ومما تَقَرَّرَ في الخلق المحكم ما يعالج كلٌّ من فطرة أولى ، وهي جملة من العلوم الضرورية التي لا تفتقر إلى نظر أو استدلال ، وَثَمَّ من الفطرة جنس عام يجرده الذهن ، وهي ما تَنَاوَلَ المعقول والمحسوس كافة ، فَثَمَّ فطرة في الحس تُعَالِجُ من الفعل والحركة طَلَبًا أو دَفْعًا ، إقبالًا أو إدبارًا ، مباشرةً لأعيان فِي الخارجِ ، أو مباعدة من أخرى ، وكذا أَخْرْى بها تمتاز الأنواع في الخارج ، ذكرانا وإناثا ، فلكلٍّ من الفطرة ما تَنَاوَلَ الأجساد في الظاهر ، وطبائع النفوس في الباطن ، فكلُّ نوعٍ يُولَدُ على فطرةٍ في الجسد والطبع ، وهو ما يواطئ الغاية من الخلق ، وذلك ، أيضا ، مما يدخل في عموم الخبر المصدق : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، أصل عام يستغرق ، وتلك دلالة "كُلٌّ" نصا في العموم قد تناول الآحاد كافة ، وهو ما حُذِفَ وَنَابَ عنه التَّنْوِينُ ، تَنْوِينُ العوض عن المضاف المفرد على تقدير : كلُّ أحدٍ مُيَسَّرٌ لما خلق له ، فَثَمَّ عموم قد استغرق ، فلكلٍّ من التقدير أول يسبق ، وذلك ما تناول الحس والمعنى ، فَيُسِّرَ الذَّكَرُ لوظائفَ في الخارج تُوَاطِئُ غايةً من الخلقِ قد أُحْكِمَتْ ، فَهُيِّئَ الجسد بما صَلُبَ من الْبِنْيَةِ في الخارج ، وَهُيِّئَ العقل فلا تغلب عليه دوافع الأنثى ، فالجنان منها أَشدُّ حرارةٍ في المواجيد ، وقد يسبق العقل في مواضيع ، فيكون من ذلك ما يفسد ، لا جرم كان مِنْ رَائِدِ العقلِ لدى الذكر أولٌّ به قد فُضِّلَ في التكوين ، وهو ما عَمَّ العقل محل الفكرة ، والدماغ ، وهو الواسطة بين الفكرة والحركة ، إذ يتأول المعنى المعقول فَلَهُ تأثير هو الأول ، ولا تنفك آثاره في الدماغ تظهر بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، وهو ما يَتَفَاوَتُ من نوع إلى آخر ، فدوافع الذكر تواطئ وظائف القوامة التي هيئ لها ، فكان التفضيل في الخلق ، وهو ما عم العقل والدماغ والجسد ، فَعَقْلُ الرجل أكمل فلا تستبد بع عاطفة تَغْلِبُ ، ودماغه كما دل التجريب والبحث ذو زيادة في الخلق بها يُفَضَّلُ ، وإن هيِّئَ من الأنثى آخر يطيق من الوظائف ما يَتَعَدَّدُ ، فذلك ما به صلاح المعاش في البيوت ، ولا يكون ذلك إلا بمخلوق لطيف يحنو ويعطف ، كما وصف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصالحات من نساء قريش ، فـ : "خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نساءُ قريشٍ أرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يَدِه وأحناهُ علَى ولَدٍ في صِغَرِهِ" ، فكان من ذلك مثال يدخل في العموم آنف الذكر : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، فذلك من تيسير قد جَمَعَ الْخُلُقَ الظاهر وَالْخَلْقَ الباطن ، فَهُيِّئَتِ الأنثى ، حسا ومعنى ، لوظائف بها إصلاح الزوج والولد والبيت ، وتلك معان جسام لا تحصل وتكمل إلا أن يكون من الكفالة ما يُفَرِّغُ الأنثى ، فلا تحمل قلبين اثنين في الجوف ، ولا عبرة بما نَدَرَ فلا حكم له ، أن يكون من آحاد من النساء من أُوتِيَتْ فَضْلَ عقلٍ وقوَّةٍ أن تَنْهَضَ بِأَمْرِ السَّعْيِ في الخارج ، وإصلاحِ البيت وَتَرْبِيَةِ الولد ، فَثَمَّ من ذلك حكمة في التقدير الأول ، وهو ما أبان عنه التجريب والبحث في مُدْرَكَاتٍ من الحس تحكي إتقانا وإحكاما في الخلق ، ومنه القدر الجامع بين النوعين ، ومنه آخر فارق بما هُيِّئَ له كلٌّ من الوظائف ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما عم الحس والمعنى ، الخَلق والخُلق ، فكان من هيئات الرجال في الخارج ، وأخلاقهم إذ يكابدون أسباب العيش ، وهو ما استوجب المخالطة والظهور ، كان من ذلك ما به قوامة الرجال تَثْبُتُ ، فَلَهَا من الخلق دليل الفطرة ، ولها من الحكم دليل الشرعة ، فـ : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ، وذلك مما يجري مجرى الخبر الذي يُرَادُ به إنشاء ، فهو يوجب للرجال قوامة ، وَيُبِينُ عن أسبابها ، فَثَمَّ من التعليل ما به المعنى يرسخ ، فكان من الباء في قوله
: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ، بَاءُ سَبَبِيَّةٍ وَتَعْلِيلٍ ، فَثَمَّ تفضيلٌ في الخِلقة بما يواطئ أولا من الفطرة ، وهي وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فَقَدْ رُكِزَ ضرورةً في الوجدان ، إن حسا أو معنى ، ولا تَنْفَكُّ آثاره بَعْدًا تظهر بما يكون من تأويل في الفكرة والحركة ، وإن في مواضع اللعب واللباس والزينة ..... إلخ ، فَيَتَنَاوَلُ كُلٌّ منها ما يواطئ نَوْعَهُ ، حكمةً في الحركة تَصْدُرُ عن أولى من الفكرة ، ومعدنُ كُلٍّ : فطرةٌ أولى تَنْصَحُ بما كان من تقدير أول في علم محيط قد استغرق ، فآيه ما يعالج الناظر في الخارج من إتقان وإحكام ، وما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى ضرورةٍ في الحس والمعنى ، وبه حفظ النوع بما يكون من زوجية بها اكتمال القسمة في الخارج ، وَمَيْلِ كلِّ نوعٍ إلى الآخر ، إِنْ مَيْلَ الجسدِ مباضعة أو الروح مساكنة ، فَهُيِّئَ كُلٌّ لِمَا خُلِقَ له من الوظيفة ، إن في الخَلق أو في الخُلق ، وذلك أول قد رُكِزَ في فطرة أولى ، وهي ، كما تقدم ، مما عم الحس والمعنى ، فَعَقْلُ الرجلِ قائد ، وعقل المرأة عاطف ، فهو تابع يَلِينُ ومحله تال لمتبوع يشتد ، وبهما اكتمال الحد ، لينا في مواضع وشدة في أخرى ، ولكلٍّ من المقال ما يواطئ ، فَغَلَبَ على الرجال ما به القيادة ، وَغَلَبَ على النساء ما به الرعاية ، وتلك قسمة العدل التي تناولت الأجزاء على قاعدة من التقدير المحكم ، فكان من ذلك آية في الخلق تنصح ، فـ : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، فثم آية في الأنفس ، إذ خلقت على نوعين ، فكان منها الزوجان ، وَكُلٌّ لزوجِه يُكْمِلُ ، فلا يَنْهَضُ واحدٌ بالأمر كلِّه ، ولا ينهض أحدهما بوظائف الآخر ، وإن خالف عن فطرة التكوين وَتَكَلَّفَ لذلك ما يجافي الحكمة ، مع آخر قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، أَنْ كان ثَمَّ خروج عن الجادة ، فِطْرَةً وَشِرْعَةً ، فلا يخلو من جحود وإنكار ، ولو بالنظر في المآل ، ألا يسلم في الخارج بما كان من فطرة التكوين النافذ ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا أول ثابت ، فذلك ما يقيد الحرية التي أُطْلِقَتْ في الجيل المتأخر على قاعدة الخروج عن كلِّ سلطان يحكم ، عدل أو ظلم ، نَزَلَ من السماء أو حدث في الأرض ، فلا يحسن يميز في الباب ، وإنما يُجْرِي كُلًّا على جادة واحدة من الإنكار والمناجزة ، وهو ما خالف عن قانون الحكمة الذي رُكِزَ في العقول ضرورةً ، فهو يوجب التفريق بين المختلفين ، فسلطان الخالق الذي أتقن وأحكم ، وسلطان الإله الذي أَنْزَلَ من الخبر ما يصدق ، ومن الشرع ما يعدل ، وإن خالف ، بَادِيَ الرأيِ الساذج ، ما يَتَوَهَّمُ الناظر أَنَّهُ العدل ، فَقَدْ فَسَدَ منه ابتداء التعريف والحد ، فَحُدَّ العدلُ أنه تسويةٌ مطلقةٌ ، ولو بين مختلفين في الحقيقة والوصف ، إن في الحس أو في المعنى ، وذلك ، بداهة ، ما يخالف عن جادة الحكمة ، فإنها تَقْضِي ضرورةً بالتفريق بين المختلفين ، فَيُعْطَى كُلٌّ ما يُوَاطِئُ ، وهو ما يُسِّرَ له بما كان من تقدير أول ، وذلك لازم ضرورة في العقل يثبت ، كما تقدم في مواضع من حكاية التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا ينفك الخلق يطلب خالقا هو الأول ، ولا ينفك خلقه في الخارج بما أظهر التجريب والبحث من إتقان وإحكام ، لا ينفك يدل ضرورة على تقدير أول قَدْ عَمَّ الجليل والدقيق ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، عن خبط عشواء هو الأول ، فتلك مادة الخروج عن سلطان الحق والعدل ، إن في الخلق أو في الشرع ، طلبا لما لا حقيقة له في الخارج تَثْبُتُ ، فليس إلا المجرد الذهني الذي لا يجاوز ، فمنه الحرية المطلقة بشرط الإطلاق ، وذلك جنس من المعنى لا وجود له في الخارج يثبت إلا بالقيد ، ولو قيد الخلق الظاهر بما كان من جسد الذكر أو الأنثى ، فذلك قَيْدُ تكوينٍ يَنْفُذُ ، وهو محل التسيير لا التخيير ، وإن كان من ذلك تَيْسِيرٌ يقرن ، فثم تسيير يحكي من وصف الجلال أولا ، وثم تيسير بما هُيِّئَ لَهُ كُلٌّ من الوظائف ، فَأُعِدَّ المحل بما يُوَاطِئُ ، فكلٌّ يعالج من أسباب الحس والمعنى ما يحكي إتقانا وإحكاما في الخَلق والخُلق ، فحصل من التيسير جمال ، كما أول من التسيير قد حصل به الجلال ، فلم يكن منه خلق وإهمال ، فيكون من ذلك جلال في الإيجاد دون حكمة في الإعداد والإمداد ، وقد الْتَزَمَهُ بعضٌ فَصَرَّحَ ، فالخلق قد صدر عن ربٍّ أول ليس له من الفعل إلا الخلق ، فَخَلَقَ الخلق ثم أهمل ، أو تَرَكَ الخلق لِيُدَبِّرَ أمره دون تأثيرٍ من خارج ، إن بالتدبير الكوني ، أو بالتكليف الشرعي ، وهو ما اصطلح فِي الجيل المتأخر أنه المذهب الربوبي ، لا ربوبية التقدير والإيجاد والرزق والتدبير ....... إلخ ، كما النبوات قد ذَكَرَتْ ، وإنما ربوبيةُ خَلْقٍ مجرَّد ، لا عن تقدير أول ، فَلَيْسَ ثَمَّ من العلمِ ما يَسْبِقُ ، وإن ثَبَتَ منه شيء ، فذلك الكلي المجمل الذي لا يَتَنَاوَلُ الجزئيات ، وبها آثار الإتقان والحكمة تظهر ، فكان من ذلك ما يضاهي مذهب الحكمة الأولى أن الخلق قد صدر عن عِلَّةٍ أولى وهي الفاعلة بالطبع اضطِّرَارًا ، فلا علم تقدير قد عم فاستغرق آحاد المقدورات كافة ، إن الجليلَ أو الدقيقَ ، وبه آثار الإتقان والحكمة تَظْهَرُ ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن علمٍ محيطٍ قد اسْتَغْرَقَ ، لا عن علة فاعلة بالطبع اضطِّرَارًا ، فلا علم به التقدير ، ولا إرادة بها التخصيص والترجيح ، وبه خروج المقدور من العدم إلى وجود في الخارج يُصَدِّقُ ، وإنما أول في الوجود كلا شيء ، فلا وجود له في الخارج يثبت ، فالمطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج يصدق ، وذلك أصل يطرد في جدالِ كُلِّ منكرٍ يغلو في التجريد الذهني ، فلا وجود في الخارج إلا بقيد زائد يميز الموجود من غير ، وبه امتاز واجب الوجود الأول ، وله من وصف الوجود : وصف ذات لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب أول يسبق ، بل له من الأولية ما أطلق فلا أول قَبْلَهُ ، وكل ما سواه من الموجودات فهو المحدَث الذي يصدق فيه أنه الجائز ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فلا ينفك يطلب أولا يسبق ، وهو له يُوجِبُ ، فيصير الواجب لغير ، فليس وجوبه ذاتيا لا يُعَلَّلُ ، وإنما يطلب من الموجِب ما يسبق ، وذلك ما تَسَلْسَلَ فِي النَّظَرِ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فَلَهُ من ذلك أولية تُطْلَقُ ، وله من وصف الوجوب : وصف ذات لا يعلل ، فلا يفتقر إلى غيرٍ ، وغيرٌ له يَفْتَقِرُ ، إن المحلَّ أو السببَ ، أَنْ يُقَدِّرَ منهما أولا في الأزل قد ثَبَتَ ، فذلك التقدير المحكم ، وصف المقدِّر المحكِم بما كان من علم محيط قد استغرق ، فليس العلم الكلي المجمل ، وإنما ثم من التفصيل ما تَنَاوَلَ الأجزاء والدقائق ، وآي ذلك ، كما تقدم في مواضع ، ما يعالج الحس والتجريب والبحث من آي في الآفاق وفي النفس ، ومنها آي الزوجية آنف الذكر ، وما كان من إتقان وحكمة ، فذلك ما يجاوز ، بداهةً ، فعل الخلق ضرورة بلا علمٍ أول يُقَدِّرُ ، ولا إرادةٍ بَعْدًا تُرَجِّحُ ، وإنما فِعْلٌ بِالطَّبْعِ اضطِّرَارًا كما النار إذ تحرق والسكين إذ تقطع ، فلا علم لهما ، بداهة ، ولا إرادة ، وإنما هما من الوسائل التي لا يسند إليها الفعل اختيارا ، وإنما هي السبب المؤثِّر بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُؤَثِّرُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ أولا قد خَلَقَهَا ، ثُمَّ أحكم سَنَنَهَا أَنْ تُفْضِيَ إلى المسبَّب إذا اسْتُوفِيَ شَرْطُهَا وَانْتَفَى مانعُها ، فذلك المجموع المركب الذي اصطلح النظار أنه العلة ، ولا تنفك تطلب أولا يسبق وهو المعلِّل ، وإن كان في نفسه علة تَفْتَقِرُ إلى معلِّل يسبق ، فَثَمَّ من ذلك تسلسل لا يحسم إلا أن يُرَدَّ الجميع إلى مسبِّب أول لا مسبِّب قبله ، فكل ما سواه فِإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ أَنْ يُقَدِّرِ ويوجِد ويدبِّر ، وليس يفتقر إلى غيرٍ يَسْبِقُ ، فله من وصف الوجوب : وصف ذات لا يعلل ، وبه امتاز من الجائز ، وهو سائر هذا الوجود الحادث ، فَثَمَّ واجب أول ، واجب الوجود لذاته ، فذلك شطر من القسمة ، وثم آخر يقاسمه الجنس الأعلى ، جنس الوجود المجرد ، وبه اكتمال القسمة فهي بين الواجب لذاته الموجِب لغيره ، فذلك شطر ، وآخر هو الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وبه يصير الواجب لا الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَيْسَ ذلك إلا وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، وإنما وجود المخلوق إذا وَجَبَ بَعْدَ جوازٍ بما كان من ترجيحٍ بالإرادة يُوَاطِئُ أولا من التقدير بالعلم والحكمة ، فوجود المخلوق المحدث بما كان من الترجيح آنف الذكر : وجود واجب لغير بما كان من مرجِّح من خارج ، ومآله في النظر إذ يمنع التسلسل في المؤثرين أزلا ، مآله إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ مِنْ وصفِ الوجوبِ : وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من الإيجاب وصفُ فعلٍ ، نوعه أول يَقْدُمُ ، وثم من آحاده بَعْدًا ما يحدث ، فَهُوَ دليلٌ يصدق ما كان أولا من وصف يزيد ، فليس الأول في النبوات كالأول في مذاهب من الحكمة محدثَاتٍ ، الأوَّلِ المجرَّدِ ، مُطْلَقًا بِشَرْطِ الإطلاقِ ، فَلَا وجودَ لَهُ فِي الخارجِ يُصَدِّقُ ، بل أول النبوات هو الأول الذي ثَبَتَ لَهُ من الذات والوصف ما كَمُلَ فِي الأزلِ ، فَلَمْ يَكُنْ من ذلك وجودٌ بَعْدَ عَدَمٍ ، بل له من الكمال المطلق : وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فَلَيْسَ وجودُه المطلق بِشَرْطِ الإطلاقِ وصفَ الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، بل ثم من ذلك حقيقة في الخارج قد حصلت من الذات وما يقوم بها من قَدْرٍ يزيد من المعنى ، فذلك الوصف ، إن الجمال في الإتقان والإحكام في التقدير أو الجلال في الإنفاذ والتكوين وما تلا من وظائف الربوبية : الرزق والتدبير ..... إلخ بما ينزل من أسباب ذات قوى تؤثر ، فقد هُيِّئَ لها في المحال أخرى تَقْبَلُ ، وذلك مما أبان التجريب والبحث عن طرف منه يصدق ، فأثبت ضرورة من الوصف ما زَادَ فهو يقوم بالذات ، فلا يكون الإتقان والإحكام إلا بأول من التقدير قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فكان من ذلك علم محيط ، وثم آخر من الحكمة في التقدير ، وثم من الإرادة ما به الترجيح والتخصيص ، فكل أولئك من أوصاف المعنى التي تَثْبُتُ ضرورةً إذا أنصف الناظر وتجرد ، فعالج من أي الآفاق والأنفس ما يَشْهَدُ ، فليست الذات الأولى الواجبة : الذات المجردة من الوصف ، الفاعلة بالطبع اضطرارا ، فلا علم ولا إرادة ، فليس يكون في الخارج مطلق بشرط الإطلاق ، كما الحكمة الأولى قد غلت في التجريد ، إن الأسماءَ أو الصفاتِ ، وهو ما قَبَسَ منه التَّثْلِيثُ شعبةً إذ قال بتجريد الوصف ، وهو ما اصطلح أنه الأقنوم ، فذلك معنى كالكلمة قد قام في الخارج بنفسه ، فَتَجَسَّدَ في ناسوتٍ محدَث ، وهو ، مع ذلك ، على قَيْدِ التجريد كلمة مطلقة ، ونسبة إلى المتكلِّم بها ، وإن فارقته وتجسدت في آخر ، فذلك ، لو سُلِّمَ به في جدال الخصم ، فهو يُبْطِلُ نسبة الكلمة إلى الذات الأولى إذ فَارَقَتْهَا ، وَأَثْبَتَتْهَا لِلذَّاتِ الثانية إذ تجسدت فِيهَا ، فَلَيْسَ يَصْدُقُ فِيهَا ، من هذا الوجه ، أنها كلمة الله ، وصفا ، فالصفة لا تُفَارِقُ الموصوف ويكون لها آخر من الوجود ، فَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا قد فَارَقَتْهُ وقامت بآخر ، فهي وصف الآخر لا الأول ، فَلَا يَصْدُقُ فِيهَا وقد فارقت الذات الأولى أنها كلمة الله ، فالإضافة قد انْقَطَعَتْ بِمَا كان من المفارقة إلا على تأويل يصدق ما كان من توحيد النبوات المحكم ، أن النسبة في هذه الحال : نسبة ذَاتٍ قد خُلِقَتْ بالكلمة ، ذات المسيح عليه السلام ، فـ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فليست الذَّاتُ عَيْنَ الكلمةِ ، وَإِنَّمَا بِهَا قد خُلِقَتْ ، فَأَطْلَقَ السبب ، وهو الكلمة ، وأراد المسبَّب وهو المخلوق بها ، وذلك مما يجري مجرى المجاز المرسل ، عند من يُثْبِتُهُ فِي اللِّسَانِ والوحيِ المحكَمِ ، فذلك مَجَازُ السَّبَبِيَّةِ إِذْ أَطْلَقَ السَّبَبَ وأراد المسبَّب ، وإنما اختص المسيح ، عليه السلام ، بذلك ، أن كان من خلقه آي تخالف عن العادة والمسلك ، أن يكون الخلق من ذكر وأنثى ، فكان من خلقه من أم بلا أب آي تعظم ، فـ : (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) ، فكان من الإسناد إلى ضمير الجمع في "جَعَلْنَا" ما يواطئ الإعجاز في الخلق ، فلا يكون إلا عن عظيم أول قد حَسُنَ في فعله أَنْ يُسْنَدَ إلى الجمعِ ، مع آخر يحكي من الوصف ما تَعَدَّدَ ، وإن كان من الحقيقة في الخارج ما يُصَدِّقُ توحيدَ النبوات ، توحيد الواحد في الذات ، الأحد في الصفات ، فلا ند له ولا مثيل ، وكان من تنكير "آيَةً" ما يحكي تعظيما آخر ، فهي ابتداء تحكي نوعية لا تجاوز إثبات الحقيقة في الخارج ، عَظُمَتْ أو صَغُرَتْ ، فلا تخلو من إجمال في الدلالة ، ولا تنفك تطلب قرينة تُبَيِّنُ ، إذ تُرَجِّحُ مراد المتكلم لا سيما في نوعية تحتمل أضدادا من المعنى ، فكان من قرينة السياق ما يُرَجِّحُ في هذا الموضع ، بداهة ، التعظيم ، فهي آية عظيمة في القدر والوصف ، ولأجلها اختص المسيح ، عليه السلام ، بهذا الوصفِ ، وصفِ الكلمة ، وإن صدق في كلِّ مخلوقٍ في هذا العالم المحدَث أنه كلمة ، فذلك العموم الذي يستغرق ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فَيَصْدُقُ فِي الجميعِ أنه كلمة الله ، وإنما اختص المسيح ، عليه السلام ، لما كان في خلقه من آيِ إعجازٍ ، ومن يُنْكِرُ المجاز فهو جَارٍ على أصل له قد اطرد ، أن ذلك مما كَثُرَ فِي اللِّسَانِ العربيِّ وَاشْتُهِرَ ، وإن خالف عن حقائق اللسان المجرَّدة ، فَثَمَّ من عُرْفِ الاستعمال والتداول ما صَيَّرَهُ حقيقةً أَخَصَّ ، حقيقةَ الْعُرْفِ ، وهي تَقْضِي في أولى من النطق ، قضاء المحكم في المتشابه ، فيجري الباب مجرى الخاص والعام ، فلا تعارض ، إذ الخاص يَقْضِي في العام ، أو هو يجري مجرى التَّرَاجُحِ فِي الحقائقِ ، فحقيقة العرف الأخص تُقَدَّمُ على حقيقة اللسان الأعم ، والتراجح في هذه الحال بين حقيقتين ، لا بين حقيقة ومجاز ، وفي كلتا الحالين ، القول بالمجاز والإنكار ، يصدق في الكلمة أنها سبب ، والمسيح ، عليه السلام ، أنه مسبَّب ، والسبب بَدَاهَةً غَيْرُ المسبَّب ، فالأول لِلثَّانِي يَسْبِقُ ، ضرورة في النظر تُلْجِئُ ، إلا عن قول آخر للحكمة الأولى لا يخلو من الامتناع الذاتي ، أن العلة تَقْرِنُ المعلول ، فَضْلًا عن آخر من الاتحاد والحلول ، أَنَّ العلة هي عين المعلول ، فيكون من هذا العالم : قديم أول قد قَرَنَ العلة في الوجود ، فليس ثم في الأزل إلا موجود واحد بالعين ، فهو العلة والمعلول ، وما العالم المحدث في الخارج إلا مظاهر لحقيقة واحدة في الأزل تَثْبُتُ ، فلا امتياز فيها لواجب من جائز ، بل كلٌّ قَدْ وَجَبَ الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا شيء من هذا العالم يصدق فيه أنه المحدَث ، بل هو القديم في الأزل ، وإنما الأعيان في الخارج مظاهر له تصدق ، فلا شيء منها مخلوق محدَث ، ولا امتياز لأعيانها ، فهي واحدة بالعين ، فلا يعالج الناظر في الخارج إلا المظاهر ، وهو ما يخالف ضرورة عن مدارك الحس الظاهر الذي يميز الأعيان في الخارج ، كما الذكر والأتثى مثالا تقدم ، فَثَمَّ من النوع ما امتاز ضرورةً ، وثم من الآحاد ما امتاز ، أيضا ، وهو ما يعالج الحسُّ في الخارج ، وثم من حدوث الأعيان المخلوقة بعد عدم ، ما يُبْطِلُ ضرورةً القول بِالْقِدَمِ ، فذلك مما يطلب علة أولى تَسْبِقُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصف الوجوب الذاتي ما تَقَدَّمَ ، وله من وصف الإيجاب وَصْفُ فعلٍ قَدْ قَدُمَ ، وآحاده لا تَنْفَكُّ في الخارج تحدث ، وهي لمقدور أول في الأزل تُصَدِّقُ ، وبها الترجيح في الجائز من هذا العالم الحادث أن يخرج من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فحقيقته بداهة وهو عدم لدى المبدإ إذ كان المقدورَ في علم أول قد استغرق ، فهو الجائز ، وما كان من وجوب له يثبت ، فهو وجوب لغير بما تَقَدَّمَهُ مِنَ العلة والسبب ، فحقيقته آنفة الذكر تخالف ضرورة عن حقيقة الواجب الأول ، واجب الوجود لذاته ، وبه بطل مذهب الحلول والاتحاد ، فلا تنفك آثاره تظهر في كلِّ جيلٍ ، إن في الحسِّ أو في المعنى ، فالوجود في الخارج ضرورةً في العقل فذلك من مقدمات النظر المحكم ، الوجود في الخارج لا يُطْلَقُ بِشَرْطِ الإطلاقِ ، وإنما امتاز في الخارج ، فهو الواجب في حَدٍّ ، والجائز في آخر ، على التفصيل آنف الذكر ، وإنما اقترحت الحداثة في الجيل المتأخر أن يكون المرجِع من الأرض ، وهو الإنسان الذي فَرِحَ بمدركاتِ الحسِّ من علوم التجريب والبحث ، وَلَوْ تَدَبَّرَ في وحي قد أُحْكِمَ فَسَلِمَ من التبديل والتحريف ، لَوَجَدَ أن ما نَالَهُ من العلم المحدَث لا يضاهي ما جاء به الوحي المنزل ، وهو ما تَنَاوَلَ أصول النظر والاستنباط ، وطرائق الإثبات لما صَحَّ من الأدلة ، وطرائق الاستدلال الذي يستنبط المدلول النظري من مقدمات ضرورة أولى في الوجدان تَنْصَحُ بِمَا رُكِزَ فِي النَّفْسِ من فطرة أولى بها العقل يَنْصَحُ ، فامتاز من سائر النوع المعجم ، وكان من ذلك خاصة النطق ، وهي مناط التكليف إذ يصدر الكلام عن منطق أول يَبْطُنُ ، وذلك المعنى الذي يحصل في النفس مبدأ النظر ، وهو شطر أول في حد الكلام المفهِم ، وله من الحد ما يجاوز مقدمات الضرورة الأولى ، وهي مُدْرَكَاتُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي ركزت في الجسد ، وهي أولى من الفطرة تَثْبُتُ ، فطرة الجسد ، ومنها ما تَقَدَّمَ من قسمةِ النوع ذكرا وأنثى ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من مَيْلِ جِبِلَّةٍ إلى الآخر ، وبه اكتمال القسمة التي بها حِفْظُ النَّوْعِ ، مع حصول كفاية تشبع الحاجة التي جُبِلَتْ عليها الخلائق كافة ، فَثَمَّ خاصة الفقر الضروري إلى السبب ، إن الموجِد من العدم ، أو تال يحفظ النفس أو النوع ، وتلك خاصة في المخلوق المحدث تدل ضرورة على قسمة النظر إذ يَسْتَقْرِئُ ، فَثَمَّ من جنس الموجود ما أُطْلِقَ في الذهن ، وله من القسمة في الخارج ما تقدم من الواجب والجائز ، فتلك أولى ، وثم قسمة الغني والفقير ، ولكلٍّ من وصف الذات ما وَجَبَ ضرورةً ، فَثَمَّ الفقير : الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وذلك حد المخلوق المحدَث ، والحس بذا يشهد ، فَثَمَّ فَقْرُ ضرورةٍ إن في الحس أو في المعنى ، فالجسد يطلب من أسباب بها الحفظ والصيانة ، مع ما يكون من لذة تستصحب بما يطعم الجسد ويشرب ، فتلك غريزة بها الباعث المحفِّز بما كان من إتقان وإحكام في الخلق والسنن الجاري في الكون ، فلا ينفك كلُّ أولئك يَطْلُبُ أَوَّلًا يَسْبِقُ ، وله من التسلسل في المؤثرين أزلا ما امتنع ، فوجب الانتهاء إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وله من وصف الغنى الذاتي ما لا يُعَلَّلُ ، فذلك الوصف الواجب لذاته ، لا لغير ، فلا يفتقر إلى سبب يسبق ، يُوجِدُ أو يَرْفُِ الوجود بما يحفظ ويصلح ، بل كل المحال والأسباب إليه تَفْتَقِرُ أن يُقَدِّرَ بعلم أول يحيط قد استغرق الكليات والجزئيات كافة ، ويوجد بالقدرة والإرادة ، فيكون من ذلك تأويل المقدور في الأزل بما حدث من الموجود في الخارج ، وهو ابتداء الجائز ، فَثَمَّ المقدور الأول في علم إحاطة قد استغرق ، وهو ما افْتَقَرَ ضرورةً إلى مرجِّح من خارج ، وبه يصير ذا وجود في الخارج هو المحدَث ، وهو ، لِمَا كان أولا من التقدير يُصَدِّقُ ، وبه إثبات القسمة آنفة الذكر ، الواجب في حد ، والجائز في آخر ، فالأخير لا ينفك يوصف بالعدم ، وإن كان ثم وجود في التقدير الأول ، فهو وجود القوة لا الفعل ، فلا ينفك يطلب المرجح الذي يخرجه من القوة إلى فعل في الخارج يصدق ، فيكون من ذلك ما يواطئ علم تقدير أول ، وحكمة بالغة تنصح ، ومنها خلق الأزواج التي تتكامل ، فَفِي كُلٍّ من النَّقْصِ أول يثبت ، وهو يطلب زوجا له يكمل ، فَثَمَّ من الفقرِ : وصفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، فَثَمَّ الافتقار إلى المقدِّر الأول الذي يحد الحقائق في الأزل قبل خروجها إلى الوجود من العدم ، وثم الافتقار إلى المتقِن المحكِم ، فَلَهُ من العلم ما عم فاستغرق الكليات والجزئيات ، ولا تنفك رحمات في ذلك تظهر بما كان من قوى في الأعيان قد ركزت ، وما يسر لها من أسباب في الخارج ، ولها من القوى ما به تُبَاشِرُ ، فتلك زوجية تعدل زوجية الذكر والأنثى ، زوجية المحل الذي يَقْبَلُ والسبب الذي يُبَاشِرُ بما رُكِزَ في كلٍّ من قوى تدق ، فلا يكون ذلك ، عن عشواء وخبط ، أو عن علة أولى فاعلة بالطبع اضطرارا فلا علم ولا إرادة ، بل ثم من الوصف ما ثَبَتَ بالعقل ضرورة ، فهذه الأعيان بما سُنَّ لها من الزوجية المتقنة الجارية على سنن هي المحكمة ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى تُوَاطِئُ ما لأجله قد خُلِقَتْ ، فذلك ، كما تقدم ، مما يدخل في العموم المستغرق في قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" .
والله أعلى وأعلم .