ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > مكتبة الملتقى > أخبار الكتب وطبعاتها
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 31-01-2013, 01:06 PM
منذر أبوشعر منذر أبوشعر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Nov 2011
التخصص : ليسانس في آداب اللغة العربية وعلومها
النوع : ذكر
المشاركات: 2
افتراضي ابن قتيبة وكتاب عيون الأخبار

كلمة لا بد منها :
ما زلتُ أذكر كيف التقيتُه أول مرة .
كان ذلك ذات مساءٍ حالمٍ ،قبل خمسة عشر عاماً - تزيد قليلاً ولا تنقص - عندما طرق( ابنُ قتيبة ) بابَ غرفتي وبيده ( عيونُ الأخبار ) .
وقتها - ولا زلتُ أذكر ذلك أيضاً - كنتُ و ( ابن سَلاََّم ) نَجيّيْ سَمَرٍ ..أرحل معه المرة الرابعة مع طبقات فحول شعرائه بصحبة شيخِ العربيةِ الأستاذ محمود محمد شاكر،فأحس أن طول المسافات تُخْتصر بيني وبين الماضي. ( يضمر الزمن ،وأشعر أن القرون الزهرَ الأولى ماثلةٌ أمامي بكل شخوصها وأناسها . أكلمهم ،وأحادثهم ،وأسمع أصواتهم بوضوح )، فكانت صحبة فريدة ،وكتاباً ممتعاً ،وزمناً رائقاً،( محموداً ) (شاكراً ) :
منهجاً أولاً في تقديم قراءةِ سِفْر عزيز ،وحذقاً متدبراً يصوغ تليداً طارفاً ،ممتطياً خارجياً،نافضا بيدين قويتين كلّ كَلْكَل فوارقِ الزمن .

كان ذلك - كما قدمتُ - قبل خمسة عشر عاماً ،وقتما طرق ( ابنُ قتيبة ) بابَ غرفتي وبيده كتاب ( عيونُ الأخبار ): عينٌ من عيون تراثنا ،إن لم يكن عينَ التراثِ ذاته في إحدى صوره .
فكانت رحلة ..وكانت بداية قصة كتاب .

وقتها تساءلتُ :كيف أبدأ مع ابن قتيبة ،وكيف أخطو برفقته ،فأدخل إلى رَحْب أجوائه، فأستطيع سماعَ أصواتِ القدامى ،وشعرِهم ,وغنائهم ، وضجيجِهم ,ومسجالاتِهم ،وحركةِ دبيبِ أيامهم ،كما سمعتُها بوضوح عند ابن سلاَّم ؟
وكيف أبدأ فأرتب موادَّ الكتابِ وأسانيدَه ،وهو يدعوني إلى عالم زاخر فتّان؟
هل أجمع النسخَ المخطوطة - وهما اثنتان - سيأتي الحديث عنهما إن شاء الله ،فأكتب قراءات فوارق النسخ ،فأقول :في نسخة كذا :مال ، وفي نسخة كذا : قال .وفي نسخةألف :نا ، وفي ب : أخبرنا !؟ مكرراً كلاماً ( منهجياً ) بأسلوب ( علمي ) بارد ،معيداً القولَ على القول ،مردداً ما غادر المِهْمَر مِنْ مُتَرَدَّم ،مكتفياً من الغنيمة بالإياب؟
أو أجمع أقرانَ مواذّ ابنِ قتيبة من مظانها ،لتصنيفِ مجموعِه ،وتمحيصِ أجزائه وتحليلها ،فيسطاعُ ترتيبُها ،وفَهْم صحيحها وسَتّوقِها وحسنِها وموضوعِها،ويكون بذلك معنى لتقديم كتاب للسلف ؟

كان صوتُ الشيخ محمود قويا في أذني ،مدوياً في فكري .وشعرت - وأنا مع ابن قتيبة - أنه معي ..يرافقني ،ويسامرني ،أغرف من بريق مخزون تَألّقه ،فتُراض العَروض ،ويسوغ كلُّ شُرْب .
فبدأتُ اولا بدراسة أسانيد الكتاب دراسة صبورٍ متأنية . ولم أتوقع ،وأنا في بدايات تلمسي لأحوال الرجال ،أن هذا العلم الفريد يحوي جميعَ علومِ العربية في طياته على اختلاف صورها ،وأن ذلك يتطلب بالضرورة إعادةً لقراءة كلِّ ما كتبه القدامى ،ليتأدَّى إليَّ فهْمُ أساليبِِهم واتجاهاتُ عباراتهم ..فوجدتُ نفسي ثانية مع الأستاذ شاكر ورحلته مع كَلِم الغابرين ،وأنَّ وشائج كثيرةً تربطني به وتشدني إليه .بل وجدت أنفاسي تستحم بكلماته .
يكتب عني ،ويصف بقلمه الزاخر نبضاتِ قلبي .
فقراءته للتراث حركةٌ وفهمٌ وفيضٌ وإبداع .
وإضاءاتُه للنصوص تفسيرٌ وصورٌ ونسغ حياة .
تَجاوَزَ قيدَ الحد ،وتَجاوَزَ أسْرَ المعاجم ،وتجاوَزَ ظاهرَ العبارات .وبحذقِ صَناعٍ كسر طوق السنين .
فعرفتُ بذلك أموراً ،وبانتْ لي أمورٌ .
فالأسانيدُ ليستْ محاكاةً لكتب الحديث أو التاريخ ،وليست زينةً أو حليةً اعتادها أدباءُ ذلك الزمن .بل هي فكر عصرٍ كاملٍ ،بأضوائه وظلماته ،ونقائه وكدره ،وسموِّه وطينه, كُثّف بأسماء أعلام وأخبارِ رجال ( صوِّرَ بهدوء ،ورُسمت ملامحه لوحة جميلة ،فقُيّد عمرمتطاول ).
نعم ..كان ابنُ قتيبة ينقل ما يراه ويسمعه ويقرأ عنه .فعَرَفتُ عصره من رجاله ،وعَرَفتُ رجاله من عصره .
ولما خطوت ثانية باتجاه المتن ،كان توقي - وأنا أخطو بتهيب - أن أُرْجع النص - قدرالمُكْنة والوُسْع - إلى صياغة لغةِ أصحابه ،( فعبثٌ قيلُهم : إنّ إدمانَ تدبرِ أساليبِ مخطوطِ سِفْرٍ قديم يورق نسخةً صحيحةً كما خطها مؤلفها ) .
فكنتُ أعاود قراءةَ نصوصِ الكتاب - على مخطوطتيه ،والنسخة الأوربية ،وطبعة دارالكتب- مراراً .وفي كل قراءة كنت أتوقع سماعَ صوتِ حركةِ الأعراب والعرب والأخَرِالوافدين : وبَرَاً ومَدَراً ..حركةًً حية ،وليست حركةَ طللٍ داثرٍ تزعزعه ريحُ شمألٍ جموح .
لكنني أعترف أنني - في كل مرة - كنت أسمع صوتي وصوتَ كاتبِ المخطوط أو صوتَ محققي الكتاب . وما كان الكلام أبداً شعوراً وهاجساً ورؤى .

كان الزمان يمضي هوناً ، وعزيمة كَدَّاء معه.. فانصرم من العمر أربعة عشر خريفاً كما الأحلام ، وما حققت التوق بعد ! فشعرت أول مرة - مذ عرفت ابن قتيبة- بالوَهْن . بل شعرت أن بركان غضب بدأ يتشكل داخلي. بل شعرت بمرارةٍ ولذعِ حرقةٍ كاوية .
كان شيءٌ كما العقم فيَّ ..خَواءٌ ،وذهولٌ ،وحيرةٌ ،ويأسٌ ،وإحباطٌ قاسٍ .
وفي لحظة جريحة قلت: الإسناد حالة ،وصورةٌ لحياةٍ راحلةٍ .لكن المتنَ حركةٌ دؤوبٌ ،زاخراً يتجدد ،وليس كلاماً مواتاً .الإسنادُ معنى ،والمتنُ مبنى .كلامٌ له نكهةٌ ورائحةٌ وطعمٌ .نحسه ،ونتذوقه ،ونكاد نشمه .بل نحن نشمه حقاً : سياقاً وعباراتٍ وبنى كلام.
فلم لا أفتل في غاربه وبيني وبينه قيد خطوة ؟ ولم البناء الشاهق ألمحه ويداي بلا إقليد ،وزادي صِفْر الوِطاب ؟
كنت بحاجة إلى ( كُمَيت امرئ القيس ) الشيخِ محمود ثانية ،بل ثالثة .
فناديتُ قَيْدَ أوابِده عشرات .. أتكيء على صهوة ساعديه القويين ،فأستدل على الصُّوى ،وأعي مساربَ الدورب .
ناديته كثيراً ..سنة أو تزيد . ولما تكسرت قواربي ،وعيل مرادي ،رفعتُ راياتي وصرختُ بصوتٍ عالٍ : لِتَعَرْ كلُّ عيونِ مباهجِ الماضي ،وكلُّ متع التراث ،وكلُّ أضواء المعاني ،ما دمتُ وسير خطوة - نحو بلوغ الغاية - عاجزاً !
لكنه - وكما في الروايات - جاء .
حقاً جاء ،ولا أعرف كيف أتى !
جاء محمود محمد شاكر نفسه ،بلبوس جديد ،واسم جديد :
عز الدين البدوي النجار أبو هاشم اسمه .
ومحمود محمد شاكر عنوانه .
وتراث الأمة موطنه.
( شحذ كليلاً ،وأيقظ هاجعاً ،وبَعَث وسنان آيساً ).
أشعل في نفسي الكثير ،وأضاء أمامي الكثير،فملكت قِيد الخطوة .
واليوم - وهاهو العمل قد أينع ،وآتت أُكُله كما رجوتها - كان لابد من هذا الكلام كله ،وكان لابد من حكاية قصة ابن قتيبة وعيون الأخبار .
والمصدور ينفث ،.. والقلم يجيش .

ابن قتيبة والحياة السياسية
عاش ابن قتيبة ،واسمه أبو محمد عبد الله بن ِمسلم بن قُتيبة الدِّينَوَري ،بين نقيضي عصري خلافة: عصراً عباسياً أولاً : ذا طابع ساساني أرستقراطي ،فمولده سنة هجرية ،من أسرة فارسية سكنت مدينة مَرْو بخُرَاسان ،في فترة حكم المأمون عبدالله بن هارون الرشيد،سابع خلفاءبني العباس .وعصراًمضطرباًثانياً،لُحْمته غلبةالأتراك،وسُداه كثرةالتوليةوالعزل . (فالاضطراب في الخلافة العباسية ابتدأ منذ ولاية الخليفة الحادي عشر المنتصر بالله سنة 247 هجرية ، وكان عمر ابن قتيبة أربعةً وثلاثين عاماً ، واستمر حتى دخول هولاكو بغداد سنة 656 هجرية ). وتوفي ابن قتيبة سنة 276 هجرية ،في فترة حكم المعتمد على الله أحمد بن جعفر المتوكل الخليفة العباسي الخامس عشر.

وهذه الفوضى والاضطراب كان لهما الأثر البيِّن في (عيون الأخبار ): فابن قتيبة ابتدأ كتابه بالسلطة ، ( كتاب السلطان ) ،فتحدَّث عن الحاكم ،مشيراً ، إلى سوء عاقبة الحرص على الحكم ،مؤكداً - بالاعتماد على حديثٍ شريفٍ صحيح - أن شهوة الحكم والتكالب عليه ،ستكون حسرةً وندامةً يوم القيامة .وأن الإمارة - أي الحكم - نِعْمَت لمن يأخذها بحقها وحِلِّها ( 1 / 15 ).
فهل كان يتحدث عن عصره ،المضطرب سياسياً ؟ أم كان يؤسس لمدينته المتخيلة:مدينة العدل والأمان(المدينة الحلم ،أو المدينة الفاضلة )؟
إن الكتاب - كما قال في مقدمته 1/ 3 - وإن لم يكن في القرآن والسنة وشرائع الدين وعلم الحلال والحرام ،دالٌّ على معالي الأمور ،مرشدٌ لكريم الأخلاق ،زاجرٌ عن الدناءة ،ناهٍ عن القبيح ،باعثٌ على صواب التدبير وحسنِ التقدير ورفقِ السياسة وعمارةِ الأرض .
لكن أيُّ نمطٍ للحكم أراده ابن قتيبة ودعا إليه ؟ إن مختارات الكتاب ومقتطفاته تدعو إلى عدل الحاكم وأمْنِ المواطن ،دون تحديد منهجٍ واضح ،أو رؤيةٍ مفصلة لرؤيةٍ سياسية . فجميع المقتطفات والمختارات أُُخذت من الآداب الفارسية ، ومن الثقافتين الهندية واليونانية ، ومن الآداب العربية الخالصة . أفأراد ابنُ قتيبة نمط حكم آل ساسان ،أم نمطَ حكم الهند واليونان ،أم نمط الخلافة الإسلامية على اختلاف أساليبها ( السنة ،والشيعة،والخوارج )؟ أم أراد العدل مطلقاً ،دون تحديد هوية أو منهج ؟ نحن أميل إلى الرأي الأخير ،لأن احتدامَ نعرةِ الشعوبية في عصر ابن قتيبة ،وموقفه الرافض لهذه النعرة ،التي طال عليها الأمد منذ عهد المهدي ثالث خلفاء بني العباس ( أي قبل ولادة ابن قتيبة بزمن طويل. فالمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور حكم عشر سنين وشهراً ونصف، وتوفي سنة 169 هجرية ) أدَّته إلى أن ينسج هذا النسيج البديع من كافة الثقافات ، ليدلل بحذق أن جوهر الرؤى السياسية واحد ،وإن تعددت صوره، أواختلفت صيغ ممارساته ، مع ملاحظة أنَّ جوهر كلِّ رأيٍ هدفُه النفع والخيرة .والخيرةُ قد تكون لصاحب الرأي، أو لجماعته الصغيرة ،أو لشعبه ، أو للكون كله . وبمدى اتساع النفع وشموله تكون عظمة الرأي .
وأما صورة الأحزاب السياسية في عصره ،فنستطيع معرفتها بجلاء تامٍّ ، من قول محمد بن علي بن بن عبدالله بن العباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة لبني العباس ،وأراد توجيههم إلى الأمصار ،(مع ملاحظة أن محمد بن علي توفي سنة 126 هجرية ،أي قبل ولادة ابن قتيبة بسبع وثمانين سنة ،وصورة الأحزاب منذ ذلك الزمن بقيتْ على ماهيتها ،لم تتغير إلاَّ في تفاصيل بسيطة):أما الكوفةُ وسوادُها فهناك شيعةُ علي بن أبي طالب .وأما البصرةُ فعثمانية تدين بالكفِّ ، وتقول :كن عبدالله المقتول ،ولا تكن عبد الله القاتل[1]. وأما الجزيرة[2] فحَرُورِية[3] مارقةٌ ، وأعرابٌ كأعلاج[4] ومسلمون في أخلاق النصارى .وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعةَ بني مروان ، عداوةً لنا راسخةً ،وجهلاً متراكماً. وأما أهلُ مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبوبكر وعمر.ولكن عليكم بأهل خُرَاسان فإن هناك العدَدَ الكثير( كتاب الحرب ، باب من أخبار الدولة والمنصور والطالبيين 1 / 303 ) .
كما تحدث ابن قتيبة في كتاب الحرب عن الأحداث السياسية الكبرى التي زلزلت الخلافة الإسلامية ،وما زال ينفخ في جمر رمادها إلى اليوم الكائدون والحاقدون والمتربصون ( كمقتل عثمان بن عفان،وموقعة الجمل ،وخلاف علي بن أبي طالب ومعاوية ،وجميعها كانت في سنة 36 هجرية،ثم مقتل الحسين سنة 61 هجرية ) ، إنما للأسف ،كان يذكر ذلك كله ،كحدث مجرَّّد ،دون تدقيق في أسانيد الأخبار ، لمعرفة صحيح الرواية من سقيمها. فهل كان يسرد المتداوَل بين الناس، أم كان يخشى البطش ،فاكتفى باللمحة والإشارة،ونسي أنه أديب مُحَدِّث ،عليه أن يُبَيِّن صحة الرواية أو فسادها ؟! إننا لانستغرب حذره وصمته،لأنه يُشْبه تماماً حالَه في سرده للحديث الشريف في أبواب الكتاب: فهو يورد الحديثَ الصحيحَ والحسنَ والضعيفَ والموضوعَ والمنقطعَ ،دون إشارةٍ إلى حال الحديث ( كحديث العسل أنه أفضل الطعام 3 /9 وهو ضعيف ،وأن الأكل في السوق دناءة 3 / 100 وهو موضوع ،وأن من السُّنَّة أن يمشي الرجل مع ضيفه إلى باب الدار 3 /122، وهو موضوع..وغير ذلك كثير جداً ،بيَّنْتُ جميعه في تخريجي لأحاديث الكتاب).
الحياة الاجتماعية
إنَّ اتساع رقعة الدولة العباسية - رغم أنها ليستْ من الدول الفاتحة ،لاكتفائها بالمحافظة على ميراث الدولة الأموية،(فيما عدا الأندلس والمغرب ،فالأندلس انفصل بنفسه سنة 138 هجرية وشَكَّل الدولة الأموية الأندلسية)- ،وامتزاجَ الحضاراتِ السامية القديمة والبيزنطية والمصرية في عهد الأمويين ،ثم الحضارة الساسانية بعناصرها الكلدانية والآرامية في عهد بني العباس ،مع مكونات العناصرالإسلامية وأسسها واتجاهاتها ونظرتها للكون والحياة ( تشريعاً، وعلاقاتِ أفرادٍ ،ومناهجَ )وَلَّد مظاهر فكرية اجتماعية ،بألوان متعددة متباينة، انعكست تفاصيلُها على عموم فئات الدولة المترامية الأطراف ،وساعدتْ - منذ عهد بني أمية - على تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقاتٍ أساسيةٍ :
1 - طبقة عليا أرستقراطية ،عرفتْ الترفَ بكافة صوره ، وغرقتْ في النعيمِ المفرط ،فوُضِعت لها قواعد وآداب المأكل والملبس ،وكان طبيعيَّاً ،بالتالي ،أن نجد ابن قتيبة يتحدث في كتاب الطعام أحد فصول عيون الأخبار، - وسيأتي الكلام عن موضوعات الكتاب - عن صنوف الأطعمة ،وآداب الأكل والطعام . ويتحدث في كتاب النساء عن محادثة النساء،ويعقد باباً على القِيان والعِيدان[5] والغناء، وفي كتاب السؤدد يتحدث عن التجارة والبيع والشراء ،والبناء والمنازل،ويعقد باباً للباس ،والتختُّم والطِّيْب .
2 - وطبقة ثانية هي الطبقة الوسطى ،وتضم علماء العربية والفقه والتفسيروالحديث ، والمغنيين ،والشعراء ،وأوساط الصناع ( تكلم عنهم مطوَّلا في كتاب العلم والبيان ).
3 - وطبقة ثالثة وهي الطبقة العامة من الرعية ،أخبرَنَا عن سذاجتهم ،و لَحْن كلامهم ،وهَذْرَهم (انظر طرفاً من ذلك في كتاب العلم والبيان، باب التلطف في الكلام والجواب ،وحسن التعريض 2 / 221 ).
ووراء تلك الطبقات كان أهل الديانات الأخرى من النصارى واليهود والمجوس والصابئة ،وهم أهل الذمة ( تحدَّث عن طرف من دياناتهم في كتاب الزهد وكتاب العلم ،باب الأهواء والكلام في الدين 2 / 167 ).
فمن مجمل اختيارات الكتاب ،نستطيع ،بمنتهى السهولة ، تلمُّسَ نَبْضِ هواجسِ الناس ،وآمالهم ،وآلامهم ، وضحكاتهم ،ومجونهم ،وعبثهم ،على اختلاف طبقاتهم وفئاتهم .
فابن قتيبة تلقَّط أحاديث الكتاب في الحداثة والاكتهال ،عمَّن هو فوقه في السن والمعرفة ،وعن جلسائه وإخوانه ،غير مستنكفٍ أن يأخذ عن الحديث سنَّاً لحداثته ، ولا عن الصغير قدراً لخساسته ، ولا عن الأمَة الوكعاء لجهلها .فكَتَب عمَّن حوله ،وعمَّن شاهده ،وعمَّن قرأ أو سمع منه .فسجَّلَ بذلك فكراً، وشعوراً، وهاجساً ، وحلماً ، ونزقاً، وطيشاً ، وبلادةً ،وفهماً ، وثاقبَ رؤى، ومدنَ أحلامٍ وأوهامٍ ( انظر المقدمة 1 /8 ) .
الحياة الفكرية والعقلية
في عصر ابن قتيبة كانت الحركة العلمية قد بلغت شأوها ، وانتهت إلى غايتها في أكمل صورة .فالاتصالُ الخصبِ المثمرِ مع ثقافات الأمم غير الإسلامية ، وحركةُ التعريب الواسعة في الطب والحساب والهندسة والفلك والفلسفة ،ساهما في وضع صيغها وصورها ، وإتمامِ أشكالها وأسسها .
ففي كل عِلْم نَبَغ عَلَمٌ ،وكل عَلَم رأسَ مدرسة بمفردها ورأس منهجاً بعينه ، فأخذت الصورة شكلاً أوسع ومدى أرحب ،تأخذ من الماضي فتستوعبه وتهذبه ، ثم تصوغه بإضافة روح الإسلام إليه .
وهذه الحركة الفكرية / العقلية ، نجد مظاهرها بجلاء في ( عيون الأخبار ) . فابن قتيبة استفاد من هذه الحركة الفكرية / العقلية ، سواء كان ناقلاً عن المصدر مباشرة ، أم كان قارئاً للترجمة ،إنما متكلماً دائماً من وراء غلالة عيون أخباره وعيون اختياراته : فصوته وكلامه وكتاباته : خبرٌ ،واختيارٌ ،ومقتطفات .وكم كان مفيداً ،بل رائعاً ،لو أنه اتَّبَع مسلك شيخه الجاحظ ( عمرو بن بحر ، المتوفى سنة 255 هجرية )،فأسمعنا صوته ،أو شَرَح مُغْلَقاً مُشْكِلاً ، مع العلم أن الجاحظ أجازه ببعض كتبه ،ففي كتاب الطعام 3/85 رقم 4920 ، 3 /102 رقم 5004 ، 3 /137 رقم 5140 يقول :وفيما أجاز لنا عمرو بن بحر الجاحظ من كتبه .. فيكون بحق إمامَ بيانِ أهلِ السنة ، لأنهم يقولون : ابن قتيبة هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة ، فإنه خطيب السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة . ويبالغون فيقولون :كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه لا خير فيه ! ومن استجاز الوقيعة فيه يتهم بالزندقة !
ونقول لقد استطاع ابن عبد ربه الأندلسي ( أحمد بن محمد ، المتوفى سنة 337 هجرية ) أن يتجاوز ذلك كله في العقد الفريد ،وقتما سلخ أغلب كتاب ابن قتيبة ونقله إلى الأندلس،فوضع بصمته ،شارحاً ومُعَلِّقاً ،إنما دون تدقيق في صحة الأخبار أو سقيمها .

عيون الأخبار
يعد ( عيون الأخبار ) من أوسع كتب ابن قتيبة ، وأكثرها دوراناً في المراجع العربية .
قال أبو بكر ابن دريد (محمد بن الحسن الأزدي ،ت :321 هجرية عن ثمان وتسعون سنة)وكان تذاكر مع جماعةٍ من جلسائه متنزهات الدنيا ،وسمَّى كل منهم أنزه مكان رآه : هذه متنزهات العيون ،فأين أنتم من متنزهات القلوب ؟ قالوا له : وما هي ؟ فقال : عيون الأخبار .
والكتاب يقع في عشرة كتب ، تعطي بمجموعها - كما بيَّنَّا ذلك - صورة حيَّةً عن العصر العباسي بمختلف صوره :
فيبدأ بالسلطة - كما قدَّمنا من قبل - فيتحدث عن السلطان أي الحاكم ، سيرته وسياسته وصحبته واختياره للعمال والقضاة والحُجَّاب والكُتّاب . وعن جيشه ( كتاب الحرب ): عُدَدِه وأسلحته ,وأوقات الحرب وحيلها ومكايدها .ثم ينتقل إلى النفس ،بعنصريها المشرق والمظلم ،فيتحدث
أولا عن السؤدد والشرف والأخلاق الرفيعة ،داعياً إلى التوسط في الدين والحلم والعقل والغنى والإنفاق[6] .
ويتحدث ثانياً عن الطبائع والأخلاق المذمومة مثل الحسد والغيبة والسِّعاية ،ويستطرد إلى الحيوانات وطبائعها ويعرض للحشرات وللنبات كما يعرض للحجارة وللجن . ثم يعقد الكتاب الخامس للعلم - العلم بأشكاله ، والأدب بأنواعه - فيختار بليغ الكلام والخُطَب ومحاسن الشعر ، مفتتحاً فصولاً للفرق والأهواء في الدين . ثم يعرض للزهد ،فيذكرمواعظ النسَّاك وقصصَ الوعَّاظ .ويخصص الكتاب السابع للإخوان ، والثامن للحوائج واستنجاحها والمواعيد وتنجزها ، والتاسع للطعام : أصنافه وآدابه ،وأوانيه ، والحمية ،وشرب الدواء ، والتخمة ، والمياه والأشربة ،ومنافع بعض النباتات واللحوم ،وأخبار العرب في مأكلهم وأخبار البخلاء .ويختتم كتابه بالنساء ،فيتكلم عن أخلاقهن ، والجمال والقبح ،والمهور ،والزواج ،وسياسة معاشرتهن ،والجواري ،والقيان ،ومساوئهن ، ومايُقبل منهن وما يكره .
فكأننا بذلك أمام إنسان مثالي متخيل ،مَثَله الحاكم بصفاته ،وجوهره سلوكه وطبائعه النبيلة .
طبعات الكتاب
طبع الكتاب أول مرة في ألمانية /جامعة جوتنجن سنة 1899 م ، بعناية المستشرق كارل بروكلمان ،فظهرت منه الأجزاء الأربعة الأولى،ولم يتمه .
ثم طبع كتاب السلطان برأسه سنة 1907 م ، ونشرته مكتبة محمد أمين الخانجي .
وما بين أعوام 1923 م - 1929 م طبعت دار الكتب المصرية الكتاب كاملا بتحقيق الأستاذ أحمد زكي العدوي .
وفي سنة 1960 م قامت وزارة الثقافة بمصر بطباعة ( المختار من عيون الأخبار ) أختيار : أحمد البردوني ، ومراجعة : إسماعيل مرزوق .
وفي سنة 1977 م ،قامت وزارة الثقافة بسورية بطباعة ( كتاب الحرب ) قائما برأسه .
وجميع هذه الطبعات فيها أخطاء وأوهام غير قليلة في رجال الإسناد وفي المتن ، أشرت إليها في طبعتنا الأولى سنة 2008 م ، طبعة المكتب الإسلامي في بيروت .
مخطوطتا الكتاب
للكتاب مخطوطتان :
الأولى في مدينة بطرسبرغ ، محفوظة بالمتحف الأسيوي برقم 5549 ،مجهولة الكاتب ،أرجح أن نسخها تم حوالي منتصف القرن الثامن الهجري .
والثانية نسخة كوبريلي بإستنبول رقم 1343 ، ومنها صورة بدار الكتب المصرية ،كتبها إبراهيم بن عمر الجزري في شهور عام سنة 594 هجرية .
عملنا في الكتاب
قرأتُ الكتاب قراءة متأنية صبور ، أرجو أن تكون قد حققتْ ما صبوتُ إليه منذ بدء اشتغالي به ،وهي محاولةُ تجاوزِ المخطوطتين وطبعتي الكتاب(الأوربية والمصرية) ،للوصول إلى لغة أصحاب النصوص وقائليها قدر الإمكان ،فكلام أهل الجاهلية يحمل خصائص لا نجدها في كلام الفترة الإسلامية ،وكلام الفترة الإسلامية يحمل خصائص تغاير الفترة الأموية ، وكذا كلام الفترة العباسية ، تحمل كلُّ فترة منها لوناً وطريقةَ أسلوبٍ ،نستطيع ملاحظتها من مجمل نتاج العصر الذي قيلت فيه . والأمر الثاني ،أن أقوم عملياً بتحقيق ما دعوتُ إليه في كتابي (الغزالي والسنة النبوية / أي كيفية نقد الأخبار وقبولها )،وكتابي ( معجم محمود شاكر/ لتدليل على رحابة اللغة ،واستطاعتنا - شريطة الخبرة بدقائق تفصيلاتها، وتجنُّب التسرع في استخلاص النتائج - تَجاوُزَ قَيْد المعاجم ،والانطلاقَ بيسرٍ وسلالة ٍ،دون تَشَنُّجٍ ، إلى واسعِ فضاءاتِها ) .
كما درستُ أسانيدَ الكتابِ ،واستغرقتْ دراستي زمناً طويلاً ،فبانت لي أمورٌ مدهشة ،
اختزلتُها في نهاية الكتاب .

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا .ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).






[1]العثمانيون: نسبة إلى عثمان بن عَفَّان نَسَباً ،أو وَلاءً ،أو أتباعاً وهوًى ،كأهل الشام قديماً.

[2]الجزيرة: يُقصد الجزيرة السورية ،وتضم اليوم محافظة نينوى في العراق ،
ومحافظة الحسكة،ومناطق من محافظتي دير الزور والرقة في سورية ،
ومحافظة أورفة وماردين وديار بكر في تركية .

[3]الحَرُورِيَّة: طائفة من الخوارج،عندهم تشدُّد في الدين حتى مرقوا منه.

[4]الأعلاج: كفار العَجَم ، الواحد :عِلْج .

[5]القِيان :جمع قَيْنَة ، وهي المُغنِّية . والعِيدان :جمع العُود ، الآلة الموسيقية الوترية .

[6]التوسط والوسطية هو مذهب ابن قتيبة وديدنه في كل أمر ، فقد رأَسَ المدرسة البغدادية التي مزجتْ صرامةَ قواعدِ مدرسةِ البصرة ،وانفتاحَ مدرسة الكوفة. واعتُبِر من أوائل من دعا إلى رفْضِ قداسةِ القديمِ وازدراءِ الجديد ، بالاكتفاء بالنظر إلى نُبْلِ المعنى وشَرَفِه .
منازعة مع اقتباس
  #2  
قديم 16-05-2013, 03:52 PM
تلميذ الدنيا تلميذ الدنيا غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: May 2012
السُّكنى في: الامارات-العين
التخصص : لم أتخصص بعد
النوع : ذكر
المشاركات: 101
افتراضي

أخ منذر جزاك الله خيرا وانا انت من محقيي هذا السفر الأدبي الشهير طبعه المكتب الإسلامي
وننتظر جديد تحقيقكم في الأدب
__________________
الرجاء تجاوز أخطائي اللغوية والنحوية والدعاء لي
منازعة مع اقتباس
  #3  
قديم 16-05-2013, 04:21 PM
منصور مهران منصور مهران غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ماجستير في علم العربية
النوع : ذكر
المشاركات: 765
افتراضي

تحيتي أُزْجِيها إلى أخي الأستاذ منذر ؛
مشفوعة بالدعاء إلى الله أن يوفقه في طريق الحياة العلمية التي نرجو منها اليوم أدنى سبب بعدما تفلتت من أيدينا جميع الأسباب : أسباب المعرفة والجمال والحياة الكريمة ،
وأشكر له جهدا كريما بذله في تحقيق ( العيون ) وإن كنت أُؤَمِّلُ منه أن يوليَ الكتاب جهـدا فيه فضل وتفضل يليق بعشقه للمؤلف وولعه بعلم هذه الأمة المباركة .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
من عيون شعر الشناقطة أبو الأزهر حلقة الأدب والأخبار 19 27-12-2017 08:23 PM
ما سمات القصيدة التي تسمى عينا من عيون الشعر ؟ فريد البيدق حلقة البلاغة والنقد 1 03-09-2012 01:39 AM
عيون الياسمين همسة صادق مُضطجَع أهل اللغة 0 18-11-2010 10:38 AM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 12:25 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ