|
|
#1
|
|||
|
|||
من آي الرحمن
مما فضل به الإنسان في الخلق ، أن كان له من الْبَيَانِ وصف به يحكي ما يقوم بالنفس من المعنى ، وله في القسمة شَطْرٌ يُقَاسِمُ بما كان من نطق يُفْصِحُ في الظاهر ، وذلك البيان الذي علمه الله ، جل وعلا ، الإنسان ، فَثَمَّ اسم الرحمن صدر كلام قد ابتدئ في آي من الذكر قد أحكم ، فـ : (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ، وذلك من حسن الاستهلال الذي يواطئ ما تلا من المنن الربانية العظمى من الخلق والتعليم ، وهي ، لو تدبر الناظر ، مما عم المؤمن والكافر ، فَثَمَّ من ذلك تكريم وتفضيل عام ، فَثَمَّ من ذلك ما عَمَّ الظاهر بما استوى من الخلق والتركيب ، فَثَمَّ من استقامة الجسد ، وحسن الهيئة في الأعضاء والحركات ، مع إتقان في الخلق يزيد ، فثم من ذلك مجموع مركب من روح تلطف وجسد في الخارج يكثف ، وهو صورة ظاهر لا تَنْفَكُّ تحكي أخرى تَبْطُنُ ، فهي الآلة التي بها الروح تَتَأَوَّلُ الفكرة ، فيكون من ذلك تصديق تال بالحركة ، فالروح معدن العقل ، وهو آي التفضيل الأخص ، وإن كان من التكريم والتفضيل ما تَنَاوَلَ الظاهر ، كما تقدم ، فلا يكمل ذلك إلا وثم آخر في الباطن ، ومحله العقل ، وهو وصف الروح ، فَثَمَّ منها جوهر لطيف ، وهو ما لا يدرك بالحس ، وإن كان ثم آثار له في الخارج تَشْهَدُ بما يكون من حركات الاضطرار والاختيار ، وحركات الاضطرار محل اشتراك بين الأحياء كافة ، فحركة المعي وحرارة الجسد بما يكون من اندفاع الدم في العروق ، وما يحتمل من الغذاء المهضوم ، وما يكون من هدم وبناء ، ومن الهدم ما به الحرارة تَتَوَلَّدُ ، وكل أولئك مما يجري على سَنَنٍ محكَمٍ في الخلق والتدبير ، وهو دليل على أول قَدْ قَدَّرَ بعلم محيط قد استغرق ، وله من الإرادة بعدا ما يخصص وَيُرَجِّحُ ، فثم من خلق الظاهر ، الجسد وما كان من أعضاء ونسيج وخلايا تدق ، ولها من وصف الغيب حظ ، فهو النسبي الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ المجرَّد ، فلا ينفك يطلب من آلة البحث والتجريب ما يُظْهِرُ ، وذلك ما تفاوت فيه الخلق ، ولم يزل يظهر في كل جيل منه ما يعجز ، فتلك آي في الأنفس ، وهي شطر يقاسم أخرى في الآفاق ، وبهما دليل على أول قد قَدَّرَ وَأَوْجَدَ ، فأخرج المقدور من العدم إلى وجود تال يصدق ، وله من وصف الإتقان آي أول ، وله تال من التدبير الذي يسلك السنن المحكم ، وذلك أخص من العلم والتقدير ، فَثَمَّ الحكمة في التدبير ، ولا يكون ذلك من لطيف خبير قد علم الدقائق كما الجلائل ، فَعِلْمُهُ قد أحاط بالكليات والجزئيات كافة ، فكل أولئك مما عم في حركاتِ الاضطِّرَارِ : الإنسان العاقل الناطق والحيوان البهيم الأعجم الذي لا يحسن يَنْظُرُ وَيَنْطِقُ ، وإنما يصدر عن روح أدنى لا غاية لها ولا قصد إلا حفظ الحياة والنوع دون آخر يجاوز ، فذلك ما استوجب زيادة في العقل تحد المعاني الدينية والأخلاقية ، وبها امتاز الإنسان ذو المعنى ، معنى التكليف ، امتاز من الحيوان البهيم فلا يجاوز حَدَّ المادة التي يعالجها بِغَرَائِزِ حِسٍّ تَكْثُفُ ، فهي حكايةُ جسدٍ ذي مادة في الخارج تدرك بالحس ، وهي محل التجريب والبحث ، فكان من رِدَّةِ المذاهب الحداثية أَنْ صَيَّرَتِ الحس وحده دليل العلم والمعرفة ، فلا علم يُجَاوِزُ الحس والعقل ، وإن شَرُفَ من معاني الوحي التي تعالج معادن في النفوس تدق ، فلا تُدْرَكُ بالحس ، ولا ترصد بالتجريب والبحث ، فهي كليات مجملة قد ركزت في النفس غَرِيزَةً أخرى تشاطر غَرِيزَةَ الحسِّ ، وبها امتاز الإنسان المكلَّف من الحيوان الأعجم ، فَثَمَّ من الغريزة جنس عام يجرده الذهن ، وله في الخارج آحاد تمتاز ، فَثَمَّ غريزة الحس ، وهي ، لو تدبر الناظر ، محل اشتراك بين الإنسان المتكلم والحيوان الأعجم ، فكلٌّ يأكل ويشرب وَيُبَاضِعُ ...... إلخ من وظائف الجسد ، وغايتها حفظ النفس والنوع ، مع لذة تُشْتَهَى طَبْعًا ، وهي في جنسها ، أيضا ، دون أخرى أَشْرَف ، فَلَذَّاتُ النَّفْسِ بما يحصل من العلم ، وما يكون من التعظيم ، ولو رياءً أو مداهنةً ، تلك ، بداهة ، أشرف من لذة المطعم والمشرب والمنكح التي يستوي فيها الإنسان والحيوان ، بل الحيوان له منها حظ أوفر ، فهو يأكل ويشرب أكثر ، وهو على المباضعة أقدر ، فله منها قوة تجاوز الإنسان ، فجسد الحيوان إذا قِيسَ بمعيار الحس ، فهو أقوى ، وإن لم يكن الأكمل في الصورة والهيئة ، فذلك مما كُرِّمَ به الإنسان وَفُضِّلَ ، وإن لم يكن الخاصة التي تميز ، فَثَمَّ أخرى تجاوز ، وهي غريزة العقل ، على التفصيل آنف الذكر ، فاللذة : جنس عام يجرده الذهن ، وليس يحصل منه في الخارج شيء إلا أن يكون ثَمَّ زِيَادَةُ قَيْدٍ ، فمنها لذة المعنى ، ومنها لذة الحس ، والأخيرة محل الاشتراك بين الإنسان المكلف والحيوان الأعجم ، فلا امتياز بها ، وإنما الامتياز بأخرى هي الأشرف ، لذة النفس بما تَنَالُ من محبة وعطف ، ومهابة في النفس ، إِنْ صِدْقًا أو كَذِبًا ، لا جرم كانت فتنة ذوي الرياسات مما عَظُمَتْ بها الْبَلِيَّاتُ ، فما أكثر الخلق الذين قهروا لذات الحس ، فحصل لهم بِذَا نَوْعُ رِيَاضَةٍ وَزُهْدٍ ، اقتصدوا أو جاوزوا الحد فكان الغلو في قهر المادة انتصارا لمعنى هو الأشرف ، فَقُهِرَ الجسدُ وهو الكثيف انْتِصَارًا لروحٍ تَلْطُفُ ، الْتَزَامًا لما لا يَلْزَمُ ، أَنْ ظَنَّ الزاهد أن الغاية لا تدرك إلا بجسد يضعف ويهزل ، فيصير الجوع والعطش والنصب في نَفْسِهِ فَضِيلَةً ، وما بِذَا نَزَلَتِ الشريعة ، فليس من مقاصدها إجهاد البدن وإذلاله ، وليست المشقة في حكومات الوحي تُرَادُ لذاتها ، وإنما تَعْرِضُ بما استقر ضرورة من طبائع الأشياء والأحوال ، فلا شيء في هذه الدنيا يُنَالُ إلا بالنصب ، ولو لَذَّةَ مطعمٍ أو مشرَبٍ أو منكح ، فلا تخلص لصاحبها إذ يجهد في تحصيل أسبابها ، وهو بعدا يعالجها بقوى من الحس تجهد وتفتر ، فاللذة إذا استوفاها الجسد ، فهو يَثْقُلُ ، والروح بَعْدًا تَكْثُفُ ، فيكون مِنْ نَقْصِ العقل ، ولو لم يُذَمَّ العبد ، فإنه لا يلام على تَعَاطِي المباح المأذون فيه ، وإن لِيمَ بما زاد من الفضول ، فذلك مما يُفْضِي إلى بلادةٍ وقسوةٍ ، لا جرم مُدِحَ الاقتصادُ فِي أسباب المادة ، لا الجفاء الذي يُضْعِفُ بما يكون من هجر المباح ، فذلك طرف يقابل آخر يزيد في الحد ، فيكون من ذلك فضولٌ يُكْرَهُ ، فهو يضر بصاحبه ، وإن على أمد يَبْعُدُ ، فذلك مما يُرَاكِمُ الجسد ويجمع ، فلا يكون المرض دفعةً ، وإنما يحصل بتعاطي أسبابه مرة بعد أخرى ، فلا الجفاء في أسباب الحس يحمد ، فذلك ، أيضا ، مما يُرَاكِمُ الجسد ويجمع من أسباب المرض نقصا ، ولا زيادة الفضول فيها يحمد ، فهو ، كما تقدم ، مما يُرَاكِمُ الجسد ويجمع من أسباب المرض زيادة ، فطرفُ نَقْصٍ ، وطرفُ زيادةٍ ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، لا جرم كان الاقتصاد خيرا من الجفاء والغلو ، فهو جادة وسطى بين طرفي قسمة ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم الحس والمعنى ، كما في الأثر : "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة" ، فالاقتصاد في السنة جادة وسطى ، وذلك خير من الغلو والزيادة في المحدثة ، وهو ما لا ينفك يَقْرِنُهُ آخر من الجفاء في ضد ، كما الغلو في الرياضة والزهد ، فلا ينفك يقرنه جفاء في تعاطي الأسباب المباحة التي تنفع ، وبها حفظ النفوس فلا تُقْتَلُ ، وذلك مما نهى عنه الوحي المنزل ، فـ : (لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فصار المباح ، من هذا الوجه ، مُرَادًا لغير إذ به التَّوَسُّلُ إلى غايةٍ ومقصدٍ يُرَادُ لذاته من حفظ النفس والنوع ، فَلِأَجْلِهِ أُبِيحَتِ المآكل والمشارب والمناكح الطيبة ، فالمباح إذا صار ذريعة ، فهو يلحق بالمقصد ، فيدخل في حد التكليف ، من هذا الوجه ، فإذا غلا في تعاطي المباح فأصاب منه فضولا تزيد ، وهي ما يجهد البدن أن يعالج الزيادة ، ويطرد الفضلة التي تؤذي ، فإذا حصل من ذلك شيء ، فهو يلحق بالمقصد ، وهو ما يكون بَعْدًا من ضَرَرٍ يضعف ويمرض ، بل قد يُفْضِي إلى الهلكة بشما ، وذلك نظر أدق يجاوز الحال إلى المآل ، فقد يزيد فضولا من المباح لدى المبدإ ، ثم لا يجد آثارها الحالة ، وإنما يُرَاكِمُ الجسد من ذلك ما يمرض وَيُهْلِكُ ، فلا يشرع من ذلك فضول تَزِيدُ ، وهو ما يواطئ القياس الصريح ، فَمَا مُدِحَ إنسانٌ عاقل يَنْطِقُ أَنِ اسْتَوَى هو ودابة تأكل وتشرب ، فهي ، كما يقول بعض من صنف ، تمدح بكثرة الأكل والشرب وما يكون من سمن وزيادة في اللحم ، وذلك معنى لا يشرف في حق الإنسان المكلَّف ، فليس بهيمة تُطْعَمُ لِتَسْمَنَ وَتُذْبَحَ وَيُؤْكَلَ لحمها ، بل له من العقل ما جاوز ، عقل التكليف الذي يجاوز مدارك الحس ، فَلَهُ من خاصة القياس المركب ما يَتَنَاوَلُ مقدمات الضرورة ، فينظمها في سلك يجمع ، وله من المرجع ما جاوز الحس المحدَث ، إذ ثم من الروح حقيقة تَلْطُفُ ، ولها ، كما تقدم ، غَرِيزَةٌ من العقل ، وهي الوصف ، كما البدن ، في المقابل ، حقيقة تكثف ، وله غريزة من الحس ، وهي الوصف ، فَثَمَّ من الغريزة كما اللذة آنفة الذكر ، ثم منها جنس عام يجرده الذهن ، فمنها : جنس عام يجرده الذهن ، فذلك المطلق الدلالي الذي يطلب القيد الخارجي ، فكان من ذلك : لذة الحس التي استوى فيها الإنسان المتكلم والحيوان الأعجم ، وثم أخرى أشرف ، لذة النفس أَنْ تَسُودَ وَتَتَرَأَّسَ ، وقد تسلك لأجل ذلك كُلَّ مَسْلَكٍ ، ولو عَصَتْ وَظَلَمَتْ ، مع أخرى تزيد بها الْبَلْوَى ، أن تكون النفس وضيعة ليست أهلا لرياسة ، لا في دين ولا في دنيا ، لا في سياسة ولا في حرب ، وهي ، مع ذلك ، تروم المجد ، ولم تخلق له بل لِضِدٍّ قد وجدت ، فلا تصدر إلا عن حسد وغل ، مع ضَعَةٍ في النفس والأصل ، فإذا تَوَسَّلَتْ بمكرٍ وخديعةٍ ، وحصلت لها رياسة في الخلق ، فَلَا يَرْجُو منها العاقل الخير ، بل شؤمها قد عَمَّ الحس والمعنى ، الدين والدنيا ، فطلب الرياسة والشرف مما جُبِلَتْ عليه النفوس كافة ، والحرص عليها وتكلف أسبابها مما يورد صاحبه المهالك ، إن لم يكن له من ذلك نية تخلص وقصد يحسن ، ونفس تكمل ، وإلا صارت إلى ضِدٍّ تَعْظُمُ به البلوى ، وبه تضييع الأمانة ، وانتظار الساعة ، أن يوسد الأمر إلى غير أهله .
وثم لذة العلم ، وهي أشرف آحاد الجنس ، وهي ، في نفسها ، مما يتفاوت ، فشرف العلم ، كما يقول أهل الشأن ، لشرف المعلوم يتبع ، لا جرم كان العلم بالخالق ، جل وعلا ، أشرف العلوم ، فالمعلوم أشرف موجود ، وكان العلم بالدين أشرف العلوم العقلية ، كما العلم بالطب أشرف العلوم التجريبية ، فإن موضوع الأول ، أشرف موجود ، وهو الرب المعبود ، جل وعلا ، وموضوع الثاني أشرف مخلوق ، وهو الإنسان ، الذي كُرِّمَ وَفُضِّلَ ، إن في صورة الظاهر بما استقام من البدن ، وَجَمُلَ من الوجه والهيئة ، وهي ، أيضا ، مما جاوز الحس إلى المعنى ، فَثَمَّ من هيئاتِ الباطنِ ما امتاز به الإنسان العاقل ، وآثاره بَعْدُ تَظْهَرُ في منطقٍ يُفْصِحُ عَمَّا يقوم بالنفس من المعنى ، وبه امتاز من الحيوان الأعجم ، مع آخر من آداب بها يتجمل الإنسان في المطعم والمشرب والمنكح والزينة والملبس ، لا جرم كان وعيد الشيطان أن يوسوس ويفتن ، فَيَنْزِعَ عن الإنسان لباسا به يَتَجَمَّلُ ، فهو آية تميزه من الحيوان الأعجم ، فيكون من ذلك انحطاط إلى دَرَكَةٍ دُنْيَا ، إذ تَغْلِبُ المادَّةُ المعنى ، فَيُرَدُّ الإنسان إلى ماهية الطين السفلى ، دون أخرى نُورَانِيَّةٍ تَشْرُفُ ، وهي الروح التي تلطف ، وهو ما توسلت لأجله الحداثة في النظر أَنْ صَيَّرَتِ المادة هي الحقيقة في الخارج ، فقد اتحد بها المعنى واضمحل ، فلم يعد ثم حقيقة إلا المدرك بالحس ، دون آخر يلطف من المعنى ، وهو ما سلكت به ، ولو لازم القول والمذهب ، مسلك أَوَّلٍ قد تقدم من الحلول والاتحاد ، وإن على قاعدة معنى لا مادة ، فكان غلوها في الرياضة والزهد ، وبه تجردت من علائق الحس ، بل قد غلت وزادت في الحد ، فكان من ذلك ما رامت به غاية لا تحمد ، أن تبلغ درجة بها يسقط التكليف ، وهو ما تأولت به اليقين ، فيكون من ذلك انكشافُ حُجُبٍ من الغيب ، ووصول إلى الحضرة العليا ، واتحاد بالموجود الأعلى .... إلخ من آثار لمذاهب في أمم الهند وفارس قد سبقت ، فقبست منها الرهبانية المحدثة ما قبست ، وهو ما سرى بعدا إلى مذاهب قد حدثت بعد ختام النبوة وانقطاع الوحي ، فرامت بلوغ حقيقة بها نقضت عرى الشريعة ، فكان من مذهب الباطن في التأويل ما عطل الظاهر من التشريع ، إن في الخبر أو في الحكم ، وذلك ما واطأ الحداثة ، أو هي له تواطئ ، فهو أسبق ، وهي بعد لجادته تسلك ، وإن رَامَتْ غَيْرًا من القصد ، أَنْ تَغْلُوَ في المادة والحس ، فتصير هي الأصل ، بل والحقيقة في الخارج ، فَلَيْسَ ثم غيرها يجاوز ، فالمعنى ، كما تقدم ، قد حل في المادة وبها قد اتحد ، فلم يعد في الخارج إلا واحد بالعين ، وهو المدرك بالحس ، فكان ما كان من الغلوِّ في المادة ، وهو ما ظهرت آثاره بَعْدًا في مناهج من البحث والتجريب لا تجاوز مدارك الحس ، فلا غريزة في الإنسان العاقل تجاوز الحس ، وليس من العلم شيء يثبت إلا ما يُرْصَدُ بالتجريب والبحث ، فلا معلوم إلا المشهود ، وذلك ما عطل خاصة العقل الأشرف ، أن يدرِك المغيَّب ، ولو تجويزا في العقل يُطْلَقُ ، فذلك الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وليس إلا الخبر الذي يصدق ، فيثبت من الغيب ما لا يدرك الحس المحدَث ، فالغيب موجود ، وإن لم يكن المشهود ، فليس الموجود يعدل في الحد المحسوس ، وإلا انحط الإنسان ذو العقل المكلف الذي يمهد في النظر بمقدمات الضرورة بين يدي القياس المركب ، وليس الحيوان الأعجم يجاوز في ذلك مدارك الحس المحدَث ، فلا يعلم إلا ما يَشْهَدُ بحسه ، فإن ضاهاه الإنسان في ذلك ، فلم يُثْبِتْ في الخارج إلا ما يُشْهَدُ بالحس الأدنى ، فقد عطل خاصة العقل الأعلى ، أَنْ يُدْرِكَ ما جاوز الحس ، ولو تجويزا في باب الغيب الذي لا يُنَالُ إلا بالخبر ، وله من المرجع من خارج ما يجاوز الحس الحادث ، وبه امتاز الإنسان العاقل ، وَذَاكَ مناط التكليف بالوحي النازل ، إن خبرًا أو حكمًا ، فَثَمَّ من الغيب شطر يقاسم الشهادة حقيقةَ الموجوداتِ ، فليس المشهودات حصرا كما اقترحت الحداثة في مقالها الذي لا يجاوز المادة ، فليس دليلا على الإثبات في الخارج إلا غريزة الحس الحادث ، وهي وصف الجسد الأدنى ، دون أخرى هي الأشرف ، غريزة العقل الذي يجاوز الدماغ المحسوس ، فهو آلة بها تأويل أول من المعقول يَسْبِقُ ، فالدماغ عنه يَصْدُرُ ، وإن كان من سبب الحس ما يُؤَثِّرُ فيه فَيُفْسِدُ مراكز النطق والوعي كما الخمر إذ تخامره فتستر منه قوى الإدراك ، وهو ما يضر العقل الذي يحمد به المكلف أن يكون منه مانع يحجز عن فعل القبيح ، فإذا فسد الدماغ وهو الآلة ، فآثار ذلك تَنَالُ العقل ، كما فساد العقل بما يكون من اعتقاد السوء وإرادة الشر بما يُزَيِّنُ الوسواس طلبَ لذَّةٍ تَعْجُلُ ، وإن كانت من عاقبتها ما يؤلم ، فذلك مما يَنَالُ الدماغ ، فيكون منه تأويل لمقاصد تسوء ، فهو تَبَعٌ للعقل ، من هذا الوجه ، وبه تأويل ما قام به من الغاية والقصد ، فلا تنفك آثاره تظهر في الإفراز والنبض وما يكون بعدا من حركات الجسد الكثيف الذي يَصْدُرُ عَنِ الروح اللطيف ، فَثَمَّ من قسمة الحقيقة في الخارج ما جاوز المحسوس من هذا الجسد الحادث ، فكان من ذلك رُوحٌ تَلْطُفُ ، ووصفها العقل الذي يَنْظُرُ ، وله من خاصة الإدراك ما جاوز الحس المحدَث ، فَثَمَّ آخر من الغيب الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن وجد الحس آثارا منه في الخارج ، كما استدلالٌ بالمخلوق على الخالق ، جل وعلا ، وبما أُتْقِنَ من الخلقة وَأُحْكِمَ من السنة ، على أول هو المتقِن المحكِم بما كان من علم تقدير أول ، وما كان بَعْدًا من إرادة تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، فحصل من ذلك قسمة في النظر قد استوفت أجزاء القسمة في الخارج : المادة والمعنى ، الجسد والروح ، العقل والدماغ ، غريزة الحس وهي وصف الجسد ، وغريزة المعنى ، وهي وصف الروح ، فَثَمَّ من ذلك قسمة تضاهي ما تَقَدَّمَ من قسمة اللذة ، ومنها المحسوس ، ومنها المعقول ، فكذا الْغَرِيزَةُ ، فمنها المحسوس ، ومنها المعقول ، وبهما ائتلاف في الخارج به حَدُّ الإنسان ، فهو ، كما تقدم ، روح وجسد ، وثم من التكليف ما به الحال تعتدل ، فلا يكون غلو في طرف ، ولا ينفك يقرنه جفاء في آخر ، فذلك مما يجري مجرى التلازم ، كما غلا بَعْضٌ في المحسوس ، والحداثة مثال في الجيل المتأخر ، وله سَلَفٌ من الحكمة الأولى الَّتِي صَيَّرَتِ الجسدَ هو الأصل ، والحواس هي روافد الإثبات والنفي ، فكان الغلو في المحسوس الذي أَفْضَى ، إِنْ نَصَّ المذهب أو لَازِمَ قولٍ يَلْزَمُ قائله ، إلى جحد الغيب ، وقصر العلم على مدارك الحس ، تحجيرا لما وسع من الأدلة التي تناولت المعقول والمفطور والمحسوس ، وأولا من المنقول ، وهو العمدة في باب الغيب الذي جاوز مدارك الحس ، فكان التحكم الذي يصير عدم الوجدان بالحس المحدَث دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ! ، بل ويصير الحس إذ يَبْحَثُ وَيُجَرِّبُ سببا في الوجود ، وليس ، لو تدبر الناظر ، إلا سبب الكشف عما حصل قَبْلًا من الأعيان والسنن التي عليها تجري . وَقُلْ مِثْلَهُ في آخر قد غلا في ضدٍّ من المعقول ، فكان من ذلك مذاهب رياضة وزهد ، قد خالفت عن الجادة بما كان من غلو في هجر المباح ، وهو قَسِيمُ آخر قد غلا في مباشرةِ المباح على قاعدة من النظر لا تجاوز الجسد ، فَلَيْسَ ثم لَذَّةً إلا ما يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهرِ ، فذلك مذهب المادة الذي غلا في الحس ، ولو المباح ، فكان من الفضول ما أَضَرَّ الحركة إذ يُثْقِلُهَا ، والفكرة إذ يُفْسِدُهَا بما يكون من بلادةٍ وكثافةِ طَبْعٍ ، وضده ما كان من مذاهب المعنى التي جَفَتِ المباح ، فلم تَتَعَاطَ منه ما يحفظ النفس وَالنَّوْعَ ، فكان الغلو في الرياضة والزهد حتى ضَعُفَ البدن ومرض ، وذلك مما يلحق الفعل ، وهو تَرْكُ المباح ، فالترك في هذه الحال فعل ، ولو فعلَ الكفِّ ، فَبِهِ ترجيح بإرادة تحدث وهي عن تصور أول تصدر ، فكان من ترك المباح ما جاوز حد الاعتدال ، فأوقع صاحبه في حرج من الدين والدنيا ، فقد تكلف ما يخالف عن الطبع والجبلة ، وإن قدر حِينًا فلا يقدر أخرى ، فمآله الضعف والمرض وآخر من السآمة والملل ، كما حال الرهبان الأوائل ، وقد وقعوا في ضد من الفواحش ، فَرَامُوا العفة بإضعاف الغرائز وإماتة الشهوات المركوزة في الجبلة ، فَوَقَعُوا في ضدٍّ قد خالف عن الشرعة ، ولو أطاق بَعْضٌ فَهُمْ قليلٌ أو نادر ، فلا حكم له ، كما يقول أهل الشأن ، فالشرع المحكم قد نَزَلَ بما يواطئ عموم الخلق ، ولم يأت بما يَشُقُّ مشقَّةً تجاوز الحد ، بل لم تكن المشقة ابتداءً مراد الشارع ، جل وعلا ، وإنما العادة قد جَرَتْ أَنَّ أَيَّ فعل في الخارج ، ولو مباشرة اللذة الخالصة ، لا ينفك يقرنه من المشقة بعض ، فكيف بحكومات الأمر والنهي ؟! ، والمشقة ، مع ذلك ، لا تُرَادُ لذاتِها ، بل لو حصل منها ما يجاوز حد العادة في تكليف ، فذلك مما استجلب التيسير ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، على قاعدة من الاستقراء لفروع الشرع . فَثَمَّ من ترك المباح في حال الغلو رياضةً وزهدا ، ثم منه ما يذم ، ولو كان ترك المباح حال التجريد في الذهن ، مما يجوز ، فليس منه معنى يؤمر به أو ينهى عنه لذاته ، وإنما ينظر في المباح نظر الذرائع والمآلات ، إن فعلا له أو تركا ، فالأصل فيه الجواز ، إذ قد خلا المباح المجرد في الذهن ، خلا من معنى التكليف الملزِم ، وبذا حده أهل الشأن ، فذلك مما يصدق حال الإطلاق ، فإذا قُيِّدَ أن صار ذريعة إلى آخر ، فهو به يلحق ، فإن فعله وجاوز الحد ، فكان من ذلك فضول يزيد ، فهو ذريعة إلى المكروه ، بل والمحرم ، فلا ينفك المفرِط في المباح ، ولو لم يخالف عن الأمر والنهي حال الابتداء ، لا ينفك الجسد منه يَثْقُلُ ، والطبع منه يَكْثُفُ ، والجنان منه يقسو ، فيؤول به إلى تَفْرِيطٍ في الواجب ، ولو بالنظر في مآل تال ، وذلك المحرم بالنظر في الغاية والقصد ، فكان من ذم الفضول من المباح ما يجري في هذه الحال مجرى الذريعة التي تُسَدُّ ، فَهِيُ تُلْحَقُ بالغايةِ ، والغالب الذي اطَّرَدَ من حال المفرِط في لذات الحس ، ولو المباحة بادي الحكم ، الغالب الذي اطرد من حاله التفريط في الواجب ، وإن شُرِعَ من ذلك شيءٌ توسعةً على النفس والأهل والولد ، فهو كالضرورة التي تقدر بالقدر ، فلا يكون من ذلك حال تطرد ، بل هو مما يعرض في أحوال كما العيد الذي يشرع فيه التوسع في المأكل والمشرب والمنكح والملعب على قاعدة لا تجاوز الأمر والنهي المحكم . وكذا الذرائع تَطَّرِدُ إِنْ جفا فَتَرَكَ المباحَ التركَ المطلق أو الغالب ، فذلك مما يزيد في الحد ، أن صار المكروه ، فهو ذريعة إلى ما لا يشرع من إضعاف البدن ، بل ذلك مما يحرم ، لا جرم كان النهي آنف الذكر أن : (لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، وهو نص في التحريم ، إلا أن يكون ثم قرينة من خارج ترجح آخر من الكراهة ..... إلخ ، وقرينة السياق في هذا الموضع شاهدة بالأصل ، وهو التحريم ، وذلك مما عَمَّ إذا أُطْلِقَ عامله "تَقْتُلُوا" ، فَاسْتَغْرَقَ أنواعَ القتلِ كَافَّةً ، إن بالفعل أو بالترك ، إن فِي الحال أو آخر في المآل ، وَاسْتَغْرَقَ ، أيضا ، أسباب القتل كَافَّةً ، ومنها قتل النفس بما يكون من جفاء في أسباب الحس ، أَنِ الْتَزَمَ صاحبُه ما لا يَلْزَمُ أن يحصل من لذة المعنى ما لا يحصل إلا بقهر الجسد وإضعافه ، كما غلب على أهل الرياضة والإرادة ، ولهم سلف من الرهبانية التي لم تشرع ، فكان من ذلك ما ذُمَّ بالنظر في المآل ، أن لم يَرْعَوْهَا حق الرعاية ، فقد تكلفوا ما لا يطاق ، ولو أطاقوا حِينًا أول ، فما أعسر أن يطيقوا بعدا ، بل التاريخ والحاضر شاهدٌ بِضِدٍّ ، فقد آلت حالهم إلى فجور وفحش قد صار مضرب المثل ، وذلك أصل يطرد ، فما غلا أحد في حال إلا وقع في ضد ، فالغلو والجفاء مما يتلازم ، وذلك باب يدق ، ولا ينال العبد منه جادة العدل إلا أن يكون ثم سداد وتوفيق أول ، وَتَحَرٍّ لمقاصد الوحي وأحكامه ، وذلك ما لا يكون بداهة إلا بعقل تام ققد جازر مدارك الحس المحدث ، وحصل له من البيان ما تَقَدَّمَ ، فثم من ذلك خاصة بها امتاز الإنسان المكلف من الحيوان الأعجم . والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
فَثَمَّ من الابتداء باسم الرحمن ، جل وعلا ، ما واطأ هذه النعماء السابغة التي تناولت الباطن والظاهر ، الْخَلْقَ وَالخُلُقَ ، بما جُبِلَ عليه الإنسان من صورة ظاهر تحسن ، وبها امتاز من غَيْرٍ ، فَثَمَّ من التفضيل والتكريم ما يَثْبُتُ ، وهو المعلوم الضروري المشاهد ، فالحس يَتَنَاوَلُهُ في الخارج ، فظاهر الإنسان أكمل ، وإن كان فِي القوَّةِ أضعف ، فَثَمَّ مِنْ خَلْقِ الحيوان مَا زَادَ في الخلقة ، ولكنه لا يعدل الإنسان في اكتمال الهيئة ، وهو ما أبان البحث والتجريب عن مواضع منه تُعْجِزُ ، فَلَئِنْ كَانَ في خلقِ الحيوانِ آية من الإتقان والإحكام ، وهي دليلُ ضرورةٍ في الوجدان الناصح أن ثَمَّ أولا هو الخالق ، فَإِنَّ الإتقان والإحكام لا يكون إلا عن أول من العلم يحيط ، وبه التقدير ، وهو حكاية حكمة تَصْدُقُ ، أَنْ يُعْطَى كُلُّ شيءٍ قَدْرَهُ وخلقه ، كما الكليم ، عليه السلام ، قد أجاب ، فـ : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فَكَانَ من ذلك إِيجَازٌ قد تناول شطرا من التوحيد هو الأول ، توحيد الرب الذي خَلَقَ وَقَدَّرَ ، فَثَمَّ من ذلك ما عم الأشياء كافة ، فكان من الخلق : تقدير أول بعلم محيط قد استغرق ، وهو ، بداهة ، ما جاوز العلم بالكليات المجملة ، فإن الخلق والتقدير قد تناول الجزئيات المفصلة ، وله في الخارج إِتْقَانٌ وَإِحْكَامٌ يَظْهَرُ ، فذلك دليل من الحس والعقل يشهد بما يعالج الناظر من الهيئات الظاهرة وأخرى تدق ، قد أبان عنها بَعْدًا التجريب والبحث ، فَلَا يَنْفَكُّ في كل جيل يشهد لتوحيد في الخلق والرزق والتدبير هو الأول ، لا كما زعم من أنكر وجحد أن التجريب والبحث سوف يفضي بداهة إلى إنكار الرَّبِّ الخالق المدبر ! ، فَرَحًا بِمَا حصل من العلم المحدَث الذي لا يجاوز مدارك الحس الظاهر ، وله أَنْفَقَ مَنْ أَنْفَقَ الأموال أن يحمل البحث والتجريب ، ولو كَرْهًا ! ، أن ينكر وجود الخالق الأول ، فيخلق من العدم ويبطل ما جاءت به النبوات أَلَّا خالق من العدم إلا واحد وهو الرب الخالق ، جل وعلا ، فلم يكن من إنفاقه إلا الحسرة إذ عجز التجريب عقودا ، وإن أَبْقَى الباب مفتوحا ! ، فلا يَزَالُ يستكبر وَيَسْتَنْكِفُ أَنْ يُقِرَّ بالخالق الأوحد ، جل وعلا ، فليس علم الظاهر الذي به يفرح المحجوب ، ليس يجزئ في حصول المطلوب ، فلا يجيب عن سؤالات تجاوز ، سؤالات المبدإ والمنتهى ، وأخرى عن الغايات تُفَتِّشُ ، فَهِيَ تجاوز هذا العالم ، بل من العلم بالظاهر ما يشهد بذلك ، إن الهيئاتِ أو الوظائف ، وما هُيِّئَ مِنَ الأعضاءِ ، وَمَا يُسِّرَ لَهَا مِنَ الأسبابِ ، وما سُنَّ لها من المحكماتِ ، وما دَقَّ من الأنسجة والخلايا ، ولها ، أيضا ، من السَّنَنِ ما لَطُفَ وَدَقَّ ، وهو ما أبان عنه التجريب والبحث ، ولو عُضَيَّاتٍ صغرى ، وهي دون الخلية في الرُّتْبَةِ ، فَثَمَّ من الدقائق : عُضَيَّاتٌ وهي أجزاء لوحدة أولى ، وحدة الخلية ، ومنها ائتلاف الأنسجة فالأعضاء فالأجهزة فالأجساد الذي تحصل في الخارج ، فَثَمَّ من دَقَائِقِهَا ما خَفِيَ ولا زال ، فالتجريب والبحث لما يَزَلْ يكشفُ منها كلُّ جيل آيًا تُعْجِزُ ، فالعلم يجيب عن سؤال الإتقان والإحكام ، فلا يجيب عن سؤال الإنكار والجحود ! ، فيثبت أن العالم بلا خالق أول يُقَدِّرُ ! ، وأنه عَبَثٌ يخبط ! ، كما اقترح المنكر الجاحد ، فقد وقع في التناقض تحكما في الاستدلال لا ينفك يصدر عن انحياز لا ينصف صاحبه في النظر ، وإن زَعَمَ التحقيقَ والرأي ! ، فَثَمَّ سفاهة في العقل وميل إلى لَذَّةٍ تعجل ، لا تنفك تطلب التَّبْرِيرَ وَالتَّأْصِيلَ ، فَتَسُارِعُ إلى إنكار التكليف الذي يُقَيِّدُ ، فكان من سكرة اللذة ما يُذْهِبُ الفكرة ، فلا تعالج آتٍ من العواقب ، ولو مُعَجَّلَةً في دار التكليف ، فكيف بما جاوز من دُورٍ تَغِيبُ ؟! ، وليس يجد الناظر المسدد جوابا عنها إلا أن يصدر عن الوحي المنزل الذي أجاب عن سؤالات التكليف ، وأخرى تحكي المصير ، فكان من سفاهة الرأي ، ولو في عالم الحس ، أن يقترح الجاحد المنكر جواب السؤال عن الخلق أنه العبث ، وأن التجريب والبحث بذا يشهد ، أو هو سيشهد في آت من الأيام ! ، ولا ينفك يجيب أبدا بِضِدٍّ إذ يثبت ضرورة أن هذا الإتقان والإحكام لا يكون إلا عن علم أول يُقَدِّرُ ، قد أحاط فَتَنَاوَلَ المقدورات كافة ، مع آخر أخص ، فَثَمَّ مِنْهَا النص على آي تُعْجِزُ ، قد أخبر بها الوحي المنزل ، ولما يأتِ بَعْدُ تأويلها في الخارج ، أن تخرج من الغيب إلى الشهادة ، لا من العدم إلى الوجود ، كما تَحَكَّمَ بَعْضٌ قد فَرِحَ بظاهر من العلم ، فَصَيَّرَ التجريب والبحث دليل الإثبات الأوحد ، بل ودليل الإيجاد ، فالسنن التي يجري عليها الكون هي الخالق لكلِّ شيءٍ ! ، وليست إلا الفعل الذي يطلب فاعلا هو الأول ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما يتسلسل حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، وبه حسم ما امتنع في الذهن من مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ أول لا أول قبله ، وله من الحقيقة ما يجاوز المطلق في الذهن ، إذ لا يكون الخلق إلا عن خالق ، ولا يكون الفعل ، وهو السَّنَنُ المحكم الذي عليه يجري العالم المحدَث ، إِنْ في خلق أعيان منه تحدث ، أو جريانها على سنن هو المحكم ، فَثَمَّ من العلم : تقدير أول قد أحاط فاستغرق ، وعنه تَكْوِينٌ في الخارج يُصَدِّقُ ، إذ يخرج المقدور وهو المعلوم العدمي في الأزل ، يخرجه من العدم إلى وجود تال يُصَدِّقُ ، وبه تَالٍ من التدبير لما وُجِدَ من الأعيان ، فقد هُيِّئَتْ ذواتها في الخارج ، أَنْ تَقْبَلَ المؤثِّر من خارج ، وهو السبب الحادث ، فَثَمَّ في كُلٍّ من القوى ما رُكِزَ ، قوى المباشرة في السبب ، وقوى المعالجة في المحل ، وَهُوَ مَا سَلَكَ جادة من الحكمة تَبْلُغُ ، وآيها في الخارج يشهد بما كان من إحكامٍ فِي السَّنَنِ ، وذلك الفعل الذي لا يكون ، بداهة ، إلا عن فاعل أول ، فالمجموع من المحل والسبب ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى ، وما كان من شرط يثبت ، وما كان من مانع يُنْفَى ، فذلك مجموع ذو أجزاء في الخارج ، وله من التلاؤم ما به يُؤَثِّرُ ، فيكون من ذلك خلق وتدبير محكم ، وَلَا يَنْفَكُّ هذا المجموع يطلب أولا ، وهو ما تَسَلْسَلَ ، كَمَا تَقَدَّمَ في موضعٍ ، حتى انْتَهَى ضرورةً في القياس الصريح إلى أول له الخلق والإيجاد والتدبير ، فَتِلْكَ رُبُوبِيَّةٌ قد عمت الأشياء كَافَّةً ، خَلْقًا وَهِدَايَةً ، كما أجابَ الكليم ، عليه السلام ، في آيٍ قد أوجز ، فـ : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فأجاب بالجمع عن سؤال التَّثْنِيَةِ : (مَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى) ، وبه يستأنس مَنْ قال إن أقل الجمع اثنان ، وقد يُقَالُ إِنَّ الجوابَ أَبْلَغُ في الدلالة ، فَانْتَقَلَ من الخاص إلى العام ، فهو رَبُّ الجميع ، السائل والمجيب ، فهو : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، بل ورب الخلائق كافة ، فهو : (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، فَثَمَّ من العموم تال قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فـ : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فَثَمَّ من ذلك أَوَّلٌ في التوحيد الذي جاءت به النبوات المنزَّلة ، وهو الملزوم الذي يمهد لِتَالٍ من اللازم : توحيد التأله بالاعتقاد والقول والعمل ، فتوحيد الخبر والفعل كالمقدمة الضرورية بين يدي النتيجة النظرية ، فثم مقدمات يعالجها الحس الظاهر ، ولها أول من العقل الناصح ، وثان من الفطرة تُلْجِئُ بما رُكِزَ منها في نَفْسِ المكلَّف ، فَثَمَّ ضرورة في الوجدان لا يخالف عنها إلا الجاحد أو المسفسِط الذي يُنْكِرُ مقدماتٍ أولى في النَّفْسِ قَدْ رُكِزَتْ ، وَإِنْ زَعَمَ التحقيق والتدقيق ، فهو رَائِدٌ في البحث والتجريب ، وقد سلك به جادة تَتَحَيَّزُ ، وإن أظهر من نَفْسِهِ التجرد والنصفة ، فَقَدْ اعتقد أولا ، وإن خالف عن جادة الاستدلال المحكم ، ولو العقلَ المجرَّدَ ، فهو يَزْعُمُ منه دليلا يُرْشِدُ ، فلا يصدر عن دليل الخبر المنزل ، وذلك من الاضطراب بمكان يعظم ، فإنه لو صدر عن عقل ناصح في الاستدلال لكان منه ضرورة ما يصدق الخبر ، فالعقل يمهد بما تقدم من بَدَائِهِ النظر أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وأن الفعل في الخارج إذ يجري فلا يَنْفَكُّ يطلب فاعلًا يَسْبِقُ ، فَمَا أُتْقِنَ من الخلقِ فلا بد له من خالق متقِنٍ ، وما أُحْكِمَ من السَّنَنِ فلا بد له من حكيم يُحْكِمُ ، وذلك ما عالج منه الحس بَعْضًا من أسبابٍ تُرْصَدُ بالتجريبِ والبحثِ ، ولا ينفك يبلغ من الشهادة حدا لا يجاوزه الحس المحدَث ، فَثَمَّ مِنَ الغيبِ ما جاوز ، وله في النفسِ رِكْزٌ من النظر ، فخاصة التكليف إيمان بالغيب ، بل تلك خاصة الإنسان المتكلم وبها امتاز من الحيوان الأعجم الذي لا يجاوز عقلُه مداركَ الحسِّ ، فلا مقدمات له في الفعل إلا ما يُعَالِجُ من غرائز الجسد ، وتلك مناط اشتراك ، فَبِمَ يكون الافتراق ؟! ، إلا أن يكون تكريم الإنسان المكلَّف بقدر يزيد من النظر ، عقلا يجاوز مدارك الحس المحدَث ، فهو يؤمن بالغيب ، ولو الجواز الأول في العقل ، فلا ينفك يطلب بعدا من الدليل أخص ، وهو ما يرجح في الجائز ، فيكشف منه موجودا قد حُجِبَ ، فخبر الغيب كاشف لا مؤسس ، فالمغيب قد كان قَبْلًا ، ثم كان من الدليل ما يكشف بعدا ، سواء أكان دليل التجريب والبحث في الغيب النسبي من دقائق هذا العالم المحدَث ، أم دليل الخبر المجاوز من خارج في الغيب المطلق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، ما انتهى ضرورة إلى أول لا أول قبله ، فذلك الغيب الأعظم ، واجب الوجود الأول ، فَلَهُ من ذلك وصف قد أُطْلِقَ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج يَسْبِقُ ، إن إيجادا بعد عدم ، أو إكمالا بعد نقص ، بل ثم من الوجود أول واجب ، وثم من الكمال مطلق ثابت ، وهو ما عَمَّ فاستغرق الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فما الكون المحدَث إلا أثر من آثار كماله المطلق ، فِعْلًا في الخارج به تأويلُ التقديرِ السابق بعلم محيط جامع ، فَثَمَّ مقدور أول ، وهو العدمي في علم التقدير ، فلا ينفك يطلب بَعْدًا الترجيح الذي يخرجه من العدمِ إلى وجودٍ تالٍ يُصَدِّقُ ، فكان من الإرادة وصفُ ذاتٍ نَوْعُهُ أول يَقْدُمُ ، وله من الآحاد في الخارج ما يخصِّص ويرجِّح ، وتأويله بعدا ما يكون من كلمات تكوين تَنْفُذُ ، فهي السبب الأول الذي لا سبب في الخلق والتدبير له يسبق ، فَعَنْ واجب الوجود الأول قد صدر ، فذلك الخالق ذو الاسم والوصف الكامل ، وبه تقدير فإيجاد فتدبير بكلمِ تكوينٍ نافذ ، وكل أولئك مما غاب فلا يدرك بالحس ، فمن ذا شهد التقدير الأول ؟! ، ومن ذا شهد بَعْدًا من الخلق ما يصدق ؟! ، وليس عدمُ شهودِه بالحس دليلا على العدم في نفس الأمر ، إذا لكان أكثر هذا العالم الذي يُصَدِّقُ ضرورةً أنه موجود ، لكان أكثره عدما فما يعالج من حقائقه بالحس الظاهر إلا بعضا ، بل قليلا ، فما يجهل أكثر ، وإن بَلَغَ من التجريب والبحث ما بَلَغَ ، بل ذلك ، لو أنصف في الحكم ، دليل العجز ، فلا ينفك العلم الذي يحدث يزيده يَقِينًا أنه يجهل ، فما خفي فهو أعظم ، ولا زال منه في كلِّ جيلٍ ما يَكْشِفُ بعد خفاء ، فَلَيْسَ يُوجِدُ بعد عدم ، إذ التجريب والبحث ، كما تقدم ، كاشف في الغيوب النسبية من هذا العالم المحدَث ، لا مؤَسِّس لما لم يكن قبلا ، فهو ينشئ من العدم ، فَلَيْسَ ذلك يَثْبُتُ فِي فعل الإنسان ، ولو صدق فيه اسم الخالق بما يُؤَلِّفُ من العناصر وَيَسْلُكُ من سنن الكون في التجريب والبحث ، فيصدق فيه أنه خالق ، من هذا الوجه ، لا من عدم ، بل لَا يَنْفَكُّ يتأول ما وُجِدَ قبلا من العناصر ، وما جرى أولا من القواعد ، فتلك سنن محكمة قد جرى عليها العالم المحدَث ، بما رُكِزَ في أعيانه من قوى تُؤَثِّرُ وأخرى تَقْبَلُ ، فَأُجْرِيَ لها من السَّنَنِ ما أُحْكِمَ ، وذلك مما به التحدي والإعجاز بآي في الأنفس وفي الآفاق ، فَثَمَّ خَلْقٌ يَصْدُقُ في فعل الإنسان ، فذلك خلق التركيب لعناصر قد وُجِدَتْ قَبْلًا ، فهو يتناولها من خارج ، ويجريها على سَنَنٍ هو الثابت ، فذلك مما كان في الأزل ، تَقْدِيرًا قد أُحْكِمَ ، وهو ما تَنَاوَلَ المحال والأسباب كافة ، وكان من تأويله مبدأَ الخلق ما لم يشهد أحد بالحس ، فـ : (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) ، و : (جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) ، فذلك الغيب المطلق ، فعل الرب المهيمن ، أَنْ يُوجِدَ بعد تقدير هو الأول ، فَيَخْلُقَ من العدم ، فلا يتناول ما كان أولا من المحل أو السبب ، إذ لم يكن ثم سواه في الأزل ، فلم يكن من مادة هذا العالم ما قَدُمَ ، فالرب ، جل وعلا ، يصدر عنه في الخلق ، بل لم يكن إلا العدم ، عدم المخلوق المحدَث ، وإن كان من تقدير أول هو المحكم الذي تناول الأعيان والأسباب والسنن الجاري في الأنفس والآفاق ، وإن كان من هذا التقدير ما ثَبَتَ لدى المبدإِ ، فله أولية تطلق ، إذ منه وصف أول لِلْخَالِقِ المدبِّر ، جل وعلا ، فليس ذلك شريكا له في الوجود يَقْدُمُ ، فالوصف ، بداهة ، لا يستقل بالوجود في الخارج ، وإن صَحَّ منه مطلق في الذهن يجرد ، فلا يكون منه في الخارج إلا المقيد أَنْ يَقُومَ بذات توصف به ، فهو لها تَبَعٌ ، إن في الكمال أو في النقص ، فلكل موجود في الخارج من الوصف ما يلائم ، وتلك حكومة العقل الناصح ، حكمة بها يعطى كل موجود وصفه الذي يليق ، فوصف الكامل : كامل ، ووصف الناقص : ناقص ، فكان من وصف الخالق ، جل وعلا ، وصف الكمال المطلق ، وكان من وصف المخلوق الحادث ما يواطئ ذاته ، وإن كان من ذواتِ الخلقِ ما يَشْرُفُ ، كما الملك والنبيُّون والصالحون والصديقون والشهداء ، فَلَا يَنْفَكُّ ينالها وصف النقص ، وإن الافتقار إلى أول يوجد ، وهو ما استوجب ضرورة تَقْدِيرًا يَسْبِقُ ، وإرادةً بَعْدًا تُرَجِّحُ وتخصِّص ، وما يكون عنها من كلمات تكوين تَنْفُذُ ، وهي ، لو تدبر الناظر ، تأويل لما تقدم من المقدور ، أن يخرج من العدم إلى الوجود ، وذلك شطر أول في جواب الكليم ، عليه السلام ، فـ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ، فكان من ذلك عموم قد استغرق ، عموم "كُلَّ" كما قَرَّرَ أهل الشأن من البيانيين والأصوليين ، مع آخر قد تَنَاوَلَ وجوه المعنى إذ أُطْلِقَ لَفْظُهُ ، فكان من ذلك خلق قد أضيف إلى الضمير في "خَلْقَهُ" ، ضميرِ الشيء الذي أُعْطِيَ ما يُوَاطِئُ من الخلقِ ، والإضافة إلى الضمير ، أيضا ، من صيغ العموم المستغرق ، فَثَمَّ من ذلك عموم قد تناول وجوه المعنى ، فَثَمَّ من الخلق : تقدير أول ، وثم تال في الوجود يُصَدِّقُ ، فذلك خلق التكوين لأعيان في الخارج قد هُيِّئَتْ ، باطنا وظاهرا ، حسا ومعنى ، فكان من ذلك إتقان في خلقِ الأعيانِ بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ ، وخلقِ الأسبابِ بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُؤَثِّرُ ، وثم تال من التدبير ، فَثَمَّ سنن محكم به تأويل ما رُكِزَ في كلٍّ من القوى ، فكل أولئك مما تَنَاوَلَهُ اسمُ الخلقِ إذ أُطْلِقَ ، ولا ينفك ، بداهة ، يطلب أولا هو الخالق ، فالفعل لا بد له من فاعل ، وذلك ما انْتَهَى ضرورةً إلى فاعل أول لا فاعل قبله ، وله من الوصف ما به يَفْعَلُ ، فليس منه فعل الاضطرار الذي اقترحته الحكمة الأولى وقد غلت في التعطيل ، فلم يكن إلا علَّة فاعلة بالطبع مجرَّدة من الوصف ، فلا علم به التقدير ، ولا إرادة بها الترجيح ، وهو ما يَعْدِلُ في الخارج : العدمُ ، وإن تَلَطَّفَ المذهب في الحدِّ ، فقد حَدَّ العدم بما اقْتُرِحَ من المطلقِ بشرط الإطلاق ، فلا وجود له في الخارج يجاوز الأذهان ، فهي تجرد المعاني ، فَتُجَرِّدُ الذات في حَدٍّ ، وتجرِّد الوصف في آخر ، ومنه العلم والتقدير ، ومنه المشيئة ، ومنه الكلمة ، فهي وصفُ مَنْ تَقُومُ بِهِ ، فَلَيْسَتْ عَيْنًا في الخارج تُقَاسِمُهُ وصفَ الأولية المطلقة ، فيكون من ذلك شرك في الأزل ، تَعَدُّدَ قدماء ، فَثَمَّ من اقترح من أولئك : مادة هذا العالم ، فقال إنها القديمة في الأزل ، فلم تُخْلَقْ من العدمِ ، وإنما ظهرت بعد خفاء ، فهي تَقْرِنُ العلة التي عنها تصدر ، وتلك مخالفة أولى عن ضرورةٍ تَثْبُتُ في العقل ، أن العلة تسبق المعلول في الوجود ، فالتزم أولئك اقترانَ العلةِ والمعلول إذ زعموا قِدَمَ هذا العالم ، وَإِنْ قِدَمَ المادة أو ما اصطلحوا أنه العلة المادية أو الهيولى ، وكان من شرك الأولية ما يخالف عن الضرورة النقلية والعقلية ، فإن إثبات أكثر من قديم لا يستقيم مع أصل أول في الاستدلال ، وهو ما تقدم من الامتناع ، امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا بد من أول لا أول قَبْلَهُ ، وإلا لم يكن هذا العالم ابتداء ، فلا بد من أول به حسم التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا يكون هذا الوجود المحدَث الذي يدرك بالحس ، لا يكون عقلا وثم قديمان أو أكثر ، فلا بد من أول قد انْفَرَدَ بوصفِ القدمِ المطلق ، فما سواه فمخلوق محدَث ، فليس ثم من مادة هذا العالم قديم في الأزل مبدأَ الوجودِ ، بل لم يكن ابتداء إلا واحد ، وهو واجب الوجود الأول ، الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فقد خلق هذا العالم من العدم بما صدق أولا من خلق التقدير المتقِن لأعيانه المحكم لِسَنَنِهِ وأحواله ، وبه قد امتاز خلق الرَّبِّ ، جل وعلا ، الذي عم فاستغرق ، كما تقدم من جواب الكليم المسدد ، إذ قَالَ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فامتاز خلق الرب ، جل وعلا ، من خلقِ الإنسان ، فالأخير لا يخلق من العدم ، فلا ينفك يطلب أولا من المادة ، ولها يعالج بما اكتشف من السَّنَن ِالمحكم الذي عليه تجري ، فَلَيْسَ له يُنْشِئُ ، وإنما هو في كلٍّ يَكْشِفُ ، بما حصل له من علم ظاهر ، فلا ينفك يدل على غيب يجاوز ، فهو يطلب مقدمات في الخلق ، كما العناصر المفردة في البحث ، وهو بَعْدًا يجرِّب ويبحث ، فيكشف عن أوصاف لها أخص ، وهي تجري على سَنَنٍ قد أُحْكِمَ ، بما وَاطَأَ قوى فيها قد رُكِزَتْ ، فَتَقْبَلُ المؤثِّر من خارج ، إن تسخينًا أو تبريدًا ، مع حوافز أخص ، بها المسارعة في الفعل إيجادا ، أو أخرى تُبَطِّئُ أو تكبح ، والباحث في كلٍّ لم يخلق من العدم ، وإنما يكشف ما كان أولا من أعيان تدق في الخلق ، فكان منها غيب نسبي قد صار بَعْدًا من الشهادة التي تصدق ، فلا زال في كلِّ جيلٍ منها آيٌ يظهر ، إن في الآفاق أو في الأنفس ، وبه الحق يَثْبُتُ ، وهو ، أيضا ، يكشف السنن المحكم الذي عليه الأعيان تجري ، فَلَيْسَ ائتلاف المركب من عناصر تفرد ، وهو ما يسلك سَنَنًا في الخارج قد أحكم ، وهو الموجود قبل البحث والتجريب ، فلم يكن منه دليل يُنْشِئُ من عدم ، وإنما هو الكاشف لما ثَبَتَ من السنن ، فليس ذلك الائتلاف خَلْقًا من العدم ، وإن صَدَقَ فيه أنه خَلْقٌ ، فهو خَلْقٌ مُقَيَّدٌ ، وبه تأويل لما كان أولا من الخلق ، إن الأعيانَ أو السَّنَنَ التي عليها تجري بما رُكِزَ فيها من قوى تَقْبَلُ أو تُؤَثِّرُ ، فذلك ضرورةً فرقانٌ يميز : الخلق المقيد من فعلِ التجريب والبحث ، وآخر هو المطلق ، فهو الخلق من العدم ، تقديرا في الأزل ، وتاليا من الإرادة يُرَجِّحُ ، وعنه الكلمة تصدر ، وبها العالم المحدَث ، مادة وأعيانا وَسَنَنًا وأحوالًا ، بها هذا العالم يُوجَدُ بَعْدَ عَدَمٍ ، فليس منه مادة تَقْدُمُ ، وإلا كان تعدد القدماء الذي امتنع ، وكذا يقال في إبطال القول بالأقانيم ، أن يكون ثم من الكلمة ما فارق المتكلم ، وقام بذاتٍ تَسْتَقِلُّ ، فَهِيَ حَادِثَةٌ بَعْدَ أن لم تكن ، وهي ، في نفس الآن ، وصف القديم الأول ، فَهِيَ قديمةٌ مثلُه ، فاجتمع لها من النقائض ما لا يُتَصَوَّرُ في الذهن ، أن يكون منها حادث بعد عدم ، حاصل في الخارج قد استقل بالوجود ، وهو الوصف الذي لا يقوم بداهة إلا بموصوف فلا يَقُومُ بِنَفْسِهِ ، ويكون من هذا الحادث ، لَوْ سُلِّمَ ابتداءً : تجويز الأمر أن يَتَجَسَّدَ اللطيف من الوصف في كثيف من الجسم ، فيقوم الوصف بذاته في الخارج بعد تجسده في ناسوت حادث ، فيكون من هذا الحادث بعد أن لم يكن ، وصف قديم في الأزل ! ، فوصفه قديم مثله ، فكيف تجسد في حادث بعده ، ولما يَزَلْ وصفَ الأول ، فهو قديم مثله ، وإن كان له من الذات في الخارج ما استقل ، فذلك مما يُلْزَمُ به الخصم في باب التَّعَدُّدِ الممتنعِ في العقل ، تعدد القدماء ، فثم شِرْكٌ في الإثبات يخالف عن بدائه الحساب ، أن يكون ثلاثة ، أب ووصفان له في الخارج قد استقلا فَلَهُمَا من الوجود في الخارج : أقانيم تستقل بذواتها ، فيكون من أولئك واحد لا ثلاثة .
فالواحد في الذات : أحد في الصفات ، وهي ما يقوم بالذات ، وبهما حقيقة الموصوف الواحد في الخارج تحصل ، ذاتا وما يقوم بها من الوصف ، فذلك قياس العقل الناصح ، والحس له شاهد ، ولو قياس الأولى ، فثم من المخلوق ما له وصف يكثر ، العلم والحكمة ..... إلخ ، وهو ، مع ذلك ، في الخارج واحد في الحقيقة ، فَلَيْسَ منه كثير يَتَعَدَّدُ ، فيكون من استقلال الحقائق ما يُصَيِّرُ الواحد آحادا ، بل هو واحد في ذاته ، وإن كان له من الوصف ما يكثر ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فهو الواحد في ذاته ، الأحد في صفاته ، وله من كُلٍّ ، الذات والوصف ، كمال مطلق قد امتاز به من غَيْرٍ من هذا العالم المحدَث ، وإن كان ثم اشتراك في أجناسٍ من الدلالة تُطْلَقُ ، كما العلم والحكمة .... إلخ ، فلا يجاوز ذلك إلى آخر في الخارج يثبت ، بل لكلٍّ من حقائق الذات والوصف ما يلائم ، إن كمالا أو نقصا ، فكان من ذلك دليل من الشهادة يُعَالِجُ أعيان هذا العالم وأحواله ، ولا ينفك ضرورة يثبت الغيب ، وإن تحكم في الاستدلال وَحَجَّرَ الواسع من الأدلة ، فَقَصَرَ العلم على المدرَك بالحس حصرا ، فلا ينفك التسلسل في المؤثرين يَبْلُغُ به من الشهادة سَقْفًا ، فهو طالبٌ لأول من السبب يجاوز الشهادة ، فلا ينفك يثبت ضرورة الغيب ، فالأسباب منها : المشهودُ المدركُ بالحس ، ومنها المغيَّب فلا يثبت إلا بخبر من خارج يصدق ، فالعقل ، وإن أوجبه فإيجابٌ مجمَلٌ بما دل عليه ضرورة من مقدمات النظر أن الفعل لا بد له من فاعل ، وأن الأسباب والمؤثرات لا تنفك تتسلسل فتجاوز العالم المشهود ، فَثَمَّ من السبب ما غاب ، فهو ثابت ، وإن لم يشهد ، فلا ينفك يطلب دليلا يجاوز الحس ، فثم الخبر الذي يَقُصُّ من ذلك الحق ، فَقَصَّ منه أولا من الخلق ، خلق السماوات والأرض ، وخلق الإنسان ........ إلخ ، وكل أولئك مما أجاب به الكليم ، فكان من العموم ما استغرق ، فلا يكون ذلك إلا بِسَبَبٍ أول قد غاب فلا يدرك بالحس ، وهو ، أيضا ، مما يَتَنَاوَلُهُ آخر من دليل العقل مقدمةَ ضرورةٍ بها حسم التسلسل في المؤثرين كافة ، إِنِ المشهودَ أو المغيَّبَ ، فكلٌّ قد انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حسم ما امْتَنَعَ ضرورةً من مادة التسلسل آنفة الذكر ، فإليه الخلق ، وهو ما صدر عن أول من التقدير في الأزل ، فلم يكن من المخلوق إلا العدم ، وإن ثَبَتَ له تقدير أول في العلم المحيط المستغرق ، فذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، لا المخلوق الحادث ، فلما يَزَلْ عدما في التقدير الأول وله من التأويل بَعْدًا ما سُطِرَ في لوح يحفظ ، وثم تال من الإرادة يخصص ويرجِّح ، وعنه كلمات التكوين تنفذ ، وبها خروج المخلوق من العدم إلى الوجود ، وذلك عطاء ربوبية أول ، عطاء الخلق ، كما أجاب الكليم ، عليه السلام ، فـ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) ، فذلك عطاء الخلق وهو ما اصطلح النظار أنه دليل الاختراع بَدْعًا لا على مثال تَقَدَّمَ ، وذلك فرقان آخر يميز خلق الخالق الأول ، جل وعلا ، وهو بديع السماوات والأرض وسائر الأجناس من الخلق ، فَثَمَّ من الإبداع فرقان يميز خلق الخالق ، جل وعلا ، لا على مثال تقدم ، من خلق المخلوق فغاية ما يخلق أن يضاهي ما كان أولا من الخلق ، وليس ، مع ذلك ، يوجده من العدم ، بل لا ينفك يعالج من أعيانه وسننه ما تقدم ، فَثَمَّ من جواب الكليم ، عليه السلام ، ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فـ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فكان من العطاء أول : خلقًا لا على مثال تقدم ، فذلك دليل الاختراع ، وثم تال من العناية ، إذ هَدَى هُدَى الإلهامِ الذي تَنَاوَلَ الأشياء كافة ، فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له ، وفي كلٍّ قد رُكِزَ من القوى وَأُجْرِيَ له من السَّنَنِ ما به تأويل الهدى ، وله من العلم محل أول ، علم التقدير المستغرق الذي تناول الإيجاد والتدبير ، قإيجاد بعد تقدير ، وتال من الهدى بالتدبير ، وآية ذلك ما تَقَدَّمَ من إتقانٍ في الخلقِ وإحكامٍ ، فذلك مما تَنَاوَلَ الأعيان والسنن التي عليها تجري ، فكان من رحمة الرحمن ، جل وعلا ، أن أقام الدليل الشاهد من هذا العالم الحادث بما يعالج الحس السليم والعقل الناصح والفطرة الصحيحة ، فتلك طرق بها التعلم يحصل ، ولا تَنْفَكُّ في مواضع الغيب تطلب رائدا هو الأول ، فذلك خبر الغيب ، وإن النسبي في هذا العالم المحدَث ، فلا عاقل ينكر الغيب فَيَقْصُر العلم على مدارك الحس ، وَيُصَيِّر الجسد هو المبدأ في الإثبات والنفي دون آخر يجاوز ، فَثَمَّ من العقل غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، وهي ، كما تقدم في موضع ، وصف روح لطيف يقاسم الجسد الكثيف حقيقة الإنسان في الخارج ، فليس المادة الكثيفة التي يعالجها الحس ، بل ثم حقيقة لطيفة لا يعلمها إلا الرب ، جل وعلا ، وإن وَجَدَ العاقل من آثارها في الخارج ما يدل ضرورةً على وجودها ، فَثَمَّ من غَرَائِزِ المعنى ، محبة وبغضا ..... إلخ ، ثم من ذلك ما لا يصدر عن الجسد ، وإن كان من آثاره ما يظهر ، فتلك الاستجابة لأول في الوجدان يثبت ، فَثَمَّ فكرة قد احتملها العقل ، وبها السعادة أو الحزن ، ولكل تأويل في الدماغ بما رُكِزَ فيه من قوى ، فثم مراكز عنها تصدر الحركات كافة ، الاختيار والاضطرار ، ومحل الافتراق والامتياز من الحيوان الأعجم ما يكون من حركات الاختيار ، وإن جبلةً وَطَبْعًا ، فَثَمَّ من الهيئات والآداب ما يحكي خاصة العقل التام ، وإن أبى بعض أن ينحط إلى دركة الحيوان الأعجم ، بل وأخرى دونها ، فصير ذلك دليل الحرية المطلقة ، فيكون من ذلك ما يُزْرِي بصاحبِه ضرورةً ، فما صدر إلا عن عقل قد قصر الاستدلال على مدارك الحس الظاهر ، وغايتها لذة تُعَالج غَرَائِزَ الجسد ، ولا تنفك تطلب المذهب الذي يُبَرِّرُ فَيَضَعُ الأصول التي تسوغ خروج الإنسان عن قِيَاسِ العقل الذي يَزْعُمُ له تعظيمًا ، فَقَدْ تَحَكَّمَ في الحد ، وانحط به في الوصف أن ضَاهَى به عقل الحيوان الأعجم ، فَعَطَّلَ خاصة النطق ، باطنا وظاهرا ، فلم يكن إلا الحس دليلَ إثباتٍ وَنَفْيٍ ، فليس إلا المادة في الخارج ، وليس إلا لذة الحس فهي تعالج ما اقْتَصَرَ عليه في الحد ، حواس الجسد فهي مدارك الإثبات والنفي ، وهي مقدمات الاستدلال حصرا ، تحكما قد حَجَّرَ الواسع من المصادر ، مصادر العلم والمعرفة ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، مقدمات العقل ، وفطرة في النفس ، ودليل خَبَرٍ من غيب ، وإن النسبي في هذا العالم المحدَث ، فما أكثر ما يجهل منه الناظر ، وإن فَرِحَ بِبَعْضٍ من العلم الظاهر ، بل لا ينفك هذا الظاهر يحكي من الآي ما يعجز ، ففي كلِّ جيلٍ منه شيء يَظْهَرُ ، وهو ، كما تقدم ، دليل إثباتٍ ينصح لشطر من التوحيد أول ، توحيد الخالق المدبر ، جل وعلا ، بما أتقن من الأعيان وأحكم من السنن الجاريات ، وكل ، أولئك ، لو تدبر الناظر ، من رحماته العامة التي استغرقت الأعيان كافة ، فكان منها تأويل ينصح لاسم الرحمن ، جل وعلا ، فهو الجامع المستغرق لرحمات الربوبية تقديرا وإيجادا وتدبيرا . والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
فكان من اسم الرحمن ما عم فاستغرق ، وهو مناط توحيد أول ، توحيد الرب الذي امتن ولا زال بنعم تَتْرَى ، إن في الدين أو في الدنيا ، وهو أول في توحيد النبوات ، التوحيد الجامع الذي ائْتَلَفَ من الخبر والحكم ، خبر الإلهيات ، وهو الأشرف ، فَثَمَّ قسمة قد اشتهرت لدى أهل الشأن ، قسمة التنزيل المحكم ، فهو على ثلاثة أجزاء : فثم الأشرف ، وهو توحيد الاسم والوصف ، وذلك ما عَمَّ الفعل ، ومنه فعل الربوبية الذي به تأويل اسم الرحمن ، رحمات تَكْثُرُ ، وهي عطاء ربوبية أول ، وبه الاختراع بدعا لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فالخلق آي يعجز ، إن في المبدإ فهو من العدم الذي حصل منه علم تقدير أول ، فَوُجِدَ المقدور وجود القوة في العلم ، وهو ما ثبت في الأزل ، وذلك وصف الخالق الموجِد المدبِّر ، فكان من الخلق ما تَنَاوَلَ التقدير والتكوين والتدبير ، فالخلق تقدير أول ، وله تال من التأويل يصدق ، إن في الإيجاد للأعيان وما يقوم بها من الأسماء والصفات والأفعال ، اختيارا أو اضطرارا ، أو في تدبيرها بعدا بما يُوَاطِئُ مَا لِأَجْلِهِ قَدْ خُلِقَتْ ، فذلك التيسير الذي عم التكوين والتشريع كافة ، فكان منه أول في الخلق والتدبير ، وكان تال في التدبر والتذكير ، فـ : (لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، مع ما اطرد في حكومات الوحي المنزل من تيسير في التشريع ، بادي النظر ، فكان من تخفيف الصلاة مبدأ التشريع ، فهي خمس وأجرها خمسون بما كان من شفاعة المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم لدى رَبِّهِ ، جل وعلا ، فَتَأَوَّلَ ما به الكليم ، عليه السلام ، قد نَصَحَ ، فَقَدْ جَرَّبَ قَبْلَهُ الأمم ، وَعَلِمَ من انفلاتها من حكومات التكليف ما يحكي الضعف والجهل والظلم والأثرة والشح ، فَكَمَا رُكِزَ فيها توحيد أول ينصح ، وتلك فطرة في التقدير تسبق ، ولها تأويل في الخارج يصدق ، حتى يكون ثم سبب من خارج يبدل وَيَحْرِفُ ، فكما رُكِزَتْ فِيهَا هذه الفطرة ، وهي نجد الخير الذي علا فاستبانت معالمه ، فَثَمَّ آخر من الشر ، وذلك لازم الابتلاء الذي يظهر ما تَقَدَّمَ في العلم المحيط المستغرق ، فثم من حكمة الابتلاء أن يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، فلا يخالف عن علم أول قد أحاط فاستغرق ، فذلك خلق أول ليس بالجبر ، فقد علم الخالق المحكم ما يواطئ كُلَّ محلٍّ من الأسباب ، ومنها الاضطرار الذي يَتَنَاوَلُ الجبلة ، وذلك تأويل رَحَمَاتٍ في الكون تَكْثُرُ ، فاستوى فيها الخلق كافة ، المؤمن والجاحد ، وذلك تأويل لاسم الرحمن يَظْهَرُ ، فَيُخْرِجُ آثاره من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، لا أن الوصف كان عدما ثم وُجِدَ ، بل هو قديم أول ، وإنما كان من آثاره في الخلق ما حَدَثَ بَعْدَ أن لم يكن ، فَثَمَّ من آحاد الأفعال ، أفعال الجمال ، ثَمَّ من آحادها ما حَدَثَ ، وهي تأويلُ نَوْعٍ أول يَقْدُمُ ، وثم من آثارها في الخارج بما كان من تهيئة المحال أن تقبل آثارَ النِّعَمِ ، وما رُكِزَ فِي الأسباب من قوى بها التَّنَعُّمُ ، وما نَزَلَ منها رِزْقًا ، وما خرج من الأرض زَرْعًا ، وما يُسِّرَ وَسُخِّرَ من الأنعام ، وما أُلِينَ من المعدن أن يخرجه الصانع من القوة إلى فعل تال به يَنْتَفِعُ ، إن في السِّلْمِ أو في الحربِ ، فكان منه الحديد الناصر ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، تال بعد الكتاب الهادي ، فَلَهُ يحرس وباسمه للأرض يفتح ، فتح العدل الذي يُبَلِّغُ به الفاتح وَيُبَيِّنُ ، وهو بعدله يحكم ، تأولا لسنن تدافع شاهده ما جرى من أحداث في نهر التاريخ المتجدد ، وهو شاهد الصدق الذي يميز الصادق من الكاذب ، فكل يدعي رسالة يحملها إلى العالم ، وفيها من المحاسن ما أجمع عليه العقلاء كافة ، فلا أحد بداهة يُقِرُّ بالظلم والعدوان ، قَارَفَهُ أو لم يُقَارِفُ ، فمن سَلِمَ منه فلا يَرْضَاهُ وصفا ، وإن نُبِزَ به لَقَبًا ، ومن لم يسلم منه ، بل لم يكن منه إلا القتل والسفك والسلب ، فلا يقر ، بداهة ، بما يقارف ، إلا في مذاهب قد صرحت فلا كِنَايَةَ ، فالقوة هي الديانة ، والظلم من شيمها ، فلا يرحم ولا يجب إلا الضعيف المتهاون ، فسلم من ذلك القوي المتماسك ، أن كانت القسوة هي شعاره ودثاره ، فَثَمَّ آخر لا زَالَ له من العقل مسكة ، فهو يقارف الظلم ولا يُقِرُّ ، وإنما يجتهد في التأويل الباطن أَنْ يَكْسُوَ جُرْمَهُ لحاءً يَسْتُرُ قُبْحَهُ ، فيكون من غَزْوِهِ مَادَّةُ حضارةٍ ونورٍ تُدَافِعُ أخرى من الجهل والظلمة ، فلا ينفك يُزَخْرِفُ القول ، ليستبيح به الجرم الذي يقبح ضرورةً لدى كل ذي عقل ينصح ، وافقه أو خالفه في الدين والمذهب ، فَكَانَ مِنَ التأويلِ الباطنِ ما ضاهى به إبليس ، فطريقته ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أن يفسد نظم اللسان ، فيقترح أسماء تخدع لمسميات لا تُشْرَعُ ، كما سمى الشجرة المحرمة ، شجرة الخلد ، فَادَّعَى النُّصْحَ ، وهو على ضد ، وَقَدَحَ في وصف الله ، جل علا ، فهو يَضِنُّ وَيَبْخَلُ أَنْ يَعْرِفَ آدمُ وَيَعْلَمُ ، فَلَوْ عَلِمَ لنازعه الأمر ، فكيف لو أكل من شجرة الحياة إِذًا لَكَانَ لَهُ الخلد الذي زَعَمَ إبليس ! ، فوجب إخراجه من الجنة ! ، وذلك ، كَمَا يَذْكُرُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مما سَرَى إلى دين المثلثة ، وإن كان ذا أصلٍ رساليٍّ محكَم ، فقد تَنَاوَلَهُ التبديل والتحريف بما خالف عن جادة العقل الصريح ، وهو ما أَقَرَّ به رجالاته ، فذلك أمر لا بُرْهَانَ له من العقل ، وإنما وَجَبَ فيه مطلق الأخذ وإن ألجأ العقل وَأَكْرَهَ أن يؤمن بمحالٍ لا يُتَصَوَّرُ ، وَذَلِكَ أَوَّلُ الوهنِ ، فإن الوحي لا يَبْتَلِي الخلقَ أن يصدقوا بالمحال الذاتي الممتنع ، كما فَرْضُ التَّثْلِيثِ ، وفيه من نواقض العلم الضروري ما يفحش ، ولو مقدماتِ الحساب الأولى ، أن يكون ثم ثلاثة لهم من الاستقلال التام ما يثبت في الخارج ، وهم ، مع ذلك ، واحد في الحقيقة ، تَذَرُّعًا أَنَّ اثنين منها ، الكلمة والروح ، وصف للأول ، وهو الأب ، وذلك ما لا ينصح إذ الصفة لا تفارق الموصوف ، ويكون لها آخر من الوجود ، تجسدا في جوهر لطيف أو آخر يكثف ، فمآل ذلك ، لو فُرِضَ بادي الرأي ولو تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، مآل ذلك أن يكون الوصف المتجسد في ذات أخرى : وصف الجوهر الذي تجسد فيه ، فقد انْتَفَتْ نِسْبَتُهُ إلى الأول إذ فَارَقَهُ وَحَلَّ فِي غَيْرٍ أو اتَّحَدَ ، فَصَارَ وصفُ الآخر لا الأول .
وَكَذَا قِيلَ ، وهو محل شاهد تقدم ، كَذَا قِيلَ في الأكل من الشجرة ، فكان من سوء الظَنِّ بالله ، جل وعلا ، ما فَحُشَ ، فهو كَمَلِكٍ في الأرض قد ظلم ، فيخشى المنازِع في الملك ، فلا ينفك يجتهد في الحط من الرعية ، جَهْلًا وَفَقْرًا وَضَعْفًا ، فَلَوْ حصلت لها أسباب العلم والقوة لنازعته الملك وخلعته ، فَقِيسَ الخالق الأعلى ! ، وله من الغنى ما يطلق فلا يخشى فقرا ، وله من القوة ما لا يخشى به بأسا ، وله من العزة فلا يناله أحد بضر ، فـ : "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي" ، فَقِيسَ مَنْ هذا وصفه من الكمال المطلق على مَلِكٍ جَائِرٍ في الأرضِ ، لا يَقَرُّ ملكُه إلا أَنْ يَعُمَّ الجهلُ والفقرُ ، فإن خالف أحد من الرعية وسعى في اكتساب الأسباب ، عِلْمًا وَقُوَّةً ، كما آدم قد اجتهد في اكتسابها ! ، فأكل من شجرة المعرفة فَصَارَ العارف لا الجاهل كما أَرَادَهُ الرَّبُّ الخالقُ جل وعلا ! ، وذلك ، بداهة ، ما أَتَى الوحي له يُبْطِلُ ، فآدم عليه السلام : المخلوق المفضَّل المكرَّم عَيْنًا وَنَوْعًا ، فَكَانَ مِنَ التعليمِ ما عَمَّ فاستغرق الأسماء كَافَّةً ، فَقَدْ حَصَلَ له مبدأ الخلق دُونَ أكلٍ من الشجرة ! ، فهو ذو بَيَانٍ يُفْصِحُ ، وهو ما تلا في آي من الرحمن تُثْبِتُ ، فـ : (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ، فكان من المنة خلق أول ، فـ : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) ، وذلك ما حُدَّ ماضيا بالنظر في التقدير الأول ، فذلك ما كان في الأزل ، وما سُطِرَ بَعْدُ في لوح التقدير المحكم ، فَثَمَّ من الخلق : خلق التقدير في الأزل ، وثم من الإيجاد تَالٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، إذ أخرج المقدور من العدم إلى وجود تال يصدق ما كان من علم أول قد أحاط فاستغرق المقدورات كافة ، ومنها الإنسان ، وثم من الخلق ثالث ، وهو التدبير الذي به المنة تَعْظُمُ ، وهو ، كما تقدم ، تأويلٌ لاسم الرحمن يُثْبِتُ ، رحمات في الكون تَكْثُرُ ، فكان من ذلك ما عَمَّ الخلق كافة ، المؤمن والكافر ، بل والعاقل الناطق والبهيم الأعجم الذي لا يحسن يُبِينُ وَيُفْصِحُ ، فَثَمَّ من ذلك ما لا حَدَّ له يحصى ، فـ : (إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ومنها محل الاشتراك : عطاء الربوبية تقديرا وخلقا ورزقا وتدبيرا ، وكذا أخرى بها هداية البيان والإرشاد ، فكان من ذلك ما أبان عن النجدين ، نجد الخير ونجد الشر ، فكان من الحكمة في الابتلاء أن يختار المكلَّف ، فذلك فعل أخص وبه امتاز الخلق ، فلا يكون امتيازٌ بِفِعْلِ اضطرارٍ في الجبلة ، فذلك مما استوى فيه الخلق كافة ، من آمن ومن جحد ، مع آخر من متاع معجَّل به رَفَاهُ الجسدِ بما يعالج من لَذَّاتِ الحسِّ ، فَقُدِّرَ لِكُلٍّ مِنْهَا حَظٌّ في الأولى ، وكان من ذلك مَتَاعٌ قَلِيلٌ يصيبه الكافر ، وإن ظنه كثيرا ، فذلك من فساد التصور ، فَلَوْ قِيسَ بآخر في الأزل أكبر ، وهو ، مع ذلك ، خالد لا يفنى ، فذلك الخلد الصادق لا آخر قد تقدم من وسواس إبليس إذ زَيَّنَ المعصية ، وصيرها طريق المعرفة والعلم الذي ضَنَّ به الرَّبُّ ، جل وعلا ، أَنْ يُنَازِعَهُ آدمُ الأمرَ ، فقد يجترئ بَعْدًا فَيَأْخُذُ من شجرة الحياة ، فَيُخَلَّدُ ، فَسَارَعَ الرَّبُّ الخالق في إخراجه من الجنة قبل أن يصير ملكا عالما مخلَّدا ! ، وهو ، لو تدبر الناظر ، من آثار حكمة أولى قد دخلت في الكتاب الأول فأفسدته ، فلم يكن للحكمة الأول حظ من النبوات يَنْصَحُ في باب الإلهيات خاصة ، والسمعيات كافة ، والشرعيات بعدا ، فَإِنَّ الشرع ليس حكومات مجردة لا معنى وَرَاءَهَا يَنْصَحُ ، بل ثم من المقاصد والكليات ما يميز الأديان والمقالات ، وآثارها لا تنفك تَظْهَرُ في التصور والحكم ، ومنه أحكام الشرع والفقه العملي ، فلم يكن من الحكمة الأولى في الإلهيات وقصة الخلق ، لم يكن منها إلا اقتراح لجمل من المحالات التي تخالف عن العقول الصريحات ، إِنْ فِي قِصَّةِ الخلقِ لهذا العالم ، وكيف صدر عن عقول تَتَدَرَّجُ ، فكلٌّ يخرج ممن قَبْلَهُ حَتَّى انْتَهَتْ إلى العقلِ الْفَعَّالِ الذي فاض عنه هذا العالم ، وله من الفيض آخر في العلم بما استوجبَ لِنَوَالِهِ الرياضةَ والزهد طلبا لكسب ليس بالوهب ، فالعلم الإلهي لا يحصل بالنبوة واسطةً بين الحق ، جل وعلا ، والخلق ، وإنما يحصل بالفتوة والكسب ! ، وهو ما فَتَحَ ذرائع جحود وانحلال به الخروج عن ظاهر من الشرع نَازِلٍ ، بل ذلك دليل الوصول إلى منتهى العلوم إذ تُكْشَفُ الحُجُبُ ، فالعمل ، وقد حصل العلم يقينا ، العمل في هذه الحال مَنْقَصَةٌ ! ، فهو يحسن في حق المريد أو السالك لدى المبدإ ، فظاهر الشريعة له يَلْزَمُ ، وليس يَلْزَمُ لمحقق قد بَلَغَ الغاية ، وَقُلْ مِثْلَهُ في تأويل الشجرة أنها العلم والمعرفة التي حجبها الإله الواحد في الرسالات المنزلة ، وحجبتها الآلهة في الحكمة المحدَثة ! إذ تخشى من الإنسان أن يدرك سر المعرفة ، فيصير لها ندا ، ويخرج عن حكومتها ويمرق ، فلا يكون خضوعه إلا عن جهل أول يطبق ، فَلَوْ عَلِمَ شَيْئًا لَعَظُمَ شَرُّهُ ، فَلَمَّا احتال ونال سر المعرفة ، بل قد انْتَزَعَهُ انْتِزَاعًا كان العقاب أن يأكل الجارح كبدَه فيتألم ألما لا حد له ، فكلما انتهى الجارح من الأكل ، تجدد الكبد ورجع أخرى ، فاستأنف الجارح الأكل ، عذابا لا منتهى له ، فهو الخلد الذي حكمت به الآلهة على الإنسان الجاهل الذي وسوست له نفسه ، أو وسوس له الشيطان ، أَنْ يَعْلَمَ ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، مما عظم شؤمه بعدا مع ما تأول الأحبار والرهبان منه بَعْضًا أو كُلًّا ، فكان تجهيل الشعب في العصر الوسيط ، فلا يقاد إلا بالجهل ، فليس يقرأ الكتاب وحده وَإِلَّا ضَلَّ ، فهو جملةُ أسرارٍ تَبْطُنُ ، وإن خالفت عن قياس العقل المصرَّح ، فلم يكن منها محارات عقول في جائز من الغيوب يطلب الخبر المثبت من خارج ، وإنما كان منها محالات ذاتية لا تُتَصَوَّرُ في الذهن ، ولو مجرَّدَةً ، فَلَيْسَ منها إلا الفرض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وهو ما أَلْجَأَ العقل وَأَكْرَهَ ، ومن تَدَبَّرَ وَتَعَقَّلَ ، فليس إلا عقاب الأب الأول أن يُطْرَدَ من الجنة فقد رَامَ التَّعَلُّمَ ! ، أو عقاب الإنسان في الحكمة الأولى أن يأكل الجارح كبده أبدا ، فكان من ذلك ما قَرَنَ الوحي بالجهل ، فَلَمَّا نضج العقل وشب عن الطوق لم يجد بدا أن يخلع ربقة الكهنة ، وذلك حق ، ولكنه لم يحسن يعدل في الحكم فَيَمِيزَ الوحي الصحيح المحكم من آخر قد أحدثه أحبار السوء إذ تواطئوا مع الملوك ، فأفسدوا الدين ، كما قال القائل : وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحـبار سـوء ورهبانها . وتلك جناية من عالم السوء تَعْظُمُ أَنْ يُنَفِّرَ الخلق من الحق ، وَلَئِنْ وَقَعَ منه شيء في أمة الختم ، فقد سَلِمَ لها الوحي لفظا ومعنى ، آيا وخبرا ، سمعياتٍ وشرعياتٍ ، مع ما رُفِعَ مِنْ ذِكْرِ العلماء المحققين ، وهم الأصل ، وإن قَلَّ عديدهم في الجيل المتأخر أو نَدَرَ ، فلا تخلو منهم الأرض حجةً تُقَامُ على الخلق في كلِّ عصرٍ ومصرٍ ، فكان من سيرهم في الماضي وفي الحاضر ما به تَأَوُّلُ الحفظِ في محكم الذكر ، فـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فَحُفِظَ بعلماءِ الملة ، لفظا ومعنى ، وإن كان الاستثناء الذي سلك جادة الأحبار ، أحبار السوء ، مع آخر قد فسد من الملوك ، وهما كما يقول ابن حيان مؤرخ الأندلس ، هما شطرا الملح الذي يُصْلِحُ ، فمنها قد ائْتَلَفَ ، فإذا فسد الملح فَمَا يُصْلِحُ الطعم ، وإذا فسد العلماء والملوك فمن يصلح الرعية ، وذلك ما تَذَرَّعَ به بَعْضٌ قد فُتِنَ بظاهر من العلم لا يجاوز مدارك الحس ، وإن حصل منه ما ينفع ، فالوحي المحكم عنه لم يَنْهَ ، بل به قد أمر ، ولو فروض كفاية بها حصول الغاية في الفنون والصنائع كافة ، وشاهد الخبر ، أيضا ، بذا يشهد ، فَهُوَ رَائِدٌ يَصْدُقُ أهلَه فلا يكذب ، فكان من حصول التجريب والبحث غاية تَعْلُو ، قد أَقَرَّ بها المخالِف الذي يَتَبَجَّحُ في الجيل المتأخر بما عَلِمَ من ظاهرِ هذه الدنيا ، فمن أنصف من قَبِيلِهِ فهو يُقِرُّ بما كان من فضل أول لأهل الملة الخاتمة ، ولو في العلوم الظاهرة ، فلم يكن لهم منها حظ ، بل كانوا أهل بداوة وجهل ، مع فساد في التصور والحكم ، حتى جاء الوحي الذي صحح أولا من الباطن ، فَنَفَى مادة الشرك الحادث ، وهو أصلُ كلِّ فساد في هذا العالم ، واستبدل بها أخرى من التوحيد الناصح ، وهو أصلُ كلِّ صلاحٍ في هذا العالم ، فالحكم فرع عن التصور ، وإذا صح التصور لهذا العالم تدبرا في أعيانه وسننه المحكمة ، فلا يكون من ذلك عبث ، بل ثم تكليف بالخبر والحكم ، فإذا صح التصور فالحكم يصح ، وحقائق الأشياء تستبين ، إن في الحس أو في المعنى ، فكان من ذلك أول من الوحي ، قَدْ صَحَّحَ التصور والحكم ، وكان تال ينصح ، وبه الدين والدنيا تصلح ، إذ أمر بالتدبر والنظر ، ومنه نَظَرٌ في سَنَنِ الكونِ بما يكون من تجريب وبحث ، فَامْتَثَلَ أَتْبَاعُ الوحيِ الخاتم من ذلك ما به صلاح الأولى والآخرة ، مقاصد ووسائل ، وهو ما حكاه الخبر حقا ، وأبانت عنه التراجم والسير صدقا ، فكم من عالم بظواهر الأشياء قد بَزَغَ نجمه في الأمة الخاتمة ، بل لم يكن ذلك في الجيل الأول إلا وقد حصل له أول من الشريعة ، فَكَثُرَ ما جمع أولئك من ألقاب الفقه وأخرى من التجريب والبحث ، بل مَنْ ضَلَّ منهم في الإلهيات مع ما تَعَاطَى من التجريب والبحث ، فلم يكن ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، إلا في سياق من الحضارة مبدؤه الرسالة ، فهو ابنها ، ولو ضل عن جادتها ، كما علماء من الملل الأخرى قد انْتَظَمَهُمْ سِيَاقُ الرِّسَالَةِ ، فهم أبناؤها ، ، وإن لم يكونوا على ملتها ، فهم أبناء حضارتها التي نصحت على قاعدة من الوحي المنزل الذي حَضَّ الخلق على النظر في السماء والأرض ، فكان من ذلك نظر اعتبار ، وآخر به الانتفاع ، فكان مه صلاح الأولى والآخرة ، وتلك غاية الشرعة النازلة ، وليس ، كما يقول بعض من حقق ، يصح الاستدلال بِنَادِرٍ على غالب ، فإن ضَلَّ واحد أو اثنان في الإلهيات مع بَرَاعَةٍ في التجريبيات ، فقد هدي كثير يَغْلِبُ ، فكان له في كُلٍّ قَدَمٌ تَرْسَخُ ، والخبر ، كما تقدم ، شاهد يصدق ، وَبِهِ أَقَرَّ من أنصف من الخصوم ، والفضل ما شهدت به الأعداء . وذلك ما لم يكن للخصم منه شيء ، بل كان من أحبار السوء في العصر الوسيط أن تواطئوا مع الملوك ، أن يَقْتَسِمُوا الرعية بين سلطة روحية وَأُخْرَى زمانية ، وكلٌّ يَصْدُقُ فيه أنه قد أَخْلَدَ إلى الأرض ، فمثله كمثل الكلب ، وإن كان من الأحبار من أكل الدنيا بالدين ، فلم يكن ذلك إلا والشعب جاهل فقير ، فإذا رَامَ عِلْمًا ، أو سَبَبَ قُوَّةٍ به يُنَاجِزُ ، فالسلطان له يعاجل ، والأحبار بِذَا تُقِرُّ ، بل هي أول في الجرم بما حجبت من معارف الدين والدنيا ، لئلا تحصل هداية للخلق ، فيخرجوا عن حكومتها ، ويدخلوا الملكوت من غَيْرِ بَوَّابَتِهَا ، فلما شب الجمع عن الطوق ، ولم يكن ثم رائد صدق وعدل ، فليس ثم وحي قد سلم من التبديل والتحريف ، بل كُلٌّ له يكره فهو البغيض الذي اسْتَرَقَّ باسم الدين ، مع ما وسوس به الإنس والجان أن الدين عامة سبب النقص ، لا دين الكهنة بما أحدثوا من الخبر والحكم ، فَأَبْغَضَ الجمعُ الدينَ كَافَّةً ، وصار ذلك مَثَلَ سوءٍ ، لا يروم أحد إليه الرجوع ، فهو الظلام والظلم ، وذلك الحق الذي يُرَادُ به أعظم باطل ، أن يصد الخلق عن الدين كافة ، ما نَصَحَ وما غَشَّ ، فصار الدين قَسِيمَ الظلام والجهل ، لا الدين المبدل المحرف خاصة ، وإنما الدين عامة ، مع جهل قد أطبق بِرِوَايَةِ تاريخ يَصْدُقُ ، فهو يميز الصحيح من المبدَّل ، بما حصل لأمة الرسالة الخاتمة من ريادة في التجريب والبحث ، فلم يكن ذلك إلا على قَاعِدَةٍ من الوحي تَرْسَخُ ، بل شاهدها في الجيل المتأخر بذا يصدق ، فالحكم فيها قد اطرد وانعكس ، فإذا راجعت الوحي حصلت لها الرياسة في السياسة والحرب ، والريادة في التجريب والبحث ، وإن لم يكن ذلك المراد الأول ، بل هو فَرْعٌ عن صحيح من التصورِ والحكمِ قد حَرَّرَ مناط الاعتقاد والشرع ، فكان من تَالٍ ما نصح من أمر الدنيا ، وإذا خالفت عن الوحي كان لها ضِدٌّ من النقص ، إن في الدين أو في الدنيا ، كما شاهد جيلها المتأخر ، وخصمها ، في المقابل ، على ضد ، فإن التزم شريعة الرهبان المحدثة فليس إلا الضعف والخذلان ، وإن خالف عن جادة جهل وظلم قد انْتَسَبَتْ زُورًا إلى الوحي ، إن خالف عنها وأخذ بسبب من الدنيا يَنْفَعُ ، فقد حصل له منها ما يَعْدِلُ ، ولو ظاهرا به يفرح ، بل ويتأله فيجحد الخالق الأول ، ويجتهد في الاستدلال بالمخلوق المحدَث من الأعيان والسنن المحكم ، يجتهد في الاستدلال بذلك على نَفْيِ الخالق الأول ، وَإِنْ رَدَّ الأمر إلى العدم أو العبث ! ، فجحد ما تقدم من رحمات تكثر ، قد عمت الخلق كافة ، رحمات الرحمن ، جل وعلا ، وجحد قبلا ما صَرُحَ من القياس أن المحدَث المحكم المتقن من أعيان هذا العالم وسننه ، دليل ضرورة تُلْجِئُ أَنَّ ثَمَّ خالقا هو الأول ، وله من التقدير في الأزل ما قد عَمَّ فاستغرق ، وله بعدا من الإرادة ما يخصِّص ويرجِّح ، فكان من ذلك ما واطأ القياس المصرح ، إذ الجائز الممكن لا ينفك يَطْلُبُ سَبَبًا من خارج يرجح ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما تسلسل حتى انتهى ضرورة إلى أول لا أول قبله ، وله من الوصف أخص ، إتقانا في الخلقة وإحكاما في السنة ، فذلك ما عالج منه الحس آيا في الآفاق وفي النفس ، وهو تجريب وبحث ينفع ، إذ سَلَكَ به العَالِمُ جَادَّةً تَنْصَحُ ، فاستدل به على أول من التصور ، وطلب بَعْدًا من الحكمِ ما يصدق ، ولا يكون ذلك إلا من مشكاة وحي يَنْزِلُ ، وهو ، مع ذلك ، قد استفاد منه سَبَبًا به صلاح الدنيا وحصول مقاصد من الشرع عُلْيَا ، فَتِلْكَ ، لو تَدَبَّرَ النَّاظِرُ ، من رحمات الرحمن ، جل وعلا ، فَثَمَّ منها رحمات في الدنيا تصلح الحال ، وثم أخرى أعظم ، لمن هدي وسدد ، فَنَظَرَ وَتَدَبَّرَ في هذه الرحمات ، وما هُيِّئَ لها من المحال وما أُجْرِيَ لها من الأسباب ، وما سلك من السنن المحكم ، فحصل له من ذلك تصور أول ، فالعقل يدل عليه ضرورة تلجئ ، وإن افْتَقَرَ بعدا إلى ما يبين ويفصل ، فكان من الوحي آي ينصح ، إذ يصدق ما رُكِزَ أولا من فطرة التوحيد ، وهو بعدا يُفَصِّلُ ما أجمل منها ، فَثَمَّ مواضع إثبات في النفس قد حصلت ضرورةً وإن لم يَنْزِلِ الوحيُ ، كما تقدم من الاستدلال الأعم بالحادث على المحدِث ، وآخر أخص ، فَثَمَّ الاستدلال بالإتقان والإحكام على المتقِن المحكِم ، وذلك ما تسلسل حتى انتهى ضرورة إلى أول لا أول قبله ، وله من الوصف ما جاوز المجرد في الذهن ، فثم من آثاره في الخارج ما لا يكون ضرورةً إلا عن علم وحكمة ، وإرادة بعدا ترجِّح وتخصِّص ، فلا يكون التحكم في الفعل تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، بل ثم من المرجِّح ما تأول العلم الأول ، علم الإحاطة المستغرق ، وثم من الرحمات ما آثاره تظهر في الكائنات ، وذلك ، كما تقدم ، تأويل اسم الرحمن ، وإن كان من عمومه ما جاوز الأعيان إلى الأديان ، فقد علم بَعْدًا القرآن ، فكان من ابتداء البيان لِمَا أجمل من اسم الرحمن ، كان من ذلك تعليم القرآن ، وهو الوحي الذي نَصَحَ ، إِنْ في الخبر أو في الحكم ، فصدق فطرة أولى في النفس ، وَفَصَّلَ ما أُجْمِلَ مِنْهَا ، وَقَوَّمَ ما اعوج ، فَثَمَّ رِكْزُ ضرورةٍ في النفس ، إن في التوحيد أو في التشريع ، فلا ينفك يطلب الدليل المبين ، فكان من الوحي ، كما قَرَرَّ بعض مَنْ حَقَّقَ ، كان منه ثلاثة أجزاء في الخارج تنصح ، فَثُلُثٌ منه أحكام تكليف ، وثلث وعد ووعيد فهو الحامل والزاجر أن يمتثل الشرع النازل ، وثلث ، وهو الأشرف ، ثلث الخبر الذي نصح ما أُجْمِلَ أولا في النفس من التوحيد الذي فُطِرَ عليه الخلق ، وكان من ذلك ما أبان عن رحمات تعظم ، ولها من الآثار في الخارج تفضيل لآدم ، عليه السلام ، وابنه من بعده ، فهم القبيل المكلف ، وما خلقهم الله ، جل وعلا ، ليحرمهم العلم والحياة ، فلا يصيروا له ندا ! ، بل خلقهم لمعنى من الرحمة يجمل ، وأراد بهم الخير ، مع غناه عنهم ، فذلك الغنى المطلق الذي لا ند له ولا عِدْلَ في الخارج ، فكان من خلق آدم عليه السلام : خلقُ عالمٍ بالأسماء كَافَّةً ، فَعُلِّمَ المعنى واللفظ ، وكان من خاصته البيان والنطق ، وهو ما جاءت به الآي بعدا ، فكان من الخلق تقدير وإيجاد وتدبير ، فقد : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ) ، وإطلاق العامل قد تناول كُلًّا ، على تفصيل تقدم ، وكان من البيان تعليم ، فقد : (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ، فلم يكن الجاهل الذي يخشى الملك بأسه إن تَعَلَّمَ ، بل قد امتن عليه بالعلم أولا ، وما رُكِزَ فيه من خاصة البيان ، وما كان بَعْدًا من أسباب العلم ، حسٌّ يعالج الظواهر في الخارج ، ومقدمات في العقل ، ومبادئ فطرة بها يميز الحسن من القبيح ، وإن جُمْلَةً تَطْلُبُ بَعْدًا البيان ، فكان من ذلك الخبر الذي نصح العقل والفطرة والحس فلم يأت بالمحال الذاتي الذي يمتنع ، وإنما جاء بخبر يصدق وحكم يعدل ، وبه المنة تعظم ، فلم يُرِدِ الخالق ، جل وعلا ، به شرا كما أرادت الآلهة في الحكمة الأولى ، وكما دخل بعدا في الكتاب الأول . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
ما أشجعك !! ( عبد الرحمن الخشيبان ) . | أبو عبدالرحمن التميمي | حلقة الأدب والأخبار | 2 | 22-12-2015 11:44 AM |