ، وكما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم البراء ، ، دعاءَه إذا أخذ مضجعه ، وفيه : "فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: " قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" . وإنما تَوَقَّفَ مَنْ تَوَقَّفَ في الاستدلال بالسنة في مسائل اللسان أن كان التصرف في الألفاظ ، إذ جازت الرواية بالمعنى ، على تفصيل في ذلك ، فَثَمَّ من قَصَرَهَا على الجيل الأول ، إذ لهم من اللسان ما يَنْصَحُ ، فَأُمِنَ تصرفهم في الرواية بالمعنى ، مع ما قد شهدوا من التَّنْزِيلِ فهو ، كما يقول بعض من حقق ، مما أفادهم من عقل المعنى ما لم يُفِدْ غَيْرًا قد جاء بعدهم ، فَجَازَ لهم من التصرف في حكايته بِلَفْظٍ آخر ما لا يَجُزْ لِغَيْرٍ قد أتى بَعْدًا ، ولو جَزَمَ الناظر أَنَّ التصرف في اللفظ منهم ما كان ثم خلاف فإنهم قَرْنُ الاحتجاج المعتبر في مسائل اللسان ، وإنما تَوَقَّفَ بَعْضٌ لاحتمالِ التصرف من غَيْرٍ قد تلا ، وليس من أهل الاحتجاج كما هم . فَثَمَّ عُرْفُ الْبَوَادِي ، على التفصيل آنف الذكر ، وَثَمَّ آخر في المقابل من عُرْفِ الْحَوَاضِرِ ، وهو ما سَارَعَ إِلَيْهِ الفسادُ بما كان من خُلْطَةٍ تُفْسِدُ اللِّسَانَ الناصح ، فكان من العجمة واللحن ما اسْتَوْجَبَ الاحتياط فِي الحد ، فَلَمْ يجاوز منتصف القرن الثاني من الهجرة ، وإن كان لأهل الحضر ، كما يقول بَعْضُ من حقق ، معان شتى ، ومنها يَنْتَزِعُ الذهن هيئات جديدة في الحد تحكي ما غَرُبَ من الحديث المستَجَدِّ ، وهو ما يُثْرِي اللسان إذ يجتهد في اشتقاق أسماء جديدة لها ، فذلك التطور الذي يَنْصَحُ اللِّسَانَ الأول دون أن يأتي على أصوله بالإبطال ، فلا يكون منه آخر هو التغير ، فالتسوية بَيْنَهُمَا من مكر الخصمِ ، أو فاحشِ الجهلِ ، أَنْ يُصَيِّرَ الناطق ما يَطْرَأُ من عجمة اللهجات ولحنها تَطَوُّرًا يُحْمَدُ ، وليس إلا التَّغَيُّرَ الَّذِي يُفْسِدُ ، فيكون من ذلك لهجات ذاتُ نسبةٍ إلى اللسان الأم تَثْبُتُ ، ولو في الجملةِ ، وسرعان ما تَضْعُفُ بما يكون من أجيالٍ تَتَعَاقَبُ ، والسلف يُوَرِّثُ الخلف لسانا ناقصا ، حتى يكون من ذلك تبديل تام ، فلا يدرك المتأخر بَعْدَ أجيالٍ ما كَانَ من أصل اللسان الذي انْدَثَرَ ، أو قد صَارَ لِسَانَ شَعَائِرَ وطقوسٍ ، فلا يحسنه إلا آحاد قد احتكروا أسرار الكهنوت المحدَث ، فَحَلَّتِ اللهجةُ المحدَثة محل اللسان الأول ، فَلَيْسَ إِلَّا أَثَرًا بعد عين ، فلا يُحْسِنُ المتأخِّر قِرَاءَةَ نَصٍّ قَدْ تَقَدَّمَ ، وإن كان له من أصولِه بعضٌ في الوجدان يَثْبُتُ ، فيقال : لغات كذا وكذا قد اشتقت من لغةٍ أُمٍّ تَقْدُمُ ، وليس لها الآن من الاستعمال ما يَثْبُتُ ، فليس يَفْقَهُهَا وَيَتَنَاوَلُ مسائِلَها بالحفظ والدَّرس إلا آحاد من الخاصة ، فَلَيْسَ مِنْهَا لسان يُتَدَاوَلُ ، وبه تُقَامُ الحجَّةُ فِي العلومِ والمعارفِ ، فذلك مَكْرُ مَنِ اقْتَرَحَ أن يكون من لهجات العربية المتأخرة ما يُسْتَبْدَلُ بِاللِّسَانِ العربي الأول ، ذريعة التيسير وحكاية التطوير ، وليس إلا التغيير والتحريف الذي يأتي على الأصل بالهجر والنسيان ، فلا يحسن الجيل المتأخر قراءة الكتاب الأول ، ولا يحسن يدرك المعنى لما نطق به صاحب الشرعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إذ لهجة العامة قد صارت الأصل في النطق وفي الكتب ، في المعجم وفي النحو ، فاقترح بَعْضٌ جَدِيدًا من معاجم اللهجة ونحوِها وإملائِها ، بل قَدْ زَادَ بَعْضٌ فَاقْتَرَحَ استبدالَ حرفٍ أعجمي بآخر عربي ، وهو ما يبت الصلة بالإرث الأول ، من الكتاب والخبر ، فلا يفقهه إلا آحاد قد تفرغوا لدرسه ، فقد صار ، أيضا ، دين شعائر وطقوس ، وصار رجالاته كالأحبار والرهبان ، فوحدهم من يدرك أسرار الديانة ، فقد استغلق نصها الذي كان قَبْلًا المبين ، فشرطه العربية ، لا لهجة العامة التي لا تسلك جادة أولى تُفْصِحُ وَتُبَيِّنُ ، فَالتَّذَرُّعُ بِالتَّيْسِيرِ على الخلق في الْبَيَانِ والنطقِ مِمَّا عَظُمَ به المكر في الجيل المتأخر ، وهو ما يُوَاطِئُ ، من وجه ، منهاج التاريخانية الذي يقصر الاستدلال بالمأثور على الجيل الأول الذي انقرض فانقرض معه لسانه ، ولم يعد منه حجة تثبت على آخر قد جاء بعده ، وهو ما استوجب التفكيك الذي يبت الصلة بين دوال اللسان الأول ، وما تحكي من المدلول ، فلا يُوَرِّثُ السلفُ الخلفَ إلا جملة أصوات ورموز ، وهو ما ذكر بعض من حقق ، فحكى من غلو الحداثة في آدابها أن كَتَبَ مَنْ كَتَبَ شعرا ليس إلا أصواتا خالصة بلا معنى ، فلا تواطئ معجم من الألفاظ ، بل قد عجزت اللغة أن تحكي ما يقوم بنفسه من الاضطراب والاغتراب ، فَثَمَّ عدمية وعبثية ، فلا هدف ولا غاية ، وهو ما صرح به بَعْضٌ له في الحداثة قدم ترسخ ، فحد الحضارة في هذا الجيل أنها الأولى في التاريخ بلا غاية ولا هدف ، فليس ثم معنى يثبت ، بل ليس إلا النسبي المضطرب الذي نال منه التأويل الباطن ، فلا حقائق تثبت ، ولو أصولا أولى في المعجم ، وإنما تأويلات تضطرب ، فلكلٍّ من المرجع هوى وذوق محدث ، وهو أفضى بَعْدُ إلى تفكيك آخر قد جاوز اللسان إلى الإنسان ، فاللسان ، كما يقول بعض من حقق ، قد أخفق في الْبَيَانِ والتواصل بين البشر ، فاندثرت المعايير والقيم التي يحكيها اللسان ، فَلَيْسَ أداةَ التواصل المجرَّدة من القيمة والمبدإ ، بَلْ لَا يَنْفَكُّ يُضَمَّنُ في منطوقِه مرجِعَ أحكامٍ وأخلاق عنه يَصْدُرُ ، فكان من الغلو في التأويل ، أَنْ جُرِّدَ اللفظ من المعنى ، وَجُرِّدَ السياق من المدلول ، ولم يعد ثم من المأثور إلا الرموز التي تحتمل ، ولو كان من نَظْمِهَا ما يواطئ معلوما أول قد ثبت من دَرْسِ المعجم المفرد ، فَلَيْسَ ثم من ذلك إلا الاشتراك في اللفظ دون آخر في المعنى ، ولو المجرد في الذهن ، فَلَيْسَ إلا الرمز الذي جُرِّدَ من المدلول ، وَجُرِّدَ من إرادة الناطق ، وهي دليل يرجح من خارج ، فَيُبِينُ عن مراد المتكلم الذي يخفى إذ قَامَ بِالنَّفْسِ ، فَنَابَ عنه في الْبَيَانِ ما استقر من عرف اللسان ، ومنه المعجم المركب والسياق المركب ، فالمتكلم يستعمل منه ما يُوَاطِئُ المعنى الذي يريد ، فهو يُظْهِرُ ما قام بالنفس من المراد والمدلول ، فَرَجَّحَ بالإرادة إذ اختار هذا اللفظ دون غيره ، وسلك به جادة من النظم دون غيرها ، فَوَحْدَهَا ما يبين عن مراده ، إن نصا يجزم ، أو ظاهرا من الدلالة يُسْتَصْحَبُ ، وهو الراجح الذي يصدر عنه الناظر في دَرَكِ المرادِ ، إلا أن يكون ثم قرينة معتبرة تُرَجِّحُ ضِدًّا يخفى من المؤول ، فهو المرجوح ، وإن كان المحتمَل في العقول ، فلا ينصرف إليه المستدل ، بادي النظر ، فَلَيْسَ رَاجِحًا يظهر ، بل ثم من خفائه ما استوجب القرينة المرجحة ، فهي تُبِينُ عَنْهُ وَتُظْهِرُ ، وَتُصَيِّرُهُ الرَّاجِحَ ، وإن كان المرجوحَ لَدَى المبدإِ ، وذلك مما استوجب نظرا آخر أخص فهو يَتَنَاوَلُ ما دَقَّ من العرف المتداول ، فَثَمَّ منه طرق في البيان تَلْطُفُ ، وهي ما استوجب آخر من الاستقراء والجمع ، ثم النظر والسبر الذي يُحَرِّرُ طُرُقَ البيانِ والاستدلالِ ، فَمِنْهَا مَا يُفِيدُ المعنى الأول الذي يَظْهَرُ ، كما مدلولُ النحوِ ، ومنها ما يزيد معنى ثَانِيًا يدق ، كما مدلول البيان الأخص ، وَكُلُّ أولئك ما يحكي أولا قَدْ قَامَ بِالنَّفْسِ ، فذلك المعنى الذي أَرَادَ المتكلِّم ، وليس لِإِدْرَاكِهِ سَبِيلٌ تُسْلَكُ إلا معالجة العرفِ الذي به نطق المتكلم ، فلا يُفَسَّرُ كلامه بآخر قد حدث بعدا ، فذلك ما لا يكون إلا أن يقصر المعنى الأول على الجيل المتقدم الذي وَرَدَ النص بِلِسَانِهِ ، فلا يجاوزه إلى آخر قد خلف ، لَمْ يَرِثْ من السلف إلا الرمز المحتمل ، ولو كان ظاهر الدلالة في المعجم الأول بل منه نص يجزم ، فالتأويل الباطن قد أتى على كلٍّ ، الظاهر والنص ، قد أتى على كلٍّ بالإبطال ، فَثَمَّ تفكيك يَبُتُّ الصلة بين الدوال والمدلولات ، فصار الكلام ذو الدلالة الراجحة ، صَارَ المحايد الذي يحتمل ، فهو الدالة بِلَا دَلِيلٍ ، فليس إلا الصوت أو الحرف الذي يُكْتَبْ ، وليس ثم من المدلول ما يثبت ، إذ العرف الأول قد نُسِخَ ، فَانْقَرَضَ بانقراضِ جيله ، وهو ما عَمَّ معجمه واشتقاقه ونحوه وبيانه ، فلم يرث الخلفُ إلا رمزا قد استغلق ، فلا مدلول له في الكلام يَرْجُحُ ، ولو المطلق المجرد في الذهن ، فليس إلا النسبية التي تحتمل ، ولها من التأويلات ما اختلف ، فَكُلُّ جِيلٍ يُضَمِّنُ الدالة مدلولا يواطئ عرفه المحدَث ، وإن أتى على الأصل الأول بالإبطال ، فكان من ذلك تفكيك قَبْلَ التضمين ، تضمينِ الكلام وقد صَارَ الرمز أو الدالة المجردة من المدلول ، تَضْمِينَهُ جديدا يواطئ عرف المتأخر ، فلا يكون ذلك إلا يَبْطُلَ عرف المتقدم ، وإن ورث عنه نصا ، فهو الرمز أو الصوت المجرد ، فلا إرادة لصاحبه في الاستدلال ، ولا معجم ولا نحو ولا بَيَانَ إِلَيْهِ المأثور يُرَدُّ ، بل ليس ثم ، كما تقدم ، إلا الصوت والرمز ، وهو ما اقترح له المتأخر بِنْيَةً من الكلام تواطئ عرفه المحدَث ، فاقترح جديدا من المعجم والاشتقاق والنحو والبيان وطريقة في الكتب والإملاء ، وهو ما يُفْضِي إلى اندثار اللسان الأول ، وَصَيْرُورَتِهِ أَثَرًا بعد عين ، فهو سِرٌّ يُكْتَمُ ! ، فلا يعلمه إلا الحبر والكاهن ، ومن اشتغل بِدَرْسِ اللسان المنقرِض ، فلا يكون منه لسانٌ حِيٌّ يُتَدَاوَلُ ، فليس إلا لهجات محدثة ، لها نسبة أولى إلى اللغة تثبت ، ولكنها في كلِّ تالٍ من الجيل تضعف حتى تُبَتَّ فَتَنْقَطِعَ ، فلا يكون من عموم الجمع ما يفقه اللسان الأول ، فليس ذلك ، كما تقدم ، إلا درس الخاصة في المكتب ، أو آخر في المتحف من المخطوط ! ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، غاية لمنهاج الحداثة ، سواء أصرح أم كان من ذلك لَوَازِمُ من مذهبه تثبت . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
عربي الأصل أعجمي اللسان | الطالب | مُضطجَع أهل اللغة | 8 | 10-10-2015 10:05 PM |
عيّ اللسان ورداءة البيان | محمد سعد | حلقة الأدب والأخبار | 3 | 29-03-2011 03:48 PM |
هل من دراسة عن علوم اللسان العربي ؟ | فارس موسى | أخبار الكتب وطبعاتها | 3 | 29-03-2011 03:47 PM |