ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 31-08-2024, 06:47 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 34
افتراضي المضاهاة في الخلق

ومن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً»" فذلك مما ذُمَّ مِنْ خَلْقِ الصوَرِ لا الحقائق ، فلا أحد ، بداهة ، يطيق خَلْقًا يضاهي خلق الله ، جل وعلا ، لحقائق في الخارج ذات حياة أخص ، فذلك سر الروح وهي الأمر المغيَّب ، أمر الرب المهيمن ، جل وعلا ، وهو ما خُصَّ بأدلة أخرى قد قَصَرَتِ الذَّمَّ والتحريم عَلَى ذِي الروح من الإنسان أو سَائِرِ أجناسِ الحيوانِ ، وَثَمَّ من القرينة ما يشهد لهذا التأويل الذي قَيَّدَ الخلق المذموم بالصورة لا بالحقيقة ، فلم يكن من ذلك ما يُقْتَرَحُ بلا دليل ، بل ثم من قرينة السياق ما يشهد ، فـ : "لْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً" ، فالخلق الذي وقع به التحدي : خَلْقُ الأعيانِ لا مضاهاة الصور في الخارج ، فَنَهَى عن الخلق الأول تصويرا إذ يُضَاهِي به فِعْلَ الخالق الأول ، جل وعلا ، تقديرا وتكوينا ، والخلق الثاني : خلق التكوين ، أن يخلق ما يضاهي الحقائق في الخارج ، ولو حَقُرَتْ ، فكان من التحدي بها ما تَنَوَّعَ ، فَثَمَّ في الخبر ، الذرة والحبة ، فَمِنْهَا الحي وهو الذرة ، وتلك النملة الصغيرة في لسان العرب الذي نَزَلَ به الوحي ، أو هي الهباء الذي يدق ، فليست بداهة ما كان في الجيل المحدَث من ذلك الجسيم الدقيق الذي لا يدرك بالحس المجرد ، وهو الوحدة التي منها الأعيان في الخارج تأتلف ، وإن تناول المعنى المعجمي المطلق ذلك ، فَتَنَاوَلَ العمومَ المستغرِقَ لِمَا دَقَّ من الأعيان ، لا تَنَاوُلَ الخصوص الذي يجري مجرى العهد ، فيتناول واحدا من آحاد الجنس المجرد في الذهن ، جنس الدقيق الذي لا يدرك بالحس ، فمنه الذرة في الاصطلاح المحدَث ، وذلك ، أيضا ، مما به قلب الدليل على منكر الغيب ، فإن منه النسبي في هذا العالم المحدَث ، فليس كله المطلق الذي يجاوزه بما سَبَقَ قَبْلَ الخلقِ ، وما يَعْقُبُ بَعْدَ الموت ، بل من الغيب نِسْبِيٌّ في هذا العالم المحدَث ، فلم يكن كشف الذرة في الاصطلاح المحدَث ، لم يكن ذلك ، بداهة ، خلقا لها من العدم ، بل كان من وجودها أول يَثْبُتُ ، ثم كان من البحث والتجريب ما يُظْهِرُ ، فَلَمْ يَسْتَأْنِفْ خَلْقًا لها يُضَاهِي ، ولا بَدْعًا لا عَلَى مِثَالٍ يَسْبِقُ ، وإنما أظهر ما كان أولا يَثْبُتُ ، فكان من الغيب ، ولم يكن عدم دركه بالحس ذريعة أن يوصف بالعدم ، فليس كل ما جاوز الحس عدما ، بل منه الموجود الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ في عالم الشهادة ، فَقِسْمَةُ اللسانِ تُجْرِي الطباق في هذا الباب بين الموجود والمعدوم ، لا بين الموجود والمغيب ، فليس المغيب يعدل في الحد المعدوم ، والقسمة من وجه آخر قسمةُ : المشهود والمغيَّب ، فهما قسيمان لجنس أعلى يستغرق ، جنس الوجود المجرد في الذهن ، فمنه المغيب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، ومنه المشهود الذي يُدْرَكُ ، وليس عدم الإدراك للمغيب دليلا على عدم وجوده بالفعل ، بل هو موجود وإن لم يدرك بالحس فلا يطيق ذلك إذ له مدى يحد ، فلا يجاوزه في الإثبات ولا في النفي ، وإنما يَتَوَقَّفُ ، إذ ليس ثم دليل منه يرجح ، فدليل الحس إنما يرجح الترجيح المعتبر في المشهودات لا في المغيبات ، فهو دليل ناصح في العلوم والمعارف ، فذلك حق لا يجحد وإلا بطل التجريب والبحث كافة ، ولكنه ، من آخر ، ليس الدليل الأوحد ، بل وليس في الباب الأول ، فَثَمَّ من المغيَّب كثير لا يطيقه ، بل وهو الأكثر ، فما أوتي الخلق من العلم إلا قليلا ، ولو في المعلوم من هذا العالم المحدَث ، فما لم يظهر من أعيانه وَسَنَنِهِ فهو أكثر ، بل وما ظهر منها فلا يَنْفَكُّ يجري عليه قلم التعديل في نظريات ومبادئ قد كانت قَبْلًا الثوابت ، بل والقواطعَ ، ثم تلا من الآلة ما اسْتُحْدِثَ ، وبه ثَبَتَ ضد من الخطإ ، بل والسفه في مواضع ، أَنْ قَبِلَ الناظر ، بادي الأمر ، ذلك ، بل وعده الأصل المحكم الجامع ، واعتبر بفرض التطور ، وقد صار عقد دين محكم لا مثال بحث وتجريب محدَث ، فَكَانَ من الوسواس ما زَيَّنَ بِجُمَلٍ من الفرض ، ليست إلا الزخرف من القول ، فليس إلا فرضا قد اقترحه ناظر ، فانتحله أصلا في علم الحياة فهو الجامع ، ولم يجاوز به حد الحس المحدث فليس إلا الجسد الكثيف ، فلا روح تجاوز ، إذ لم تدرك بالحس ، فلم يرصدها التجريب والبحث الذي صار عمدة الاستدلال المحدَث ، وهو ما ظهرت آثاره بعد في عُلُومٍ تَتَنَاوَلُ ما لَطُفَ من الأحوال ، أحوالِ النفوس ، فلم يجاوز بها الدرس المحدَث حَدَّ الخارجِ ، فَثَمَّ قياس على سلوك الحيوان إذ لا يستجيب إلا لما يُحَرِّكُ الغريزة من اللذة والألم ، فكان من علم النفس ، كما يذكر بعض من حقق ، علم النفس الموضوع من خارج الذات على قاعدة التجريب والبحث الذي لا يجاوز الحس ، فلا يرصد إلا ظواهر وأشكالًا لِلسُّلُوكِ في الخارج تظهر ، وهو ما اشترك فيه الإنسان الناطق والحيوان الأعجم ، فَبَطَلَ القدر الفارق إِذْ لِكُلٍّ جَسَدٌ قد رُكِزَتْ فِي غَرَائِزِ الحسِّ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلِ العلمُ ما جاوز من الروح إذ لم يدركها التجريب والبحث ، فكان التحكم الذي تقدم في مواضع ، أن صار عدم العلم علما بالعدم ! ، فلم يجاوز بَحْثُ النَّفْسِ : سلوكَ الجسدِ إذ يستجيب لمؤثر من خارج يُرْصَدُ بالحسِّ ، فليس ثم موضوع من خارج الحسِّ يَلْطُفُ ، فيكون من حقيقتِه ما يجاوز الجسد المحدَث ، فصار علمُ النفس اللطيف : علم الجسد الكثيف ! ، تسوية بين مختلفين ، وهو ما يَنْقُضُ القياس الصريح ، فلم يكن في هذا الدرس النَّفْسَانِيِّ المحدَث حقيقةٌ تجاوز الجسد المدرَك بالحس ، وهو ، ولو مِثَالًا يُقَرِّبُ ، جَارٍ على مذهب حلولٍ واتحادٍ محدَث ، إذ نَقَلَ المذهب من الحس إلى المعنى ، فلا معنى يجاوز المادة ، فقد اتحد بها ، فصارت هي الحقيقة الثابتة في نَفْسِ الأمر ، فلا حقيقة في الخارج تُجَاوِزُهَا ، فإذ لم يدرك الحس إلا هي ، فَلَيْسَ ثم حقيقة إلا هي ! ، فكذا الروح ، وإن لم تكن معنى مجردا في الذهن ، فلها حقيقة في الخارج تجاوز المجرَّد الذهني ، فكذا الروح ، فإنها تضاهي المعنى في وصفِ اللُّطْفِ والخفاءِ ، وإن فارقته في آخر ، فليس الروحُ المعنى المجرَّدَ في الذهن ، وإنما لها ، كما تقدم ، حقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، وإن لَطُفَتْ فَلَمْ تُدْرَكْ بالحسِّ ، فكان من الحلول والاتحاد المحدَث ما طَرَدَ هذا الأصل ، إذ نَظَرَ في الروح نَظَرَ التجريدِ والإطلاق في الذهن ، فقد سلكوا هذه الجادة في حَدِّ الخالق الأول الذي صدر عنه هذا الكون ، فَقَالُوا بالمطلقِ بشرطِ الإطلاق أولا عنه هذا العالم المحدث قد صدر ، وإن كان ذلك المطلق الذي اقترحوه عَدَمًا فلا وجود له يجاوز الذهن الذي يجرد الأجناس والكليات الجامعة ، فَسَلَكُوا هذه الجادة التجريدية في حد الخالق الأول ، أفلا يسلكونها في الروح وهي المحدثة ؟! ، فذلك ما جاز في مذهبهم من باب أولى ، وقد طَرَدُوهُ في الباب ، فَكُلٌّ معنى يُجَرَّدُ في الذهن ، فلا حقيقة له في الخارج تجاوز ، وكلٌّ لطيفٌ لا يدرك بالحس ، فليس يثبت في نفس الأمر ، وإنما حل وَاتَّحَدَ بالكثيف الذي يعالجه الحس ، فلا حقيقة سواه تجاوز ، فكانَ كُلُّ درسٍ معتبر : مَا لم يجاوز الحس المحدَث ، وإن في أحوال النفوس التي تَلْطُفُ ، وما يَعْرِضُ لها من فرح أو حزن ، فتلك معان تجاوز الحس ، وإن وجد آثارها في نشاط أو فَتْرَةٍ ، في همة أو انفساخ عزم ، مع ما يصيب البدن من اللغوب ، وإن لم يكن ثم سبب في الخارج محسوس ، فَيُجَابُ صاحبه بِأَنَّ ذلك من جهد النفوس ، فلا تنفك آثارها تصيب الجسوم فتمرض ، وإن كان من السبب ما لَطُفَ فلا يدرك بالحس المحدث ، واضرب له المثل بالسحر والحسد ... إلخ من أسباب تَلْطُفُ ، وهي ، مع ذلك ، في الأجسام تُؤَثِّرُ ، فَتُمْرِضُ بل وَتَقْتُلُ ، وإن لم يكن من ذلك سبب يظهر ، فالحس لا يدركه ، وليس ذلك سببا في عدم الوجود في نفس الأمر ، فلا ينفك يطلب من الدليل المثبِت لآخر يجاوز الحس ، فكان من الآي المحكم ما أثبت ، فـ : (يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) ، وعلى هذا فَقِسْ في كل مَا يُصِيبُ النفوس من هم وحزن ، فليس التجريب والبحث يرصده ، وإن رصد آثاره في الخارج بما يكون من مرض الجسوم وَنَصَبِهَا لما يَنَالُهَا من الأحزان والهموم ، ولا تنفك آثاره بالحس تُرْصَدُ بما يكون من اضطراب في الإفراز والنبض ، فيستجيب الدماغ المدرَك بالحس لما لطف من معان تَقُومُ بِالنَّفْسِ ، فالعقل ، وهو وصف الروح التي تَلْطُفُ ، لا تنفك آثاره في الخارج تظهر بما يكون في الدماغ من زيادةٍ في الإفراز أو نَقْصٍ ، فليس ذلك سبب الاعتدال أو الاضطراب الأول ، وإنما له أول يَسْبِقُ ، وهو ما لَطُفَ فَلَا يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، لا جرم كان من درس النفوس الذي قَصُرَ فلم يجاوز السلوك ، سلوك الجسد في الخارج ، كان منه علاج العرضِ لا الأصلِ ، على قاعدة قد استوى فيها الإنسان المتكلِّم والحيوان الأعجم ، فَثَمَّ علمٌ قَدْ تَنَاوَلَ دقائِقَ النَّفْسِ ، فَشُيِّدَ على أصول تجريب وبحث لم تجاوز الحيوان بما يكون من استجابة لمؤثِّرات من خارج ، فلا تجاوز الغرائز ، وهي مما يرصده التجريب والبحث ، فصارت المادة هي الأصل ، فلا معنى يجاوزها ، فالحزن والفرح ..... إلخ ، كل أولئك من المعاني التي لا تدرك بالحس ، وإن أدرك آثارها بما يكون من إفرازٍ وَنَبْضٍ ، فلا يكون ذلك هو السبب الأول ، بل هو تال بعد أول يَلْطُفُ ، فلم يكن الإفراز والنبض أوَّلًا ثم الحزن أو الفرح تَالِيًا ! ، وإنما كان الشعور اللطيف الذي تعالجه الروح وتدركه غَرِيزَةُ العقل ، وهي ، كما تقدم في موضع ، وصفُ الروح اللطيف ، ثم كان من الأثر الأول ما يكون من إفرازٍ وَنَبْضٍ في الدماغ يرصد ، وكذا ما يكون بَعْدًا من آثار في الأعضاء ، إن بالعافيةِ أو بالمرضِ ، فلا يكون الحس هو المبدأ في أمراضِ نُفُوسٍ تَلْطُفُ ، فتلك أعراضٌ أو صفاتٌ تَطْلُبُ من المحل ما يواطئ ، فلها محل لطيف يجاوز ، فَثَمَّ الروح اللطيف وما لها من غَرِيزَةِ التَّعَقُّلِ لمعان لا يتناولها الحس من الفرح والحزن ...... إلخ ، وهو ما خالف عنه العلم المحدث ، وإن تناول النَّفْسَ التي تَلْطُفُ ، فلم يجاوز في التجريب والبحث الجسد المدرك بالحس ، لا جرم انصرف إلى جنسِ الحيوانِ الأعجم أن يرصد الاستجابة لمؤثر من خارج لا يجاوز الحس ، فغايته غاية الحكمة الأولى : درك اللذة ودفع الألم ، أو ما اصطلح بَعْضٌ أنه السعي من أجل المتعة والهرب من الألم ، انحطاطا من درجة التكليف المنزل إلى دَرَكَةِ الحسِّ المحدث ، فتكون حياة الأبدان هي الأصل ، وإشباع غرائزها هو الغاية ، وإن لم تُشْفَعْ بأخرى أشرف ، حياة الروح ، وهي ما استوجب مدافعة الغرائز لا على حد الغلو الذي يفسد المزاج وَيُعَطِّلُ القوى المركوزة في الجسد ، فإنها لم تُرْكَزْ عَبَثًا ، بل لها من ذلك ما يَنْفَعُ ، حفظ مقاصد من الشرع تَنْصَحُ كما حفظ النفس بالطعام والشراب ، وحفظ النوع بالمباضعة والنكاح ، لا جرم كان لها من حكم الوحي ما اعتبر ، فلم تُبْعَثِ النبوات لإخماد الغرائز ، وإنما بُعِثَتْ بِرَسْمِ التهذيبِ الذي يسلك بها جادة الاعتدال ، فلا غلو ولا جفاء ، وهو ، بعد ، يأطرها على جَادَّةٍ من الأحكام والآداب تنصح ، فَتَمِيزُ الإنسان المكلَّف من الحيوان الأعجم ، فكان من درس النفس في منهاج النبوة والوحي ما عالج المحل ، وهو الروح ، وتناول ما يَعْرِضُ له من سبب يَلْطُفْ ، فلم ينصرف إلى معالجة الأثر بما يكون من استجابة الجسد ، فيكون من ذلك إفرازٌ وَنَبْضٌ يزيد أو ينقص ، فذلك اضطراب يُدْرَكُ بالحسِّ ، ولا سبيل إلى إنكاره ، فَلَهُ في الباب اعتبار ، وله من الدواء ما يضبط ، فَيَعْتَدِلُ سلوك الجسد ويزول الاضطراب الظاهر ، وليس ذلك الدواء الشافي حتى يكون ثم علاج لأصل الداء ، فَثَمَّ من الروح ما مَرِضَ بما طرأ من الحزن والهم ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، معان لا تدرك بالحس الظاهر وليس يتناولها التجريب والبحث ، فهي معان تجاوز ، كما الروح ، وهو المحل الذي تقوم به ، فهي محل لطيف يجاوز البدن الكثيف ، وهو له يجاور ، بل وَيُخَالِطُ ، فَثَمَّ من الروح ما بُثَّ في الجسد ، وبهما ، كما يقول بعض من حقق ، اتحاد وائتلاف لا نظير له في الحس ليقاس عليه ، والروح ، مع ذلك ، تغاير الجسد في الحقيقة والكيف ، فهي تفارقه فتصعد ، وهي تتصرف في النوم بأجناس من الرؤى وأحاديث النفس والأحلام ..... إلخ ، ولم تفارق ، مع ذلك ، البدنَ ، وإن ضَعُفَ اتصالهما في النوم ، فإذا استيقظ النائم قوي الاتصال ، وبه كانت الحركة والإرادة التي تختار اختيار المكلَّف ، إذ ثم أول من التصور ، وحكم تال في الخارج يُصَدِّقُ ، صَحَّ أو فَسَدَ ، وهو الاختيار لا الجبر ، لا جرم كان التكليف بالفعل والترك ، والوعيد والوعد ، فَثَمَّ ثواب وعقاب ، ولا يكون ، بداهةً ، في حق نائم لا يعقل ، وإن كان من الروح العاقل ما اتصل بالبدن ، فليس اتصالا به التكليف يحصل ، وإنما اتصال به الحياة تَثْبُتُ ، فلا يفسد الجسد كما حاله بعد الموت إذ فارقته الروح فلا اتصال ، فكان من جوهرها اللطيف ما فَارَقَ الجسد الكثيف ، فليس الأمر ، كما قال بعض من نظر ، تصرف التدبير والتصريف من خارج ، فتكون الروح كالملك مع الرعية ، فالقلب ، كما يقول بعض من حقق ، مَلِكٌ والأعضاء جنود عنه تصدر ، وبأمره تَعْمَلُ وذلك مثل يضرب ، وله اعتبار في تقريب المعنى ، كما في الخبر المحكم : "أَلَا وَإِنَّ فِي الْإِنْسَانِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" ، إذ الروح هي الأصل الحاكم ، والجسد فرع عنه فهو التَّابِعُ ، فالقول إن الروح من الجسد كالملِك من الجند ، ذلك مما صح ضربا لِمَثَلٍ يُقَرِّبُ ، ولكنه لا يحد الحقيقة الحدَّ الجامع المانع ، فَثَمَّ من اختلاط الروح بالجسد ما جاوز اختلاط الملِك بالرعية والجند ، فَلَهُ حقيقة تغاير حقيقتهم ، وليس ، كما يقول بعض من حقق ، يحس بلذة أو ألم يباشره كُلٌّ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، فلا يصدق ذلك في الروح ، إذ تمازج البدن ، وكذا المثل الذي اقترحه بعض أنها كالطعام والشراب ، فذلك مما له مدخل ومخرج مخصوص فليس يمتزج بالجسد امتزاجَ الروح به ، أو ما ضُرِبَ مَثَلًا من الدم الذي يجري في العروق فلا يباشر الجسد كله ، فثم مواضع ، ولو دقت ، لا يصلها الدم ، كما الأظفار ، فهي مما يصلب ، وإن كان تحتها من أوعية الدم ما يَغْزُرُ ، ومن العصب ما به الألم يحدث حال الكسر أو الخلعِ أو نحوه ، وكذا يقال في الأسنان ، فالعاج الذي يظهر لا دم فيه يجري ، وإن أحاط بِلُبٍّ فيه الدم والعصب ، وهو مصدر النزف والألم ..... إلخ .
والشاهد أن ممازجة الروح للبدن مما جاوز المثل آنفة الذكر ، فما يقع عليه من لذة أو ألم فهي تجده إذ تُبَاشِرُ ، وإن كانت في أسباب الحس : التَّابِعَ ، فسبب الحس يعالجه الجسد مبدأ الأمر ثم يكون من ذلك آثار في الروح تظهر ، وبه تحصل اللذة ، صحيحة أو فاسدة ، وليست تجزئ في حَدِّ فكرة تنصح ، بل هي سكرة تعرض وَتَزُولُ ، وبعدها يقظة الروح ، لا جرم كان المعنى أصلا يميز الإنسان المكلف من الحيوان الأعجم ، فالحس في هذا العالم المحدث مما يَسْبِقُ ، وإن كان ثم من قوة الروح ما يجاوز ، واعتبر بما يجد طالب المجد من آلام يعالجها الحس ، فلا يلتفت إليها فقد عظم مطلوبه فجاوز الأجساد ، كما نظم أبو الطيب فأجاد ، فـ :
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ .

فثم نفوس كبيرة ، والأجساد لها تَبَعٌ ، فلا التفات لما تَجِدُ من كَبَدٍ وَنَصَبٍ ، فثم مطلوب أشرف من المعنى الذي امتاز به الإنسان المتكلم من الحيوان الأعجم الذي لا تجاوز مداركُه حسَّه المحدث ، لا جرم لم تجاوز غايته ما يدرك بالحس ، فالإنسان قد جاوز ذلك أن يحيى بالروح ما لا يحيى بالجسد ، وإن كان من حياة البدن ما اعتبر ، فهو تال لحياة تجاوز ، حياة الروح ، وهي الأصل ، إن في المعنى الذي يشرف ، بل وفي حركة الجسد التي تُرْصَدُ بِالحسِّ المحدث ، فإن ثم جوهرا يلطف من الروح قد مازج البدن الكثيف ، فإذ فَارَقَهُ ، فَارَقَهُ التكليف بما وجب من التصديق والامتثال ، وفارقته الحياة فَتَغَيَّرَ وَفَسَدَ ، فالروح سبب ، إِنْ في الفكرة التي تَلْطُفُ أو في الحركة التي تظهر ، وإن كانت تَتْبَعُ الجسد في أسباب الحس بما يعالج أولا من لذة أو ألم ، فالروح تسبق في أسباب المعنى من الفكرة التي تَبْعَثُ صاحبها أن يَتَقَحَّمَ الآلام طلبا لغايات تشرف فهي مما جاوز الجس المحدث ، فلا اعتبار بما تجده الجسوم من الآلام والجروح ، والروح بَعْدُ مِمَّا يَقْدُمُ في دار أخرى تعقب ، ففي البرزخ جزاء يعدل ، إن نعيما أو عذابا ، وهو مما تناول الحقيقتين جَمِيعًا : الروح والجسد ، على خلاف قد ساغ إذ ثم من قَصَرَ ذلك على الروح لا أنه ينكر معاد الأبدان ، وإنما يحكي ما يكون في دار البرزخ ، لَا ما يكون في دار حساب وجزاء تَعْقُبُ ، فَلَيْسَ قصرُه الجزاء في دار البرزخ على الروح ملزوما لازمه أن يطرد ذلك في دار تعقب ، دار الحساب والجزاء الأوفى ، بل لكلِّ دارٍ حكوماتها التي تميز ، وذلك قياس العقل الصريح ، أن يكون لكلِّ محلٍّ من الأحوال ما يواطئ ، وإن كان الراجح في جزاء البرزخ أنه ، أيضا ، مما عم الروح والجسد مَعًا ، فالروح فيه تُقَدَّمُ سواء أوقع الجزاء على الجسد بعدا ، وهو الراجح ، أم اقتصر في البرزخ على الروح ، فإذا كان البعث الآخر ، معاد أرواح وأجساد ، فذلك مما لا يسوغ فيه الخلاف ، بل ثم من إنكار البعث الجسماني ما يَنْقُضُ الأصل الإيماني ، كما اسْتَقْرَأَ بَعْضُ من حَقَّقَ أسبابًا بها يُحْكَمُ بالمروق على بَعْضٍ قد انتحل الحكمة الأولى ، فَقَصَر البعث على الأرواح العالمة دون أخرى جاهلة ، فإذا كان البعث الآخر كانت الروح والجسد معا ، وكان من الحال ما كمل ، إن في النعيم أو في العذاب ، فَاسْتَوَيَا في دَرَكِهِ ، فالجسد ، كما يقول بعض من حقق ، سابق في أسباب الحس في هذا العالم المحدَث ، والروح سابقة في دار البرزخ ، وكلاهما قد استوى في دار الحساب والجزاء ، فَثَمَّ روح تجاوز الجسد ، كما المعنى يجاوز المادة ، وإنما انحطت مداركُ الخلقِ إذ جحدوا ما جاوز من مرجع الوحي ، وهو المعنى الذي يثبت من خارج الذوات ، فكان من جحد المعنى ما صدر عنه المذهب المحدَث في الجيل المتأخر أن يجحد المرجع المجاوز من خارج الحس ، فلا معنى يجاوز المادة ، ولا وحي يجاوز العقل والحس ، ولا روح تجاوز الجسد ، وهو المادة المدركة بالحس ، فهو الحقيقة التي تناولها البحث ، ولو في علوم النفس فلم يجاوز بها حد القياس والرصد في الخارج ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما انحط بالإنسان إلى دركة الحيوان الأعجم ، إذ لم يجاوز البحث غرائز الحس بما يكون من استجابةٍ لأسبابِ لَذَّةٍ أو أَلَمٍ ، فصارت هي المدرَكاتٌ حصرا ، إذ لا مُدْرَكَ إلا ما يعالجه الحس المحدَث ، تَحَكُّمًا في حد العلم قد تَقَدَّمَ ، أَنْ صار الحس مرجِعَ الإثبات والنفي حصرا ، فما لم يعالجه الحس فلا وجود له في نفس الأمر ، فصار الجهل دليلا على العلم ، وصار عدم الوجدان بالحس المحدث دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، وإن كان ثم دليل آخر يُثْبِتُ ، كما الخبر في باب الغيوب التي لا تُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، فثم انحطاط في التصور ، فلم يجاوز بالإنسان مدارِك الحسِّ المحدَث ، فالجسد هو الأصل في حصول العلوم والمعارف ، لا جرم كان الظلم الذي تقدم ، في الخبر ، فـ : "«مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً»" ، فإن هذا الخالق من البشر قد صَدَرَ عن مرجع الحس المحدَث فلا يجاوز ، فظن أنه للخلق الأوَّلِ يُضَاهِي ، فهو المحسوس حصرا ، فلا روح تلطف ، إذ لم يتناولها الحس ، وإن تناول آثارها على التفصيل آنف الذكر ، فكان من الاستدلال بالمشهود المدرَك بالحس دليل على أول يُؤَثِّرُ ، وهو مما تسلسل حتى انتهى ضرورة إلى سبب من الغيب يثبت ، وهو ما يجاوز المشهود من هذا العالم المحدَث ، ومنه الجسد الكثيف ، فَانْتَهَى هذا العالم المشهود المدرَك بالحس إلى آخر من الروح لا يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، فالناظر يُثْبِتُ المغيَّب الذي جاوز الحس بما كان من دليل العقلِ والفطرة ، وإن توقف في تَعْيِينِهِ حتى يكون من دليل الخبر نص يجزم .
فَجَحَدَ مَنْ جَحَدَ الخلقَ المجاوز لروحٍ في الحقيقة تَلْطُفُ ، فليس الخلق إلا خلق الجسد ، ولو سُلِّمَ له بذلك ، فإنه لا يطيق مضاهاةً له إلا في صورة الظاهر ، وقد يحتال بطرائق من الصنع ، كما الحال في الجيل المتأخر ، فيكون من الصورة ما يتحرك ويتكلم ... إلخ ، بل وله من الذكاء ما يحسن التصرف ، وإن لم يجاوز ذكاء من صنع ! ، فهو الذي يمده بالسبب ، وليس يطيق مع ذلك حكاية معان تلطف من الحب والبغض .... إلخ ، وإن تكلف منها صورة فلا حقيقةَ في نفس الأمر ، إذ لا روح تجاوز هذا الخلق الميت ، فليس إلا مضاهاةً للخلق الأول ، فلا يجاوز صورة تُدْرَكُ بالحس المحدَث ، بل لا يُطِيقُ منها إلا بعضا ، فلا يطيق ما دق من آي في الأبدان ، خلقا قد أعجز ، فذلك مما عم الحس والمعنى كافة ، الروح والبدن ، فلم يكن من ذلك المضاهي إلا حكاية ظاهر ، وليس يطيقه كما الخلق الأول ، فلا يجاوز الصورة ، وإن دَقَّتْ ، لا جرم كان التحدي في آي الذكر المحكم : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، فذلك الأمر الذي يحكي التحدي ، فأروني ماذا خلقوا إلا صورة في الظاهر دون أخرى من الباطن ، إن المحسوس في الأحشاء ، أو المعقول من الأفكار فيصدق فيه أنه خلق ، ولكنه ليس الأتم ، لا جرم كان التحدي بخلق ما دَقَّ مما فيه الحيوات الأخص تَثْبُتُ ، إن حياة الحيوان كما الذر ، أو حياة النبات كما الحب ، فـ : "لْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً" .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
مفارقات بين الخلق والخالق عمر بن عبد المجيد حلقة العلوم الشرعية 0 01-07-2013 12:23 PM
حسن الخلق عمر بن عبد المجيد حلقة العلوم الشرعية 0 03-07-2012 08:23 PM
الخلق الضائع ... أبو سعد المصري مُضطجَع أهل اللغة 0 13-03-2012 02:29 AM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 06:38 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ