الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فهذه شَذَراتٌ التقطتُها من كتاب «
التبيان في أقسام القرآن»، للإمامِ ابنِ قيِّم الجوزيَّة -

تعالَى-، وأسألُ الله -عزَّ وجلَّ- أن ينفعَ بها.
السِّرُّ في ذِكْرِ ثمودَ دون غيرهم من الأُممِ في سورةِ الشَّمسِ
نَقَلَ الإمامُ ابنُ القيِّمِ عن شيخِهِ ابنِ تيميَّةَ -رحمهما الله تعالَى- السِّرَّ في هذا؛ فقال: (وذكر في هذه السُّورةِ ثمود دون غيرهم من الأُممِ المكذِّبة؛ فقال شيخُنا: هذا -والله أعلمُ- مِن باب التَّنبيهِ بالأدنَى علَى الأعلَى؛ فإنَّه لَمْ يكُن في الأُممِ المكذِّبة أخفُّ ذنبًا وعذابًا منهم؛ إذْ لَمْ يُذْكَرْ عنهُم من الذُّنوبِ ما ذُكِرَ عن عادٍ، ومَدْينَ، وقَوْمِ لوطٍ، وغيرِهم...).
وظَهَرَ للإمامِ ابنِ القيِّمِ -

- معنًى آخَرَ؛ يقولُ:
(قلتُ: وقد يظهرُ في تخصيصِ ثمودَ ههنا بالذِّكر دونَ غيرِهم معنًى آخَرَ؛ وهو أنَّهم رَدُّوا الهُدَى بعدَمَا تيقَّنوهُ، وكانوا مُستبصِرينَ بهِ، قد ثَلِجَتْ له صدورُهم، واستيقظَتْ له أنفسُهُم، فاختارُوا عليه العمَى والضَّلالةَ؛ كما قالَ تعالَى في وصفِهم:

وأمَّا ثمودُ فهديناهُمْ فاسْتَحَبُّوا العَمَى علَى الهُدَى

، وقال:

وآتينَا ثَمودَ النَّاقةَ مُبْصِرةً

؛ أي: مُوجبة لهم التَّبصرةَ واليقين، وإن كانَ جميع الأممِ المُهلَكَةِ هذا شأنهم؛ فإنَّ اللهَ لَمْ يُهلِكْ أُمَّةً إلاَّ بعد قيام الحُجَّة عليها؛ لكن خُصَّتْ ثمودُ من ذلك الهدى والبصيرة بمزيدٍ؛ ولهذا: لَمَّا قَرَنَهم بقومِ عادٍ؛ قال:

فأمَّا عادٌ فاستكبَروا في الأرضِ بغيرِ الحقِّ وقالوا مَنْ أشدُّ مِنَّا قُوًّةً

، ثمَّ قال:

وأمَّا ثمودُ فهديناهُمْ فاسْتَحَبُّوا العَمَى علَى الهُدَى

؛ ولهذا: أمكنَ عادًا المكابرة، وأن يقولوا لنبيِّهم:

ما جِئتَنا ببيِّنةٍ

، ولم يُمكن ذلك ثمود، وقد رأوا البيِّنة عِيانًا، وصارَتْ لهم بمنزلة رؤية الشَّمس والقمر؛ فردُّوا الهدى بعد تيقُّنه، والبصيرةِ التَّامَّةِ؛ فكان في تخصيصهم بالذِّكر: تحذيرٌ لكُلِّ من عرفَ الحقَّ ولم يتَّبِعْهُ، وهذا داءُ أكثر الهالكينَ، وهو أعمُّ الأدواءِ، وأغلبُها على أهلِ الأرض. واللهُ أعلم) انتهى.