ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة العلوم الشرعية
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 05-04-2010, 08:59 PM
أبو محمد فضل بن محمد أبو محمد فضل بن محمد غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Feb 2010
التخصص : شريعة ( الفقه وأصوله )
النوع : ذكر
المشاركات: 487
افتراضي التعليق على ( صفة الارتباط بين العلماء في القديم ) للعلامة المعلمي ـ تفريغ من درس الشيخ صالح العصيمي




الحمدُ لله ربِّ العالَمينَ ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ لهُ وأشْهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسُولُه ، أمَّـا بعدُ :
فهذَا هُو الدَّرسُ السَّابِعُ والعِشْرُونَ مِن بَرنامجِ الدَّرسِ الواحدِ السَّابعِ ، والكِتابُ المقْـرُوءُ فيه هُو : ( صِفةُ الارتِباطِ بينَ العلماءِ في القَديمِ ) لِلعلَّامةِ الـمُعلِّمِـيِّ رحمهُ الله تعالَى ، وقبلَ الشُّرُوعِ في إقرائِه لا بُدَّ مِن ذِكرِ مقدِّمتَينِ اثنَـتَينِ :

المقدِّمةُ الأولَى : التَّعريفُ بالمصنِّـفِ ، وتَنـتَـظِمُ في ثَلاثةِ مَقاصِدَ :
المقصَدُ الأوَّلُ : جَرُّ نَسبِه :
هُو الشَّيخُ العلَّامةُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ يَحيَى بنِ عليٍّ المعلِّميُّ ـ اليَمانيُّ ـ ، يُكنَى بِأبي عَبدِ الله ، ويُعرَفُ بِذَهبِيِّ العَصْرِ ، لَـقَّبه بِذلِكَ العلَّامةُ بَـكْرٌ أبوزَيـدٍ رحمهُ الله تعالَى وعنهُ انـتَـشَرَ (1) .
المقصَدُ الثَّاني : تاريخُ مَولِده :
وُلِدَ سَنةَ ثلاثَ عشْرَةَ بعدَ الثَّلاثِـمائَةِ والألفِ ( 1313 ) .
المقصدُ الثَّالِثُ : تاريخُ وفاتِـهِ :
تُوُفِّي رحمهُ الله تعالَى يَومَ الخميسِ السَّادس مِن شَهرِ صَفَـرَ سَنةَ سِتٍّ وثَمانينَ بعدَ الثَّلاثِـمِائَةِ والألْفِ ( 1386 ) ، ولهُ مِنَ العُمُرِ ثلاثٌ وسبعُونَ سَنةً رحمهُ الله رحمةً واسِعةً (2) .

المقدِّمةُ الثَّانيةُ : التَّعريفُ بالمصنَّـفِ ، وتَنـتَـظِمُ في ثَلاثةِ مَقاصِدَ أيضًا :
المقصَدُ الأوَّلُ : تَحقيقُ عُنوانِه :
اسمُ هَـذِه الـرِّسَالةِ : (صِفَـةُ الارتِـبَاطِ بَـينَ العُـلَـمَاءِ في القَـديمِ ) ؛ فَإنَّها طُبِعَتْ بِهذَا الاسْمِ في حَـيَاةِ
المصنِّـفِ وتَحتَ نَـظرِه .
المقصَدُ الثَّاني : بيانُ مَوضُوعِـه :
موضُوعُ هذه الرِّسالةِ هُو الإشارةُ إلى طَـرَفٍ حسنٍ ممَّا كانتْ تَزخَرُ به الحياةُ العلمِيَّـةُ بِصِلةِ العلماءِ بَعضِهم ببَعضٍ .
المقصدُ الثَّالِثُ : توضيحُ مَنهجِـهِ :
أصلُ هذه الرِّسالةِ محاضَرةٌ ألقاها المصَنِّفُ رحمهُ الله في (دائِـرَةِ المعارِفِ العُـثْمانِـيَّـةِ ) بِمناسبةِ زيارةِ وَفدٍ مِن عُلماءِ الأزهرِ لِلدَّائِـرةِ (3) .
وهيَ مركزٌ علمِـيٌّ أنشأهُ ملُوكُ (حَـيدَرْ آبـادَ الدَّكَـنْ ) في القَرنِ الماضي (4) ، وجَمعُوا فيه علماءَ عِدَّةً لِلقيامِ على نَشرِ الكُـتُبِ النَّافِعةِ ، فـيُعدُّ أوَّلَ مَركزِ تَحقيـقٍ كما يُسَمَّى بِاللِّسانِ المعاصِرِ .
وقد اجتمعَ فيه أكابِرُ (5) مِنهُمْ : عبدُ الرَّحمنِ المعَلِّميُّ (6) و أبو الوفاءِ الأفغاني (7) في آخَرينَ .
وهُو جارٍ فيها على طريقَـةِ المتقدِّمينَ في المحاضَرةِ الَّتي تُـدَوَّنُ أوَّلًا ثُـمَّ تُلقَى ثانيًا لا العَكسَ كما صارَ عليه الأمرُ اليَومَ ، وهيَ بِحسَبِ هذا الوضعِ شَبِـيهةٌ بِالمقالةِ الأدبِيَّـةِ المسْرُودةِ (8.) .

ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظُـرْ مُقَدِّمةَ رسالتِـه ( براءةُ أهلِ السُّنَّـةِ مِن الوَقيعةِ في عُلماءِ الأُمَّـةِ ـ ص : 272 ضِمنَ مجموعةِ الرُّدُودِ ط : دارِ العاصِمَة ) .

(2) انظُـرْ لِلتَّوسُّعِ في تَرجمةِ الشَّيخِ رحمهُ الله تعالَى وجُهُودِهِ العلمِيَّـةِ كتابَ ( الشَّيخُ عبدُ الرَّحمنِ المعلِّمِيُّ وجُهُودُه في السُّنَّـةِ ورِجالِها ) لِـمَنصُور بنِ عبدِ العَزيزِ السَّماريِّ ، رسالةُ ( ماجِستير ) بِإشرافِ الشَّيخِ العلَّامةِ عبـدِ المحسِنِ العَبَّادِ ، ط دار ابنِ عَفَّان بالسُّعُودِيَّـةِ .

(3) وذلِكَ سَنَـةَ 1365 ، وكذلِكَ ألْقَى غيرُه مِن منسُوبي الدَّائِرةِ وبعضُ أفرادِ الوفدِ الزَّائِرِ كلماتٍ بِهذِه المناسَبةِ ، ثُـمَّ جُمِعت الكلماتُ في مجموعٍ واحدٍ وطُبِعتْ في الدَّارِ بِعُنوانِ ( رسَالةٌ عِلمِـيَّـةٌ تاريخيَّـةٌ نُشِـرَتْ تذكاراً لِورُودِ البِـعثةِ الأزهريَّـة إلى عاصِمَة الدَّولةِ الآصِفِـيَّـةِ ) . انظُرْ مُقَدِّمةَ الرِّسالةَ .

(4) أسَّسها بِأمرٍ مِن سُلطانِ الدَّولةِ الآصِفِيَّـةِ ـ في ( حَيدَرْ آباد ) الواقِعةِ جنُوبَ شرقِ الهِندِ بِمُحاذاةِ خليجِ البَنغالِ ضِمنَ مدُنِ منطقَـةِ ( الدَّكَنْ ) الواسِعةِ ـ ( محبُوب علي خان بَهادُر ) الملقَّبِ بـ ( نِظامِ الملكِ آصِفجاه السَّادِس ) وزيرُ معارِفه سَـنةَ 1308 وتَولَّى رِئاسَتها ، بِإشارةٍ وحضٍّ مِن قِبَلِ ناظِر المعارِف ( النَّواب حُسين البلجْرامي ) وجماعةٍ منِ العلَماءِ ، وسُمِّيتْ أوَّلَ إنشائِـها ( دائِرةَ المعارِفِ ) وطُبعَ فيها بعضُ الكُتُبِ ، ثُـمَّ أنشِئَ فيها سَنةَ 1338 ( مركَـزُ تَحقيـقٍ ) بِاسمِ ( دارِ تَصحيحِ الكُتُبِ ) بِأمرٍ مِنَ السُّلطانِ السَّابِع لِلدَّولةِ الآصِفِيَّـةِ ( مِيرْ عُثْمان علي خان ) وإليه نُسِبَتْ الدَّائِرةُ فسُمِّيتْ بعدُ ( دائِرةَ المعارِفِ العُثمانِـيَّـةِ ) . انظُر : ( مقالة تأريخِيَّـة تَحتَوي على أخبارِ جمعِيَّـةِ دائِرةِ المعارِفِ العُثْمانِيَّـةِ ) نَشْرةٌ صدَرتْ عنِ الدائِرةِ وطُبِعتْ فيها سَنةَ 1354 .
وكما أنَّ هذِه الدَّارَ جمعَتْ ضِمنَ منسُوبيها الصَّالِحَ والطَّالِحَ فكذلِكَ كانتْ تطبعُ الغَثَّ والسَّمينَ ، بلْ مِن أوائِلِ مطبُوعاتِها ( إعجازُ البَيانِ ) لِصَدرِ الدِّينِ القَوْنَوِيِّ ، ربيبِ ابنِ عربيّ وتِلميذِه و وريثِ إلحادِه ، الهالِكِ سَنةَ 672 ، الَّذي قالَ عنهُ شَيخُ الإسلامِ ( مجموع الفَتاوَى 2 /471 ) : ( وأمَّـا صاحِبُه ـ أي ابن عربيّ ـ الصَّدرُ الرُّومِيُّ فإنَّـهُ كانَ مُتَفلْسِفًا فَهُوَ أبعَدُ عنِ الشَّريعةِ والإسلامِ و .... حقيقةُ قَولِه إنَّـهُ ليسَ لله سُبحانَهُ وُجُودٌ أصْلًا ولا حقيقةٌ ولا ثُبُوتٌ إلّا نَفسُ الوُجُودِ القائِمِ بِالمخلُوقاتِ ... ويُصَرِّحُونَ بِأنَّ ذاتَ الكلبِ والخنزيرِ .... ) الخ أعزَّكمُ الله ، وتعالَى الله عزَّ وجلَّ وتقدَّسَ وتنزَّه عمَّا يَقُولُ الظالِمُونَ الهالِكُونَ .
ومِنَ الكُتُبِ النَّافِعةِ الَّتي طبعتْها في طَورِها الأوَّلِ : مُسنَـدُ أبي داوُد الطَّيالِسِيِّ وكَنزُ العُمَّالِ لِلمُتَّقي الهِندِيِّ وتَذكرةُ الحفَّاظِ لِلذَّهبِيِّ والاسْتِيعابِ لابنِ عبدِ البَرِّ رحمهمُ الله ، وممَّا طُبِعَ في طَورِ ( العُثمانِيَّـةِ ) : المُسْتَدركُ على الصَّحيحَينِ للحاكِمِ معَ تَلخيصِه لِلذَّهبِيِّ والسُّنَنُ الكُبرَى لِلبَيْهَقيِّ والجمهرةُ في اللُّغةِ لابنِ دُرَيدٍ والدُّررُ الكامِنةُ للحافِظِ ابنِ حَجرٍ رحمهمُ الله .

(5) أشرتُ ـ آنِفًا ـ إلى إنَّها جَمعتِ الصَّالِحَ والطَّالِحَ ، فالصَّالِحُ كالشَّيخِ رحمهُ الله وغيرِه ـ وإن تأخَّرَ انضِمامُهُم ـ والطَّالِحُ كثيرٌ ، مثلَ بَعضِ أساطينِ الدِّيوبَندِيَّـةِ الصُّوفِيَّـةِ الماتُريدِيَّـةِ ومن لفَّ لفَّهُم مِن متعصِّبـةِ الأحنافِ ، فقدْ كانَ من أوائِلِ مَن ضمَّتهُم المدعُوُّ ( شِبلي النُّعماني ) ولقَّبتْهُ في نَشرتِها آنِفةِ الذِّكرِ بـ ( العلَّامةِ الجليلِ مولانا ) !! ، وهذَا النُّعمانيُّ ـ ولعلَّها نِسبةٌ إلَى أبي حنيفةَ النُّعمانِ رحمهُ الله ويكفيكَ هذَا دلالةً عل التَّعصُّبِ ـ اشْتَهرَ بِكتابِه ( سِيرةُ النُّعمانِ ) أي سيرةُ أبي حنيفةَ وقدْ فعلَ فيه الأفاعيلَ لِنُصرةِ المذهبِ كانَ مِن أدهاها وأخبَـثِها تَحريفُه آيةً مِن كتابِ الله لِتُوافِقَ رأيَ أبي حنيفةَ في الإيمانِ ، ولم يَرعوِ أتباعُه عن تكرارِ طِـباعةِ ونشرِ هذَا الكِتابِ كما هُو معَ الرُّدودِ والتَّحذيراتِ الكَثيرةِ من عُلماءِ أهلِ الحديثِ بِالهندِ ، والدِّيوبنديُّونَ عريقُونَ في تحريفِ النُّصوصِ ـ كتابًا وسُنَّـةً ـ لفظًا ومعنًى ، انظُرْ طرفًا مِن ذلكَ في ( الدِّيوبندِيَّـةِ : تعريفُها ، عقائِدُها ) للشَّيخِ الدُّكتُور سيِّد طالب الرَّحمنِ ( ص 265 فما بعدها ط : دار الكتابِ والسُّنَّـةِ بِكراتْشي ) ، وكذلِكَ رسالةَ ( تحريفِ النُّصُوصِ ) للشَّيخِ بَكرٍ أبو زَيد رحمهُ الله .
وكانَ في اللَّجنةِ العلميَّةِ للدَّائِرةِ مَن على شاكلةِ المذكُورِ كـ ( محمُود حَسن الدِّيوبندي ) المتَّهمِ بالتَّحريفِ وغيره من المخازي و( مُناظِرْ أحسَن الكيلاني ـ أو الجيلاني ـ ) الصُّوفيُّ المتعصِّبُ . وانظُر إشارةً عن تحريفِهم في كلامَ الشَّيخِ المعلِّميِّ في ( التَّـنكيلَ 1/211 ) .
وكانَ بينهُم صِنفٌ آخرُ منَ التَّحرُّريِّينَ والحداثِيِّينَ ، منهُمْ السِّير ـ لقبٌ كانَ البريطانِيُّونَ يَمنحُونهُ لكلِّ من يخدمُ أطماعَهم الاستِخرابِيَّـةِ ـ سَيِّد أحمدْ خانَ ، الَّذي قالَ عنهُ بعضُ مُتَرجِميه : ( كانَ لا يُصلِّي ولا يَصُومُ غالبًا ) ! ، وهُوَ مؤسِّسُ دعوةِ إنكارِ السُّنَّـةِ في شِبهِ القارَّةِ الهِندِيَّـةِ . انظرْ ( اهتِمامَ المحدِّثينَ بِنقدِ الحديثِ سندًا ومتنًا ودحضُ مزاعِمِ المستَشْرِقينَ وأتباعِهمْ ) رسالةُ دكتُوراةِ الشَّـيخِ محمَّد لُقمانَ السَّلفيِّ حفظهُ الله ( ص : 455 فما بعدها ، ط : دار الدَّاعي للنَّشرِ والتَّوزيعِ بالرِّياضِ ) .
والقَصدُ مِن هذِه الإطالةِ التَّبصُّرُ في الاعتِمادِ على شَيءٍ مِن طبعاتِ هذه الدَّائِرةِ أو ما صُوِّرَ عنها أو اعتُمِدَ عليهِ في تَحقيقٍ حديثٍ إلَّا ما زكَّاهُ العلماءُ الخبرَاءُ أو قامَ عليه أحدُ أهلِ السُّنَّـةِ المتجرِّدينَ كالشَّيخِ رحمهُ الله .

(6) ذُكِـرَ الشَّيخُ في النَّشرةِ المذكُورةِ ( ص : 15) ولُقِّبَ بِـ ( حضْرةِ الفاضِلِ الجليلِ ) ، و( حضرة أوحضرتْ ) لقبٌ أعجَميٌّ مصدرُه الصُّوفِيَّـةُ ـ فلهذه الكلمة عندهم شأن وأي شأن ـ ولا زالَ عوامُّ العَجمِ ـ إلى زمانِـنَا ـ يقُولُون للشَّيخِ أو العالـِم : ( هُزُور = حضُور ) أو ( هَزْرَتْ = حضرتْ ) ، يقصِدُونَ الاحتِرامَ والتَّبجيلَ ولا يدرُونَ ما وراءَ هذَا اللَّقبِ مِنَ الدَّاءِ الوبيلِ !! ، بل دخلت في لغة العرب ـ لا سيما المصريين ـ وغالب الظن أنها عن طريق العثمانيين الأتراك .
وقدْ رحلَ الشَّيخُ رحمهُ الله إلى الهِندِ وعيِّنَ في الدَّائِـرةِ سنةَ 1342 ، ومكثَ في عملِه بها قرابةَ 30 عامًا حقَّقَ فيها وعلَّقَ على كثيرٍ منَ الكُتُبِ ، منها على سبيلِ المثالِ : التَّاريخُ الكبيرُ للبخاريِّ وتاريخُ جُرجانَ للسَّهْمِيِّ والموضِحُ لأوهامِ الجمعِ والتَّفريقِ للخطيبِ البغداديِّ والإكمالُ لابنِ ماكولا وتذكَرةُ الحفَّاظِ للذَّهبيِّ والأنسابُ للسَّمعانِيِّ رحمهمُ الله ، إضافةً إلى ما شاركَ في تحقيقِه .

(7) وُلِدَ يَومَ النَّحرِ من سَنةِ 1310 وتُوفِّيَ يومَ الأربِعاءِ 13 رجب سنةَ 1395 عنْ 85 سنةً ، كتَبَ ذلِكَ ـ في خاتِمةِ تَـقديمِهِ للكِتابِ الَّذي طُبِعَ بِتَحقيـقِه وهُو ( النَّفقاتُ ) لأبي بكرٍ الخصَّافِ وشَرحُه لحسامِ الدِّينِ البُخاريِّ عنْ لَجنةِ إحياءِ المعارِفِ النُّعمانِيَّـةِ الَّتي أنشأها بِنفسِه ـ أحدُ طُلَّابِه ، وذَكرَ أنَّ تَرجمتهُ مثبتةٌ في نِهايةِ شَرحِهِ لِكتابِ الآثارِ لمحمَّد بنِ الحسنِ الشَّيبانيِّ رحمهُ الله ، الَّذي نَشَرتهُ اللَّجنَةُ المذكُورةُ ، ولهُ تحقيقاتٌ ومصنَّفاتٌ غيرُ هذَا ولعلَّ جلَّها لا يَخرُجُ عنِ المذهبِ الحنفيِّ ، لكن رأيتُ عندَه ما يَحتاجُ إلى توقُّفٍ وتأمُّلٍ .

(8.) عرَّفَ بَعضُهُم المقالَةَ بِأنَّـها (قِطعةٌ من النَّثرِ مُعتدِلةُ الطُّولِ تُعالِجُ مَوضُوعًا ما مُعالجةً سريعةً مِن وِجهةِ نظرِ كاتبِها ) وقالَ إنَّها ( بنتُ الصَّحافةِ نَشأتْ بنَشأتها وازدَهرتْ بِازدهارِها ) !! ، وقالَ آخَـرُ عنْ خصائِصِها وسِماتِـها إنَّها ( تُلِمُّ بالمظاهِر الخارجيَّـةِ لِلمَوضُوعِ بطريقةٍ سَهلةٍ سَريعةٍ ، ولا تُعنَى إلَّا بالنَّاحيَـةِ الَّتي تمسُّ الكاتبَ عن قُربٍ ) ، ويُـقَسِّمونَها من حيثُ الموضُوعُ إلى : اجتماعِيَّـةٍ وسِياسِيَّةٍ ، ومن حيثُ الأسلُوبُ إلى : عِلميَّـةٍ وأدبِيَّـةٍ ، وهذه الرِّسالةُ ـ كما هُو بيِّنٌ ـ : اجتماعِيَّـةٌ أدبيَّـةٌ .
وهذَا الموضُوعُ ـ موضُوعُ الارتِباطِ بينَ العُلماءِ ـ المصنَّفاتُ فيه نادرةٌ ، وأكثَرُ ما يندرجُ فيه ويعبِّرُ عنهُ مبثُوثٌ في كتُبِ التَّأريخِ والأدب وغَيرِها ، سَواء ما يتعلَّقُ بِالصَّداقةِ بينَ العلماءِ وما يتعلَّـقُ بالمراسَلاتِ العلميَّـةِ والأدبيَّـةِ والمناظراتِ والرُّدُودِ والرَّحلاتِ العلمِيَّـةِ ونَحوُ هذَا منَ التَّواصلِ بينَ العُلماءِ والأدباءِ ما إذا تتبَّعهُ المرءُ لوقفَ منهُ علَى الشَّيءِ الكثيرِ والكنزِ الوفيرِ منَ الفَوائِدِ الغزيرةِ العلميَّـةِ والسُّلُوكِيَّـةِ وغيرِ ذلِكَ ، والله المستَعانُ .
الحلقة الثانية والثالثة والرابعة إن شاء الله مع الرسالة و التعليق دون حواش ؛ لا أضخم المشاركة كثيرا .

منازعة مع اقتباس
  #2  
قديم 05-04-2010, 09:01 PM
أبو محمد فضل بن محمد أبو محمد فضل بن محمد غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Feb 2010
التخصص : شريعة ( الفقه وأصوله )
النوع : ذكر
المشاركات: 487
افتراضي



الـمُـعـلِّميّ :

الحمدُ لله الَّذي أَرانا بِأعيُنِنا ما كنَّا نتمنَّى أن نَراهُ مِن مَظَاهِرِ الارتِباطِ والتَّعاوُنِ العِلمِيِّ بَينَ العُلماءِ ، فأصبحَ عُلماءُ الهندِ يَستقبِلُونَ وَفدًا كريمًا مِن خِيرةِ إخْوانِهمْ علَماءِ مِصرَ ، تكلَّفوا المشَاقَّ والمتاعِبَ حُبًّا في تَعرُّفِ أحوالِ إخْوانهمْ في الهندِ ، وتَوثيقِ عُرَى التَّواصُلِ معهُم ، تَمهيدًا للتَّعاوُنِ معَهم فِيما يَرفَعُ شَأنَ الإسلامِ والعِلمِ .
كانَ العُلَماءُ في العُصُورِ الأُولى متَواصِلينَ على بُعدِ الأقطارِ وصُعُوبةِ الأسْفَارِ فَلا تكَادُ تطَّلِعُ علَى تَرجمةِ رجُلٍ منهُم إلَّا وجَدتَ فيها ذِكْرَ ارتِـحالِه في أوانِ الطَّلَبِ إلى الأقطارِ النَّائِيَةِ لِلِقاءِ العُلماءِ والأخذِ عنهُم وسِياحتِه بعْدَ التَّحصِيلِ وكُـلَّما دخَلَ بلْدةً سألَ عمَّنْ بها مِن العُلماءِ واجتمعَ بهمْ واستَـفادَ منهُم وأفادَهم وبَقي يُواصِلُهم طُولَ عمُرِه بِالـمُكاتبةِ والـمُراسَلةِ ، وكانتِ الـمُكاتَباتُ لا تنقطِعُ بينَ عُلَماءِ الأقطارِ لِتبادُلِ الأفكارِ في المسَائلِ العِلميَّةِ .
وفي الجزْءِ الأوَّلِ مِنْ " إِعْلامِ الـمُوقِّعينَ " : ذِكرُ رِسالةٍ مِن اللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ إلى مالِكٍ رحمهُما الله تَعالَى تَشتَمِلُ علَى عِدَّةِ مَسَائلَ ، وفيهَا ما يدُلُّ أنَّ المكاتبةَ بينهُما في المسَائلِ العلمِيَّةِ كانتْ مُتواصِلةً .
وهكذَا كانَتِ الـمُكاتَبةُ بينَ الشَّافِعيِّ وأحمدَ بنِ حَنبلٍ رحمهُما الله تَعالَى .
في " تَوَالي التَّـأسِيسِ " لابنِ حَجَرٍ العسْقَلَاني رحمهُ الله تَعالَى : ( قالَ أبُو ثورٍ : كتبَ عبدُ الرَّحمنِ ابنُ مَهدِيٍّ إلى الشَّافِعيِّ وهُو شابٌّ أن يضَعَ له كِتابًا ، فوضَعَ له كِتابَ " الرِّسَالةِ " )
وفِيه : ( عن عَبدُوسٍ العطَّارِ : سَمِعتُ عليَّ بنَ المدينِيِّ يقولُ للشَّافعيِّ : اكتُبْ كِتَابَ " خَبرِ الواحِدِ " إلى عَبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهدِيٍّ ، فإنَّهُ يُسَرُّ بِذلِكَ ) .
وأمثِلةُ هذا كَثيرةٌ .
وكثيرٌ من المؤلَّفاتِ العِلميَّةِ كانَ سَببُها المكاتبةُ بينَ العُلماءِ ، وكثيرٌ منَ الفَتاوَى المطوَّلةِ صَادِرٌ عنْ ذلِكَ كما يُعلَمُ بمُراجَعتِها كـ " فَتاوَى السُّبْكِيِّ الكَبيرِ " وغَيرِهِ .
كَما أنَّ كَثيرًا مِن التَّوارِيخِ استَفَادَ مُؤلِّفوها كَثيرًا ممَّا فيهَا أو أكثرَه بمُكاتَبةِ العُلماءِ ، كـ " تَاريخِ ابْنِ خَلِّكانَ " ، و" إنْبَاءِ الغُمْرِ " ، و" الدُّررِ الكامِنةِ " لابنِ حجَرٍ العَسقلَانيِّ ، و" الضَّوْءِ اللَّامِعِ " لِلسَّخَاوِيِّ ، وغيرِ ذلكَ ممَّا تَقدَّمَ أو تَأخَّرَ .
وقَدْ كانَ هذَا العمَلُ ـ أَعْني المكاتبةَ بَينَ العُلماءِ في المسَائلِ العِلميَّةِ ـ جاريًا في اليَمنِ إلى مُدَّةٍ غَير بَعيدَةٍ وقَد رأيتُ في المخطُوطاتِ اليمَنِيَّةِ كَثيرًا مِن ذلكَ (1) .
فَأصبَحَ العُلماءُ في هذَا العَصرِ مُتَقَاطِعينَ ، لا صِلةَ بينَ عُلماءِ هذا القُطرِ وعُلماءِ القُطرِ الآخَرِ ، بلْ ولا بينَ عُلماءِ القُطْرِ الواحِدِ ! بلْ ولا عُلماءِ البلَدِ الواحِدِ !!
فَقدْ كَانَ عُلماءُ البلَدِ الواحِدِ في العُصُورِ السَّابقةِ لا يَكادُ يَمُرُّ عليهمْ يَومَ إلَّا وهُم يَجتَمعُون فيهِ ، ويَتَذاكَرونَ ، وأمَّا الآن فَقدْ تَمرُّ علَى العَالمِ شُهُورٌ ـ بلْ سنُون ـ لا يَجتَمِعُ بِـعَالمٍ آخرَ قَد يكُونُ مَعدُودًا مِن جِيرَانِه ! وإذا جَمعتْهُما الجماعةُ أو الجمُعةُ أو العيدُ فَـقدْ يَرجِعانِ عن المصَلَّى ولم يَلتَقِيَا !
وإذَا الْتَقَيا تَجنَّبَ كلٌّ منهُما فَتحَ بابِ المذاكَرةِ : إمَّا رَغبةً عَنِ العِلمِ ، وإمَّا استِحْقارًا لصَاحبِه ، وإمَّا أنَفَةً أنْ يَظُنَّ النَّاسُ أنَّ صَاحِبَه أعلَمُ مِنهُ ، وإمَّا خَوْفًا مِنْ أن تَـجُرَّ المذاكَرةُ إلَى المنَازعةِ أو غَير ذلِكَ !!
وَهكذَا يَحجُّ كلُّ سَنةٍ جَماعةٌ مِنَ العلَماءِ ، ويَرجِعُ كلٌّ منهُم ولم يَـجتَمِعْ بِأحدٍ من عُلماءِ الحرَمَينِ ، أوِ العُلماءِ الَّذينَ حَجُّوا في ذلِكَ العامِ .
وقدْ كانَ العُلماءُ في العُصورِ السَّابِقةِ علَى خِلافِ هذِه الحالِ ، فَكانَ مِن أعظَمِ مَا يَهتَمُّ بِه العَالِمُ إذَا حَجَّ : الاجتِماعُ بِالعُلماءِ ، والاستِفادَةُ منهُمْ ، وإفادتُهُمْ .
ولَقدْ كانَ بَعضُ العُلماءِ يَحجُّ وأعْظمُ البَواعِثِ لَه علَى الحجِّ : الاجتماعُ بالعُلماءِ ، معَ أَنَّ هذِه العِبَاداتِ ـ أَعني الجمَاعةَ والجمُعةَ والعيدَ والحجَّ ـ مِنْ أَعظَمِ الحِكَمِ في شَرعِها الاجْتماعُ والتَّعَارُفُ وتَبادُلُ الفَوائِدِ العِلميَّةِ وغَيرهَا .
وهكَذَا قدْ يتَّفِقُ لِأَحَدِ عُلماءِ هذَا العَصْرِ سَفَرٌ إِلَى بَلَدٍ مِنَ البُلْدانِ فَيَرِدُه ، ويَمْكثُ فيه مُدَّةً لَا يَسْأَلُ عَمَّنْ بِهِ مِنَ العُلَماءِ ، ولَا يَجـتَمعُ بِهمْ ، وإِذَا اجْتَمعَ بِهمْ تَجنَّبَ المذاكَرةَ العِلمِيَّةَ ، فَلا يَكادُ يُفيدُ ولَا يَسْتفيدُ ، وإِذَا كانَ يَصْنعُ هذَا معَ جيرَانِهِ منَ العُلَماءِ ، فكيفَ يُرجَى منه خِلافُه معَ علَماءِ البُلدَانِ البَعيدَةِ عَنْهُ ؟!
وكَمْ مِنْ عالِمٍ تُشْكِلُ علَيْه مسْألَةٌ ، أَو يَخشَى أَن يكُونَ مُخطِئًا فيهَا ، فَلا يَدعُوه التَّوفيقُ إِلَى الاجْتماعِ بِغَيرِه مِنَ العُلَماءِ والبَحْثِ معَهُمْ فيهَا ، أَوْ إلَى مُكاتَبَتِهِمْ في ذلِكَ .
هَذَا مَعَ تَيَسُّرِ طُـرُقِ المواصَلاتِ في هذِهِ الأَعْصارِ فأصْبحَتِ المسَافَةُ الَّتي كانَتْ لَا تُـقْطَعُ إِلَّا في أَشهُرٍ أَوْ سِنينَ ـ معَ المشاقِّ والمخَاوِفِ والعَوائِقِ والقَواطعِ ـ تُقطَعُ الآنَ في أَيَّامٍ معَ الأَمْنِ والرَّاحةِ ، وكذَلِكَ حالُ المكاتَبَاتِ (2) .

الـعُـصَيمي :

(1) ـ ذَكَرَ المصنِّفُ رحمهُ الله تعالَى في هذِه الجملَةِ مشهَدَينِ مِن مشاهِدِ اتِّصالِ العُلماءِ بَعضِهِم بِبَعضٍ ، أحدُهُما : الرِّحلَةُ والأسْفارُ والثَّاني : المكاتَبَةُ بَينَ عُلماءِ الأمصَارِ ، فَكانَ العِلمُ مَوْصُولَ الرَّحِمِ بِهذَينِ المشْهَدَينِ .
وكانتِ الرِّحلَةُ لازِمَةً لِوَصْفِ العلمِ فيما مَضَى ؛ فَيرتَـحِلُ طالِبُ العلمِ لأخذِ العلمِ عَن شُيُوخٍ غيرِ شُيُوخِ بَلَدِه ، وعِندَهُمْ هذَا أكملُ لِعلمِه وأرسَخُ لقَدَمِه ، وأنبلُ لنَفسِه وأتمُّ لِعَقلِه ؛ فإنَّ مَن خالَطَ النَّاسَ على اختِلافِ عُلُومِهمْ وتَبايُنِ فُهُومِهم وافتِراقِ أذْواقِهِم كَساهُ ذلِكَ الكاملَ مِنهُم بِحسَبِ فِطنتِه واهتِمامِه بِأمرِ رِحلَتِه .
والعادةُ الجارِيَةُ عِندَ أهلِ الإسلامِ أنَّ الرِّحلَةَ مِن أعظمِ الموارِدِ الَّتي يَتميَّزُ بِها أهلُ العلمِ بَعضُهُم عنْ بعضٍ ؛ فإنَّ الَّذي يَرحلُ يَحظَى مِن العلُومِ فَوقَ الَّذي لا يَرحلُ ، وهُوَ أصلٌ كبيرٌ عِندَهُمْ .
وقَدْ صَنَّفَ الخطيبُ البغدادِيُّ رحمهُ الله تعالَى كتابًا سَمَّاهُ : ( الرِّحلَةُ في الحديثِ ) ذَكرَ فيه الأحادِيثَ والآثارَ والحِكاياتِ والأخبارَ فيما كانَ عليه الصَّدْرُ الأوَّلُ مِنَ الأُمَّةِ في السَّفرِ في العلمِ .
ومَن نَظَر في تَراجمِ أهلِ العلمِ وقفَ على مَبلَغِ هذَا الأمرِ في نُفُوسِهِم .
كما أنَّهُم لا يَنقَطِعُونَ عن الرِّحلَةِ بعدَ الإدراكِ والـمُكْنَةِ في العلمِ ، بلْ رُبَّما ارتَحلَ أحدُهُم معَ اسْتِواءِ علمِه لِلُقِيِّ العُلَماءِ ومُثافَنَتِهمْ ، والاطِّلاعِ على عُلُومِهمْ والوُقُوفِ على مَآخِذِ فَهمِهمْ ، ولِإفادَتِهمْ والاسْتِفادةِ مِنهُمْ ، وهُوَ بِهذَا يقَرِّبُ نَفسَهُ مِنهُم ويُزيلُ ما قدْ يَـقَعُ في نُفُوسِ الخلقِ مِن النُّفْرةِ مِن أحدٍ لاخْتِلافِ البُلْدانِيَّةِ ؛ فإنَّ العادةَ جارِيَةٌ أنَّ البَلَدِيَّةَ تُورِثُ العَصَبِيَّةَ ؛ فإنَّ كُلَّ أهلِ بَلَدٍ تُطْبَعُ نُفُوسُهُم علَى حُبِّ أرضِهِم ويُورِثُهم ذلِكَ تَقلِيلَ أقدارِ غيرِهمْ .
فإذَا كانَ المدرِكُ للعلمِ يرحَلُ لِلُقِيِّ العُلماءِ فيَطَّلِعُونَ على ما عِندَهُ يَقِفُونَ على مَقادِيرِ العلْمِ في نَفسِ ذلِكَ العالِمِ ، ويَطِّلِعُونَ بِواسِطَتِه على مَبلَغِ أهلِ بَلدِه مِنَ العلُومِ ؛ فيُزيلُ ذلِكَ كثيرًا مِن العَوادِي الَّتي تَعتَرِي الصِّلةَ بَينَ العُلماءِ .
وأمَّا المكاتَبَةُ فقدْ كانتْ جارِيَـةً فيهِم ظاهرَةً بَينهُمْ ؛ لِما فيها مِن إحياءِ العلمِ بِمُذاكَرتِهِ ، وعَرْضِ مُشكِلاتِه لِيَتَهيَّأَ لِكُلٍّ مِن المتكاتِبَينِ مَعرفةُ الصَّوابِ في مسألةٍ مِن مسائِلِ الدِّينِ ، وَكمْ مِن كِتابٍ أُلِّفَ جَوابًا علَى رسالةٍ رُفِعتْ .
وانظُرْ كُتُبَ الشَّوكانِيِّ ـ رحمهُ الله ـ الَّتي ألَّفَها جوابًا عَن مَسائِلَ رُفِعتْ إلَيـهِ مِن أقطارِ الأرضِ المحاذِيَـةِ لهُ ؛ فإنَّهُ الَّفَ كِتابًا في الجوابِ عَن أسئِلةِ عالمِ ( ضَمَد ) ـ وهِيَ مِن نَواحِي بِلادِ جازان اليَوْمَ ـ اسمُه : ( عِقْدُ الجِيدِ في إجابَـةِ أسئِلةِ عالمِ ضَمَد ) ، كما ألَّفَ كِتابًا في إجابةِ أسئِلةِ عالمِ ( رُجالَ ) أحمدَ الحِفْظِي رحمهُ الله ، بلْ لهُ رسالةٌ أجابَ بِها عنْ سُؤَالِ بعضِ عُلماءِ ( الأحْسَاءِ ) اسمُها : ( إسبَالُ الكِسَاءِ عَن أسئِلةِ صاحِبِ الأحسَاءِ ) .
واعتَبِرْ هذَا في غَيرِه مِن العُلماءِ تَجِدْ نَفعَ المكاتَباتِ الَّتي تَجرِي بَينَ أهلِ العلم رحمهُم الله تعالَى ، وقدْ كانَ الأمرُ علَى هذَا منذُ القُرُونِ الأولى كما ذَكرَ المصنِّفُ رحمهُ الله تعالَى مِن رسالةِ اللَّيثِ إلى مالِكٍ وما كانَ بينَ الشَّافِعيِّ وعبدِ الرَّحمنِ بنَ مَهْدِيٍّ مِن المكاتَبةِ وما كانَ بَينَ الشَّافِعِيِّ وأحمدَ بنَ حنبلٍ رحمهمُ الله مِنَ المكاتَباتِ ؛ فإنَّ مَعرفَةَ هذَا يَبينُ به مِقدارُ أثَـرِ المكاتَبةِ بَينَ أهلِ العلمِ في إثارةِ العلُومِ ، وفَتحِ أبوابِ الفَهمِ والدِّلالَةِ علَى الخيرِ .
ومِمَّا يُنبَّهُ إليهِ : أنَّ المصَنِّفَ رحمهُ الله تعالَى ذَكَرَ كِتابَ ابنِ حجَرٍ العَسْقلانِيِّ في مَناقِبِ الشَّافِعِيِّ رحمهُما الله تعالَى وسَمَّاهُ : ( تَوالي التَّأسِيسِ ) ؛ تَبعًا لِلنُّسْخةِ الَّتي طُبِعَ عنها الكِتابُ في مِصْرَ ، وكانَ شَيخُنا بَكرٌ أبو زَيْدٍ رحمهُ الله يَغمِزُ في صِحَّةِ هذَا الاسْمِ ؛ لِعدَمِ مُناسَبتِه لِلمَعنَى ، ويَقُولُ : أشبهُ شَيءٍ أن يَكُونَ ( تَوالي التَّـأنيس بِمَناقِبِ محمَّد بنِ إدريس ) .


(2) ـ ذَكَـرَ المصنِّـفُ رحمهُ الله تَعالَى في هذِه الجملَةِ : ما آلَ إليـهِ أمرُ الـمَشْهَدَينِ المتَـقدِّمَينِ ـ أعني الرِّحلةَ والمكاتَبةَ ـ ، وما انقَطَعَ به حبلُ التَّواصُلِ بَينَ العُلماءِ ؛ فـتَجِدُ العُلماءَ قدْ يَجـتَمِعُونَ في بَلدٍ واحدٍ ورُبَّما جَمعتْهُما جماعةٌ أو جُمُعةٌ أو عِيدٌ ثُمَّ لا تَكُونُ بَينَـهُما مَعرِفةٌ .
وإذَا الْتَقَيا ـ كما ذَكرَ ـ تَـجَنَّبَ كلٌّ مِنهُما فَـتْحَ بابِ المذَاكرةِ ، فلا يَعرِضُ مسألةً على صاحِبِه ، إمَّـا رغبةً عنِ العلمِ ، وإمَّـا اسْتِحْقارًا لِصاحِبِه ورُؤْيةً لِنفسِه أنَّه الأعلَمُ ، وإمَّـا أَنَـفةً أن يَظُنَّ النَّاسُ أنَّـهُ إذَا سألَ صاحِبَه فقالَ لهُ : ما تقُولُ في مسْألةِ كذَا وكذَا ؟ أن يَظُنَّ النَّاسُ أنَّ صاحِبَه أعلَمُ مِنهُ ، وإمَّـا خَوْفًا مِن أن تُولِّدَ المذَاكرةُ مُـنازَعةً ومُشاحَنَـةً .
وهكذَا صارَ الحجُّ أيْضًا يرِدُ إليه كثيرٌ مِن العُلماءِ ثُمَّ لا يَقَعُ لـهُمْ اجتِماعٌ بِأحدٍ مِن عُلماءِ الحرَمَينِ ، فلا يَرجِعُونَ بِكَبيرِ فائِدةٍ في العِلمِ ، معَ أنَّ الحجَّ يَجمعُ العُلماءَ مِن أقطارِ الدُّنْيا ورُبَّـما لا يُمكِنُ جَمْعُ العُلماءِ في مَوْضِعٍ كما يَجتَمِعُونَ في الحجِّ ؛ إذ العادةُ جارِيَـةٌ أنَّ الغالِبَ أنَّ عُلماءَ كُلِّ بَلدٍ يَكُونُ مِنهُم جماعةٌ يَـحُجُّونَ في كلِّ نُسُكٍ سَنَوِيٍّ .
وكانَ مِن عادةِ حملَاتِ البُلْدانِ الماضِيَـةِ أنَّ مَن يَـخْرُجُ مِن البَـلَدِ يَـخْرُجُ في قافِلةٍ ، وتِلْكَ القافِلَةُ يَكُونُ لها أميرٌ ومَعها عُلماءُ ، فلا بُدَّ أن يَرِدَ الـحَجَّ عُلماءُ مِن كلِّ ناحِيَةٍ .
ومَن تأمَّـلَ حالَ مَن سَبقَ مِن أهلِ العِلمِ وكَيْفِيَّةِ اسْتِـفَادَتِـهِم مِن الـحَجِّ في لُقِيِّ العُلماءِ ثُمَّ ما صارَ عليه النَّاسُ اليَوْمَ مِن الزُّهْدِ في هذَا وعدَمِ العِنايَـةِ بِه يَعْرِفُ الفَرْقَ بَينَ هذَا وهذَا .
وقَدْ يَتَحقَّقُ في الـحَجِّ ما لا يَتَحقَّقُ في غيرِه ؛ فَلَوْ أنَّ إنسانًا أرادَ أن يَرْتَحِلَ إلى فِلسْطِينَ مثلًا لم يُمكِنْـهُ ذلِكَ لِتَسَلُّطِ اليَهُودِ عليها ، ولكِنْ إذَا هَيَّـأ الله له رُشْدًا وفَتَحَ لهُ فَهْـمًا الْتَقَى بِعُلماءِ تِلْكَ النَّاحيَةِ في مَوْسِمِ الـحَجِّ فإنَّهُم يأتُونَ إليها ، وقَدْ يأتي أحدُهُم مرَّةً واحِدةً في عُمُرِه ، فإذَا رُزِقَ الإنسانُ سَعْدًا وساعَدهُ التَّوفيقُ فازَ بِلُقِيِّ مِثلِ هؤُلاءِ .
فيَنبَغِي أن يَعتَنِيَ طالِبُ العِلمِ بِأمرِ الـحَجِّ ومُلاحَظةِ لُقِيِّ العُلماءِ فيهِ ، وأن يَكُونَ مِن اهْتِمامِه ـ معَ أداءِ مَنَاسِكِه ـ أن يَلْتَمِسَ في مُـخَيَّماتِ الـحُجَّاجِ العُلَماءَ .
وممَّا سَهَّلَ هذَا أنَّ كلَّ دَوْلةٍ انْحازَتْ إلى جِهةٍ فيُمكِنُ أن يَأتيَ إلى المواقِـعِ الـمُخَصَّصةِ لِأهلِ تِلْكَ الـجِهَةِ ثُمَّ يسْألَ عن العُلماءِ فيها ويَلْتَقِيَ بِهمْ .
ثُـمَّ ذَكرَ رحمهُ الله أنَّ هذَا الأمرَ وقَعَ ـ مِن قَطعِ الصِّلةِ بينَ العُلماءِ ـ معَ تَـيسُّرِ المواصَلاتِ في هذِه الأعصارِ ؛ فالمسافةُ الَّتي كانتْ تُـقطَعُ في مدَّةٍ مَـدِيدَةٍ صارتْ تُـقْطَعُ في مُـدَّةٍ يَسيرةٍ ، فكانتْ آلافُ الأكيالِ تُقطَعُ في أيَّامٍ ولَيالٍ بلْ في شُهُورٍ في بَعضِ النَّواحي ، واليَوْمَ تُقْطَعُ في ساعاتٍ يسيرَةٍ .
وإذَا قَرأتَ ما كَـتَبهُ العلَّامةُ سَعد بنُ حَمد بنِ عَتيـقٍ رحمهُ الله في الأهوالِ الَّتي اعْتَرتْ رِحلتَهُ إلى الهِندِ واضْطِرابَ البَحْرِ عليه ، وارتِدادَ السَّفينةِ مرَّةً بعدَ إقلاعِها بِمُدَّةٍ لِنشُوءِ رياحٍ قَوِيَّـةٍ في البَحرِ ردَّتْها إلى البلَدِ الَّذي أنْشأتْ مِنهُ رِحلَتَها إلى غيرِ ذلِكَ مِن الأهْوالِ الَّتي مرَّتْ به ، وكيفَ أنَّـهُ قَطَعَ الـمَسَافَةَ في زمنٍ مَديدٍ ، وكيفَ أنَّ اليَـوْمَ تُمكِنُ زِيارةُ الهِنْدِ في رِحلَةٍ جَوِّيَّـةٍ لا تَـتعَدَّى سَاعاتٍ . ثُمَّ نَظَرَ إلى حالِ النَّاسِ في الرِّحلَةِ رأى أنَّ حقيقَةَ الأمرِ لَيسَ على الـمُقَدَّراتِ ، ولكِنَّ حقيقَةَ الأمرِ على الهِمَمِ والنِّـيَّاتِ الصَّالِحاتِ ؛ فاليَوْمَ عِندَ النَّاسِ قُدْرَةٌ ومالٌ ومُكنةٌ وآلةٌ ولكِنَّ النِّـيَّـةَ مَشُوبَةٌ والهِمَّـةَ ضعيفَةٌ .
فالهِمَّـةُ في العِلمِ لا تَتعَدَّى في نَظَرِ بعضِ النَّاسِ أن يَـكُونَ مَـذْكُورًا ، ويَكفيه في الذِّكرِ أن يَـأخُذَ عن عُلماءِ بلَدِه ، أو يُريدُ بِذلِكَ تَحصيلَ مَنصِبٍ ورِئاسَةٍ فيتَقلَّدُ من الشَّهاداتِ ما يَتوصَّلُ به إلى ذلِكَ .
وهِمَّـتُه لا تَـتَعدَّى بِنَظرِه بلَـدَهُ فهُو يَرى أنَّ في عُلماءِ بلَدِه كِفايَـةٌ ، ولَوْ كانَ هذَا أصْلًا مُلاحَظًا عِندَ أهلِ العِلمِ لَـنُسِخَتِ الرِّحلَةُ عِندَهُم ، ولكِنَّهُم كانُوا يَـرَوْنَ أنَّ في الرِّحلةِ تَحصِيلُ زِيَادةِ عِلمٍ وفائِدةٍ .
فَيَنْبغي أن يَحرِصَ طالِبُ العِلمِ علَى الاتِّصالِ بِالعُلماءِ في البُلْدانِ الأُخْرَى بِزيارَتِهِم ومُكاتَبَتِهمْ ، والرِّحلةِ إليْـهِم .
وقَدْ رأيْنا عُلماءَ وقَفُوا بِالتَّواصُلِ معَهُم علَى عقيدَةِ أهلِ السُّنَّـةِ والجمَاعةِ ، واطَّلَعُوا بِمُعاملَتِهم علَى أدبِ أهلِ هذِه البِلادِ ، لا كما غُرِسَ في صُورِهم منذُ الصِّغرِ مِن وصفِهمْ بِالجفاءِ وأخلاقِ البادِيَـةِ ، ثُـمَّ كانَ ذلِكَ سَببًا في اهتِداءِ جَماعةٍ مِنهُم إلى طَريقةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رحمهُم الله تعالَى وانتَفَعَ النَّاسُ بِهم في بُلْدانِهم .
والمقصُودُ هُو الإرشادُ إلَى عدَمِ التَّفريطِ في هذَا الأصلِ معَ تَيَسُّرِ طُرُقِ المواصَلةِ فيهِ .
منازعة مع اقتباس
  #3  
قديم 05-04-2010, 09:24 PM
أبو محمد فضل بن محمد أبو محمد فضل بن محمد غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Feb 2010
التخصص : شريعة ( الفقه وأصوله )
النوع : ذكر
المشاركات: 487
افتراضي


المعلميُّ :
ولَقدْ كانَ العالِـمُ يَـبيعُ ضَنَائِـنَه لِكَيْ يَـتَـزَوَّدَ لِسَفَرٍ بَعيـدٍ لِـيَجْـتَمعَ بِعَالِـمٍ آخَـرَ ، وكَـثيرًا ما كانَتْ تَعرِضُ لَـهُمْ الـمَشَاقُّ الشَّديدَةُ في البَـرِّ والبَـحْرِ ، ويُعَـرِّضُونَ أَنْـفُسَهُم لِلْمَهالِكِ ؛ كُـلُّ ذلِكَ رَغبةً في العِلْمِ .
حَتَّى لَقدْ كانَ بَعضُ الصَّحَابَـةِ رَضِيَ الله عَنهُمْ يُسَافِـرُ مِنَ المدينَـةِ إِلَى مِصْرَ لِـيَجـتَمعَ بِصَحَابِيٍّ آخَرَ هُنالِكَ لِـيَسْتَـثْـبِـتَـهُ في حَديثٍ وَاحِـدٍ سَمِعَاهُ مَـعًا مِنَ النَّـبِـيِّ صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ! .
فَـفِي ( مُسْنَـدِ الإِمَامِ أَحْمدَ رحمهُ الله ) (ج:4 ، ص:62) و (ج:5 ، ص:375) مِنْ طَريقِ عَـبْدِ الملِكِ ابْنِ عُمَيْر عَنْ مُنِـيبٍ ([1]) عَنْ عَـمِّهِ قَالَ : بَلَغَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّـبِيِّ صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ أَنَّه يُـحَدِّثُ ... ، فَـرَحَلَ إِلَـيْه ـ وهُوَ بِـمِصْرَ ـ فَسَأَلـهُ عَنِ الحدِيثِ ، فَـقَالَ : نَـعَمْ سَمِعْتُ النَّـبيَّ صَلَّى الله علَـيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ يَـقُولُ : مَنْ سَتَـرَ أَخاهُ الـمُسْلِـمَ في الدُّنْـيَا سَتَـرَهُ الله يَـوْمَ القِـيَامَـةِ ، قَـالَ : وأَنَـا سَمِعْـتُه مِنَ النَّـبيِّ صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ .
وفي ( المسْنَـدِ ) أَيْضًا (جِلْد :4 ، ص:153) عَنِ ابْنِ جُرَيْـجٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا سَعِـيـدٍ ([2]) يُحـدِّثُ عَنْ عَطاءٍ قَالَ : رَحَلَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عُقْـبَـةَ بْنِ عَامِرٍ ... ، فَـأَتَى عُقْـبَـةَ فَـقَالَ : حَدِّثْـنَا مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّـبيِّ صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ لَـمْ يَـبْـقَ أَحَـدٌ سَمِعَه ، قَـالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله علَـيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ يَـقُولُ : مَنْ سَتَر عَـلَى مُـؤْمِنٍ في الدُّنْـيَا سَـتَرهُ الله يَـوْمَ القِـيَامَـةِ ، فَأَتَى رَاحِلَـتَـهُ فَـرَكِبَ ورَجَعَ ، وعُقْـبَـةُ بْنُ عَامِـرٍ كَانَ بِـمِصْرَ .
لَـمَّا بَلَغْتُ إِلى هُنا انْـتَـبَهْتُ لِاتِّـفَاقٍ عَجيبٍ ، وهُوَ أَنَّ الآثارَ الَّتي اسْتَـشْهَدتُ بِها تَـدُورُ علَى مِصْرَ ، فَـ ( اللَّـيْثُ بْنُ سَعْدٍ ) مِصْرِيٌّ ، و ( الشَّافِعِيُّ ) اسْتَوْطَنَ مِصْرَ ، والأَثَـرَانِ اللَّذانِ نَـقلتُهُما عَنِ المسْنَدِ
كَانَتِ الرِّحْلةُ فيهمَا إِلَى مِصْرَ ، و ( المسْنَـدُ ) طبع مِصْرَ ، وكِـتَابَا " تَهذيبِ التَّـهْذيبِ ) و ( تَعْجيلِ المنْـفَعَـةِ ) كِلاهُما مِنِ تَـأْليفِ الحافِظِ ابْنِ حَجَرٍ المِصْرِيِّ !! .
وَفي " سُنَنِ أَبي دَاودَ " وغَيرهَا عَنْ كثير بْنِ قَيسٍ قَالَ : كُنتُ جَالِسًا مَعَ أَبي الدَّرْدَاءِ في مَسجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَه رجُلٌ فَـقَالَ : يَـا أَبَا الدَّرْدَاءِ ، إِنِّي جِئْـتُكَ مِنْ مَدينَـةِ رسُولِ الله صَلَّى الله علَيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ لِـحدِيثٍ بَلَغَني أَنَّـكَ تُحدِّثُه عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله علَـيْه وعلَى آلِه وسَلَّمَ ، مَا جِئْتُ لِـحَاجَةٍ ـ يَعْني غَير ذلِكَ ـ .
هَكذَا كَانَ القَوْمُ ، فَأَصْبَحَ أَحَدُنَا يَتَـثَاقَلُ عَنْ بِضْعِ خُطُواتٍ يَمْشيهَا إِلَى عَالمٍ ، أَوْ يَضِنُّ بِبضْعَةِ أَفلُسٍ يَبْـتَاعُ بِها طَـوَابِـعَ لِلْبَريـدِ لِـيكتُبَ إِلى عالِـمٍ ! .
وكَمْ مِنْ عَالِـمٍ أَخْطَـأَ في مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يَهتَمَّ إِخْوانُه منَ العُلَماءِ بِأَنْ يَـزُورُوهُ ويُذاكِروهُ فيهَا ، أَوْ يكاتِـبُوهُ في شَأْنِها ، بَلْ غَايةُ ما يَصنَعُ أَحدُهُم أَنْ يَنشُرَ اعْتراضَهُ في مَجلَّةٍ أَوْ رِسَالَةٍ يُشَنِّعُ علَى ذلِكَ العَالمِ ويُجهِّلُه أَوْ يُبدِّعُه ويكفِّرهُ ، فَـتكُونُ النَّـتيجَةُ عَكْسَ المطْلُوبِ .
وكَمْ منْ مسَائِل يُفتَى فِـيهَا بِمِصْرَ بِشَـيْءٍ ، وَبِالشَّامِ بِخِلافِه ، وفي الـهِنْـدِ بِخِلافِ ذلِكَ ، ولَوْ كانَتِ الموَاصَلاتِ جَاريَةً بَينَ العُلَماءِ لَـمَا وقَعَ هَذَا الخبْطُ الشَّديدُ الَّذي يُوَسِّعُ خَرْقَ الافْتِراقِ وَيَؤُولُ إِلَى النِّـزَاعِ والشِّقَاقِ .
وعُلَماءُ الدِّينِ أَحوَجُ النَّاسِ إِلَى التَّواصُلِ والتَّعاوُنِ خُصُوصًا في هذَا العَصْرِ الَّذِي تَـفَشَّى فيهِ وبَاءُ الإِلْحادِ ، وقِلَّـةُ الرَّغْبـةِ في العُلُومِ الدِّينِـيَّـةِ ، بَلْ كادَتْ تعُمُّ النُّـفْرةُ عَنهَا ، واسْتَغْنَى كلُّ أَحدٍ بِـرَأْيِـهِ .
فَعُلَماءُ الدِّينِ مُفْـتَـقِرُونَ إِلَى التَّعاوُنِ لإِيجادِ طُـرُقٍ تُـقَـرِّبُ الـمَسَافَـةَ بَيْـنَهمْ وبَينَ الـمُتعلِّمينَ العُلُومَ الحديثَـةَ ، وتُـجَلَّى فيهَا المسَائلُ الدِّينِـيَّـةُ في مَعَارِضَ تَـتَّـفِقُ وطَريقِ التَّـفْكير العَصْرِيِّ ، فَـيُسْتَطَاعُ بِذلِكَ إِيقَافُ الوَباءِ عَن زِيَادَةِ الانْتشَارِ ، ومُعَالَجةُ المرْضَى ، بَلْ والدِّعايَـةُ الـمُثْمِرةُ إنْ شَاءَ الله تَعَالَى .
فَـأَمَّا الدَّواءُ المعْرُوفُ الآنَ ـ وهُوَ التَّـكْفيرُ والتَّضْليلُ ـ فَإِنَّـهُ لَا يَـزيدُ الدَّاءَ إِلَّا إِعْضَالًا ، ومَثَـلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ ظَهَـرَ بِبَعْضِ أَصَابِعهِ بَـرَصٌ فقَطعَهَا ! فظَهرَ البرَصُ بِـأُخْرَى فَـقَطَعهَا !! فَـقيلَ لَهُ : حَـنَانَـيْكَ
قَبلَ أَنْ تَـقْطعَ جَميعَ أَعضَائِكَ !

العصيمي حفظه الله :
ذَكرَ المصنِّفُ رحمهُ الله تعالَى في هذِه الـجُملَةِ ما كانَ علَيه الصَّدرُ الأوَّلُ ممَّن يُنفِقُ مالَه في تَحصيلِ الرِّحلةِ لِلاجتِماعِ بِعالِـمٍ مِن العُلماءِ .
وقدْ وَرِثَ ابنُ مَعينٍ رحمهُ الله تعالَى عنْ أبيه ألفَ ألفِ دِرهمٍ أي ما يُسَمَّى بِلِسانِ العَصرِ ( مِليونًا ) ثُمَّ أنفَـقَها في الرِّحلَةِ في الطَّلَبِ رحمهُ الله تعالَى .
وكانُوا يَركَـبُونَ الأهْوالَ ويُغامِـرُونَ بِأنفُسِهِم لِـمُواصلَةِ العُلماءِ في البُـلْدانِ الأُخرَى ، ورُبَّـما رَكِـبُوا هَوْلَ البَحرِ لأَجلِ حديثٍ واحدٍ ؛ كما ارتَحلَ أبُو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضيَ الله عنهُ إلى عُـقْـبَـةَ بنِ عامِرٍ رضيَ الله عنهُ لِـيَسألَه عنْ حديثٍ سَمعَه هُو مِن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّمَ لم يبقَ أحدٌ غيرُه وغيرُ عُقبةَ سَمِعهُ مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وسلَّمَ .
فارتَحلَ إليه لِـيسْتَـثْبِتَ مِن صِحَّةِ حِفظِه ولِـيـثِـقَ بِما يَسْتَحْضِرُه من مَـتنِه ، فَوافقَه عُقْبةُ رضيَ الله عنهُما علَى ذلِكَ ، ورجَعَ رضيَ الله عنهُ وهُوَ لمْ يَـحِلَّ عِقالَ رَحلِه .
فدَخلَ وسلَّمَ على مَسلَمةَ بنِ مَخلَدٍ أميرِ مصرَ وسألَه الدِّلالَـةَ علَى بَيتِ عُقبةَ رضيَ الله عنهُ ، فدلَّه عليه فخَرَجَ إليه واعْـتَـنَـقَهُ ثُمَّ سَألهُ عنْ هذَا الـحَديثِ ثمَّ رجَعَ إلى رَحلِه وخرَجَ مِن مِصرَ ساعتَه .
وفي كِتابِ الرِّحلَةِ لِلخَطيبِ البَغْدادِيِّ أخبارٌ أُخرَى مِن هذَا الـجِنْسِ .
ثُمَّ ذَكرَ أيْضًا ارتِحالَ الرَّجُلِ الَّذي جاءَ إلى أبي الدَّرداءِ رضيَ الله عنهُ لِـيسْألَه في حديثٍ بَلَغَه أنَّهُ يُحدِّثُ به عنْ رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وسلَّمَ ؛ فارتَحلَ هذِه المسافةَ بَينَ البِلادِ الشَّامِـيَّـةِ والبِلادِ الـحِجازِيَّـةِ لِأجلِ حديثٍ واحدٍ .
هكذَا كانتْ حالُـهُم ، أمَّا حالُ النَّاسِ اليَوْمَ فكَما ذَكـرَ : ( فَأصبَحَ أحدُنا يتَـثَاقلُ عنْ بِضعِ خُطواتٍ يَمْشيهَا إلَى عالِـمٍ ، أو يَضِنُّ بِـبِضعةِ أفْـلُسٍ يَـبتاعُ بِها طَوابِـعَ لِلبَريـدِ لِـيكتُبَ إلَى عالِـمٍ ) .
ومِن عَجيبِ التَّقريرِ أنَّ آلةَ التَّواصُلِ زادَتْ إمكاناتُها وضَعُفَ إعمالُها ؛ فاليَومَ يُمكِنُ أن يَتَواصلَ الإنسانُ بِمُختَـرَعاتٍ هيَ أسرعُ ممَّـا كانَ عليه منْ تأخَّرَ قبلَ سِنينَ فاليَومَ يُمكِنُ التَّواصُلُ في لَحظاتٍ بِـ ( البَريـدِ الإلِكتـرُونِيِّ ) أو بِـ ( الفاكْسِ ) أو غَيرِهِما ، ومعَ ذلِكَ فإنَّ التَّواصُلَ بَينَ النَّاسِ ضَعيفٌ ؛ لِأنَّ المحَّرِكَ القَلْبِـيَّ ضَعيفٌ ؛ وإذَا ضعُفَ المحرِّكُ القَلْبِـيُّ لمْ تَنفعِ الآلاتُ المحيطةُ بِالمرْءِ .
ثُمَّ ذَكرَ حالَ العُلَماءِ لَـمَّا ضَعُفَ بَـينَـهُمْ هذَا الأصلُ ؛ فكمْ مِن عالِـمٍ أخطَأَ في مَسأَلةٍ ولمْ يَـهْتَمَّ بِه إخوانُه بِأن يَـزُوروهُ ويُـذَاكِـرُوهُ أو يُـكاتِـبُوه وغايَـةُ ما يَصْنَـعُ أحدُهُم أنْ يَنشُـرَ اعتِراضهُ في مجلَّـةٍ أو رِسالةٍ يُشَنِّـعُ على ذلِكَ العالِـمِ ، وهذَا مِنَ الآثارِ السَّيِّـئَـةِ لِلْإعلامِ ؛ فَإنَّ الإعلامَ أخرَجَ أحوالَ أهلِ العِلْمِ عِندَ بَعضِهِم عمَّا يَنبَغي أن تَـكُونَ علَيـهِ كما يَراهُ الـمَرْءُ أحيانًا مِنَ الرُّدُودِ الَّتي تَـكُونُ بَينَ أهلِ العِلْمِ منشُورةً في صَفَحاتِ الـجَرائِـدِ .
واللَّائِـقُ بِالعِلْمِ الكامِلِ والعَـقْلِ التَّـامِّ أنْ لا تَـكُونَ مِثلُ هذِه الوسائِـلِ الَّتي يَـقْـرَؤُها الحاجُّ والدَّاجُّ والصَّغيرُ والكَبِـيرُ والعاقِـلُ والأبلَـهُ مَحلًّا لِخِلافِ العُـلَماءِ ، بلْ يَـتَـكاتَبُ العُلماءُ فِـيما بَينَـهُمْ ويَعرِضُ كلُّ وَاحِـدٍ مِنهُمْ حُجَّـتَـهُ على صَاحِبِه ؛ فإنِ اتَّـفَقا وإلَّا عَذَرَ كلُّ واحِدٍ مِنهُما أخاهُ .
ثُـمَّ ذَكَـرَ مِنْ مَظَاهِـرِ ذَلِكَ وُجُودُ مَسَائِـلَ يُـفْـتَى بِها في كُـلِّ بَـلَـدٍ بِشَيْءٍ ولَوْ وُجِـدَتِ الـمُواصَلَـةُ بَيْنَ العُلَماءِ لَارْتَـفَعَ هذَا الـخَـبْطُ ، وقَدْ هَـدَى الله مَنْ شَاءَ مِنْ عِـبَادِهِ إلَى الدَّعْـوَةِ إلَى فِكْـرَةِ التَّجَمُّعاتِ الفِقْهِـيَّـةِ الَّتي تُسَـمَّى بِاسْمِ : ( الـهَـيْـئَـةِ ) أوِ ( اللَّـجْنَـةِ ) أوِ ( الـمَجْمَعِ الفِقْهِيِّ ) ؛ فَصَارَتْ سَبِـيلًا لِلتَّـوَاصُلِ بَـيْنَ العُـلَماءِ .
كانَ مِنَ الـحَسَـنَاتِ الكَبِـيرَةِ لِلْمَـلِكِ خالِـدٍ رحمهُ الله تَعَالَى : إنْـشَاءُ ( مَـجْمَـعِ الفِقْـهِ الإسْلَامِـيِّ ) الَّذِي عُرِفَ بَعْدَ ذَلِكَ بِاسْمِ : ( الـمَجْمَـعِ الفِقْهِيِّ الإسْلَامِيِّ الدُّوَلِـيِّ ) ، وهَيَّـأَ الله عَـزَّ وجَـلَّ بِتَـوْفيـقِه أنْ جَعَلَ علَى رِئَاسَتِـهِ مِنْ أوَّلِ وَهْلَـةٍ رجُـلًا عالِـمًا يَعْرِفُ أهَـمِّـيَّـةَ عَرْضِ هذِه الـمَسائِـلِ الـمُشْكِلَةِ والبَحْثِ فيهَا ، وهُوَ العَـلَّامةُ بَـكْر أبُو زَيـدٍ رحمهُ الله تَعَالى .
فَـكانَ الـمَجْمعُ الفِقْهِـيُّ أُنْـمُوذَجًا احْتُـذِيَ بِـهِ في إنْـشَاءِ تِلْكَ التَّجَـمُّعاتِ حَـتَّى في الـبُـنُوكِ ؛ فَإنَّ اللِّجانَ البَـنْـكِـيَّـةَ الشَّرْعِـيَّـةَ إنَّما هِـيَ مُـقْـتَـبَـسَةٌ مِنْ فِـكْـرَةِ ( الـمَجْمَعِ ) الَّذي يَـجْـتَمِعُ فِـيه عُلَماءُ مُـتَـفَـرِّقُونَ مِنْ بُلْدَانٍ عِدَّة ثُـمَّ يَـبْحَـثُونَ في مَسْألَةٍ مِنَ الـمَسَائِـلِ ويُصْدِرُونَ قَـرَارًا فِـقْهِـيًّا في
ذَلِكَ ؛ فَـكانَ فيه سَـدُّ شَيْءٍ مِنَ الـحَاجَةِ الـمَوْجُودَةِ في الأُمَّـةِ بِبَـيَانِ أحْكامٍ تَـحْـتَاجُ إلَى اجْتِهَادٍ جَدِيـدٍ .
فَلَـمَّا وُجِدَتْ هذِه الـمَظَـلَّـةُ الَّتي يَـجْتَمِعُ تَـحْـتَها العُلَماءُ ويَتَواصَلُونَ ويبْحَثُونَ فيهَا خَـرَجَتْ هذِه الـمَجامِعُ ـ ولا سِيَّما ( مَجْمَعُ الفِقْهِ الإسْلَامِيِّ ) ـ بِأنْواعٍ مِنَ الـمَعارِفِ والعُلُومِ تَـهَـيَّـأتْ بِمِـثلِ هذَا التَّواصُلِ .
ثُـمَّ نَـبَّـهَ رحمهُ الله تَعَالَى إلَى الحاجَةِ إلَى التَّواصُلِ أنَّها مُـتَأكِّـدَةٌ مَعَ شُيُوعِ وَباءِ الإلْحادِ الَّذي انْـتَـشَرَ في البِلَادِ الإسْلَامِيَّـةِ بِظُهُورِ الفِكرِ الشُّيُوعِيِّ ؛ فَـعَظَّمَ النَّاسُ عُلُومَ الدُّنْـيَا ، وتَأثَّـرَ هؤُلاءِ بِدَعْوةِ المادِّيِّـينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الدِّينَ حَاجِزًا عَنِ العُلُومِ والـمَعارِفِ ، وانْـبَهَـرَ بِدَعْوَتِـهِمْ مَنِ انْـبَهَـرَ مِنْ أبْناءِ الإسْلَامِ مِمَّـنْ دَرَسَ العُلُومَ العَصْرِيَّـةَ .
فَـذَكَـرَ الـمُصَنِّـفُ أنَّ عُـلَماءَ الدِّينِ يَحـتَاجُونَ إلَى إيـجَادِ طُـرُقٍ تُـقَـرِّبُ الـمَسَافَـةَ بَـيْـنَـهُمْ وبَيْنَ الـمُـتَعلِّمينَ لِلْعُلُومِ الحديثَـةِ ؛ لِـيُـبَـيِّـنُوا لَـهُمْ طَريقَـةَ الشَّريعةِ في بَيانِ أحْكامِهَا و وَضْعِ حَقَائِـقِهَا وتَـرْتِـيبِ مَآخِذِ الدِّينِ مِنْها .
ومِنْ أحْسَنِ مَنْ ألَّفَ وَفْـقَ ما ذَكَـرَهُ الـمُصَنِّـفُ مِنْ مَقْـرَبٍ : العَلَّامةُ ابنُ سعدِيٍّ رحمهُ الله تَعَالَى ؛ فَإنَّـهُ ألَّفَ رَسَائِـلَ تَـتَعلَّـقُ بِالرَّدِّ علَى الـمَادِّيِّـينَ وبَـيَانِ اشْتِـمالِ الدِّينِ علَى العُلُومِ والـمَعارِفِ ، وأنَّ الدِّينَ يَـدْعُو إلَى الاسْتِـفَادَةِ مِنَ العُـلُومِ العَصْرِيًّـةِ الـمُـكْـتَشَفَاتِ الـحَـديـثَـةِ ، فَـهُوَ مِنْ أحْسَنِ الـمُتَـأخِّرينَ إنْ لَـمْ يَـكُنْ أحْسَنَـهُمْ علَى الإطْلَاقِ في إيضَاحِ هذَا الأصْلِ وبَـيَانِه ، وذِكْرِ مَـا انْـتَـظَمَ في الشَّريعَـةِ مِن الدَّعْـوَةِ إلَـيْـهِ ، والتَّـعْريفِ بِأنَّ العُلُومَ الشَّرْعِـيَّـةَ لا تَـقِـلُّ دَرَجَةً عَنْ هذِه العُلُومِ العَصْرِيَّـةِ ، لا كَـمَا أوْهَـمَهُ دُعاةُ الـمَادِّيَّـةِ مِنْ أنَّ عِلْمَ الدِّينِ عِلْمٌ جَامِدٌ لَيْسَ فِـيه فَـهْمٌ ولا إدْراكٌ ولا تَـحْقِـيقٌ .
فَـبَـيَّـنَ رحمهُ الله تَعَالَى في رَسَائِـلَ عِدَّةٍ مَـنْـزِلَـةَ عُلُومِ الدِّينِ ، وأنَّها بِالـمَـقَامِ الأعْلَى مِنَ التَّـحْـقِـيـقِ والبَحْثِ الإدْرَاكِ والاجْـتِـهَادِ ، لا كَـمَا يَـتَـوَهَّـمُهُ ـ حَـتَّى اليَوْمَ ـ الـمُشْتَـغِلُونَ بِعُلُومِ الدُّنْـيَا ،
ويَظُـنُّونَ أنَّ عِلْمَ الدِّينِ عِلْمٌ يَـسِيرٌ .
ولَوْ أنَّ أحَدَهُمْ نَظَـرَ في الاجْتِـهَادِ في مَسْألَـةٍ فِـقْهِيَّـةٍ أوْ تَحريرِ حَديثٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِن المسَائِلِ لَعَـرَفَ مَشَقَّـةَ الاجْـتِـهَادِ فيـهِ ، وأنَّ الاجْـتِـهَادَ في إنْجَازِ عَمَلِـيَّـةٍ جِرَاحِيِّةٍ أهْوَنُ بِكَـثيرٍ مِنَ الاجِـتِـهَادِ في مَسْألَـةٍ عِلْمِـيَّـةٍ ؛ لَـكِـنَّ الاغْـتِرارَ بِالعُلُومِ الَّتي يُـعَظِّـمُهَا النَّاسُ لِأجْلِ الدُّنْـيَا يُوَلِّـدُ مِثْـلَ هذَا ، ومَنْ مارَسَ مِنهُمْ العُلُومَ الشَّرْعِيَّـةَ وَقَفَ علَى ذلِكَ .
ثُـمَّ نَـبَّـهَ إلَى أنَّ حَسْمَ دَاءِ الإلْحادِ إنَّـمَا يَـحْصُلُ بِهَـذَا أمَّـا تَـكْـفِـيرُ أبْـنَـاءِ الـمُسْلِمينَ الَّذينَ تَـأثَّـرُوا بِـتِلْكَ الدَّعَواتِ فإنَّـهُ لا يَـزيدُ الدَّاءَ إلَّا شِدَّةً وإعْضَالًا .
ومَـثَـلُه مَـثَـلُ رَجُلٍ ظَـهَـرَ بِأصَابِـعِه داءٌ فَـقَطَـعَه ، ثُـمَّ ظَـهَـرَ داءٌ آخَـرُ في إصْبَـعٍ آخَرَ فَـقَطَـعَهُ ، فَصَارَ يَـقْطَعُ مَعَ كُـلِّ داءٍ عُضْوًا مِنْ أعْضَائِـه ، ومِثْـلُ هذَا لا تَصْلُحُ بِه حالُه وإنَّـمَا تَصْلُحُ بِـهِ الحالُ بِالوِقايَـةِ مِنْ تِلْكَ الأدْواءِ بِـبَـيَانِ الحقِّ في تِلْكَ الـمَسَائِـلِ .

ــــــــــــــــــــــ
(1) وَقَعَ في النُّسْخَةِ الـمَطْـبُوعَةِ في الـمَوْضِعِ الأَوَّلِ : ( مسيب ) ، وفي الثَّاني : ( هييب ) ، وفي " تَعْجيلِ المنْـفَعةِ " الـمَطبُوعِ بمَطبعتِـنا ـ دائِـرةِ الـمَعارِفِ ـ : ( منيب ) ذكَرهُ بَعدَ منْصُور .
(2) كذَا في ( المسنَدِ ) المطْبُوعِ ، وفي ( تَهذيبِ التَّهذيبِ ) المطْبوعِ بِمَطْبعتِـنَا ـ دائرةِ المعَارِفِ ـ : ( أبُو سَعْد الأَعْمَى ) ، وفي ( تَعْجيلِ المنْـفَعةِ ) : ( أبُو سَعْد ، ويُـقَالُ : أبُو سَعيـدٍ ) .
ـ هاتان الحاشيتان منْ الأَصْلِ ـ
منازعة مع اقتباس
  #4  
قديم 05-04-2010, 09:52 PM
أبو محمد فضل بن محمد أبو محمد فضل بن محمد غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Feb 2010
التخصص : شريعة ( الفقه وأصوله )
النوع : ذكر
المشاركات: 487
افتراضي



المعلّميّ رحمهُ اللهُ :

وهذَا مَوْضُوعٌ واسِعٌ ، أَكْتَـفي بِالإِلْـمَاعِ إِلَـيْه ، وَأَهَمُّ مِنْ ذلِكَ حالُ الجوامِـعِ والـمَدَارسِ والدَّوائِـرِ العِلْمِيَّـةِ ، فَـإِنَّ احْتِـيَاجَهَا إِلَى التَّـوَاصُلِ والتَّـعَاوُنِ أَشَدُّ ، لِأَنَّ النَّقصَ في بَعضِهَا يضُرُّ الأُمَّـةَ جَمعاءَ ، خُصُوصًا في هذَا العَصْرِ الَّذِي اضْطَربَتْ فيه نُظُمُ التَّعليمِ ، واحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى التَّغيِـيرِ فيهَا والتَّـبْديلِ بِحَسَبِ ما تَقْـتَضِيه المصْلَحةُ .
فَمِنَ الواجبِ أنْ تكُونَ الـمَدَارِسُ الإِسْلامِيَّـةُ والمعَاهِدُ العِلْمِيَّـةُ في العَالَـمِ كُلِّـهِ علَى صِلَـةٍ بِالْأَزْهَـرِ الْـمَعْمُورِ وتُواصِلَ بينَها لتَوْحيـدِ نِظامِ التَّعليمِ علَى حَسَبِ ما تقْـتَضِيـهِ الدَّواعِي العَصْرِيَّـةُ ، فمِنَ المؤْسِفِ أنْ نَـرَى بَعْضَ المدارِسِ لَا تَـزَالُ تَشْغَلُ طلَبتَها بِعلْمِ الكلَامِ والطَّبِـيعَةِ علَى مَا كانَ مَألُوفًا مُنذُ أَلْفِ سَنَـةٍ ، وتشْغَلُهُمْ في النَّحْوِ والصَّرْفِ بِالكُـتُبِ الَّتي أُلِّـفَتْ قَـبْلَ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِـينَ ، فرُبَّما مكَثَ الطَّالِبُ سِنينَ في المدْرَسةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنهَا كَيوْمِ وَلَـدَتْـهُ أُمُّـهُ ! .
ولَوْ وُثِّـقَتِ الرَّوابِطُ بينَ الجوامِعِ والـمَدارِسِ لَاسْتفَادَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، وانتَـفَعَ جَميعُهَا بِمَا يَهتَـدِي إليه بَعْضُهَا ، فَـتَـكُونُ يَـدًا واحِدَةً علَى تَـرْقيـةِ العِلْمِ ونَشْرِهِ ، واخْـتِـيَارِ الطُّرُقِ الصَّحيحَـةِ القَـرِيبَـةِ الفائِـدَةِ .
وحالُ الـمَطَابِـعِ وخَـزَائِـنِ الكُـتُبِ علَى هذَا القِـيَاسِ ، فكَمْ مِنْ مَطـبَعَـةٍ تَظْـفَـرُ بِنُسْخَـةٍ ناقِصَةٍ مِنْ كِـتَابٍ تُريدُ طَـبْعَهُ ، وقَدْ يكُونُ ذلِكَ الكِتابُ في بَعْضِ المكاتِبِ في قُطْرٍ آخَرَ ، أَوْ في ملكِ أَحَدِ العُلَمَـاءِ ، ولكِـنَّ عدَمَ التَّـوَاصُلِ يَحُولُ بَينَ الـمَطْـبَعةِ وبَينَ العِلْمِ بِذلِكَ ، فَـإِمَّا أَنْ تَـطْـبَعَـهُ نَاقِصًا ، فَـيكُونُ في ذلِكَ مَضرَّةٌ عَظيمَـةٌ ؛ لِأَنَّ الـمَطابِـعِ الأُخْرَى تُـعْرِضُ عَـنْ طَـبْـعِـهِ مَـرَّةً أُخْرَى ، مَخافَـةَ الـخَسَارةِ الـمَالِـيَّـةِ ؛ وإِمَّا أَنْ تُهْمِلَ طَـبْعَـهُ ، وقَـدْ يُـؤَدِّي ذلِكَ إِلَى تَـلَـفِـهِ ، وعَلَى الأَقَلِّ إِلَى تَأْخِيرِ الفَائِـدَةِ الـمَرْجُوَّةِ مِنْ نَـشْرِهِ .
إِنَّـنَا بِهذِهِ الـمُنَاسَبَـةِ نُعْلِـنُ شُكْـرَنَا لِلْحُكُومَـةِ الـمِصْرِيَّـةِ الـجَليلَـةِ والـخِزَانَـةِ الـخِديوِيَّـةِ ، فَـإِنَّـنَا بِالـمُواصَلَـةِ معَهَا اسْتَطَعْـنَا أَنْ نَسْتَـفيدَ ونُـفيدَ العِلْمَ وأَهْلَـهُ فَوائِـدَ عَظِـيمَةً ، فَمِنْ ذلِكَ :
أَنَّها أَفْضَلَتْ علَـيْـنَا بِـإِرْسَالِ نُسْخَةٍ مِنَ " السُّـنَـنِ الكُـبْرَى " لِلْـبَـيْـهَـقِيِّ رحمهُ الله تعالَى ، أَخَذَتْها مِنَ النُّسْخَـةِ الـمَحْفُوظَـةِ فِـيهَا بِالتَّـصْويـرِ الشَّمْسِيِّ .
وكذلِكَ بِنُسْخَـةٍ مِنَ ( التَّـاريخِ الكَبِـيرِ ) لِلْـبُخَارِيِّ رحمهُ اللهُ تَعالَى .
ونُسْخَـةٍ مِنَ ( الأَرْبَعينَ في أُصُولِ الدِّينِ ) لِلْـفَخْرِ الـرَّازِيِّ ! .
وتكَـفَّلَتْ لنَا بِطَـبْعِ ( عُلُومِ الحدِيثِ ) لِلْحاكِمِ رحمهُ اللهُ تَعالَى ، و ( إِعْرابِ ثَـلَاثينَ سُورَةً ) لِابْنِ خَالَـوَيْـه رحمهُ اللهُ تعالَى ، وغَيرِ ذلِـكَ .
ولَا نَـزَالُ نَستَـفيدُ مِنْها ، وسَوْفَ تَـبْـقَى مُواصَلَـتُـنَا مَعَهَا مُسْتَمِـرَّةً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى .
وكذلِكَ حاوَلْـنَا أَنْ نَسْتَـفِـيدَ مِنَ الأَزْهَـرِ الـمَعْمُورِ ، وبعْضِ أكابِـرِ العُـلَماءِ بِـمِصْرَ ، فَـكَاتَـبْـنَاهُمْ لِاقْـتِـبَاسِ رَأْيِهمْ في الكُـتُبِ الَّتي يَـنْـبَغِي طَـبْعُهَا ، فتَـفَضَّلُوا علَـيْـنَا بِآرائِـهِمْ في ذلِكَ ، كما أَثْـبَـتْـنَاهُ في ( بَـرْنَامَجِ الـجَمْعِـيَّـةِ ) ، بلْ وكاتَبْـنَا في ذلِكَ أكـثَـرَ مشَاهِيرِ عُلَـمَاءِ العَالَـمِ ، و وَرَدَتِ الأَجْوِبَـةُ مِـنْ بَعْـضِهِمْ كَـمَا أُثْـبِتَ فِي ( البَرْنَـامَجِ ) .
وبِالجمْلَـةِ فجَمْعِيَّـتُـنَا هذِهِ مَدينَـةٌ لِلْحُكومَـةِ الـمِصْرِيَّـةِ وعُلَـمَاءِ مِصْرَ أَعظَمَ الدَّيْنِ ، ولَنْ يَـزَالَ اتِّصَالُـنَا بِهمْ مُسْتَـمِرًّا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى ، ونَسْأَلُ اللهَ تَبارَكَ وتَعالَى أَنْ يَجـزِيَهُمْ عَـنَّا وعَنِ العِلْمِ وأَهْلِـهِ أَفْضَلَ الجـزَاءِ .
هذَا مِثالٌ مِنْ أَمثلَـةِ التَّـوَاصُلِ العِلْمِيِّ بَينَ الدَّوائِـرِ العِلْمِيَّـةِ ومَا يَنطَوِي علَيْـهِ مِنَ الفَوائدِ العَظيمَةِ ، وَالحاجَةُ داعيَـةٌ إلَى تَوْسِيـعِ نِطاقِ التَّواصُلِ ، ولَا سِيَّما بِتَـبَادُلِ بَعْضِ الوُفُودِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْـرٍ ، ومِنْ بلَدٍ إِلى بلَدٍ ، ومِنْ مدْرسَةٍ إِلَى مَدرسَةٍ .
وقَدْ أَخذَتْ مِصْرُ بفَضِيلَةِ السَّبْـقِ إِلَى هذَا الأَمْـرِ بِبَعْثِـهَا هذَا الوَفْـدَ المحْتَرمَ ، وعَسَى أنْ تكُونَ قُدوَةً صَالحةً لِغَيرِهَا مِنَ الأقْطَارِ ، وسَوْفَ يكُونُ لهذَا التَّـزَاوُرِ ثمَرَةٌ عَظيمَـةٌ إِنْ شاءَ اللهُ تَعالَى .
وإِنِّي وإِخْوَاني الأَفاضِلَ رُفَـقَاءَ الدَّائِـرَةِ نَشْكُرُ لِأَعْضَاءِ الوَفْدِ الأَجِلَّـةِ تَـفَضُّلَهُمْ عَلَيْـنَا وعِنايتَهُمْ بِنَا ، وسَتَـبْقَى أَشْخاصُهُمُ الكَرِيمَةُ ماثِلَـةً في قلُوبِـنَا وكلِماتُهُمْ التَّشْجِيعِـيَّـةُ رَنَّـانَـةً علَى أسْماعِـنَا ، ولَنْ تَـزَالَ الرُّوحُ الَّتي نَـفَخُوهَا فِـينَا بلُطْفِهِمْ وحَنَانِهمْ بَاعثَـةً لَـنَا عَـلَى دَوَامِ الجِدِّ في العَـمَلِ بِنُـفُوسٍ لَا تَـعْرِفُ الكَسَلَ ولَا الـمَلَـلَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى .
وحَبَّـذَا لَوْ كانَ مِنَ الممْكِنِ طُولُ إِقامَـةِ الوَفْـدِ هاهُنَا مُدَّةً طَوِيلَةً ، لِـيَـتَـكَـرَّرَ اجْتِـمَـاعُ العُلَـمَاءِ بِهمْ ، وشِفَاءُ الصُّدُورِ بِالاسْتِـفَادَةِ والـمُذَاكَـرَةِ ؛ فَـإِنَّ قُـلُوبَ عُلَمَـاءِ هذِهِ العَاصِمَةِ وفُضَلَائِـها حَرَّى مُتَـعَطِّـشَةٌ إِلَى الارْتِشَافِ مِنْ عِلْمِ عُلَماءِ الوَفْـدِ ، والتَّـشَفِّي بِمُذَاكَـرَتِهمْ .
ولكِنْ إِذَا كانَ طُولُ إِقَامَـةِ الوَفْـدِ مُـتَـعَذِّرًا ، فَإِنَّـنَا نُـعَلِّـلُ أَنْـفُسَنَا بِعَوْدَةٍ أُخْرَى والعَوْدُ أَحْمدُ ، وبِالـمُوَاصَلَةِ بِالـمُكَاتَـبَـةِ الَّتِي سَتَـبْـقَى إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى مُسْتَمِـرَّةً .
ونَـرْجُو مِنْ حَضَراتِ الأَسَاتِـذَةِ الأَجِلَّـةِ أَعْضَاءِ الوَفْـدِ أنْ يَـفْسَحُوا لَـنَا جانِـبًا مِنْ صُدُورِهِمْ ، وَيَـرْبِطُونَا بِصِلَـةٍ مِنْ عِـنَايَـتِـهِمْ ، فَـإِنَّـهُ لَا غِـنَى بِـنَا عَنْ أَلْطَافِـهِمْ بِالْإِرْشَادِ وَالْإِمْدَادِ العِلْـمِيِّ والدَّعوَاتِ الـمَقْـبُولَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى .
نَسْأَلُ اللهُ تَـبَارَكَ وتَعالَى أَنْ يُـوَفِّـقَـنَا جَميعًا لِدَوامِ الاجْتِـهَادِ في خِدْمَـةِ العِلْمِ والدِّيـنِ ، وأَنْ يُـنْـجِـحَ مَـقَاصِدَ الوَفْـدِ ، ويُـثَـمِّـرَ أَعمَالَـهُ .
وفِي الخِـتَامِ نُحَمِّـلُ الوَفْـدَ تَحيَّـتَـنَا إِلَى رِجالِ الأَزْهَـرِ الـمَعْمُورِ ، وسَائِـرِ إِخْوانِـنَا الـمِصْرِيِّـينَ ، فَلْـيَحْيَـى الأَزْهَـرُ ! ولْـتَحْيَـى مِصْرُ ! .


العصيمي حفظه الله :

ذَكَـرَ الـمُصَنِّـفُ رحمهُ الله تَعالَى هـهُنا مِـمَّا يَـلْـتَـحِـقُ بِالـمَعْنَى السَّابِـقِ : حالَ الجوامِعِ والـمَدارِسِ والدَّوائِـرِ العِـلْمِيَّـةِ ؛ فَإنَّ احْتِـيَاجَهَا إلَى التَّـوَاصُلِ والتَّـعَاوُنِ أشَـدُّ ؛ وذلِكَ لِإصْلَاحِ طَرائِـقِ التَّـعْلِـيمِ فيهَا بِالنَّـظَرِ فِـيـمَا يَصْلُحُ لِـحالِ النَّـاسِ مِنَ الـمَنَاهِـجِ النَّـافِعَـةِ لَـهُمْ مِنْ صَرْفِـهِمْ عَـمَّا لا يَـنْـفَعُ وجَمْعِـهِمْ عَلَى مَا يَنْـفَـعُ ، واتِّـخَاذِ الـمَنَاهِـجِ الَّتي تُـقَـرِّبُ لَـهُمْ هَذَا الـعِلْمَ .
وهَذَا الأمرُ بِسَبَبِ تَـغَـيُّرِ النَّاسِ بَـيْنَ العِلْمِ القَدِيمِ والعِلْمِ الـحَديثِ بِـإِنْـشَاءِ الـمَدارِسِ النِّـظَامِـيَّـةِ حَصَلَ فِـيـهِ خَلَـلٌ وفَسَادٌ .
ولِلطَّاهِـرِ بنِ عاشُورٍ رحمهُ الله تَـعَالَى كِـتَابٌ نَافِـعٌ تَـكَـلَّمَ فيـهِ عنِ التَّعْليمِ وكُـتُـبِه وطَـرَائِـقِه ، كَـتَـبَه وهُو ابْنُ ثَمانِـيَ عَـشْرةَ سَنَـةً اسْمُهُ : ( ألَـيْسَ الصُّـبْـحُ بِقَريبٍ ) ، وهُوَ مِـمَّا يُـبَـيِّـنُ شِدَّةَ الـحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ في الزَّمَنِ الَّذي دَعَا إلَـيْـهِ الـمُصَـنِّـفُ رحِـمهُ الله تَعالَى ، ولا يَـنْـبَغي أن يُـهْـمِـلَ طَالِبُ العِلْمِ الاطَّـلَاعَ علَى هذَا الكِـتَابَ لِعَظيمِ نَـفْعِه في هَذَا الأصْلِ .
ثُـمَّ ذَكَـرَ أنَّ مِنْ جِنْسِ مَا يَجْري مِنْ حَالِ العِلْمِ في الـجَوامِعِ والـمَدارِسِ مِنْ جِنْـسِه حالُ الـمَطَابِعِ وخَزَائِـنِ الكُـتُبِ ؛ فَـكَمْ مِـنْ مَطْـبَعَـةٍ تَظْـفَـرُ بِنُسْخَـةٍ نَاقِـصَةٍ ، فَـإمَّا أنْ تُـبَادِرَ إلَى طَـبْعِهَا وإمَّـا أنْ تَـتْـرُكَ طَـبْعَهَا ويَـكُونُ تَـتْميمُ الـكِتَابِ مَوْجُودًا عِنْـدَ عالِـمٍ في بَـلَدٍ آخَـرَ !
وَهَذَا الأمرُ عِنْـدَ مَنْ مَارَسَ الـكُـتُبَ الـمَخْطُوطَـةَ ظَاهِرٌ بَـيِّـنٌ ؛ فَـكَمْ مِنْ كِـتَابٍ يُوجَدُ مِنْـهُ جُزْءٌ في القَاهِـرَةِ وجُزْءٌ في دِمَشْقَ وجُزْءٌ في الـهِنْـدِ ! مِنْ نُسْخَـةٍ هِـيَ النُّسْخَـةُ وَحْدَهَا ! لَـكِـنَّها تَـفَـرَّقَتْ أيْـدِي سَبَـإٍ بِسَبَبِ عَوادِي الزَّمَـانِ .
ورُبَّما وَجَدتَ أيْضًا في البَلَدِ الوَاحِدِ جُزْءًا مِنْ كِتَابٍ عِنْدَ عَالِـمٍ والـجُزْءَ الثَّـاني مِنْهُ عِنْدَ عَالِـمٍ آخَرَ ؛ مِمَّـا يُحْوِجُ مَنْ رَامَ الـعِنَايَـةَ بِكِـتَابٍ فَـوَجَدَ فيه نَـقْصًا أنْ يَـتَلَمَّسَ نُسَخَهُ في البِلَادِ الإسْلامِيَّـةِ كُلِّـهَا ، وإنْ كَانتِ النَّسْخَةُ الـخَطِّـيَّـةُ أصْلُهَا مَكْـتُوبًا في الـيَمَنِ ، فَـرُبَّما كُتِبَ كِـتَابٌ في اليَـمَنِ هُوَ اليَوْمَ في إيطَالِـيَا ، فكُـتُبُ اليَمَنِ خَاصَّةً تَـحَوَّلَتْ إلَى الـمَكْـتَـبَـةِ الـمَعْرُوفَـةِ في مِيلَانُو ! وعلَى هذَا فَقِسْ مِنْ كُتُبِ الأُمَّـةِ الإسْلَامِيَّـةِ !
ولَوْ وُجِدَ التَّـوَاصُلُ بَيْنَ نَاشِرِي الكُتُبِ مِنَ الطَّابِعِـينَ والـمُحَقِّـقِـينَ لَالْـتَـأَمَ شَمْلُ جُمْلَةٍ مِنَ الكُتُبِ الَّتي صَارَتْ علَى هذِه الصِّـفَةِ .
ثُـمَّ تَـقَدَّمَ رحمهُ الله تَعالَى بِشُكْرِ الـحُكُومَـةِ الـمِصْرِيَّـةِ و ( الخِـزَانَةَ الخِديوِيَّةَ ) أيْ : مَكْـتَـبَـةَ الخِديوِي ـ وهُوَ لَقَبٌ لِـمَلِكِ مِصْرَ ـ وهِيَ الَّتي سُمِّـيَتْ بِأَخَرَةٍ : ( دارَ الكُتُبِ المِصْرِيَّـةَ ) ، فَإنَّـهَا كَانتْ تُسَمَّى بِالخِزانَـةِ الخِديـوِيَّـةِ ، وكَانَتْ مَحَـلًّا لِلْكُتُبِ الـمَخْطُوطَـةِ الَّتي كَانَتْ عِنْـدَ مَلِكِ مِصْرَ ، ثُـمَّ عَظُـمَتْ بِمَا يُوقَفُ عَلَـيْهَا وَمَا يُجْعَلُ فيهَا ، ومَعَ زَوَالِ الـمَلَـكِـيَّـةَ في البِلَادِ الـمِصْرِيَّـةِ سُمِّـيَتْ بِدَارِ الكُتُبِ الـمِصْرِيَّـةِ .
وهَذِه الدَّارُ تَـفَضَّلَ القَائِـمُونَ عَلَـيْـهَا بِـإِرْسَالِ جُـمْلَـةٍ مِنَ النُّـسَخِ الـخَطِّـيَّـةِ لِكُتُبٍ نَشَـرَتْهَا دَائِـرَةُ الـمَعَارِفِ العُـثْـمَانِـيَّـةُ ، مِنْهَا : ( السُّنَنُ الكُـبْـرَى ) و ( التَّاريخُ الكَبِـيرُ ) .
كَمَا أنَّ الـحُكُومَـةَ الـمِصْرِيَّـةَ تَـكَـفَّـلَتْ بِطَـبْعِ ( عُلُومِ الـحَدِيثِ ) لِلْحاكِمِ و ( إعْرَابِ ثَلَاثِينَ سُورةٍ ) لِابْنِ خَالَـوَيْه ، معَ شِدَّةِ وكَلَـفَـةِ النَّـفَـقَةِ علَى الطَّـبْعِ حِينَـئِـذٍ وقِلَّـةِ أرْزَاقِ الـخَلْقِ ، لكِنْ كَانَ لِلْحُكُومَةِ مُشَارَكَـةٌ في ذلِكَ .
وكَانَ لِـحُكُومَـةِ حَيْدَرْ آبـَادَ مِنْ مُلُوكِ آلِ عُثْمانَ ـ وهُمْ غَيرُ العُثْمانِـيِّـينَ أهلِ تُـرْكِـيَا ـ كانَ لَـهُمْ مِنَّـةٌ علَى الأُمَّـةِ الإسْلَامِـيَّـةِ بِنَـشْرِ كُـتُبٍ كَـثِـيرَةٍ ، مِنهَا : ( السُّنَـنُ الكُـبْـرَى ) لِلْبَـيْـهَـقِـيِّ و ( التَّاريخُ الكَبيرُ ) و ( الـجَـرْحُ والتَّـعْدِيلُ ) و ( الأنْسَابُ ) لِلسَّمْعَانِيِّ وكُـلُّهَا طُبِعَتْ علَى نَـفَـقَةِ آلِ عُثْـمَانَ مُلُوكِ الدَّكَنِ الَّذينَ سَقَطَتْ دَوْلَـتُـهُمْ سَنَـةَ ثَـمَانِـينَ بَعْدَ الثَّـلَاثِـمِئَـةِ والألْفِ .
ثُـمَّ ذَكَـرَ أنَّ زِيَارَةَ هَؤُلَاءِ العُلَماءِ مِنْ أهْلِ مِصْرَ تُـمَثِّـلُ إحْيَاءً لِلتَّـوَاصُلِ العِلْمِـيِّ بَـيْـنَ عُلَماءِ البُلْدَانِ الإسْلَامِيَّـةِ ، وقَـد انْـتَـفَعَ عُلَماءُ دَائِـرَةِ الـمَعَارِفِ لِلُـقِـيِّ إخْوَانِـهِمْ ولَـهُمْ رَغْبَـةٌ في طُولِ إقَامَـتِـهِمْ
وإذَا حِيـلَ بَيْـنَـهُمْ وبَـيْنَ تَطْوِيلِ الإقَامةِ فَـلَا أقَـلَّ مِنْ أنْ يَـبْـقَى الاتِّصَالُ بَيْـنَـهُمْ .
ثُـمَّ ذَكَـرَ مَا دَأَبـَـتْ عَلَـيْـهِ الدَّائِـرَةُ مِنْ مَنْـهَجِهَا في إحْـيَاءِ التَّواصُلِ معَ العُلَماءِ في مُـكاتَـبَـتِهِمْ لِلْمُشاوَرَةِ حَوْلَ الكُـتُبِ الَّتي يَـنْـبَغي أنْ تُطْـبَعَ ، وبِـمِثْلِ هذِه الـمُـشاوَرَةِ طُـبِعَتْ كُـتُبٌ نافِـعَـةٌ في دائِـرَةِ الـمَعارِفِ وفي غَيْرِها .
فإنَّ صِدِّيق حَسَن خان رحمهُ الله تَعالَى مَلِكُ ( بَهوبَال ) طَـبَعَ جُـمْلَـةً مِنَ الكُـتُبِ بِإشارَةِ جَمَاعةٍ مِنَ العُلَماءِ مِنْ أهْلِ الـيَمَنِ وغَـيْرِهِمْ واسْتَـفادَ النُّـسَخَ الَّتي نَـشَـرَ عَـنْها مِنَ البِلَادِ الـيَـمَنِـيَّـةِ كَـ ( فَـتْحِ الـبَاري ) فَـإنَّـهُ مِنْ أوَّلِ مَنْ نَشَـرَه رحمهُ الله تَعالَى ، ثُـمَّ كانَ أخْذُ نُسْخَـتِه لهُ مِنْ أحدِ عُلَماءِ الـيَمَنِ .
وإذا تَأمَّـلَ الإنسانُ مُكاتَباتِ العُلَماءِ معَ صِدِّيق حسَن خان رحمهُ الله تَعالَى في تَـرْغيـبِه في ما يُطْـبَعُ علِمَ أثَـرَ التَّـواصُلِ في تَوْفيرِ الكُتُـبِ الـمُناسِبَـةِ لِلطَّبعِ والنُّـسَخِ الـخَطِّـيَّـةِ لَها .
وكذَلِكَ كانَ هذَا الأمرُ في مراسَلاتِ الجمالِ القاسِمِـيِّ و محمُود شُكْري الألوسي ؛ فـقَد كانا يَـتَـكاتَـبانِ ويُكاتِـبانِ عُلماءَ أهلِ نَجـدٍ كـ ( صالِـحٍ بْنِ سالِـم البنَـيَّان الـحائِـليِّ ) و ( عَبـدِ الله ابْنِ عَبْـدِ اللَّطيفِ النَّـجْدِيِّ ) لِلسَّعْيِ في طَـبْعِ كُـتُبِ شَيْـخِ الإسْلَامِ ابْنِ تَـيْـمِـيَـةَ رحمهُ الله تَعالَى .
وكانَ لَـهُما فَضيلَـةَ طَـبْـعِ جُـمْلَـةٍ مِنْ كُـتُبِ شَيخِ الإسْلَامِ ابْنِ تَـيْـمِـيَـةَ رحمهُ الله تَعالَى بِتَـشْجـيـعِ أرْبابِ الـمَطابِـعِ عَلَـيْها ، وكانَ أكـثَـرُ ذلِكَ بِـمُساعَدَةِ الـمُحْسِنِ الكَبيرِ عَبْـدِ القادِرِ الـتِّـلمسانيِّ رحمهُ الله تعَالَى ، وكانَ رجُلًا عالِـمًا صَالِـحًا مِنْ أهْلِ مِصْرَ وجدَّةَ وكانَ يَـتَـرَدَّدُ بَيْـنَـهُما ، فطُبِعَتْ لِأوَّلِ مَـرَّةٍ : ( مَجمُوعةُ الفَـتَاوَى الـمِصْرِيَّـةِ ) الَّتي تُسَمَّى بِـ ( الفَـتَاوَى الكُبْـرَى ) ، وكانَتْ بِسَعْيِ هذَيْنِ العالِـمَيْنِ .
في عِدَّةِ كُـتُبٍ أيْضًا طُبِعَتْ بِمِثْلِ هذَا ؛ لَـمَّا كانَ العُلَماءُ عِـنْـدَهُمْ حِرْصٌ علَى نَشْرِ الكُـتُبِ لِإفادَةِ النَّاسِ ، والآنَ ضَعُفَتْ عِنايَـةُ العُلَماءِ في الاهْتِـمامِ بِنَـشْرِ الكُـتُبِ ، وصارَتْ صَنْـعَةً لِلتُّـجَّارِ ؛ فَـهُمْ يَتَـكَسَّـبُونَ بِنَشْـرِ الكُـتُبِ الـمَبالِـغَ الطَّويلَـةَ العَظيمَـةَ ، وأهْلُ العِلْمِ في غَـفْـلَـةٍ عَنْ الإرْشادِ عَنْ ضَنائِنِ العِلْمِ الَّتي يَنْـبَغي أنْ تُنْـشَرَ !
وكَمْ مِنْ كِـتَابٍ عَظيمِ النَّـفْعِ لا يَـزالُ حَبِـيسَ خَزائِـنِ الكُـتُبِ لِـقِلَّةِ عِلْمِ أرْبابِ دُورِ النَّـشْرِ بِالنَّافِعِ وتَـفْريطِ العُلَماءِ في حَـثِّهِمْ علَى ما يَنْـفَعُ ، ولَوْ أنَّ العالِـمَ اعْـتَنَى بِذَلِك في الـحَثِّ والـمَنْعِ لَانْـتَفَعَ بِذَلِكَ النَّاسُ .
وكانَ لِلشَّيْخِ بَـكْرٍ رحمهُ الله تَعالَى عِنايَـةٌ بِهذَا ؛ فَـكَمْ مِنْ كِـتابٍ سَعَى في طَـبْـعِه ، كَما سَعَى رحمهُ الله تَعالَى في جَـمْعِ مَـقالاتِ العَلَّامَـةِ صَالِـح بْنِ عُـثَـيْـمِـينَ عالِـمِ مَـكَّـةَ رحمهُ الله تَعالَى ؛ فَإنَّـهُ بِسَعْيِه وعِنايَـتِه طُبِـعَ هذَا الكِتابُ في أحَدِ الدُّورِ ، ولَـمْ يُشَرْ إلَى أنَّ الَّذي سَعَى فِـيه هُوَ فُلانُ ابنُ فُلانٍ ! في كُـتُبٍ أخْـرَى .
وكذَلِكَ كانَ لَه يَـدٌ في مَـنْعِ طِـباعَـةِ جُـمْلَـةٍ مِنَ الكُـتُبِ قُـدِّمَتْ لِـبَعْضِ الدُّورِ ، فَأشارَ ـ لَـمَّا بَلَـغَـهُ الـخَـبَـرُ ـ بِعَـدَمِ طِـباعَةِ مِثْلِـها ؛ لِـما في ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ .
وإذَا قامَ العُلَماءُ بِهذَا الأمْرِ انْـتَـفَـعَ النَّاسُ ، والله أعلَمُ وصَلَّى الله وسَلَّمَ علَى عَـبْـدِه ورَسُولِه محمَّـدٍ .


وهذَا آخِرُ التَّـقْريرِ علَى هذَا الكِـتابِ ، والـحَمْدُ لله رَبِّ العالَمينَ .
وصلَّى الله علَى نَبِيِّـنا محمَّدٍ وعلَى آله وصَحْبِه وسَلَّمَ
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
قراءة وشرح لرسائل في علوم العربية - صالح العصيمي ( دروس صوتية ) الأديب النجدي المكتبة الصوتية 5 18-08-2012 10:37 AM
مقالة كلاّ لأحمد بن فارس - صالح العصيمي ( درس صوتي ) لسان مبين المكتبة الصوتية 2 12-11-2009 03:39 PM
شرح قصيدة ( المقصور والممدود لابن دريد ) لابن هشام اللخمي - صالح العصيمي ( درس صوتي ) لسان مبين المكتبة الصوتية 2 12-11-2009 03:36 PM
الظاءات للحافظ أبي عمرو الداني - صالح العصيمي ( درس صوتي ) لسان مبين المكتبة الصوتية 2 14-08-2009 08:51 AM
قاعدة فى كيفية تلقي التفسير ؛ للعلامة الشيخ السعدى أم عبد السميع حلقة العلوم الشرعية 0 08-02-2009 07:14 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 01:22 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ