|
#1
|
|||
|
|||
![]() ومن قوله
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فكان من الإطناب باسم العزة جمالا والرحمة جمالا ، في قوله ![]() فَثَمَّ من ذلك ما قُرِنَ فيه الغيب بالشهادة ، كما في الموضع آنف الذكر : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وهو ما يَجْرِي فِي الْحَدِّ ، كَمَا ذَكَرَ أهلُ الشأنِ ، مَجْرَى الاسم المقيد بالإضافة ، الإضافة إلى الغيب والشهادة ، وهو ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، مِمَّا يَجْرِي ، أيضا ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن العام في الباب يجاوز الغيب والشهادة ، فَثَمَّ العلم بالمعدوم والموجود ، فليس الغيب يضاهي المعدوم ، كما يظهر بادي الرأي ، بل المغيب ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته آحاد فَمِنْهُ الموجود بالفعل في الخارج ، ومنه الموجود بالقوة في التقدير الأول ، ومنه المعدوم الممتَنِعُ ، سواء أكان الممتَنِع لذاته فَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فَرْضًا مجرَّدا في الذهن إذ لَا يَتَصَوَّرُهُ الناظر مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، أم كان الممتنع لِغَيْرِهِ فَثَمَّ من التقدير الأول ألا يكون فلا وجود له في الخارج إذ رجحت القدرة امتناعه ، وإن جاز بادي الرأي ، فالقدرة قد ترجح الإيجاب فَيُوجَدُ ، وقد ترجح السَّلْبَ فَيُعْدَمُ ويمتنع ، وإن كان ابتداء من الجائز المحتمل ، فكل أولئك مما يَدْخُلُ في العلمِ فهو من العام الذي لا أَعَمَّ منه ، فَيُجَاوِزُ المذكور من الغيب والشهادة إلى كل معلوم وإن كان من المعدوم فليس له وجود ، فكان من الاسم ما قُيِّدَ في هذا الموضِعِ ، فليس من الأسماء الحسنى وإن كان حسنا في المعنى والدلالة ، فشرط الأسماء الحسنى : الإطلاق ، كما الاسم المطلق في مواضع أخرى من الذكر المحكم ، فكان إطلاق اسم "العليم" في مواضع ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
![]() ونظيره ما تقدم مبدأ الكلام في قوله
![]() فكان من الغيب في الخلق وهو محل الشاهد ، كان منه خلق من تراب فذلك مما أثبته الآي المتواتر قطعا ، فَأَفَادَ علم يقين يجزم ، فلا يُدْرَكُ ذلك ، بداهة ، بالنظر والاستنباط ، فهو محل توقيف لم يشهده أحد ، فلم يكن من الدليل ما ينصح إلا خبر في الباب يصدق ، فكان من ذلك خبر النبوات مرجعا من خارج يجاوز ، وهو ما عَمَّ فاستغرق الأخبار والأحكام كافة ، فلا تصلح الحال من علم أو عمل إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز في الأديان والأخلاق كافة ، كما قال بعض من حقق من الفلاسفة المحدثين في هذا الجيل ، وقد اشتكى ما آلت إليه حالُ الأخلاق في المركز إذ لم يعد ثم وحي ديني أو مرجع من خارج هو الموضوعي الذي يحكم ، فَرُدَّ كُلٌّ إلى ذاتٍ تَحُدُّ له من معيار الحسن والقبح ما يواطئ الهوى والذوق ، فلا تسلم جميعا إلا أن تُرَدَّ إلى مرجع من خارج يجاوز الأرض ، وقد رَامَ بَعْضٌ أَنْ يَبْتَكِرَ من فكرته ما هو موضوعي يجاوز الأفراد ، فَاقْتَرَحَ في حكاية الأخلاق جَبْرًا هو الموضوع من خارج الأفراد فهو عقل الجمع الذي يسبق وما الأفراد إلا عناصر تُقْهَرُ ، فالجمع يصنعها على مثال يسبقها ، فلا يطيق الفرد الخروج عنه ، وهو ما يُصَيِّرُ الجمع مِثَالَ التقليد المطلق وذلك مما يذم في مواضع تَكْثُرُ ، فالغالب على الخلق الغفلة ، وما أكثر الناس ، ولو حرصت ، بمؤمن ، فإذا رُدَّ الأمر إلى الجمع ، فذلك ، بادي الرأي ، مما لا يمدح ولا يذم لذاته ، وإن غَلَبَ على الجمع ، كما تقدم ، ضلال عن الحق بما تطاول من العهد ، فَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحدةً على الحق ، توحيدا هو الأصل المحكم ، ولم يَزَلِ الشيطان يوسوس ، ولم يَزَلِ الخلق يغفل ، فَيُنْسَخُ من الحق في كلِّ جيلٍ بعضٌ ، حتى يَنَالَ النسخُ الأصلَ ، فيستبدل ضدٌّ به ، ويكون من الشرك عوض ، وذلك ما يصير بعد حين عُرْفًا يجري ويطرد ! ، فَيَصِيرُ هو الحق المطلق ، ويكون له مِنَ الحسن والقبح مِعْيَارٌ هو المحكم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات من الأقوال والأعمال كافة ! ، وإن كان في نفسه المتشابه بل والباطل الذي يخالف عن الحق الأول ، فلم يكن في صدور العقل الجامع عنه ، لم يكن فيه عصمة تمدح ، بل كان على ضد ، وإن كان مَوْضُوعًا من خارج الفرد ، فلا يسلم الاثنان : الذاتي والموضوعي إلا أن يكون ثم مرجع من خارج هو المحكم الذي يقضي في كلٍّ ، فإن أصابه الفرد والجمع فَهُمَا على الحق ، وإن لم يُصِيبَاهُ فهما على باطل ، فلم يكن منهما حق أو باطل مطلق ، بل لا ينفك حكمهما يُرَدُّ إلى حكم الوحي مرجعا من أعلى يجاوز ، لا يَنْفَكُّ حكمها يُرَدُّ إليه فإن وافقاه فهما حق يمدح ، وإن خالفاه فذلك باطل يمحق ، فكان من المرجع المحكم من خارج ، كان منه : وحي السماء فوحده ما عُصِمَ من الخطإ وَسَلِمَ من الهوى والحظ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ محلُّ شاهدٍ ، وهو خبر الغيب إذ يحكي ما كان أولا من الخلق ، وعليه يُقَاسُ خلق المسيح قياس الأولى ، فمن قَدَرَ على الأعلى قَدَرَ على الأدنى من باب أولى ، فخلق المسيح أهون ، وكلٌّ على الخالق الأول ، جل وعلا ، هَيِّنٌ ، وهو ما حَسُنَ فيه تصدير بالتوكيد ، التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، وهو أم بابه ، كان منه ما يَزِيدُ في الدلالة ويرفد ، مع اسمية تحكي الديمومة والثبوت ، فلا يدخل الناسخ إلا على الاسمية ، وثم من التشبيه ما فُصِّلِ ، فاستوفى أركانه كافة في قوله ![]() فكان من الأصل واحد ، كلمة تكوين تصدر عن الخالق ، جل وعلا ، صدور الوصف عن الموصوف ، الفعل عن الفاعل ، فإن الكلام من وصف الفعل ذي الآحاد المحدَثة إذ تُنَاطُ بالمشيئة ، وإن قَدُمَ نَوْعُهُ ، فهو من العلم الأول الذي استغرق الكلمات كافة ، فَذَكَرَ من أمثلتها في الخارج ما لا يخصص العموم المستغرق الجامع ، فذكرها يُبَيِّنُ من وجه ، وهو ، من آخر ، تعظيم إذ يُنَوِّهُ بآحاد من المحدثات لها من الوصف ما شَرُفَ ، كما آدم أبو البشر ، عليه السلام ، فذلك من غيب مطلق لم يشهده أحد من الخلق ، ولم يكن له مثال في الخارج يشهد ، إلا ما يكون من خلق الأجنة في الأرحام ، وهو من غيب لا يطلق ، وإن صح فيه أنه مما جُنَّ وَاسْتَتَرَ في البطنِ ، فذلك الغيب النسبي الذي ذَكَرَ الوحي منه طَرَفًا بل قد أبان عن أَطْوَارٍ منه لَمْ يَبْلُغْهَا البحث الأول ، وجاء بحث تال لها يصدق ، فهي من آي الأنفس التي تعجز ، بل قد جاء الوحي بما يخالف ما اسْتَقَرَّ في جيلٍ تَقَدَّمَ من علوم هي ، لو تدبر الناظر ، الفروض ، فجاء الوحي بما ينقض ، وهو مرجع من خارج يجاوز قد جاء بجنس من العلم قد انفرد به الرب ، جل وعلا ، وهو علم غيب ، غيب السماوات والأرض الذي خُصَّ به الله ، عَزَّ وَجَلَّ ، كما تقدم من الآي أَنْ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
![]() فكان من الاختصاص إذ قُدِّمَ ما حقه التأخير في قول الرب الحميد المجيد تبارك و
![]() فكل أولئك مما دل عليه اسم "الرُّوحِ" وهو واحد ، وهي تختلف في الماهيات والحقائق ، فَصَدَقَ في "الرُّوحِ" من هذا الوجه أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ فِي اللَّفْظِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ اشتراك المعنى ، من آخر ، بالنظر في أصل اللَّفْظِ في معجم النطق المفرد ، فَثَمَّ أصل تدور عليه المادة ، وهو : السعة مع خَفَاءٍ وَلُطْفٍ ، وسياق القول مَعَ سبب نُزُولٍ تقدم ، قد حَكَيَا من المدلول عهدا أخص ، فتلك دلالة "أل" في هذا الموضع ، فمدلولها الروحُ التي تسكن البدن وتشاطره حَدَّ الإنسان المكلَّف ، ومن ثم كان من الجواب ما أفَصْحَ ، فـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، وذلك مما أُظْهِرَ فِي موضعِ الإضمار ، فقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الروح في السؤال صدرَ الآية , والقياس في الجواب أن يُقَالَ : قل هي من أمر ربي ، فأظهرها تَالِيًا في موضع الإضمار مَئِنَّةَ عِنَايَةٍ واهتمامٍ ، فَتَوَجَّهَ الأمر إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ : (قُلْ) ، وذلك مما أُفْرِدَ فِي نُطْقِهِ إذ تَوَجَّهَ الأمر إلى واحد في المعنى ، فَذَلِكَ حَدُّ العاملِ ، عاملِ الأمرِ أَنْ "قُلْ" إذ اسْتَتَرَ فِيهِ الفاعلُ ، ضمير المخاطَبِ المفرد ، وتقديره في الإعراب "أَنْتَ" ، وله من المدلول في الخارج عهد أخص بالنظر في المخاطب الأول ، صاحب الشرع المحكم : النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَهُوَ أول من خُوطِبَ بالوحي إِنْ فِي الخبرِ أو في الإنشاء ، فذلك خطاب المواجهة الأول ، وليس يقصر الدلالة على المخاطب الأول ، وإنما خوطب به لدى المبدإ ، فدخل فيه دخول قطع يجزم ، ولم يقصر الدلالة عليه فِي خِطَابِ تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ ، إذ ثم من القرينة ما رَفَدَ الدلالة فَعَمَّتْ الآحاد كافة ، وتلك قرينة العموم في خطاب التشريع ، وهو الأصل في نصوص الوحي خَبَرًا أَوْ حُكْمًا حتى يَرِدَ دَلِيلٌ يقصر ، فهو يخالف عن ظاهر أول من الوحي يُسْتَصْحَبُ ، وإن خالف عن أول من اللسان يَثْبُتُ ، فالأصل في خطابِ المفردِ أَلَّا يُجَاوِزَ المخاطَبَ الواحد الذي به يُوَاجَهُ لدى المبدإ ، فجاء الوحي فَأَثْبَتَ أَوَّلًا من اللسان ، وَأَقَرَّ خطاب المواجهة ، فالمواجَه الأول ، وهو صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المواجَه الأول هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُكَلَّفُ بالتصديقِ الخبري والامتثال الحكمي ، والقرينة بَعْدًا تجاوزه فَتَسْتَغْرِقُ كُلَّ أحدٍ بَعْدًا من أمة الدعوة الأعم ، فخطاب الوحي قد تَنَاوَلَ العالمين كَافَّةً ، إن بالفعلِ لِمَنْ آمَنَ ، أو بالقوة لِمَنْ كَفَرَ ، فخطاب التشريع أعم من خطابٍ أول في النطق ، فكان من الْقَرِينَةِ مَا اسْتُصْحِبَ ، قَرِينَةِ العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فهي لأولى في النُّطْقِ تَنْسَخُ ، فالظاهر الأخص في تكليف الخبر والحكم ، ومنه الأمر آنف الذكر أن : (قُلْ) ، الظاهر الأخص هو عموم يجاوز المخاطب الأول ، وإن كان المواجَه في المبدإ ، ودخوله في عموم المعنى دخول جزم يقطع فلا يخرج بالتخصيصِ ، وَلَوِ احتمالَا ، خلاف من تلا فهو يحتمل الخروج بالتخصيص ، ولو احتمالا في النظر المجرد ، فكان من ظَاهِرٍ أخص ما استغرق الآحاد كافة ، فذلك الأصل في خطاب الوحي المنزل إلا أن تَرِدَ قرينةُ تأويلٍ يَرُدُّ الخطاب إلى أول في المعجم ، فلا يجاوز المخاطَب الأول ، كما المثل يضرب بالخصائص فلا عموم لها يجاوز ، وكذا وقائع الأعيان ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما به قَدْ تَذَرَّعَ مَنْ رَامَ نَقْضَ الوحي أن يقصره على آحاد فيهم قد نَزَلَ ، أو وقائع أعيان لا عموم لها يجاوز مواضعِهَا التي عليها قد نَزَلَتْ ، فلا يجاوز جيله الأول ، فَإِذِ انْقَرَضَ فالوحي قَدْ نُسِخَ ! ، وصار من لفظِه ما يُتْلَى أَمَانِيَّ بلا عمل ، إذ لكلِّ جيل من معجم الدلالة ما يخالف عن أول بِهِ الوحي قد نَزَلَ ، فَسَاغَ لِمَنْ تَلَا أَنْ يَتَأَوَّلَ ألفاظَ الوحي بما يواطئ عرف الجيل ، وإن خالف عن أول من التنزيل بل وَنَقَضَ أصله الأول ، فَاقْتَرَحَ من المعنى ما جاوز اللفظ إِنْ في دلالة الوحي الأخص أو أخرى من اللِّسَانِ أعم ، فكان من تأويلٍ باطن ما اقْتَرَحَ من بِنْيَةِ الكلام جَدِيدًا ، فَرَامَ درس لسان مجرَّد ، وَلَهُ من سياقِ التاريخِ يَسْتَقْطِعُ ، فلا يجاوز في تأويله جِيلَ المتأوِّل الذي يحكي ، لو تدبر الناظر ، ما يهوى ويجد ، ولو خالف عن الأصل الأول ، فلكلِّ جِيلٍ من المعجَم ما يحدث ، وليس ثم قانون مطلق في اللسان ، بل قد صار النسبي المحتمل ، وهو ما به الاستدلال يضطرب ، ولو في بَدَائِه من المدلول الأول في معجم اللسان المفرد ، وبه يزعم المتأوِّل أنه لكتابٍ ماض يَقْرَأُ القراءة الجديدة التي تَنْصَحُ ، ولأبواب من الدلالة تَفْتَحُ ، وإن خالفَ عن أصل أول ، فهي لِبَابِهِ تَكْسِرُ ، فكان من عَمَلِ التأويل الباطن عَامَّةً ، ومن الْبُنْيَوِيَّةٍ خاصةً ، كان من ذلك : تاريخٌ في الدرس لا يجاوز جيل النطق ، فَلِكُلٍّ من الْعُرْفِ مَا يَأْطِرُ المعنى ، ولو في أصول من العلم والعمل لا تَتَبَدَّلُ ، فَإِنَّ الْعُرْفَ إِنَّمَا سَاغَ في مواضع من النظر كما المصالح وإن لم تسلم ، أيضا ، أَنِ اتُّخِذَتْ ذَرِيعَةً إلى القدح في الأدلة ، فَعُطِّلَتْ لِأَجْلِ مصلحةٍ تُتَوَهَّمُ ، لَا جَرَمَ كَانَ مِنْ حَدِّ المصلحةِ مَا يَنْصَحُ إذ احْتَرَزَ ألا تخالف عَنِ النَّصِّ المنزل مع جملة أخرى من الشروط بها سلمت من الأهواء والحظوظ فلا تكون خاصة تُكْسَى لحاء عام يستغرق . فَتَذَرَّعَ مَنْ تَذَرَّعَ بالمنفعة العامة وقد أَطَرَهَا على أخرى خاصة بما مَكَرَ إذ استجمع أسبابَ الْقُوَّةِ والتأثيرِ ، فَحَمَلَ الجمع ، طَوْعًا أو كَرْهًا ، أن يختاروا ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه ، فالظاهر الأخص من خطاب الوحي قد جاوز المخاطَب الأول فَعَمَّ في الدلالة واستغرق لقرينة عموم في خطاب تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ إِنْ خَبَرًا أو حكما ، إن نهيا أو أمرا كما الأمرُ آنف الذكر أَنْ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فَثَمَّ خطاب المعنى المجاوز أَنْ : "قُولُوا" ، وتلك زيادة في المدلول قد خالفت عن ظاهر أول من المنطوق ، منطوق الخطاب المفرد الذي يقتصر على المخاطب الأول خطابَ المواجهةِ ، فكان من الزيادة ما خالف عن هذا الظاهر فجاوز ، فذلك الانتقال من الظاهر الرَّاجِحِ إلى آخر هو المؤول المرجوحِ لقرينة ما تَقَدَّمَ من العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فذلك مما يجري ، من وجه ، مجرى التأويل ، وبه استقر ظاهر جديد وهو ما قد صَارَ بَعْدًا الأصلَ الذي يظهر ، بادي الرأي ، فَهُو يُسْتَصْحَبُ عمومًا يستغرق كلَّ مكلَّف ، إلا أَنْ يَرِدَ دليلُ تخصيصٍ مُعْتَبَرٍ ، فتلك دعوى التأويل فلا تُقْبَلُ إلا بدليلٍ يقصر الخطاب على واحد بالعين أو آخر بالنوع ، فيكون من ذلك مُؤَوَّلٌ مرجوحٌ ، فلا يصار إليه إلا بدليل أخص هو في الباب النَّصُّ ، فلا يكون ذلك تحكما بالهوى أو الحظ ، كما تقدم من معيارِ التأويلِ في مِنْهَاجٍ محدَث قد اتُّخِذَ مِعْيَارَ الْبِنْيَةِ الذاتية التي لا تجاوز الواحد أو الجيل ، فَلَيْسَ ثم معيار موضوع من خارج يجاوز . فكان من الخطاب ما تَنَاوَلَ أولا هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المسئول الأول وعليه النجم قد تَنَزَّلَ ، سببَ نُزُولٍ هو الأول فلا يخرج بالتخصيص ولو احتمالا ، وتناول بَعْدًا كُلَّ أحدٍ من أمة الدعوة يُكَلَّفُ ، وإن قُوَّةً بِمَا رُكِزَ فيه من محل التكليف عَقْلًا يَنْصَحُ ، وَثَمَّ من دلالة الخبر "مِنْ أَمْرِ رَبِّي" ما احتمل ، أيضا ، فدلالة "مِنْ" حكاية الاشتراك في الدلالة ، فهي تحكي ابتداء الغاية ، غاية الخلق ، خلق الروح فمن الله ، جل وعلا ، قد ابْتُدِئَتْ ، وهي الخلق اللطيف الذي لا يدرك بالحس ، خلافا لمنهاح محدث لم يَتَناَوَلْ من الإنسان إلا الْأَدْنَى مِنْ مَاهِيَّتِهِ ، الجسد الطيني الكثيف ، فَتَحَوَّلَ الإنسان إلى مادة ذَاتِ قوانين صارمة يرصدها البحث والتجريب ، فليس ثم روح لطيف تجاوز هذا الجسد المادي الكثيف ، وليس ثم عقل يجاوز إفرازات الدماغ وَنَبَضَاتِهِ ، فالعقل هو الدماغ الذي يرصد بالحس ، وما يكون من نوبات روحية لدى بعض البشر ليس إلا نَوْعًا من أنواع الصرع بما يكون من زيادة في نشاط المخ الكهربائي ، فهو يدخل الإنسان في تجربة ذاتية كتجارب الرهبان والزهاد بما يكون من طول صوم وسهر وتأمل ..... إلخ ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما يشبه أطروحة الفلاسفة التي جعلوا النبي شخصا ذا مَلَكَاتٍ خاصة ، فَلَهُ من قوة الذكاء وحدة الذهن ، مع قوة التخييل التي تخرج هذه التجارب الذاتية من القوة إلى الفعل فَتَتَشَكَّلُ في صُوَرٍ في الخارج تُخَاطِبُ النَّبِيَّ بما صدر عن عقله أولا ، فهو مرجع هذه التجربة الذاتية التي لا تجاوز من خارج ، والملك أو الصورة التي تكلمه هي أخرى مرجعها ذاتي من خياله ، فَلَهُ من قوة التخييل ما به تخرج التجربة الروحية من قوة الفكرة إلى فعل الصورة التي تكلمه بما صدر عن عقله ، وله من قوة التأثير بما له من خصائص نَفْسَانِيِّةٍ ، له من ذلك ما يَعْظُمُ أَثَرُهُ فِي الجمعِ ، وذلك ما اقْتَبَسَهُ بَعْضُ الغلاةِ من المتصوفة والمتزهدة الذين قالوا بالإشراق والفيض ، فالتجربة الرياضية التي تجاوز حد الاعتدال بما يكون من هَجْرِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، بل والحاجات الضرورية من طعام وشراب ونوم ، هذه التجربة الرياضية تفسد كيمياء المخ ، وهو الآلة التي تحكي المشاعر والبواعث ، فلا يصنعها هذا الجسم المحسوس المكون من تَلَافِيفَ وتجاويف ، وإنما هو الآلة التي تُتَرْجِمُ هذه المشاعر ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ الدماغِ وهو العقل ومحله القلب ، فهو قلب المعنى لا قلب الحس الموجود في الصدر ، فالدماغ يترجم عن هذا العقل ، فإذا فسدت آلة الترجمة بما يكون من مسكِر أو مخدِّر ، أو إقلال من الطعام والشَّرَابِ ، فَيَقِلُّ الغذاء الذي يصل إلى المخ ، أو طول سهر يجهد الذهن ، فكل أولئك يفسد الآلة ، مع ما يكون من مرض يَطْرَأُ ، وَبِهِ تَزِيدُ النبضات ، فيصاب صاحبه بالصرع أو التشنج ، وتلك ، بداهة ، حَالُ نَقْصٍ لا يمكن تأويل معنى شريف كالنبوة به ، فالنبي يصدر عن حال الوحي وقد أُوتِيَ من الأخبار والأحكام ما بَلَغَ غَايَةً فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ مَعَ مَعْنًى محكم في الخبر والإنشاء كَافَّةً ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، لِمَرَضٍ يُصْرَعُ صاحبُه فلا يدري ما يقول إلا على مذهب الجذب ! ، وهو ما يقدح في وصف النبي أو الولي أنه المجذوب المصروع فلا يَدْرِي ما يقول ، فقد غاب عن الوعي بما كان من فسادٍ فِي الدماغ ، فآلة الترجمة قد فَسَدَتْ ، فلا تصدق في حكاية معنى ينصح ، فالنبوة طور يجاوز العقل ، فَلَيْسَ يَصْدُرُ عَنْهُ ، ولو العقلَ التَّامَ الذي أوتي صاحبُه فكرةً تَنْصَحُ وَلَفْظَةً تُفْصِحُ ، فالنبوة تجاوز العقل وتجاوز الدماغ من باب أولى ، كما الروح تجاوز البدن ، ولكلٍّ مِنْهُمَا ، الروح والبدن ، لكلٍّ مِنْهُمَا مادة بِهَا يَغْتَذِي فَهُوَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ مَصْدَرٍ من خارج يجاوز ، فالبدن يَتَنَاوَلُ مَادَّتَهُ مِنَ الأرضِ ، إذ تُوَاطِئُ مَاهِيَّتَهُ الطينية الكثيفة ، والروح تَتَنَاوَلُ مادتها من السماء ، بما كان من وحي قد نَزَلَ ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، وقد عمت البلوى في المدارس الفكرية المحدثة التي تَنَاوَلَت قواعد الأخلاق والنفس والاجتماع على قاعدة أرضية لا تجاوز ، فكان مِنْ دَرْسِهَا ما اقتصر على التجريب والبحث واستقراء النَّتَائِجِ ، وهو جزء معتبر في الباب ، ولكنه لا يجزئ في تفسير الظاهرة الأخلاقية والنفسانية والاجتماعية إذ لا يتناول من الظاهرة إلا آثارها في الخارج دون بحث أدق في بواعث الفرد والجمع ، وهي معان تَلْطُفُ لا بد لها من مرجع يجاوز الحس ، فالعقل بمعناه الغيبي المجاوز للدماغ مما يَعْسُرُ تَفْسِيرُهُ تَفْسِيرًا ماديا لا يجاوز الحس ، كما الروح لا تدرك ماهيتها في الخارج ، وإنما يَتَنَاوَلُ البحث المادي آثارها في البدن سكونا أو حركة ، فلا يجاوز النظر المحدث ما يدرك بالحس ، وليست الروح من ذلك في شيء ، فَهِيَ مِنَ الغيبِ المجاوز من خارج البحثِ والتجريبِ الذي تُدْرَكُ نَتَائِجُهُ بمعيارِ الحسِّ ، فهي من أمر الله ، جل وعلا ، فتدخل من هذا الوجه في عموم قوله ![]() فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تَنْفُذُ ، وتأويلها ما يكون من الأعيان والأحوال في الخارج تصديقا لما كان أولا من علم تقدير محكم ، قد تَنَاوَلَ كُلَّ شيء ، الاضطرار من حركاتِ الكونِ الَّتِي لا يُطِيقُهَا خَلْقٌ فَهِيَ من فعلِ الخالق ، جل وعلا ، فِعْلِ الإعجازِ في آيِ تكوينٍ يَنْفُذُ ، فتلك آياتُ آفاق وثم أخرى في الأنفس ، ومنها الاضطرار ، وَلَوْ فِي حَرَكَةِ أحشاءٍ تَدقُّ فَهِيَ تجاوز ما يرصد بالحس إلى أخرى من دقائق وَجُزَيْئَاتٍ تَسْلُكُ من السنن المحكم جَادَّةً تَنْصَحُ ، في نَبْضٍ وإفرازٍ عَادِلٍ فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ ، وإلا كان الفساد إِنْ زيادةً أو نقصًا ، فَثَمَّ من اسم العدل ما تَنَاوَلَ الحس والمعنى كَافَّةً ، وثم من الاختيار : حركاتٌ في الخارج تُنَاطُ بالإرادة ، إِنْ فِي أفعالِ الْجِبِلَّةِ وهي أعم ، أو أخرى من الشِّرْعَةِ وهي أخص فَهِيَ مناطُ تكليفٍ لِمَنْ يَعْقِلُ ، إِنْ قَوْلًا أو عَمَلًا ، إِنْ فِعْلًا أو تَرْكًا ، فكل أولئك تأويل يحدث وهو لعلم أول قد أحاط يُصَدِّقُ ، فتصديقه تأويله في الخارج كما أول في علمٍ محيط جامع ، فذلك وصف الذات الذي لا يناط بالمشيئة ، وإن كان من آحادٍ في الخارج ما يُصَدِّقُ وبها تأويله ، تأويل العلم الأول المحيط ، فَتَأْوِيلُهُ آحاد في الخارج تُنَاطُ بالمشيئة النافذة ، فَيَكُونُ من تأويلِ المقدور : الموجودُ بَعْدًا ، والكلمة في ذلك وَسِيطٌ يَنْفُذُ ، كلمةَ تكوينٍ تَحْدُثُ ، وإن كانت تأويلا لِعِلْمٍ أَوَّلَ يَقْدُمُ ، فَانْفَكَّتِ الجهة من هذا الوجه أيضا ، جِهَةُ العلم الأول فهو وصف ذات لا يناط بالمشيئة ، وجهة آحاد منه تصدر فهي تُنَاطُ بمشيئة تَنْفُذُ ، وذلك تأويل يحدث ، وَإِنْ لِنَوْعٍ أول يقدم ، فالكلمات كافة ، إن الكونيةَ أو الشرعيةَ ، الكلمات كَافَّةً مِمَّا قَدُمَ نَوْعُهُ إِذْ رُدَّ إِلَى علمٍ أول يحيط ، وآحاده في الخارج تحدث ، فالأول لا يُنَاطُ بالمشيئة ، والثاني يُنَاطُ بِهَا ، وهو أصل يَتَنَاوَلُ أوصافَ الفعلِ كَافَّةً ، فهي قديمة ، من وجه ، محدَثة ، من آخر ، فلا تَعَارُضَ إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، فهي قديمة من جهة نوعها ، محدَثة من جهة آحادها ، فالعلم قد تَنَاوَلَ الكلماتِ كَافَّةً ، الكونية النافذة والشرعية الحاكمة ، فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تنفذ ، وتأويلها ما يكون في الخارج من إيجاد الأعيان وتدبير الأحوال ، إن الاضطرارَ أو الاختيارَ ، ومنها أوامر تشريع يحكم ، وتأويلها في الخارج ما يكون من الفعل الاختياري ، إِنِ التصديقَ والامتثال أو ضِدًّا من التكذيب والعصيان ، فكان من ذلك ما تَقَدَّمَ مِنْ قسمةِ الأوامر والأمور ، فدلالة "أل" في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#4
|
|||
|
|||
![]() ودلالة الفطرة الأولى إذ تَنْصَحُ مما تَلَا من كَدَرٍ يَشُوبُ ، دلالتها على الفاطر الأول ، الخالق المهيمن ، جل وعلا ، تلك ، لو تدبر الناظر ، من المعلوم الضروري في أي استدلال نظري فلا بد من كلمة سواء هي قاعدة الجدال ، فلا استدلال في النظر ينصح إن لم يكن ثم مقدمات ضرورة في الوجدان تَثْبُتُ ، فهي محل الإجماع إلا عند جاحد أو مُسَفْسِطٍ ، فالفطرة الأولى جملة من العلوم الضرورية التي يجدها الإنسان من نفسه دون حاجة إلى استدلال ، وهي دليل على الفاطر الأول ، فكل محدَث لا بد له من محدِث ، وذلك قانون عام يستغرق الأعيان والأحوال كافة ، وذلك ما استوجب الأول فلا أول قبله ، وبه حسم التسلسل في الأزل ، فالأول الذي جاوز هذا العالم المحدَث ليس ، بداهة ، من جِنْسِهِ ، وإلا كان محدَثًا مِثْلَهُ فَافْتَقَرَ ، أيضا ، إلى محدِث قَبْلَهُ ، وهو ما يَفْتَحُ ذَرَائِعَ التَّسَلْسُلِ ، فلا تُسَدُّ إلا إذا انتهت إلى أول هو المحدِث فليس المحدَثَ من العدم ، بل قد ثبت في الأزل ، فما الخلق كله إلا مقدورات في علم أول محيط ، وما حصولها في الخارج إلا تأويل لمعلوم أول ، فكان من آحاد الكلمات مَا يحكي العلم ، وبها كان الخلق كله ، فهو مِنْهُ كما الآي المحكم قد ذَكَرَ ، فـ : (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وذلك من آي الربوبية ، الآي الآفاقية ، فكان من فعل التسخير ما يصدق فيه ، أيضا ، أصل أول في الباب يستصحب ، فالفعل مما قَدُمَ نَوْعُهُ وكان من آحاده في الخارج ما يَحْدُثُ ، فهي مما يناط بالمشيئة ، وحكاية الماضوية في "سَخَّرَ" : حكاية التقدير الأول ، فإن آحاد المسخَّرَاتِ لا زالت تحدث في الخارج شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بما يكون من آحاد الكلمات ، وهي من العلم المصدِّق الذي تَحَمَّلَهُ الملَك المنزَّل ، فكان من العلم : أول يقدر في الأزل ، وثان يُصَدِّقُ بَعْدًا فهو تأويل يخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، فتلك كلمات بها التقدير ثم التكوين ثم التدبير ، ومنه التسخير ، فتلك ربوبية عناية بعد أولى هي الاختراع لا على مثال سابق بما كان من تقدير أول في العلم المحيط الجامع الذي استغرق الأعيان كلها ، فكان من التسخير والعناية بَعْدًا ما به اكتمال الحد : حد الربوبية الجامع ، فمنها اختراع أول لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك الخلق ، ومنه خلق السماوات والأرض ، فكان من ذلك آيٌ قَدْ تَوَاتَرَ ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وذلك إِطْلَاقٌ في المبنى قَدِ اسْتَغْرَقَ ، كما تقدم في مواضع ، فَأُطْلِقَ العامل ، عامل الخلق ، فاستغرق ، من هذا الوجه ، خلق التقدير في العلم الأول ، وخلق الإيجاد المصدِّق في الخارج ، وثم من معنى التقدير ما يجاوز الإيجاد ، فالخلق منه تكوين يَنْفُذُ ، ومنه تدبير يُحْكِمُ ، وإن كان من إطلاق الخلق ما يَنْصَرِفُ ، بادي الرأي ، إلى الإيجاد ، فَهُوَ شَطْرُ الاختراعِ والبدعِ ، فكان من وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، أنه : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وذلك من المبالغة في الحد ، "فَعِيل" من "فَاعِل" ، فهو الْبَادِعُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَابِقٍ ، وذلك الاسم المقيد بما كان مِنْ إضافةٍ إلى السماوات والأرض ، وإن كان ذلك ، من وجه ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فهو الذي أبدع المحدَثات كَافَّةً ، ومنها السماوات والأرض ، فهو البديع في الفعل إذ هو العليم في الوصف ، وكلاهما مما حُدَّ مبالَغَةً ، وهو آكد في الثناء والمدح ، وكلاهما مما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، وإن كان من اسم البدع ما قُيِّدَ ، فهو ، كما تقدم ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فكان من اسم العليم ما عم المعلومات كافة ، ومنها المقدورات في الأزل وما كان من سطر في لوح تقدير يصدق ، فَفِيهِ قد كتبت المقادير كافة ، إِنِ الكلمات الكونية التي تَنْفُذُ أو أخرى من الشرعية فهي تخبر وتحكم ، وكان من اسم البديع ما يُصَدِّقُ هذا العلم الأول المحيط ، فالبدع إيجاد له في الخارج يواطئ ما كان من التقدير الأول في الأزل ، وهو إيجاد مخصوص يحكي الحكمة والقدرة أَنْ كَانَ لَا عَلَى مثالٍ سَابِقٍ ، فالبدع خلق مخصوص إذ الخلق : تَقْدِيرٌ وَإِيجَادٌ وإبداعٌ وتدبير ، فكل أولئك مِمَّا يَدْخُلُ فِي حَدِّ العلمِ الأوَّلِ ، العلم المحيط الجامع ، فكلماته في الأزل أول عنه أخرى في الخارج تحدث إذ تُنَاطُ بَعْدًا بمشيئَةِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، فمنها كلماتُ إيجادٍ أَعَمَّ ، ومنها أخرى في الإبداع أَخَصُّ ، فهو إيجاد يُقَيَّدُ إِذْ يَكُونُ لا على مِثَالٍ أول قَدْ تَقَدَّمَ ، ومنها ثالثة في التدبير ومنه التسخير آنف الذكر ، فالتسخير تال بعد التكوين ، فكان من ذلك تسخير السماوات والأرض ، وفيه يجري قياس الأولى كما يجري في التقدير والخلق ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وذلك مما صُدِّرَ بِلَامِ ابْتِدَاءٍ تحكي التوكيد في "لَخَلْقُ" ، فزيادتها في المبنى تحكي أخرى في المعنى ، وذلك أصل عام يستغرق ، وهو يَتَنَاوَلُ كل زيادة ، وثم من لام الابتداء زِيَادَةٌ أَخَصُّ ، فَهِيَ نَصٌّ فِي البابِ ، باب التوكيد ، وثم من خلق السماوات والأرض : أصل في القياس آنف الذكر ، قياس الأولى ، وهو العام المستغرق على التفصيل آنف الذكر ، فالخلق يحكي في دلالة المعجم الْمُفْرَدِ : مادة التَّقْدِيرِ ، وهي جنس في الدلالة يستغرق ، فَمِنْهُ تقدير في العلم قَبْلَ الإيجاد المصدِّق وهو الأول في الإثبات ، ومنه تقدير في الإيجاد والتكوين فهو يصدق ما كان أولا من تقديرِ لَطِيفٍ خبير ، قد عَلِمَ ما جَلَّ وما دَقَّ من الكائنات ، فكان من اسم الخبير : عَلِيمٌ وَزِيَادَةٌ ، وفيه ، أيضا ، يجري قياس الأولى ، فالخبير بما دَقَّ : عَلِيمٌ بكل شيء يَزِيدُ ، فعلمه يستغرق الدقيق ، والجليلَ من باب أولى ، ومن الخلق إبداع تقدم لا على مثال تقدم ، ومنه التدبير ، فكل أولئك مما استغرقه الإطلاق : إطلاق العامل في قوله
![]() ![]() فكان من قياس الْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو ما تَكَرَّرَ في موضع آخر من التنزيل المحكم : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فكان من ذلك استفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، وكان من دخول الاستفهام على النفي ما يضاهي الإثبات ، فهو يضاهي دخول النفي على مِثْلِهِ ، فكان من الجواب : (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فَمَنْ خلق الأعلى فهو يخلق الأدنى من باب أولى ، وثم من الختام ما يجري مجرى التعليل لِمَا تَقَدَّمَ من الخلق المحكم ، فهو ، من وجه ، جواب سؤال قد دل عليه السياق اقْتِضَاءً ، فما علة ما تقدم من قياس الأولى الذي استغرق خلق الأعلى وخلق الأدنى من باب أولى ؟ ، فكان الجواب أنه : (هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، وذلك ما زَادَ في الدلالة على اسم الخالق ، فكان من "فَعَّالٍ" ما يحكي المبالغة في الدلالة وذلك آكد في الثناء والمدح ، وهو ما استغرق تكثير المعنى بما يكون من إحكامٍ في الخلقة ، وتكثير الآحاد من الأجرام والأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، ولا يكون ذلك إلا بعلم محيط يستغرق ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الإطناب في الخبر ، فَعُطِفَ العليم على الخلاق ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التعاطف بين المسبَّب وهو الخلق إيجادا وإبداعا وتدبيرا ، والسبب وهو ما يكون من أول من العلم المحيط المستغرق ، فَحُدَّ ، أيضا ، حَدَّ "فعيل" من "فَاعِل" ، "عليم" من "عالم" ، وبه الثناء على الرب الخالق ، جل وعلا ، الثناء التام المستغرق مع عموم آخر قد تناول المعلومات كافة إذ أُطْلِقَ الاسم ، ولا يخلوانِ : الخلاق والعليم ، لا يخلوان ، من هذا الوجه ، أَنْ يَجْرِيَا على جادة العهد ، العهد الأخص إذ تحكي "أل" : استغراقا لوجوه المعنى من الخلق والعلم ، ولا يكون ذلك إلا لواحد في الأزل ، لا شريك له في ذات ولا اسم ولا وصف ولا فعل ولا حكم ، فذلك أصل عام يستغرق ، فيدخل فيه الخلق والعلم ، فَاكْتَسَبَتْ "أل" من هذا الوجه : دلالة العهد الخاص ، وإن كان ثم اشتراك في الجنس العام ، جنس المعنى المطلق الذي يجرده الذهن ، فالاشتراك في الجنس العام الذي يجرده الذهن لا يستوجب آخر في الخارج ، بل لكلِّ ذاتٍ تُوصَفُ بالمعنى فَيَقُومُ بِهَا قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، لكلِّ ذاتٍ من ذلك المعنى ما يُوَاطِئُ حَقِيقَتَهَا في الخارج إِنْ كَمَالًا أو نَقْصًا ، فكان للخالق ، جل وعلا ، من ذلك كمال مطلق به قد انْفَرَدَ فلا يشركه فيه غيره ، وإن شركه في المعنى المجرد في الذهن . فحصل في الباب : خلق أعم ، وهو ما قُيِّدَ بالحق في مواضع من التنزيل المحكم ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، فذلك قَيْدُ الحالِ "بِالْحَقِّ" وهي في هذا السياق : عمدة لا فضلة ، إذ تحكي ما لا يَتِمُّ الثناء إلا به ، أنه الحق الثابت في نفس الأمر ، فالباء في "بِالْحَقِّ" تحكي المصاحبة من هذا الوجه ، وأنه ما كان بالحق بما تَقَدَّمَ من كلمات كون تُصَدِّقُ ما كان أولا من تقدير الخلق ، فالباء تحكي السببية من هذا الوجه ، وكلا الوجهين يصح ، وبه يستأنس من يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، وبه المعنى يَثْرَى بوجوه من الدلالة تَنْصَحُ ، فكان من الخلق أول ، خلق السماوات والأرض ، وكان تَالٍ من تصوير الناس ، فَاسْتَغْرَقَ السياق : الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض ، والآيات النفسانية من تصوير الخلق ، وثم ختام يجري مجرى الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والشاهد أَنَّ ثَمَّ من القرينة العقلية ما لا يُجَاوِزُ في الاستدلال : الأحكامَ معقولة المعنى مِمَّا يُدْرِكُ النَّاظِرُ فِيهِ العلة ، إِنِ المنصوصَ عليه أو المستنبطَ بِمَا يكون من تَنْقِيحٍ أو تخريجٍ ، وهي المعتبرة في باب التأويل إذا تَنَاوَلَ الأحكامَ معقولة المعنى ، وباب التأويل فيها أوسع ، والخلاف فيه أهون إذ النَّاظِرُ يدرك في معقول المعنى ما به يُنَاطُ الحكم من العلة ، فيجاوز بها الأصلَ الأول إلى فرعٍ تال في الخارجِ يحدث ، فهو يُرَدُّ إلى الأصل المنصوص إذ ثم من القرينة جامع معقول ، وَإِنِ احْتُرِزَ ، كما تقدم ، أَلَّا يَخْرُجَ البابُ من المطلَقِ المنضبط إلى نِسْبِيٍّ يَتَفَاوَتُ ، فيكون من ذلك ما لا يَنْضَبِطُ ، وهو ذريعةٌ إلى تَوَسُّعٍ لا يحمد ، إذ يضطرب به النظر وليس ثم معنى ينضبط ، فهو المحكَم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات في الباب ، وما احُتُرِزَ به من النسبية المضطربة ، ما احترز به في معقول المعنى مما يُشْهَدُ بالحس وَيُدْرَكُ بالعقل ، يُحْتَرَزُ به في أَخْبَارِ الْغَيْبِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، فالقرينة لا تكون إلا خبرية ، إذ لم يشهد الخبر أحد ، وليس له من المثال ما يَتَكَرَّرُ ، وليس ثم شاهد قد شهد فيخبر بما لم يشهد غيره ، فمن ذَا شَهِدَ خَلْقَ العالَمِ الأول ، فَوَجَبَ في الباب : رَدٌّ إلى خبر من خارج يصدق فهو يخبر بما غاب فلا يدرك بالعقل أو الحس المحدَث ، والعبرة فيه أَنْ يَصْدُقَ المخبِرُ ، فَحَسُنَ في هذا الباب : الاشتغال بدليل الصحة والصدق ، صدقِ المخبِر ، لا النظر في ماهية الخبر فليست بالعقل تدرك ، وإنما الغاية أن تَجُوزَ في العقل : الجواز العقلي المحضَ ، وذلك مما استوى طرفاه في الاستدلال ، فافتقر إلى مرجح من خارج ، فلا يكون الترجيح بإثبات أو نفي في باب خبري يَتَنَاوَلُ من الغيب ما لا يدرك بالحس ، لا يكون الترجيح بلا مرجِّح معتبر ، وليس في باب الغيب إلا الخبر ، فإذا صَحَّ فهو المذهب في الغيب خاصة ، وفي الشرع عامة ، إن الخبر أو الحكم ، فالخبر مرجع من خارج يُرَجِّحُ ، ومعه زيادة في العلم تثبت ، وهي مما يوجب العدول عن أول يستصحب من العدم الأصلي إِلَى إِثْبَاتٍ يَزِيدُ ، وله من الدليل ما اعْتُبِرَ ، وَهُوَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، مَا افْتَرَقَ عَلَى أَنْحَاء ، فمعقول المعنى لَهُ مِنْ قَرِينَةِ العقلِ مَا لا يكون في غَيْبٍ لا قرينة فيه تجزئ إلا الخبر ، وذلك مقتضى الحكمة أن يكون لكلٍّ من القرينة ما يلائم ، ومرد الأمر أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز ، فمرجع الشرع يجاوز مَرْجِعَ اللسان بما يزيد من القيد ، فحقائق الشرع ، كما تقدم ، حقائق في اللسان قد زِيدَ فِيهَا الْقَيْدُ ، كما الإيمان آنف الذكر ، فالإيمان : تصديق مخصوص ، قد تَنَاوَلَ من اللسان الجنسَ الدلالي المجرد وزاده من الدلالة ما يُرَجِّحُ ، وذلك ما استغرق تصديقَ الجنانِ إذ يُرَجِّحُ القبول والرضى ، مع آخر قَدْ تَنَاوَلَ اللِّسَانَ إذ يشهد ، وثالث من أعمال الجوارح يزيد ، فذلك الإيمان في حَدِّ الشرع إذ زَادَ في اللسان القيد ، فَتَنَاوَلَ المحال كافة لا ما يتبادر من التصديق المجرد في الحقيقة اللسانية المجردة . والله أعلى وأعلم . |
#5
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط الجامع قد تَنَاوَلَ النبوة تَنَاوُلَ الحكمةِ البالغة ، فـ : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وذلك مما حُدَّ حَدَّ الخبر ، وهو دليل الثبوت والاستمرار ، وَثَمَّ من دلالة التفضيل في "أَعْلَمُ" ما نُزِعَتْ دلالته ، فالتفاضل والتفاوت في هذا الموضع لَا يُتَصَوَّرُ ، إذ لَيْسَ ثَمَّ أَحَدٌ يُشَاطِرُ الله ، جل وعلا ، العلم بالمحل الذي تُجْعَلُ فِيهِ النُّبُوَّةُ ، فيكون الله ، جل وعلا ، أعلم منه ، فالتفاضل القياسي في اللسان بَيْنَ : أَعْلَمَ وَعَالِم ، فَيَشْتَرِكَانِ في أصل الوصف وإن حصل التفاوت في القدر ، كما يقال في المشترك المعنوي فإنه مما لا يتماثل في الخارج ، وله المثل يضرب بَوَصْفِ الْبَيَاضِ ، فمنه العاج ومنه الثلج ومع اشتراكهما في الجنس الأعم إل أَنَّ ثَمَّ اختلاافا في الماهيات الأخص في الخارج ، فاصطلح أنه المشكَّك ، فَثَمَّ اشتراك من وجه واختلاف من آخر إن في الماهيات التي تستقل في الخارج أو في قدر الوصف في كل كائن .
وليس ثم في هذا الباب ، باب العلم بالمحال التي تقبل آثار الرسالة ، وهو الخبري ، ليس ثم عَالِمٌ بما قُدِّرَ أَوَّلًا من محل يقبل النبوة جزما ، وإن كان من الدلائل على ذلك ما يظهر في الخارج من أَثَرٍ أول يُبَشِّرُ وحال صاحب الدعوى وصف الْخَلْقِ أو الْخُلُقِ ، فَيَعْلَمُهَا من له عناية بالكتاب الأول وما بَشَّرَ به من نُبُوَّةِ الختمِ ، ويعملها من يَقْدُرُ الرجال حق قدرها ، كما كان من خديجة ، ![]() وما مِن يدٍ إِلا يدُ اللهِ فوقها ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ولا يخلو ذلك ، أيضا ، من استدراك ، فَإِنَّ صَلَاحَ الرَّأْسِ ذي الكتاب الناصح والسيف الناصر ، فَلَهُ من ذلك حق وقوة ، فلا يَنْفَكُّ أَثَرُهُ في الجمع يظهر ، وإن كانوا على حالِ نَقْصٍ وغفلةٍ ، فَثَمَّ من الاقتداء ما طُبِعَ عليه الخلق ، إن في الخير أو في الشر ، وهو ما به يُسْتَدْرَكُ عَلَى مُثُلٍ من الاجتماع المحدَث قد أهملت الفرد واعتبرت الجمع ، فكان له من العقل ما يسبق وليس للفرد إلا أن يخضع ! ، وَمُثُلُ الرِّيَادَةِ في تَغْيِيرٍ يُحْسِنُ أو يُسِيءُ ، مُثُلُ الرِّيَادَةِ فِي كُلٍّ : آحادٌ قد خَالَفُوا عن جَادَّةِ العرفِ والعادةِ ، وهي دين الجمع في الفعل والترك ، فَمِنْ مُثُلِ الرِّيَادَةِ فَرْدٌ أو أَفْرَادٌ ، فلا يكون عقل الجمع لهم قَيْدًا يأطر بل قد كسروه وجاوزوا ، إِنْ خَيْرًا أو شَرًّا ، فذلك ، كما تقدم ، أصل عام يستغرق ، لا جرم لم يكن وحده يجزئ في درك الحق المحكم ، فَعَقْلُ الجمع بما استقر من العرف والعادة ، وعقل الفرد إذ يُوَافِقُ أو يُخَالِفُ ، كُلُّ أولئك محدَث في الخلق لا يسلم من النقص ، الجهل والهوى والحظ .... إلخ من أعراضٍ تَطْرَأُ ، فلا ينفك كُلٌّ يطلب مرجِعًا من خارج يجاوز ، قد يشهد للجمع إن كان عرفه الناصح المعتبر ، وقد يشهد للفرد إن خالف عن عادة تفسد قد خالفت عن الحق المحكم ، كما كان من نبوات جاء بها آحاد قد خالفوا عن دين الآباء وطريقتهم ، فلا الجمع يُمْدَحُ أو يُذَمُّ مطلقا ، ولا الفرد يمدح أو يذم مطلقا ، فكلاهما ذاتي لا يجاوز ، فافتقر كُلٌّ إلى معيار موضوعي من خارج ، وذلك الوحي النازل بمعيار حُسْنِ وَقُبْحٍ يُوَاطِئُ ما أُجْمِلَ فِي النفس فهو له يُصَدِّقُ أولا وَيُبَيِّنُ ثانيا ، ولما اعوج منه يقوم ثَالِثًا ، فكان من اصطفاء العرب ما لا يُجْحَدُ ، كما كان من شُعُوبِيَّةٍ ذَمَّتِ الجنسَ العربيَّ حَسَدًا أَنِ اخْتُصَّ بالرسالة الخاتمة وكان له منها قوة دافعة بها فُتِحَتْ أَمْصَارُ العجمِ لا على قاعدة عصبية تجهل ، وإنما دينية تَنْصَحُ ، فَلَمْ تُطِقْ نُفُوسٌ ذلك وقد كان لها قَبْلًا سيادة في العجم والعرب كافة ، وكان آحاد من العرب يَفْخَرُوَن أنهم وَفَدُوا عليهم ودخلوا مجلسهم ولو تأخروا في الذيل ، فكان من ازْدِرَاءِ أولئك الجنسَ العربي حسدا ، وإن لم يخل العربي من آخر قد تَعَصَّبَ إن فِي جَاهِلِيَّةٍ أولى أو كان بَعْدًا في جيل قد تأخر لَمَّا طَالَ العهد بآداب النبوة والوحي ، إذ كان النقص بعد الكمال ، من : نُبُوَّةٍ قَدْ حَدَّتِ المعيار الناصح في تفاضل الخلق ، فـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، إلى خلافةِ رُشْدٍ قد سلكت الجادة إِلَى نَقْصٍ تال في ملك لم يخل من عدل ورحمة ثم عَاضٍّ قد قام أولا على عصبة العرب ثم انْقَلَبَ تَالِيًا إلى عصبة العجم من الفرسِ ثُمَّ التُّرْكِ ، فلم يخل في كلٍّ من عصبية تُذَمُّ ، إِنْ عَرَبِيَّةً أو عَجَمِيَّةً ، ثم كان جَبْرٌ تأخر ، وهو ما عظمت به البلوى في هذا الجيل ، فقد بلغ غاية في النقص ، وبه كُسِرَ بَأْسُ الخلق بما كان من سلطانٍ صائل قد خرج على الجمع ، فأفسد الدين وسفك الدم ، ولم يسلم منه فَرْدٌ ولا جمع بما احْتَكَرَ من بواعث الشر وأسباب الظلم حِسًّا وَمَعْنًى ، مع عصبية أضيق لم تجاوز حَدَّ الأرض ، بل قد صارت ذريعة إلى استبداد الملك فَبِهَا يَظْلِمُ الخلق ويستحل منهم المال والدم ، فَصَارَ هو معقد الولاء والبراء لدى عصبة الحكم ، وإن تذرعت أنها تحمي الأرض والمصر ، وَلَيْتَهَا تصدق وإن عصبية تَقْبُحُ بل : حَشَفًا وسوءَ كَيْلَةٍ ، فَدَعْوَى تَبْطُلُ وهي مع ذلك تَكْذِبُ فَلَا تَصْدُقُ ، وكل أولئك من نَقْصٍ عن عُصْبَةِ النبوة الأولى التي تحملت الوحي في المبدإِ ثم كان منها باعثُ فَتْحٍ يَنْصَحُ وبه نَالَتِ الخيريةَ المطلقة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ فَجَاوَزَ العرب ، فكان من عصبة النبوة : سَابِقُ الفرس وسابق الروم وسابق الحبش ، فذلك معيار يجاوز إذ به التفاضل تَقْوَى تجاوز العرق والعنصر ، وإن كان للعرب فضل لا يُجْحَدُ ، ولو لسانَ الوحي فهم أهله وخاصته ، فلسانهم قد صار من الدين بمنزلٍ يَعْظُمُ ، ولو الوسيلةَ التي لا يَبْلُغُ الناظر مقصده إلا أن يُتْقِنَهَا ، فَيَعْلَمَ مواضع النطق وأخرى في الخارج تصدق بما كان من فِعْلٍ وَتَرْكٍ ، فلا يكون أمره أماني تُتْلَى كما قد ذُمَّ الْأُمِّيُّونَ مِنْ جِيلٍ تَقَدَّمَ قَدْ تَحَمَّلَ الكتاب حفظا لا فقها ، لفظا لا معنى ، مع ما كان من تَبْدِيلٍ وتحريفٍ وإن احتمل اسم التأويل فقد خرجوا به عن جادة التنزيل ، فَحَصَلَ للعربِ فَضِيلَةٌ أولى بما كان من اصطفاء أعم ، فدخل من هذا الوجه في عموم ما تقدم من آي الذكر المحكم : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وكانت أخرى في لِسَانٍ يَنْصَحُ قد نَزَلَ به الوحي ، وذلك لسان يجاوز العرق والعنصر ، فالعربية لسان وَإِنْ نَطَقَ به الأعجمي ، وذلك تفضيل الجنس ، جنس القبيل العربي ، فلا يَلْزَمُ منه آخر يستغرق ، فَلَوْ قِيلَ : العرب خير من العجم ، فهو يضاهي في المعنى : الرجل خير من المرأة ، فهو تَفْضِيلُ جنسٍ على آخر ، تفضيلُ مجموع على مثله ، لا جميعٍ يستغرق ، فدلالة "أل" من هذا الوجه : دلالةُ بَيَانٍ لجنس المدخول دون آخر يجاوز فهو يستغرق الآحاد كافة ، فلا يستقيم ذلك وشاهد الخبر والحس بذا يشهد ، فكم من نساء قد عَدَلْنَ في الفضل جَمْعًا من الرجال يكثر ، وإن كان للرجال عليهن درجة ، فذلك نظر الجملة ، إذ اخْتُصُّوا بِفَضَائِلِ في التكوين وقوامة في التشريع قد أوجبت زيادة في التكليف بها حصلت لهم رياسة ، فلا تكون إلا فيهم ، وأشرفها رياسة النبوة فلا تكون في أنثى ، فكان للرجال من ذلك خاصة لا تدرك ، وبها صح القول إن الرجل خير من المرأة ، فجنسه الذي دلت عليه "أل" يَفْضُلُ آخر من النساء ، وإن كان من آحاد النساء ما يفضل آحادا من الرجال بل وَجَمْعًا ، ولكنها لا تفضل الرجال مطلقا ، وإلا لزم القائل أنها تفضل الأنبياء وهم رجال ، فلا يقول ذلك من له من الإيمان حظ . فكذا تفضيل العرب على العجم ، فهو تفضيل مجموع على آخر ، لا جميع على مثله ، فالعرب جَنْسًا خير من العجم إذ اختصهم الله ، جل وعلا ، بالوحي والنبوة ، فدخلوا من هذا الوجه في عموم قوله ![]() فدلالة "أل" : دلالة بيان لجنس دون استغراق آحاده ، فليس كل عربي خيرا من كل أعجمي ، بل من آحاد الأعاجم من هو أفضل من آحاد من العرب ، بل وجمع يكثر ، وإن كان الفضل الأعم للعرب بما تقدم من رحمة النبوة الخاتمة التي خرجت منهم ونزلت بلسانهم ، فليس تفضيل العرب بمطلق ، بل مَنْ قَسَّمَ العالم إلى نطاق أعلى وأدنى وَبَيْنَهُمُ الأوسط ، لم يُسَلِّمْ للعربِ بِفَضِيلَةٍ تُطْلَقُ حتى نُبِزَ لدى بَعْضٍ أنه شعوبيٌّ يُبْغِضُ العربَ إذ كان من الْبَرْبَرِ مَوْلِدًا وَنَشْأَةً ، وإن أثبت له بَعْضٌ نَسَبًا عَرَبِيًّا ينتهي إلى حمير ، فكان من قيده : قيد النبوة ، فلا يُصْلِحُ العربَ إلا هي ، فإن غابت فلم تظهر فيهم ، وكان من حكومتها في العلم والعمل ما عُطِّلَ ، فهم همج رعاع ، وَكَلَأٌ مُسْتَبَاحٌ ، ولو من أذل الخلق ممن لم يعصم إلا بحبل من الله ، جل وعلا ، ومن الناس ، كما الحال في هذا العصر ، فلو تدبر الناظر في حال العرب خاصة وأتباع الوحي الخاتم عامة ، وقد عطلت فيهم النبوة فدرست أعلامها إلا آثَارًا تبهت ، لو تدبر الناظر في ذلك لَشَكَّ أن الوحي قد نَزَلَ في أسلاف أولئك ، لولا ما كان من خبر الوحي الصادق ، فهو عاصم من التكذيب ، وإن عَظُمَ من حال العرب التَّنْفِيرُ من الحق بما سلكوا من جادة النقص والشَرِّ ، فَلَوْلَا الوحي لشك المتيقِّنُ ، وهو ينظر في حال كَثِيرٍ لا ينفع ، ولا أَثَرَ له في دين أو دنيا يَنْصَحُ فهو عن صناعة الفكرة بمعزل ، وهو من فعل الحركة مُعَطَّلٌ ، فلا منصب له في سياسة أو حرب ، ولا مهابة له في قلوب الخلق ، كما قد أخبر صاحب الوحي المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" . فمعيار التفاضل منه الكوني الذي لا تكليف به إذ لا اختيار ، فلا يمدح الرجل أنه قد خلق رجلا وإن فُضِّلَ بأصل الخلقة فذلك مما لم يسع فيه وَيَجْهَدْ لِيُقَالَ إنه قد اكتسب مِنْ فَضِيلَةٍ ما يُحْمَدُ ، وكذا العربي فلا اختيار له في ذلك وإن فُضِّلَ بما كان من اختيار الرب العليم الحكيم ، جل وعلا ، فذلك ، كما تقدم ، تأويلُ علمٍ أول قد أحاط ، فكان منه في الخارج خَلْقٌ يُصَدِّقُ ، فكان من ذلك اختيار النبوة الخاتمة ، فذلك من حكمة أولى في التكوين ، أَنِ اخْتِيرَ المحل وَهُيِّئَ بما كان من صناعة على عين الرب المدبر ، جل وعلا ، ثم كان الإمداد بأسباب الوحي ، فذلك الوهب المحض فلا ينال برياضة ولا كسب ، وإنما هو اختيار أول من عليم عِلْمُهُ قد أحاط واستغرق ، فلم يكن من معيار التفاضل في التكوين ما يطلق ، وإن كان له حظ يعتبر في تفضيل الأجناس لا الآحاد ، وإنما أطلق آخر من معيار التشريع بما كان من تقوى بها تُنَالُ الدرجة ، سواء أكانت لعربي يُفْصِحُ أم أعجمي لا يُفْصِحُ ، كما قد فَصَّلَ يومَ الموقف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - : إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمُ ، وآدمُ من تُرَابٍ" . فدلالة "أعلم" في قوله ![]() والله أعلى وأعلم . |
#6
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط الجامع قد حكى من الوحي قصة الخلق ، وحكى عداوة إبليس لجنس البشر من آدم وَبَنِيهِ ، فكان من ذلك المحكم الذي لا يُنْسَخُ إذ به الشيطان قد تَوَعَّدَ ، فـ : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، والإله قد حَذَّرَ ، فـ : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وهو ما يحكي التدرج في الانحراف ، فالشيطان يوسوس على مكث ، فَلَوْ أمر بالشرك المصرح لنفر الإنسان لدى المبدإ ، فيكون من تَزْيِينِ الباطل ما استوجب التَّمَهُّلَ ، وله المثل يُضْرَبُ بِمَا ذَاعَ فِي هذا الجيل من فواحش تفجع ، وإن لم يكن مِنَ النبوة حَكَمٌ يُهَيْمِنُ ، فَثَمَّ أَثَرٌ ، ولو الباهِتَ ، بل ثم من الفطرة ما يَسْتَنْكِفُ فَوَاحِشَ محدَثَةً قد ذاعت في الخلق ، بل وصارت في مواضع هي الأصل ، فمن أنكر فهو المحدِث في دين الجمع ما يُرَدُّ ، وذلك ما اسْتَلْزَمَ بحثا يجاوز الحاضر فهو يُفَتِّشُ فِي مَاضٍ قد تَقَدَّمَ ، فيرصد الانحراف لدى المبدإ ، وهو ما يكون يسيرا ثم لا يزال يَزْدَادُ وَيَتَرَاكَمُ في وجدان الفرد والجمع ، حتى يصير هو الأصل ، فقد نسخ الأصل الأول ، ولو لم يكن ثم دليل يَنْصَحُ في النسخ إلا تقليد الأب والجد ، وما كان من نسخ العلم بعد هلاك الجيل الأول ، فَثَمَّ الانحراف عن الجادة ، وهو ما يُسْتَأْنَفُ يَسِيرًا ولا يَزَالُ يَزِيدُ حتى يَصِيرَ هو الأصل ، وهو ما استوجب في الدَّرْسِ مَا يُجَاوِزُ بِنْيَةَ الجمعِ في الحال ، فإنها وإن رصدت الظاهر وأحسنت تحكيه وأشارت ، ولو من طرف خفي ، إلى هوية الفرد والجمع وما يكون من بواعث الإرادة والفعل ، فهي تبين عن تَصَوُّرٍ أول يَسْبِقُ الحكمَ ، وهو ما اسْتَقَرَّ لدى هذا الجيل فَصَارَ العرف المتداول ، ولا بد له من روافد من خارج الحال ، فالبنية الحالية تَقُصُّ ما هو كائن ، ولا تشتغل بما كان أولا من القيم والمبادئ التي تَرَاكَمَتْ في الوجدان ، فهي قليل إلى آخر ، فيكون منه بَعْدَ حِينٍ كَثِيرٌ يَتَرَاكَمُ ، وإنما السيل اجتماع النقط ، فَمَنْ نَظَرَ فِي السَّيْلِ وهو يجرف فإنه يَعْجَبُ إذ لم يكن ثم نظر أول في اجتماع مادته لدى المبدإ وما يكون من تَرَاكُمِ حَبَّاتِهِ ، فَتُؤَثِّرُ بالجمعِ ما لا تُؤَثِّرُ بالفرد ، وهو ، من وجه ، مِمَّا يضاهي في الحد : الخبر الضعيف بالنظر في حاله إذا انْفَرَدَ ، فإذا اجتمع له من الطرق كثير ، فهو يستفيد بها قوة لا تكون في المبدإ ، فاجتماع الطرق كاجتماعِ النُّقَطِ ، وهو كاجتماع الفكرة في الوجدان بما يكون من تَرَاكُمِ المعرفة في الذهن ، وإن خالفت عن الدين والفطرة والعرف ، فيكون من الاستنكار لدى المبدإ ما يظهر ، فالجمع لا زَالَ على أول من المرجع ، فهو حديث عهد بما كان أولا ، ثم لم يَزَلِ الجديد يَزِيدُ ، ولو كان القبيحَ المستنكَرَ فلا دليل له من نَقْلٍ أو عَقْلٍ أو فطرةٍ تَنْصَحُ ، وإنما الولع بالجديد الذي يُذَمُّ فَلَا دَلِيلَ يشهد ، فليس الانتقال عن أول من الفكرة إلى جديد ، ليس ذلك مما يُمْدَحُ أو يُذَمُّ لِذَاتِهِ ، وإنما العبرة بما يكون من ماهية هذا الجديد ، وما يُقِيمُ صاحبه عليه من الدليل ، فلا يكون الدليل هو الولع المطلق ، وهو ما به العقل يَغِيبُ وَيَذْهَلُ ، فإن من خفة الجديد ، وَلَوْ وَبِيئًا ، ما له يستحسن الناظر ، بادي الرأي ، إذا حضرت سكرة وغابت فكرة ، فلم يكن ثم من العقل ما يمحص ، فهو ناقد يُدَقِّقُ ، لا ذَاهِلٌ يُقَلِّدُ الجديدَ بلا نظر ، لا سيما إن كان المغلوب فهو أبدا يُولَعُ بِتَقْلِيدِ مَنْ غَلَبَ ، كما قال ابن خلدون
![]() فالعقل ، كما تقدم ، يجوز في الباب ما انْشَعَبَ من الاحتمال أن الإنسان قد خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ الخلقَ المباشر ، أو كان من ذلك تطور من كائن بسيط إلى آخر مركب ، أو أنه قد خُلِقَ من ماء أو نار ...... إلخ ، فكل أولئك من الجائز المحتمل مبدأ النظر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وذلك الغيب المطلق فلم يشهده أحد ، والعقل لا يدرك فيه إلا التجويز المحض ، فلا يجزم بواحد من احتمالات تجوز حتى يكون ثم دليل من المنقول فهو ما يجاوز العقول في أمر لا تحيله مبدأ النظر ، فهي تُجَوِّزُهُ فَلَا تَزِيدُ في ذلك إيجابا أو امتناعا حتى يكون ثم دليل من خارج يوجب أو يمنع ، فلا يجزم العقل بواحد مما تقدم ، لا جرم افتقر إلى مرجح من خارج ، فهو يُرَجِّحُ في الباب واحد : أَخُلِقَ من تُرَابٍ أم نار ..... إلخ ، أَخُلِقَ الخلقَ المباشر أم عبر وسائط ...... إلخ ، وذلك ما لا يطيقه العقل منفردا ، ولا يرصده الحس إذ قد جاوز مداركه ، فهو ، كما تقدم ، الغيب المطلق ، فَوَجَبَ ضرورةً الرجوع إلى أول من خارج العقل يَصْدُقُهُ فِي الخبر ، فذلك الوحي الذي جحده العقل في جيل قد تأخر إذ اغتر بما كان من أسبابِ بحثٍ يُجَرِّبُ ، فَظَنَّ إليها المنتهى في الإثبات والنفي ، فالوحي ، لو تدبر الناظر ، ضرورة في العقل المصرح ، إذ به ترجيح في جائز من الخبر وكذا الإنشاء ، فإن في العقل قوة تحسين وتقبيح لَا تُنْكَرُ ، ولكنها ، أيضا ، مما أُجْمِلَ ، فَافْتَقَرَ إلى مرجع من خارج يفصل ، فذلك الوحي الذي يرفد العقل بالشرع المحكم كما أول من الخبر المصدق ، فهو رائده الذي ينصح إن في الخلق أو في الشرع حكايةَ وصف عام قد استغرق : رُبُوبِيَّةً تخلق وتدبر وألوهية تخبر وتشرع . فحكى الوحي من انحراف الخلق عن الجادة ، فكان من التوحيد أصل أول ، فـ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وكان من قصص النبوات ما حكى انحراف الجيل بما كان من الإغواء والتزيين الذي تَلَطَّفَ أولا فلم يفصح عما به يوسوس ، فَنَصَحَ وَإِنْ كذب فَلَيْسَ رَائِدًا يَصْدُقُ في الهداية ، فَزَيَّنَ لجمعٍ أول أَنْ ينصبوا التمثال لصالحٍ هو الأسوة في الورع والنسك ، فإذا هلك جيل أول ، وكان مِنْ تال مَنْ يجهل إذ نُسِخَ العلم وَنُسِيَ ، فكان الانتقال عن أصل أول من التوحيد إلى تال من التشريك ، فهو الطارئ بما كان من وسواس ناقض ، فَعَصَى الجمع وخالف عن النهي أن : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، فهي مما تَرَاكَمَ في الوجدان وحصل منه محدَث قد عمت به البلوى فصار الأصل الذي يهرم فيه الكبير وينشأ عليه الصغير ، فقد حاد عقل الفرد والجمع عن الجادة ، وليس يُعْصَمُ إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يَعْصِمُ إذ سلم من النقص والهوى والحظ . والله أعلى وأعلم . |
#7
|
|||
|
|||
![]() فالعلم المحيط قد تَنَاوَلَ التَّكْلِيفَ كَمَا التَّكْوِينُ ، فإن النبوات المنزلة من علم أول قد استغرق ، فكلماتها الخبرية والإنشائية مما تقدم في الأزل ، وهو قياس يَنْصَحُ ، فإن مَنْ عَنْهُ كلمات التكوين تصدر وبها الإيجاد والتدبير المحكم ، فَعَنْهُ أخرى تحكي لُطْفًا وَخِبْرَةً : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من الاستفهام ما يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، ولا يخلو من دلالةِ تَقْرِيرٍ ، إذ يجاب عنه بِالنَّفْيِ ، فَيُقَالُ : بَلَى ، ويكون من ذلك إثبات يُصَدِّقُ ، فهو ، جل وعلا ، يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، ودلالة "مَنْ" : دلالة الوصل الذي دَلَّ بأصل الوضع الأول في معجم اللسان المفرَدِ عَلَى الجنس العاقل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما جاوز العلم المحيط ، فَثَمَّ من العلم ما أحاط بالجنس العاقلِ وَغَيْرٍ مِمَّا لَا يَعْقِلُ ، بَلْ وَمَيِّتٍ لا حياة فيه ، وَلَوْ حَيَاةَ الحيوانِ بل والنبات الأدنى ، فَثَمَّ خلق الأجرام والأرض وما عليها من جبال وحجر ، وما عُدِنَ فِيهَا مِنْ مَعْدنٍ وجوهر وما كان من أجساد قد بليت فنالها الكائن الدقيق بما يفرز من مادة تهضم وَتُحَلِّلُ ، وكان من تعاقب الدهور وزيادة الضغوط ما به خلق جديد في الأرض قد صُنِعَ على مكثٍ بما كان من سنن محكم في التحويل ، فحصل منه كَنْزٌ قد اقْتَتَلَ عليه الخلق وكان لأجله الغزو والفتح ! ، ولو المحدَث الذي يقتل الإنسان ويهدم البنيان ويفسد العمران كافة ، إذ يصدر عن مرجع من الذات هو المحدَث فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى سبب لدى غَيْرٍ إن على ظاهر الأرض أو هو مما عُدِنَ في بَطْنِهَا أحقابا تطول حتى كان منه ما يُهَيِّجُ النفوس أن تطلبه عدلا أو ظلما ، فكان من ذلك ما نَالَهُ الخلق بأسباب من الكائن تَدقُّ ، على التفصيل آنف الذكر ، فَهُوَ من جنسِ الخلق ، إذ منه الإيجاد من العدم ، ومنه آخر من موجودٍ حَادِثٍ أن يتحول إلى آخر ، ولا يخلو من إعجازٍ لِمَنْ تَدَبَّرَ السننَ المحكَم ، فَتِلْكَ آيةُ ربوبيةٍ تَنْصَحُ ، إن ربوبيةَ الخلق أو أخرى بها العناية بما رُكِزَ في الأرض من ذخائر قد تحولت عن أخرى ، فكان مِنْ أُولَئِكَ جَمِيعًا ما جاوز الخلق العاقل ، فدلالة "مَنْ" ، من هذا الوجه ، خاص يُرَادُ به عام ، إذ تُجَاوِزُ العاقلَ إلى غيره ، وهو مِمَّا به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، إذ ثم مجاز الخصوصية فَقَدْ أطلق الخاص وهو الموصول الدال على العاقل "مَنْ" ، وَأَرَادَ عاما يجاوز فهو يستغرق العاقل وغيره ، وله من ذلك شاهد عموم قد استغرق من آي التنزيل المحكم ، فـ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، ومن ينكر المجاز فقد حَدَّ من الاستثناء الذي يشهد له اللسان بأصل وضع أول ، فقد حد من هذا الاستثناء مواضع هي الحقيقة وبها استعمال "مَنْ" في دلالة عامة تستغرق العاقل وغيره الاستغراق التام الذي يَتَنَاوَلُهُمَا جميعا على حد شمول أول ، فذلك العموم لدى المبدإ دون حاجة تلجئ أَنْ يَتَكَلَّفَ الناظر من المجاز ما به خروج عن الأصل ، فَمَا يُخْرِجُ المستدِلَّ عن الأصل وهو ما يثبت أولا دون تكلف لدليل ، بل ثم من الآي المحكم حكاية نص يرفع احتمال المجاز إن في الخلق كما تقدم من قوله
![]() فالاستثناء ، ومنه المجاز آنف الذكر ، الاستثناء لا يُصَارُ إليه إلا ضرورةً تُقَدَّرُ بالقدرِ ، ومتى جاز الأصل فَلَا يُصَارُ إِلَى الاستثناء ، فالأصل في الكلام الحقيقةُ فلا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر حملان الكلام على الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، إذ ما خالف عن الأصل الأول فعنه يسأل بِلِمَ ؟ ، وما يستصحب لدى المبدإ ، فلا يفتقر إلى دليل ، فهو يستصحب الأصل فلا يلزمه دليل ، كما أن الفقيه يستصحب العدم الأصلي في باب التكليف الشرعي ، فالأصل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تُشْغَلُ إلا بِدَلِيلٍ أَخَصَّ ، هُوَ في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فإذا كان الدليل الناقل عن الأصل من بَرَاءَةٍ إلى اشتغال ، فهو زيادة علمٍ بَيِّنَةً من خارج الدعوى ، دعوى اشتغال الذمة بِتَكْلِيفٍ يَزِيدُ ، فتلك دعوى تزيد فلا تُقْبَلُ إلا بدليل من خارجها ، فلا يكون الدليل هو عين الدعوى ، إذ هي صورة الخلاف ، والاستدلال بها فَاسِدٌ ، ولو كانت جائزة فِي نَفْسِ الأمرِ ، فَالتَّجْوِيزُ العقلي المحض لا يَصِحُّ دليلا في إِثْبَاتِ ولا نَفْيٍ ، إذ لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وَبِهِ يَصِيرُ الواجبَ الثابتَ ، فلا يكون الجائز دليلا ، وهو ، باديَ الرأيِ ، يَطْلُبُ دَلِيلًا ، فلا يصح مقدمة في الاستدلال تَسْلَمُ مِنَ اعْتِرَاضِ الخصمِ ، ولو رُدَّ جَائِزٌ إِلَى مِثْلِهِ لَكَانَ التَّسَلْسُلُ فَلَا يَحْسِمُ مَادَّتَهُ إلا أول إليه تَنْتَهِي الأدلة كَافَّةً ، فهو الواجب الثابت لدى المبدإ ، وذلك القانون العام الذي استغرق الخلق والشرع كافة ، فلا يستقيم الأمر إلا أن يكون ثم أول هو المطلق فلا أول قَبْلَهُ لا في الكون فهو الرب الخالق ، ولا في الشرع فهو الإله الحاكم ، ومرد كل أولئك إلى العلم الأول المحيط ، العلم الجامع الذي استغرق التقدير والتشريع كافة ، كما تقدم من قوله ![]() ![]() وكذا العلم يجاوز فَيَسْتَغْرِقُ ما كان من تأويل في القول والفعل يَكْشِفُ ، فَثَمَّ علم تال هو ظهور وانكشاف لما ثبت أولا في الأزل ، وله دليل يشهد بما كان من علم إحصاءٍ يَجْمَعُ ، وله أخير في كتاب ينطق بالحق المحكم ، فذلك العلم الذي تناول المعلومات كافة ، وثم منها : علم التكوين وآخر من التشريع إذ يُنْزِلُ من الخبرِ والحكمِ ما يُصْلِحُ الفرد والجمع كَافَّةً ، فهو ، جل وعلا ، الأعلم بالخلق ، فمن قدر ماهياتهم في الأزل وعلم من دَقَائِقِهَا ما يستغرق ، فهو ضرورة من يعلم ما يصلح هذه المحال إِنْ مِنْ أسبابِ الكون بما أَنْزَلَ لها من الرزق ، فالطيب يُصْلِحُهَا وَيُقَوِّيهَا والخبيث يفسدها وَيُضْعِفُهَا ، أو من أسباب الشرع بما أنزل من الوحي ، الخبر والحكم ، وبهما تنصح القوة العلمية تصورا في الجنان هو المبدأ ، والقوة العملية حكما في الأركان هو الشاهد المصدِّق . فكان من الاستفهام آنف الذكر في قوله ![]() ![]() ![]() فَثَمَّ ضمير هو من جملةِ عوائِدَ تَرْجِعُ إِلَى مبتدإٍ هو الأول في المنطِق ، فالأمر ، لو تدبر الناظر ، يجري مجرى القسمة في العقل ، فَثَمَّ جنس عام لا أعم منه ، وهو جِنْسُ الرَّابِطِ مُطْلَقًا ، الرَّابِطِ بَيْنَ المبتدإ والخبر ، وتحته أنواع ، فَثَمَّ إعادة المبتدإ لفظا أو معنى ، وثم الضمير محل الشاهد ، وهو في نَفْسِهِ جِنْسٌ لِمَا دونه من أخبارٍ تَتَفَاوَتُ فِي تَحَمُّلِهَا الضَّمَائِرَ ، فَثَمَّ الفعل وهو أقواها في التحمل ، ودونه اسم الفاعل ، فهو يعمل عمل المضارع خاصة ، وإن فَرْعًا عنه ، والفرع بداهة أضعف من أصله ، ودونه مِثَالُ المبالغة ، وهو مما اشترط في حَدِّهِ أَنْ يُشْتَقَّ من مُتَعَدٍّ كما اسم الفاعل ، وإن كان من كليهما في الحد ما يواطئ في جنس الاشتقاق : الوصف المشبه ، فمن الوصف المشبه ، وهو دونهما في العمل وَتَحَمُّلُهُ للضميرِ أَضْعَفُ ، من الوصفِ المشبَّه ما يضاهيهما في الميزان ، ميزان الاشتقاق ، كما "طاهر" من "طَهُرَ" ، وبصير من بَصُرَ ، فالأول يضاهي اسم الفاعل في مِيزَانِ "فاعل" من الثلاثي ، ولكنه من اللازم إذ حده في المعنى أنه من أفعال السجايا وهي مما يلازم صاحبها ، وكذا بصر فهو مما لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد اشتق منه في الحد ما يُضَاهِي مثال المبالغة "فعيل" ، وكذا في شريف من شَرُفَ ، ونظيف من نَظُفَ ، وجميل من جَمُلَ ، وقبيح من قَبُحَ ، وكريم من كَرُمَ ، فكل أولئك من وصفٍ مُشَبَّهٍ لَا يَتَعَدَّى بنفسه ، وإنما يتعدى بِغَيْرٍ ، وإن حُدَّ حَدَّ "فعيل" وهو مثال المبالغة ، فكان من تَحَمُّلِ الوصفِ المشبَّهِ الضميرَ ما هو دون الفعلِ واسمِ الفاعلِ ومثالِ المبالغةِ ، فاسم اللطيف والخبير في الآية : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ذلك مما تَحَمَّلَ الضمير الذي يرجع إلى مبتدإ هو الأول ، الضمير "هُوَ" ، وهو واحد ، وَإِنْ أُخْبِرَ عنه بِأَكْثَرَ مِنْ وصفٍ ، كما اللطف والخبرة ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما يجري مجرى التكافُؤِ ، وحده في الدلالات أنه الجامع بين الترادف من وجه ، والتغاير من آخر ، وليس ثم تعارض في هذا الجمع ، إذ انفكت الجهة وافترق الحد ، فجهة الترادف بالنظر في الدلالة الْعَلَمِيَّةِ ، دلالة الاسم على المسمَّى في الخارج ، فاسم اللطيف والخبير والعليم والكريم ..... إلخ ، مما يدل على مسمى واحد في الخارج ، وهو الذات القدسية وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فكان من ذلك الاسمِ الْعَلَمِ تَوْحِيدًا في الباب ، فالذات واحدة وإن تَعَدَّدَتْ صِفَاتُهَا ، بل ذلك مما يحسن في الثناء على المخلوق المحدَث ، أن يكون له من وصف الكمال ما يَكْثُرُ ، فكيف بالرب الأعلى ؟! ، هو بكلِّ ثَنَاءٍ أولى ، وذلك ما يجري مجرى قياس الأولى ، وهو وحده ما ينصح في الإلهيات الخبرية وَإِنِ اشْتُرِطَ لَهُ قَيْدٌ عام في نصوص الشرع عامة ، والخبريات المغيَّبَةِ خاصة ، وهو قيد الثبوت أولا بَدَلِيلٍ يَنْصَحُ إِنِ المتواترَ أو الآحاد ، فمعيار الباب : خبر صحيح هو الأول ، وهو ما قد يَتَعَدَّدُ في الوصف ، كما الآي آنف الذكر : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وليس ثَمَّ عاقل يَزْعُمُ بَدَاهَةً أن ذلك مما يُفْضِي إلى الشرك ، أن يكون ثم تَعَدُّدٌ لِقُدَمَاءَ فِي الأزلِ قَدِ اسْتَقَلَّ كُلٌّ بوجودٍ في الخارج يَنْفَصِلُ ، فذلك مما لا يتصور إلا في الذهن ، أن يكون ثم تجريد لذات لا وصف لها ، وآخر لأوصاف تُطْلَقُ في المبنى والمعنى كما العلم والحكمة ..... إلخ ، فَلَيْسَ ثَمَّ في الخارج منها ما يَسْتَقِلُّ بذاتٍ ، خلافا لفلاسفة قد أَمْعَنُوا في التجريد حتى جَوَّزُوا ما يخالف ، ضرورةً ، عن النقل والعقل والفطرة والحس وبدائه الاستدلال لدى كل نَاظِرٍ يَفْقَهُ ، فقد جَوَّزُوا حصول المطلقات بشرط الإطلاق إذ تُجَرَّدُ من كلِّ قيدٍ ، فَجَوَّزُوا حصولها في الخارج فَيُقَالُ : هذا العلم وهذه الحكمة إشارةً بالحس ، فذلك مما لا يكون في الخارج إلا مُقَيَّدًا بذاتٍ تُوصَفُ به فليس ثم في الخارج إلا العليم والحكيم إن الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وهو الواجب ، واجب الوجود لذاته ، أو المخلوق فمن آحاده من يَصْدُقُ فيه وصف العليم والحكيم ، وإن الجائز ، بادي أمره ، فهو يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، فَقُيِّدَ الوصفُ بذاتٍ ، فلا يستقل بوجود في الخارج ، وإنما يقوم بذات : قيام الوصف بالموصوف ، ويكون منه في باب الإلهيات خاصة : اشتقاق الاسم ، لا اشتقاق ما لم يكن قَبْلًا فهو المحدَث ، وإنما اشتقاقٌ في معيارِ اللِّسَانِ بِمَا تَوَاتَرَ من ميزانٍ قد اسْتُنْبِطَ من المأثور نَظْمًا أو نَثْرًا ، وهو العمدة في الباب ، باب النطق الذي يجاوز ما تَبَادَرَ من بَيْعٍ وشراءٍ .... إلخ من عقود وإجراءات في دنيا الخلق ، فلولا النطق ما كان الفهم ، وما كان في الدنيا عقد يَنْصَحُ ، فإنه لا ينفك يطلب من البيان ما يُفْصِحُ ، إِنْ نُطْقًا أو كَتْبًا ، أو جَمْعًا بينهما يَسْتَوْثِقُ لا سيما في أعصار تأخرت قد فَسَدَتْ فِيهَا الذِّمَمُ إلا ما رحم الله جل وعلا ، فَثَمَّ ما يجاوز ذلك من تَصَوُّرِ المعاني الجامعة ، وهي مما يميز كُلَّ أُمَّةٍ ، لا جرم كان لكلٍّ ما اخْتُصَّ بِهِ من شرعةٍ ومنهاجٍ ، وهو ، أيضا ، مِمَّا قد جَاوَزَ في الحد ، الأمر والنهي ، والخبر إِنْ بِإِثْبَاتٍ أَوْ بِنَفْيٍ ، فهو يحكي روحا أخص ، روح التشريع الباعث والمرجع الحاكم ، وذلك مما تظهر آثاره في الخارج ، أخلاقا وسلوكا بل وعوائد في الجبلة ، والقياس أنها مما اشترك فيه الخلق كافة ، فكان من دَقِيقٍ في تناولها يميز ، ولو في جنس المطعوم أو المشروب ، وما يكون مِنْ تَصَوُّرٍ له لِمَ كان في هذا الكون ؟! ، وهل ثم غاية تدرك فهي تجاوز وظيفة الحيوان إذ يمضع ويهضم لَذَّةً وَيُخْرِجُ بعدا الفضلَةَ ؟! ، أو أن ثم أخرى أَشْرَفُ تُوجِبُ نَظَرًا به امتاز الإنسان من الحيوان الأعجم ، فكل أولئك مما افْتَرَقَ فيه البشر ، ولو في عوائد الْجِبِلَّةِ مِنْ مطعَم ومشرَب ومنكَح ...... إلخ ، فَثَمَّ ، أيضا ، قَدْرٌ قد اشْتَرَكَ فيه البشر كافة ، بل وَبَعْضٌ من أنواع الحيوان الأعجم ، فتلك مَاهِيَّةُ الفعلِ إذ يُبَاشَرُ مجرَّدًا من البواعث والقرائن ، فالحيوان لا باعث له إلا هداية تكوين أولى بها يطلب سَبَبَ حياةٍ بِهِ يَبْقَى إذ يطعم ويشرب مع لذة لا يجاوزها عقله وقضاءِ وطرٍ لا يطلب منه ولدا يُرَبِّيهِ لينهض بوظائف تَشْرُفُ ، فغايته أن يَسْتَبْقِيَ النَّوْعَ ويحفظَ ، وهو ، مع ذلك ، لا يعقل ذلك العقل التام إلا ركز فطرة لا تجاوز ، كما تقدم ، هداية تكوين أولى قد اشترك فيها الخلق كافة ، وبها نطق الكليم إذ لفرعون يجيب أَنْ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فكان من ذلك عنوان ربوبية جامع ، وذلك حد الإضافة في "رَبُّنَا" ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والبيان ، فَهِيَ نَصٌّ في العموم ، إذ الإضافة إلى الضمير تحكي التعريف في المبنى ، من وجه ، والتعميم في المعنى ، من آخر ، فتلك ربوبية قد عمت ، من وجوه ، فَثَمَّ عموم المعنى إذ استغرقت ربوبية الإيجاد والتدبير ، التكوين والتشريع ، فهي ، من هذا الوجه ، مَعْدنُ توحيدٍ عام قد اسْتَغْرَقَ الخلق والحكم كَافَّةً ، فالخلق بالتكوين والحكم بالتشريع ، ومن ذلك اسم ربوبية يَتَبَادَرُ في الخلق ، واسم ألوهية يَتَبَادَرُ في الشرع ، وهو ما افْتَقَرَ إلى معيار يُبِينُ من النطق ، وبه حد الخبر والحكم ، وذلك ما افْتَقَرَ ضرورةً إلى مرجع أول من نَظْمٍ أو نَثْرٍ يُؤْثَرُ عن سَلَفٍ أول ، بِلِسَانِ الوحي قد نَطَقَ بداهةً بلا تَكَلُّفٍ نحوٍ أو صرف أو معان ! ، وبه ، أي : النظم والنَّثْرُ الأول ، به دَرَكُ قانونِ اللسان الذي حُدَّ به الشرع ، مع أخرى أدق ، كما يقول أهل الشأن ، فاللسان ليس أداة تعامل في الخارج بما به عقود البيع والشراء .... إلخ تنعقد ، بل له من أخرى أَشْرَفُ إذ يميز كل أُمَّةٍ من غيرٍ ، لا امتياز اللسان مجردا ، وإن كان ذلك معتبرا في حكاية العقد الجامع ، عقد الفكرة أو الحركة ، بل ثم آخر يجاوز إلى روح حكمة وشرعة وآداب وأخلاق ، فاسم الشهامة والمروءة والقناعة ...... إلخ مثالًا ، ذلك مما يَعْسُرُ أن يجده ناظر في مقال لا نسبة له إلى السماء تَنْصَحُ ، ولو في الجملة ، فَتِلْكَ ألفاظ ذات دلالات أخص فهي تحكي أخلاقا وطبائع لا تستوي فيها الأمم ، بل لِبَعْضٍ فيها امتياز بما كان من عوائد وأعراف ، وإن كان ثَمَّ ما يَتَغَيَّرُ ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، كما يقول صاحب المقدمة ![]() ![]() ![]() فَكَانَ مِنْ سُلْطَانِ الجور الذي عَطَّلَ الدين والدنيا وَعَمَّ فسادُه كُلَّ أمرٍ ، دَقَّ أو جَلَّ ، كان منه ما استحل بِهِ الخلقِ : الدم والعرض وسائر الحرمات ، وأفسد منهم الأخلاق والعادات ، فلا يطيق لهم حكما إلا أَنْ يُفْسِدَهُمْ وَيُصَيِّرَهُمْ شِيَعًا ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا على واحد من الفكرة يَشْرُفُ ، وكان لهم من ذلك مرجع ينصح ، مرجع الوحي والعدل ، ولو العدل المحدَث في الأرض فكيف بآخر من السماء يَنْزِلُ ، فلو كانت تلك حالهم ما أطاق طاغوت أن يَتَرَأَّسَ ، إذن لوجد من قوة الجمع ما يدفع صائله على الدين والدنيا كافة ! ، فكان من مثال الحكم المحدث ، وله قانون في اللسان يجاوز ما تقدم من عادات يستوي فيها الخلق ، فَلَهُ لسانُ فكرةٍ وشرعةٍ تحكي روح سيادة محدَثة لا نسبة لها إلى الوحي تنصح ، وإن زخرفت القول أنها تَنُوبُ عَنِ الأمة والجمع ، إِنْ بِاسْمِ الأمة الجامع ، أو آخر هو الشعب آحادا قد اقْتَسَمُوا المادة ، مادة السيادة ، فلكلٍّ منها حظ ، وباجتماعهم يكون الأمر والنهي ، فلهم سيادة في ذلك تطلق ، وذلك ما زخرف الواضع ووسوس ! ، وإنما اتخذهم ذريعة أن يطغى ، فقد نَالَ منهم ولاية ونيابة ، صَدَقَ في دعواه أو كَذَبَ ، ولو صدق فالمصيبة أعظم فقد اختاروا الباطل طوعا بما بُدِّلَ من الفكرة وَحُرِّفَ ، إذ نَزَعَ سيادة الأمر والنهي من النبوات وَصَيَّرَهَا إلى عقلٍ محدَث لا تَنْفَكُّ الأهواء والأذواق تَتَنَازَعُهُ ، وَزَيَّنَ من ذلك ما به استخف الجمع أنه يصدر عن أمرهم ، وهو من أطرهم على جادة تواطئ ما يهوى بما احتكر من أداة القوة : فكرةً وثروةً وحركةً ، فهو من يضع القول الحاكم شرعةً ، وَيُوَزِّعُ العطاءَ الناجز رغبةً ، ويبطش بالسيف القاطع رَهْبَةً ، فمن ذا ينازعه المنصب ، وقد جاوز السياسة والحكم إلى الفكرة والشرع فصار هو المرجع الحاكم الذي يأمر وينهى ، وهو قَبْلًا مرجع التصور حسنا وقبحا إن في الأخلاق أو في الأفكار ، وذلك ما استوجب أداة من اللسان والبيان ، فهي تجاوز ، كما تقدم ، ما يكون من أمر الدنيا ، فاللسان دين الجمع ، دِينُ الْخُلُقِ وَالْحُكْمِ ، دينُ التَّصَوُّرِ الباعثِ والحكم الصادرِ عنه في الخارج ، فلكلِّ أُمَّةٍ من ذلك شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ يَمِيزُ ، ولو كان ثم أول من الاشتراك في أجناس المعاني الكلية ، فلا ينفك كلٌّ يصدر عن آخر أَخَصَّ ، فَلَهُ من الغايات العاجلة أو الآجلة ما حُدَّ له في المعجم ألفاظٌ ذات دلالات تجاوز الإجراء إلى آخر من المعيار ، معيار القيم والأخلاق ..... إلخ ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعالِ الجبلة ما لا امتياز به في شرعة أو فكرة إلا ما تقدم من آداب لا تنفك تحكي روحَ تَصَوُّرٍ وَحُكْمٍ يَحُدُّ معيارَ الحسن والقبح وما تلا من إباحة وحظر ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعال الجبلة ما استوى فيه جنس البشر كله ، بل وشاطرهم الحيوان الأعجم في بَعْضٍ هو الأدنى إذ يحكي شطر الحيوان الطيني وهو معدن شهوات في الحس قد اشترك فيها الإنسان الناطق والحيوان الأعجم ، فلا امتيازَ ، بِهِ يَشْرُفُ العاقلُ ، فإنه لا يمتاز بداهة أنه يأكل ويشرب وينكح ، بل ثم من جنس الحيوان ما هو في الباب أَعْرَقُ ! ، فهو يأكل ويشرب أكثر ، وحظه من المباضعة أعظم ، إذ قوته في ذلك أعظم ، فيمدح منه ما يأكل أكثر ، ويمدح منه الفحل الذي يَنْزُو ! ، فالعاقل لا يَرْضَى امتيازًا في هذا الشطر الذي يُوَاطِئُ فيه الحيوان الأعجم ، وإنما امتاز بآخر هو الفكرة والشرعة ، وهي ما حُدَّ في الخارج كلماتٍ بها التصور والحكم ، وتلك خاصة النطق التي شَرُفَ بِهَا الإنسانُ ، فَلَيْسَ يَقْتَصِرُ على كلماتِ البيعِ والشراءِ ، بل ثم أخرى أشرف من القيم والأخلاق ، وَأَنْصَحُهَا ما يكون من وحيٍ له في الخلق سيادةٌ تُطْلَقُ ، وحكومته فيهم تُرْضَى إذ قد سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمُوا منه من الهوى والحظ وعوارض الجبلة إذ تفتقر إلى أسباب في الخارج ، ولأجلها يكون التدافع ، فإن لم يكن ثم ما يأطر من وحي يَتَنَزَّلُ فالأمر إلى فوضى تَسْتَغْرِقُ ، إذ ليس ثم مرجع يجاوز من خارج فلا يناله من وصف النقص ما نالهم ، ولو بأصل الخلق الأول ، فالكلام ، من هذا الوجه ، خاصة تجاوز الإفهام المجرد وإن امْتَازَ بِهَا الإنسان من الحيوان الأعجم ، بل ثم أخرى أشرف خاصة الدين والخلق ، فَلَهُمَا في معجمِ كُلِّ لسانٍ ما يحكي المرجع والمصدر ، ولو في أفعال الجبلة التي تناولها اسم الرب في جواب الكليم آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فالربوبية ، كما تقدم ، جنس أعلى يجاوز فهو العام الذي لا أعم منه ، إذ استغرق وجوه الدلالة كَافَّةً ، التقدير الأول في علم محيط يستغرق ، والإيجاد الذي يَتَأَوَّلُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلِ : تَأْوِيلَ التَّصْدِيقِ فِي الخارج بما يكون من وجود تال يخرج المقدور الأول من القوة إلى الفعل المصدِّق ، والتصوير لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ إِبْدَاعًا بِهِ امتاز الخالق ، جل وعلا ، من غَيْرٍ ، فمن يخلق سواه الخلق المطلق من غير شيء أول ؟! ، فليس يجاوز غيرُه في الوصف أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا كَانَ أَوَّلًا من عِلَّةٍ مادية أو هَيُولَى باصطلاح المناطقة ، فهي مادة أولى يَتَنَاوَلُهَا فلم يستحدِثْهَا من العدم ، وإنما أخذ منها ما وَجَدَ ، ثُمَّ صَيَّرَهَا إلى أخرى بما يكون من سنن في التحويل من صورة إلى أخرى ، فليس ذلك خلقا من العدم ، وليس إبداعا لما ليس له مثال في الخارج ، وإن كان منه اكتشاف في علم التجريب المحدَث ، فلم يُوجِدْ من السنن ما به التحويل يتم ، ولم يُوجِدِ المادَّةَ الأولى الذي صَدَرَ عَنْهَا في بحثه وتجريبه ، إِنْ بسيطةً أو مركَّبةً ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَنَالُهَا حتى يبلغ بها أولا لا أول قبله حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فذلك من يعلم ما خلق علم التقدير آنف الذكر ، وآخر من الإيجادِ المصدِّق ، وثالثا من التصوير المبدِع لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وَرَابِعًا من التدبير المحكم ، وهو ما عم فَتَنَاوَلَ سَنَنًا من الخلق قد اسْتَوَى فِيهَا كُلُّ شيءٍ محدَث في الخارج ، وآخر من الشرع ، فَالسَّنَنُ ، أَيْضًا ، ليسَ مِمَّا يخلق استقلالًا كما زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَهُ في علم التجريب حظ ! ، فلم يُرْزَقْ زَكَاءً يَشْفَعُ ذَكَاءً ، كما قال بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ قَبْلًا وهو يَصِفُ من أبناء جيله مَنْ ضَلَّ وأحدَث فجاء بما يخالف عن بدائه العقل والحس وإن زعم أنه فيهما ذو فقه نظر ، فكان مِنْ آخرَ تالٍ مَنْ خالف عن معيار الضرورة في القياس إذ صَيَّرَ السنن المحكم الذي به تدبير هذا الكون المتقن ، صيره هو الخالق الأول ، وهو في نفسه الجائز الذي يفتقر إلى أول يُوجِبُ ، فهو من يخلقه ويجريه على جادة محكمة وَيَركزُ فيه قُوَّةَ تَأْثِيرٍ إذا استجمعَ السببَ والمحلَّ الذي يُبَاشِرُهُ ، فيركز في السبب قوى تُؤَثِّرُ ، وفي المحل أخرى تَقْبَلُ ، ويكون من السنن المحكم ما عنه الأثر يظهر ، فكيف يكون ذلك عبثا بلا خالق أول لا أول قبله ؟! ، أو يكون مرد الأمر إلى السنن الذي عليه السبب يجري ؟! ، بل ثم تسلسل آخر في التأثير أزلا يوجب رَدَّ الأمر إلى خالق أول لا أول قبله ، فهو من خلق الأسباب والمحال ، وهو من أَجْرَاهَا عَلَى سنن محكم به تدبير هذا الكون المتقن أعيانا وأحوالا بها تقوم ، وكل أولئك مما استغرقه اسم الربوبية الأعم في الجواب آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فتلك ربوبية العلم أولا ، علم التقدير في الأزل ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما عم فاستغرق الأشياء في الخارج كلها ، الأعيان والأحوال ، الاضطرار من أفعال الجبلة والاختيار ومنه محل شاهد في آي تقدم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَكَانَ مِنْ سِبَاقٍ تَقَدَّمَهُ أَمْرٌ به التحدي أن : (أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ، فكان من ذلك طباق إيجاب بالنظر في الأجناس الدلالية المجردة وهي من مواد المعجم المفردة : السر والجهر ، أو هو من المقابلة بالنظر في الجمل : جملة "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وبهما استيفاء لأجزاء القسمة في الخارج إمعانا في التحدي والإعجاز وَبَيَانًا لإحاطةِ الجلالِ ، فالعلم في سياق الإحصاء لما كان من قول وفعل ، العلم في هذا السياق مَئِنَّةُ جلالٍ ، وهو ما حَسُنَ فِيهِ الإطناب آنف الذكر ، الإطناب بالطباق إيجابًا أو المقابلة ، مع عموم يجاوز من وجوه ، فَثَمَّ عموم يجاوز دلالة الواو أولا في "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وهي تحكي جمع الذكور المستغرِق ، فَثَمَّ من التغليب ما يَتَنَاوَلُ كلَّ محلٍّ لقرينة تُسْتَصْحَبُ أَبَدًا في الباب : قرينة التغليب في خطاب التشريع ، وثم آخر قد استغرق الأقوال كافة إذ أُضِيفَتْ إلى الضمير في "قَوْلَكُمْ" ، فتلك إضافة رفدت المفرد من القول فصيرته نصا في الجمع على تقدير الأقوال أَنْ : أَسَرُّوا أَقْوَالَكُمْ ، مع آخر قد تَنَاوَلَ الأفراد ، فَثَمَّ ضمير الجمع الذي استغرقهم ، وثم ثالث من العموم يجاوز القول إلى الفعل ، فذكر القول ، من هذا الوجه ، يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ مع آخر من الفعل ، وقد يقال إن ذلك من باب الحذف ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#8
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط ، كما تقدم ، قد اسْتَغْرَقَ التكوين والتشريع كافة ، ومن التكوين ما تَنَاوَلَ الميت من الأجرام والجبال وما عُدِنَ فيها من الكنز والمعدن ، فَتَنَاوَلَ الميت كما الحي من أعيانٍ تَتَفَاوَتُ فحياتها مما اختلف من نَبَاتِيَّةٍ دُنْيَا إلى حيوانية عُلْيَا ، والحيوانية في نَفْسِهَا تَتَفَاوَتُ ، وأكملها ، بداهة ، ما كان من حياة الإنسان العاقل المكلف الذي امتاز من الخلق كَافَّةً بما رُكِزَ فيه من قوة أخص بها التصور والحكم ، حكما يجاوز الاضطرار من حركة أحشاء ، أو آخر من اختيار الجبلة فلا يجاوز المطعم والمشرب والمنكح غَرِيزَةً ليس لها من العقل ما يَنْصَحُ ، فتلك خاصة الإنسان ذِي الْقَيْدِ الَّذِي به يميز الحسن من القبيح وإن في أفعال الجبلة الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جِنْسُ الحيوان كلُّه ، فتلك خاصة الإنسان إلا أن يخالف عن معيار الشرعة والفطرة فإذا به يَنْحَطُّ إلى دَرَكَةٍ دون الحيوان الأعجم ، وتلك مَذَمَّةُ الدهرِ كلِّه ، لو تدبر من له أدنى مسكة من فهم ، وإن لم يكن رائدُه في النَّظَرِ الوحيَ ، فكيف إن كان من الوحي رائد ينصح فهو يستنقذ العقل من هذا المأزق ، وَيَرْقَى به إلى درجة التكليف ، فلا يكون هو والحيوان في دركة الغريزة المطلقة ، بل الحيوان في تلك الحال أنصح ، فَلَهُ من تَسْبِيحِ الاضطرارِ ما فات العاقل المكلَّف إذ حاد عن جادة الوحي المحكم ! .
فكان من علم التكوين آنف الذكر : عِلْمُ حياةٍ قد عم فاستغرق النبات والحيوان والإنسان ، بل وما دونها من الخلق : دَقَائِقَ ذات ماهية تَلْطُفُ ، وهي كخلق الأجنة في الأرحام ، فَقَدْ خَفِيَ في الماهية أولا ، فصدق فيه أنه من الغيب ، وإن النسبي لا المطلق ، فكان من بَحْثٍ وتجريبٍ قد تَلَا ما أبان عن وجوه من هذا الموجود الدقيق ذي الخلق اللطيف ، وهو مما أعجز بِنَظَرٍ أخص إذ تَنَاوَلَ من السَّنَنِ المحكَمِ في التقدير والإيجاد وما يكون من الحركة والاغتذاء ..... إلخ ، تَنَاوَلَ مِنْهَا مَا لَا يَسْتَقِيمُ في أَيِّ عَقْلٍ يَنْصَحُ أنها قد وُجِدَتْ بلا موجِد أول ، فلم يكن إلا الخبط والعبث الذي قَرَّبَ كُلَّ قولٍ ، ولو الفرض المحض ، وَأَبْعَدَ ما قد دَلَّ عليه صريح العقل من مقدِّمَةِ ضرورةٍ أولى في العلم ، أن لهذا الإبداع في الخلق مبدِعًا ، وأن لهذا الإحكام في السنن محكِمًا ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وحكمة بالغة مع آخر في الخارج يَتَأَوَّلُ من قدرةٍ نافذة ، بها خروج المعلوم المقدَّر من القوة إلى الفعل ، من الغيب إلى شهادة تصدق ، فهي ، أيضا ، لله ، جل وعلا ، وحده ، إذ لا يكون وجود تال يصدق إلا بكلم تكوينٍ يَنْفُذُ ، وهو العلة التامة التي تُرَدُّ إِلَيْهَا العلل كَافَّةً ، وذلك ما نَصَّ عليه الوحي في مواضع من التنزيل تَسْتَغْرِقُ ، فـ : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) ، فذكر الغيب في موضع كما تقدم من قوله ![]() وكذا يقال في الغيب والشهادة في المثال آنف الذكر ، فَثَمَّ من أجرى ذِكْرَ الغيب وحده ، مَنْ أجراه مجرى المجاز ، مجاز الخصوصية أو الجزئية ، إذ أطلق خاصا من الغيب وَأَرَادَ عَامًّا قد استغرق المعلوم كافة ، الغيب والشهادة ، أو هو قد أطلق جزءا من قسمة العقل : غَيْبًا وشهادة ، فأطلق جزءا وهو الغيب ، وَأَرَادَ كُلًّا قد تَنَاوَلَ أجزاءَ القسمة كَافَّةً ، أو هو ، من وجه ثالث ، مما يجري مجرى المجاز حذفا ، على تقدير : ولله غيب السماوات والأرض وشهادتُهما ، فَحَذَفَ الشهادة إذ دَلَّ المذكور من الغيب عليها دلالة الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ ، فهما ، كما تقدم ، قَسِيمَانِ لجنسٍ أعلى في الذهن يجرد ، وهو جنس العلم المطلق ، فكل أولئك من تَكَلُّفٍ لا يخفى ، فإن الغيب يدل على الشهادة من باب أولى ، فَمَنْ عَلِمَ الخفي فهو ، بداهة ، يَعْلَمُ الظاهر ، فلا يجد الناظر حاجة أَنْ يَتَكَلَّفَ من المجاز ما يدق ، وليس كل أحد يفقه منه الدلالة ، مع نص آخر في مواضع قد حسم الخلاف في الباب ، فنص على الغيب والشهادة كافة ، كما في قوله ![]() فالأول ، وهو الغيب ، مقدور ، والثاني ، وهو الشهادة ، موجود ، وثم من التأويل ما به المقدور المغيَّب يَصِيرُ تَالِيًا من الموجود الذي يشهد ، وهو ما انشعب ، كما تقدم ، فمنه ما يُشْهَدُ بالحسِّ الظاهرِ ، ومنه آخر قد استوجب بحثا يدق ، ومنه ثالث هو الموجود وإن لم يشهد ، فليس بالحس أو البحث يدرك ، وعدم وجدانه بالحس والبحث لا يَسْتَلْزِمُ عدم وجوده في نفس الأمر ، بل قد يوجد ولا يدركه الحس ، فليس علم التجريب إِلَّا مَسْلَكًا من جملةِ مسالك بها العلم يُنَالُ في الخارج ، فليس وحده ، بل وَلَيْسَ في الباب الأول ، إذ اقتصر على المشهودات ، بل لا يطيق منها بَعْضًا يَلْطُفُ ، فَمَا زَالَ منها ما لا يدرك ، والبحث في كلِّ جيلٍ يكشف من ذلك الغيب ما به ، لو تدبر الناظر ، الحجة تُقَامُ ، فتلك آيات الأنفس والآفاق ، وَهُوَ مَا صُدِّرَ في آي آخر قد أحكم ، أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، مَا صُدِّرَ بحرف في الدلالة يستقبل ، ولا يخلو من دلالة بها الفعل يُقَرَّبُ ، فَذَلِكَ مِمَّا اطَّرَدَ فِي كُلِّ جيلٍ ، فَبُذِلَ قَرِيبًا إذ به يستدل العاقل المسدَّد ، أَنَّ ثَمَّ أَوَّلًا يُرَدُّ إليه هذا الآي المحكم ، فلا بد من سَبَبٍ عنه الأسباب تَصْدُرُ ، وبه المحالُّ في الخارج تَنْصَحُ بما يكون من قوى فِيهَا تقبل آثار الأسباب ، فالحكمة ، كما تقدم في مواضع ، حِكْمَةٌ في تقدير أول : تقدير القوى الفاعلة في الأسباب ، والقوى القابلة في المحال ، وأخرى في إجراء الأسباب أَنْ تُبَاشِرَ من المحال مواضع تَقْبَلُ ، فيكون من الإعداد ما بِهِ كُلٌّ قَدْ هُيِّئَ ، ويكون من المباشرة ما به الْأَثَرُ يَظْهَرُ ، آي تكوين محكم إن في التقدير الأول ، وهو من الغيب المطلق ، كما تقدم من الآي المحكم : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فذلك آي محكم من التنزيل لا تنفك آثار منه تظهر في آخر قد أُحْكِمَ مِنَ التكوين ، فَيُرِيهِ الخالق ، جل وعلا ، الخلقَ وبه قيام الحجة بآي من الكون ، إِنِ المذكورَ في الكتاب والأثر ، فيكون من ذلك الإعجاز في الخبر ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما لم يُرَدْ فِي بَابِهِ أولا ، وإن كان له من الباب حظ ، لا سيما في جيل قد تأخر في الزمن والرتبة ! ، فقد فسدت منه الفطرة ، فانحط إلى دركةٍ تُضَاهِي الحيوانَ الأعجم بل وتسفل في مواضع ، فلا يُثْبِتُ من العلم إلا ما يُدْرِكُ بالحس الظاهر ، وَيَجْحَدُ ، في المقابل ، ما جاوز من الغيوب ، وإن ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا ما يُصَدِّقُ خَبَرَ الرسالةِ الأول ، من غيب نسبي لم يكن من المعلوم مبدأَ الأمر ، ثم كان من بحث وتجريب ما كشف ، وله المثل ، كما تقدم ، بما كان من خلق الأجنة في الأرحام ، فذلك مما فُصِّلَ في آيٍ من الوحي ولم يخل الأثر المسند إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لم يخل من إشارات في البابِ تلطف ، في تعيين نوع المولود وَشَبَهِهِ بِأَبٍ أو أُمٍّ ، وما يكون من عرق قديم يظهر كما وصف قد تَنَحَّى وَتَرَاجَعَ ، فلم يظهر في أجيال تعقب ، ثم ظهر بعدا في جيل تال ... إلخ ، فذلك من وجوه إعجاز أخص في الباب ، وإن لم يكن ذلك ، أيضا ، غاية أولى في الباب تُطْلَبُ ، فإنها مما يَرْفِدُ توحيدَ الخلق والتدبير ، وهو ، في نفسه ، ذريعة إلى أول ، وهو المراد من بعث الرسل عليهم السلام ، فذلك شطر تال من التوحيد ، توحيد الإله الحاكم بِمَا أَنْزَلَ من الوحي أن كان الرب الخالق بما قَدَّرَ من الكون ، فَرُبُوبِيَّةٌ هي أول من التوحيد يشهد لتال من الألوهية ، وبهما أول من شهادة تجزئ ، مع ثان من توحيد المرسَل الذي تَحَمَّلَ الوحيَ بَلَاغًا وَبَيَانًا يَنْصَحُ ، فَثَمَّ وقت حاجة بل وضرورة تُلْجِئُ أَنْ يُبِينَ للخلقِ عن أحكام دينهم المجزئ ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما يقول الأصوليون ، فتحمل الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة أَنْ كَانَ من رسالته ما استجمع خلاصة المتقدم فَصَدَّقَهُ ، وهيمن في بعض بما نسخ ورفع من أحكام العمل ، فِعْلًا أو تَرْكًا ، وزاد عليه من البيان والتفصيل ما أَجْزَأَ ، فَتَحَمَّلَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الآي والخبر ما أعجز ، إعجاز بَيَانٍ هو الأول ، مع تال من التشريع المحكم ، فَثَمَّ توحيد في العلم : توحيد الرب الخالق الذي قَدَّرَ في الغيب الأول ما كان من هذا الخلق المحكم ، فذلك من الغيب المطلق الذي اخْتُصَّ به الله ، جل وعلا ، وهو حكاية ما تَقَدَّمَ من الاختصاص في آي الوحي المحكم ، فـ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وثم توحيد في العمل بما يكون من التصديق والامتثال ، فالتصديق ، كما تقدم في مواضع ، عمل في الجنان يجاوز ما يكون أولا من العرفان المجرد ، فَثَمَّ من حركة الجنان ترجيحا يجاوز وبه الإقرار الجازم ، وما يكون من إذعان واستسلام وانقيادٍ يُصَدِّقُ ، فلا يكون إلا بطاعة تنصح التصديق بما يكون من حركة في الجنان مبدؤُها : حب وبغض ، وتأويلها أول يلطف في الوجدان : إِرَادَةَ الفعل وهي تأويل الحب ، وإرادة التَّرْكِ وهي تأويل البغض ، وثم من تال في الخارج : تَصْدِيقٌ بما يجري على اللِّسَانِ ويعمر الأركان فذلك التصديق جِنْسًا عَامًّا قد استغرق المحال والأحوال كافة ، فذلك توحيد يجزئ ، والمبدأ تصديق بغيب تقدم ، فتلك خاصة الإنسان ذي العقل الناصح الذي اخْتُصَّ بالتكليف النازل ، فَلَهُ من قوة في العقل ما به يؤمن بغيب ، وإن حَارَ في الحقيقة والكيف فلا يحيل الوجود ، بادي الرأي ، وهو مع ذلك ، يدرك المعنى ، ولو المجرد الذهني الأول ، فذلك مما يحصل في الوجدان مطلقا ، ولا يكون في الخارج إلا مقيدا ، والإيمان بالغيب قد تَنَاوَلَ الأول من المعنى المجرد في الذهن دون الثاني من الحقيقة والكيف ، فلا يخاطب العقل أن يدرك ماهية المغيَّب ، ولو النسبي الذي يدركه بَعْضٌ ، فغايته في علوم التجريب أَنْ يَكْشِفَ عما كان أولا من الغيب ، فلم يكن المعدوم ، وإنما هو الموجود الذي لم يَتَهَيَّأْ للناظر بَعْدُ سَبَبٌ به يُدْرِكُهُ في الشهادة فهي تُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المغيَّب ، وما وُجِدَ بَعْدًا في الخارج يصدق ، وإن لم يدركه العقل والحس بادي الرأي ، فلم يكن جهله آنذاك دليل العدم : عدم الوجود بل كان موجودا وإنما عُدِمَ وجدانُه بالحس الظاهر ثم كان ، فَدَلَّ على ما كان أولا من إيجاد محكم . فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، فذلك مما لا يطيق ، وإنما خوطب بالتصديق ، تصديقٍ بِآيٍ وَخَبَرٍ قد أَثْبَتَتْ من المعنى ما يُطْلَقُ في الذهن دون خوض في ماهية أو كيف ، فكان الإثبات من وجه ، والتفويض من آخر ، وليس ثم تعارض ولا تناقض ، إذ الجهة ، كما تقدم في مواضع قد انْفَكَّتْ ، فَالْإِثْبَاتُ لما جُرِّدَ فِي الذهن مِنَ المعانِي وَلَهَا مرجع من اللسان يَتَنَاوَلُ المعجم المفرد وما يكون من اشتقاق أخص ، وَإِنْ تَنَاوَلَ بِنْيَةَ الكلمةِ المفردَةِ فلا يزيد عليها من خارج ، وَإِنَّمَا زِيَادَتُهُ تَتَنَاوَلُ الحد المفرد في النطق والكتب فلا تجاوزه إلى تَالٍ من سياق مركَّبٍ ، فَثَمَّ من مادتها ، مادة الْبِنْيَةِ المفردةِ ، ثم منها في المعجم ما أُطْلِقَ وهي المصدر الذي يُجَرَّدً من زوائد الحرف ذات الدلالة الأخص ، والمصدر ، على راجح لا يخلو من خلاف قَدْ تَنَاوَلَهُ أهل الشأن في مباحث النحو والصرف ، المصدرُ هو أصل المشتقات كَافَّةً ، وثم من بِنْيَةٍ تَتْبَعُ ما يكون من الاشتقاق الأخص في دلالته وإن تَنَاوَلَ من المصدر جِنْسًا هو الأعم ، فَزَادَ عليه من القيد ما خَصَّصَ ، كما زيادة في اسم "الخالق" ، وهو اسم الفاعل ، فَزِيدَ فيه ما اسْتَغْرَقَ مادة "خَلَقَ" لفظا ومعنى ، وزاد عليها معنى أخص وهو الدلالة على الفاعل الذي خلق ، وكذا الخلاف فِي مُثُلِ المبالغة ، فهي مِمَّا اسْتَغْرَقَ المادة نَفْسَهَا ، مادة "خَلَقَ" بالنظر في أصل الوضع الأول في المعجم ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مَمَّا عَمَّ وجوه المعنى : التقدير في الأزل وما يكون من إيجاد في الشهادة يصدق ، فهو يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، وما يكون من تصوير أخص لا على مثال تَقَدَّمَ وَلَوْ في آحادِ الجنس والنوع الواحد ، فكلُّ فَرْدٌ من أَفْرَادِهِ هو صورة لا نظير لها يُطَابِقُ وإن كان من أخرى ما يُشَابِهُ بل قد يماثل في صورة الظاهر كما التوأم بل لا ينفك كلٌّ يمتاز من الآخر ولو بدقيق لا يدرك بالحس المباشر ، وكذا الخلق يستغرق التدبير بما يَتَنَزَّلُ من أسباب تحفظ الأبدان والأنواع ، فذلك مما يصدق فيه ، أيضا ، أنه الخلق ، ولو بمعنى أعم يجاوز ، فهو المحدَث ، وإن كان منه جنس أعم ، فكل مخلوق محدَث ولا عكس ، إذ ثم من المحدَثات ما ليس بمخلوق فَنَوْعُهُ يَقْدُمُ ، كما كلمات التكوين والتشريع إذ تَتَنَزَّلُ ، فكان من مادة "خلق" عموم قد استغرق ، وكان من اسم "الْخَلَّاقِ" ما تَنَاوَلَهَا وزاد عليها مثال المبالغة الأخص بما اطرد في قياس اللسان في الباب ، باب المبالغة ، فَلَهُ من ميزانِ الصرف مُثُلٌ قِيَاسِيَّةٌ ، مِنْهَا "فَعَّال" ، وذلك معيار في الإثبات ، مع تَالٍ يَتَنَاوَلُ سياقا هو المركب بعد المعجم والاشتقاق الذي يقتصر على بِنْيَةِ اللفظ المفرد ، وثم رابع من بَيَانٍ وتداول أخص بما يحتف به من قرائن معتبرة ليست في الإلهيات إلا الخبر فهو من التوقيف الذي لا يثبت إلا بدليل خبري ، إن سياق الخبر الذي فيه قد ورد أو آخر من خارج يزيد في الدلالة ويرفد ، فكل أولئك جهة الإثبات في الإلهيات ، وثم أخرى من تَفْوِيضٍ لا يتناول المعاني فإنها مما يدرك بالعقل ، على التفصيل آنف الذكر ، بل التفويض فيها يَؤُولُ إلى التعطيل الباطل ، وإنما يتناول الحقائق في الخارج فذلك مما اسْتَأْثَرَ به الرب الخلاق العليم ، جل وعلا ، فَانْفَكَّتِ الجهة وزال التعارض وَاسْتَبَانَ وجه التكليف في خبر الإلهيات المحكم . فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، بل التكليفُ في الباب أَنْ يُصَدِّقَ وَيُثْبِتَ من المعنى ما أُطْلِقَ في الذهن ، ولا يخاطب ، من وجه آخر ، أن يدرك ماهية غيوب سوى الإلهياتِ ، وإن كانت من الخلق المحدَث كما ماهية الملَك والجنِّ ، فذلك مما حَدَّهُ العقل مَبْدَأَ النظرِ : حَدَّ الجائز المحتمل ، فَلَا يُثْبِتُ وَلَا يَنْفِي ، إذ لا يكون ذلك إلا بمرجح من خارج العقل في باب لا يطيق فيه الإثبات أو النفي ، وإلا تَحَكَّمَ فِي الجائز أَنْ رَجَّحَ في الباب بلا مُرَجِّحٍ ، فلا يكون منه إثبات ولا نفي ، ولا يكون من تكليف بِتَصْدِيقٍ وإيمان بغيب ، لا يكون من ذلك شيء إلا أن يكون ثَمَّ مرجح معتبر من خارج ، وهو خبر الوحي النازل الذي رَجَّحَ بما صَدَقَ من الخبر المحكم ، فأخبر أن ثم خَلْقًا في الخارج لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهرِ ، وليس عدم وجدانه بالحس ، كما تقدم ، دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل قد يوجد ولا يطيق العقل دَرَكَهُ ، فلا يَغْتَرُّ بما رُكِزَ فِيهِ من قوى فَلَهَا في الإدراك حد ، ولو في غيوبٍ نِسْبِيَّةٍ يَتَفَاوَتُ فِيهَا الخلق ، فيكون من عقل زَيْدٍ بِمَا حَصَلَ من المعارف وبما نَصَحَ من المدارك وبما تَوَافَرَ من أدوات البحث والتجريب ، يكون من عقله ما يدرك بعض المسائل مما دق من غيوب نِسْبِيَّةٍ في مسائلِ تَجْرِيبٍ ، فيحصل له فيها يقين وجزم وَتَوَاتُرٌ ، وهو الأخص ، إذ لا يستوي فيه عامة الخلق بل قد اقتصر علمه على آحادٍ من أهل الشأن ، فذلك التواتر الخاص في جُمَلٍ من المسائل تجري مجرى العرف ، فمنه الخاص الذي لا يجاوز أهله ، كما اصطلاح الفنون والمعارف ، فَحَصَلَ لِبَعْضٍ من العلم بالغيب النسبي ما لم يحصل لآخر لم يعالج المسائل والأدلة ولم يَتَوَافَرْ له من أدوات البحث ما تَوَافَرَ للأول ، ولم يكن جهل الأخير حُجَّةً عَلَى الأول إذ قد عَلِمَ ، بل من قد عَلِمَ فهو حجة على من لم يعلم ، فمع العالم زيادة علم توجب الانتقال عن أصل أول يُسْتَصْحَبُ وهو العدم ، لا عدم المحال الذاتي الذي يمتنع ، وإنما عدم الجائز الذي لا يَثْبُتُ بَعْدًا في الخارج ثبوتا أخص يجاوز إلا أن يكون ثم من المرجح ما يثبت ، فمن مَعَهُ الدليل فإن دعواه في الجائز تُقْبَلُ ، فقد رَجَّحَ بمرجِّح ، فلم يكن ترجيحه تحكما في الباب ، وإنما رَفَدَ دعواه بِدَلِيلٍ يَنْصَحُ ، فتلك زيادة العلم التي بها قُبِلَ قَوْلُ العالم ، فَلَيْسَ من الجهل ، كما تَقَدَّمَ ، حجة تُعَارِضُ ، فمن علم فهو حجة على الجاهل ، وكذا الوحي ، من باب أولى ، فقد أخبر بما لا يُدْرِكُ العقل ماهيته في الخارج ، وإن كان ابتداء من الجائز ، فكان منه الغيب النسبي الذي أَبَانَ عنه البحث بَعْدًا ، فكان من ذلك إعجاز الخبر ، كما خلق الأجنة في الأرحام ، فليس عدم وجدانها دليلا على عدم الوجود ، وليس لمن جهل علم الأجنة أن يحتج على العالم المحقق في الباب ، وكذا يقال من باب أولى في الخلق الأول ، خلق آدمَ أَبِي البشرِ ، عليه السلام ، فإنه من الغيب المطلق إذ لم يشهده أحد فلم يكن من الدليل المرجِّح إلا خبر الوحي المصدَّق ، وكلٌّ ، الغيب المطلقُ وَقَسِيمُهُ النسبيُ ، كلٌّ مما اختص به الرَّبُّ الْعَلِيُّ ، ![]() فَثَمَّ من صنم المعنى ، وقد عمت به البلوى في جيل قد تأخر ، ثم منه ما به تمثيل الوحي وهو من أفعال الخالق ، جل وعلا ، فكان من ذلك ما تمثيله بحكومات الخلق المحدثة ، فكان القياس مع الفارق في باب التحسين والتقبيح وما يكون بعدا من حكومات التشريع أَنْ قِيسَ الوحي المنزَل على العقل المحدَث ، وذلك من التشبيه المذموم وهو مما يخالف عن صحائح المنقول وصرائح المعقول كافة ، إذ تقضي كلها ضرورةً بالقدر الفارق بين المخلوق والخالق جل وعلا . والمعطِّلَةُ ، من وجه آخر ، قد قالوا بضد فَنَفَوا ذلك الاشتراك في الحقائق في الخارج ، وهو نفي يصح ، وإن لم يلزم بادي الرأي من إثبات الصفات فهو كما تقدم مما لا يجاوز المطلقات في الأذهان ، وكان من تال ما غلوا به في النفي تَنْزِيهًا حتى جاوزوا الحد تَعْطِيلًا ، فلا يلزم أيهما ، تمثيلا أو تعطيلا ، بل لكلِّ موجود في الخارج من الحقيقة والكيف ما لذاته يواطئ إِنْ في الكمال أو في النقص ، فيكون لله ، جل وعلا ، وهو الكامل في ذاته الكمال المطلق ، يكون له من الصفات ما يواطئ ، ويكون للمخلوق المحدَث وذاته مما لا يَسْلَمُ من النقص بالنظر في أصل الوجود والخلقة ، يكون له من الوصف ما يواطئها ، فكان من ذلك ما به الحقائق في الخارج تَتَمَايَزُ ، وذلك ما يَنْفِي التمثيل ، مع قدر في الذهن هو المشترك إذ يَتَنَاوَلُ أصول المعاني المجردة ، وذلك ما يَنْفِي التعطيل في الباب ، فجادة الحق فيه : إثبات بلا تمثيل وَتَنْزِيهٌ بلا تعطيل ، قد استجمع الحق من كل طرفٍ وسلك جادة وسطى هي الحق بين طرفين كلا قصدهما يُذَمُّ ، إن جفاءً في النفي أو غلوا في الإثبات فهو على ضِدٍّ . فكان من عموم "آيَاتِنَا" ما استغرق الآفاق والأنفس ، وكان من دلالة الجمع في الضمير ، ضمير الجمع المتكلم "نَا" في "آيَاتِنَا" ، كان من دلالته ما يُكَثِّرُ الوصف في سياق المدح ، على التفصيل آنف الذكر ، إذ الآيات مما كان وجوده بالقدرة وكان من سَنَنِهِ ما يحكي آخر من العلم والحكمة والرحمة ..... إلخ ، فكان من الظرف آفاق وأنفس في قوله ![]() ![]() فكان من العامل ما تَنَاوَلَ الاستقبال ، وتلك دلالة السين في "سَنُريِهِمْ" ، فذلك دَلِيلُ نُبُوَّةٍ قد اتصل إسناده بما يكون من أَدِلَّةِ رُبُوبِيَّةٍ تَنْصَحُ ، وبها آخر هو مَدْلُولُ تَلَازُمٍ في العقل يَثْبُتُ ، وهو ما كان من ألوهية تحكم ، فمن أدلة الربوبية اختراعا وعناية ، آفاقية أو نفسانية ، من ذلك ما يشهد وله غاية من التكليف تَنْصَحُ قَدْ أَبَانَ عَنْهَا تَالٍ يجري ، من وجه ، مجرى التخصيص بالغاية في قوله ![]() ![]() فكان من الاستفهام ، كما تقدم ، ما أنكر وَوَبَّخَ ، ولا يخلو من آخر يُثْبِتُ مَا وُبِّخَ المخاطبون أن جحدوه ، وهو شهادة الله ، جل وعلا ، على كل شيء ، شهادةَ إحاطةٍ تَسْتَغْرِقُ ، وتلك دلالة " كُلِّ شَيْءٍ" ، فذلك العموم المحفوظ الذي يَتَنَاوَلُ آحاده كافة ، ولو فَرْضَ المحالِ فالعلم يَتَنَاوَلُهُ ، وَلَوْ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وثم من اسم "شَهِيد" : وصف مشبه إذ اشتق من عامل لازم لا يتعدى ، وهو "شَهِدَ" ، فيقال : شهد على كذا ، أو شهد بكذا ، فَحُدَّ حَدَّ مِثَالِ المبالغة من "فَعِيل" ، وهو ما أكسبه معنى من المبالغة يؤكد ، فكان من القياس في المعنى ، وَلَوْ بَعْضًا ، أَنْ كَانَ ثَمَّ من العلة اشتراك في المبنى "فَعِيل" ، فاكتسب الْوَصْفُ المشبَّه "شهيد" معنى المبالغة ، وَلَوْ بَعْضًا ، وإن لم يكن فيه نَصًّ ا، إذ شرط النص في باب المبالغة أَنْ يُشْتَقَّ من عاملٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد يُقَالُ ، من وجه آخر ، إِنَّ "شَهِدَ" مما يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، فَيُقَالُ : شَهِدَ الأمرَ إذا حضره ، فكذا الرب ، جل وعلا ، فهو حاضر بعلمه المحيط المستغرق ، فيكون ذلك من المبالغة قياسا إذ اشتق من عاملٍ مُتَعَدٍّ ، فهو "فعيل" من "فاعل" ، "شهيد" من "شاهد" ، وذلك مَا حَسُنَ فِي إثباتِه جُمَلُ تَوْكِيدٍ تَنْصَحُ من ناسخ يؤكد وهو النَّصُّ في الباب "إِنَّ" ، واسمية الجملة على تأويل : هو على كلِّ شيءٍ شهيد ، مع تقديم الظرف " كُلِّ شَيْءٍ" ، وحقه التأخير مَئِنَّةَ الحصرِ والتوكيدِ ، كما يقول أهل الشأن ، فكان من ذلك سياق قد استجمع دلالة التوحيد في الخبر والحكم ، وذلك تكليف الخلق عامة ، وهو ما يرفد دلالة الضمير ، ضمير الغائب في "سَنُرِيهِمْ" ، إذ يجاوز جيل الوحي إلى كل آتٍ بَعْدًا ، وإن لم يوجد حَالَ التَّنَزُّلِ ، فَلَهُ من الآي في جيله ما يعجز بما قد بَلَغَ من آلة تجريب وبحث بها يظهر له من غيب الإتقان والإحكام ما لم يظهر لجيل تقدم ، فإسناد الآي ، كما تقدم ، قد اتصل فاستغرق الأجيال كافة ، آيةَ تَدَبُّرٍ في الكون ، ولها غاية من آخر ، تدبرا لآي الكتب المنزل ، فكان من ذلك مناط تعليل آخر قد نص عليه الوحي ، فَكِتَابُهُ : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فكان من حذف المسند إليه وهو المبتدأ ، كان من ذلك ما اطرد في لسان العرب على تقدير : هو كتاب ، فيكون الباب من تعدد الأخبار ، فكان أول وهو "كِتَابٌ" ، وذلك الخبر المفرد ، وكان تَالٍ وهو الجملة "أَنْزَلْنَاهُ" ، وهي مما أُسْنِدَ عامله إلى ضمير الجمع ، حكاية ما تقدم في موضع ، من تعظيم وثناء بِوَصْفِ كمالٍ يَكْثُرُ ، وإن كان الموصوف واحدا في الخارج لا يَتَعَدَّدُ ، فكان من تعدد الأخبار ما يبين ، وهو جار على المعهود في لسان العرب أَنْ يَتَقَدَّمَ الخبر المفرد إذا اجتمع مع آخر هو الجملة ، فهو كتاب قد جُمِعَتْ حروفُه وكلماتُه وجملُه ، أخبارُه وأحكامُه ، قَدْ أَنْزَلَهُ الله ، جل وعلا ، إِنْزَالَ الجملةِ ، من وجه ، وَتَنْزِيلَ الْبَيَانِ آحَادًا ، من آخر ، وثم من العلة ما نص عليه السياق ، فكان من لام التعليل ، وإن احتملت غيرا ، فالسياق في هذا الموضع قد رَفَدَ مِنْهَا دلالة التعليل ، وهو ما يُصَيِّرُهَا ، على قول ، ظاهرا في الدلالة ، دلالة التعليل لا نَصًّا ، إِذِ احْتَمَلَ غَيْرًا ، وإن كان من قرينة السياق ما رَفَدَ التعليل ، فذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى التأويل ، أو الترجيح في مشترك هو الجائز الذي يحتمل وجوها في الخارج ، فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج ، فكان من السياق ما رَجَّحَ التعليل ، فَرَفَدَهُ بِقَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ قد صَيَّرَتْهُ النَّصَّ في الباب ، وإن احتمل غَيْرًا في سياق آخر ، فكان من العلة : أَنْ يَتَدَبَّرَ الخلقُ آي التنزيل المحكم ، وهو ما قد عَمَّ فتلك دلالة الإضافة في "آياته" ، وهو ، بادي الرأي ، يحكي جمع القلة ، الجمع المزيد بالألف والتاء ، فكان من الإضافة إلى الضمير في "آيَاتِهِ" ما عَرَّفَ لفظه وَزَادَهُ العموم المستغرِقَ في مَعْنَاهُ ، وذلك تكثير يجاوز أصل الوضع من جمع القلة ، فآي الوحي ، بداهة ، تَكْثُرُ ، وهو ما جاوز الكتاب المتواتر ، وإن كان منه ظاهر يتبادر ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استغرق نصوص الوحي كافة ، آيا وَخَبَرًا ، وثم تال بعد التدبر وهو ما يكون من التذكر : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، وعطفه ، من هذا الوجه ، عطف المسبَّب على سببه ، فإن التدبر سبب في حصول ذكرى تَنْفَعُ ، وهو ما اخْتُصَّ به أولو الألباب تعريضا بمن غفل فلم يتذكر فلا لُبَّ لَهُ يَنْفَعُ ، وإن كان منه ما به التكليف يثبت ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ به إلا إقامة الحجة على نفسه ، إِذًا لكان عدمه والحال تلك أفضل ! ، ولا يخلو السياق الخبري من آخر إنشائي يأمر أن يتدبر الناظر الآي ويتذكر ، كما في آي أول قد تقدم أن : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فذلك ما استوجب إنشاء أخص ، أن تدبروا آي التكوين ، واستدلوا بها على حق من التشريع ، وله من التكليف أخص ، أن آمنوا بالله ، جل وعلا ، وما أَنْزَلَ من الكتب ، وهو ما كان النص عليه في موضع آخر قد استغرق ، فـ : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، وذلك من تكليف يَعُمُّ إذ تَوَجَّهَ إلى اعتقادٍ يستوي فيه الخلق كَافَّةً ، فكان من ذلك تكليف يُوجِبُ ، فالإيمان أصل الأصول الأول ، وهو يضاهي التوحيد ، أَوَّلَ واجبٍ على العبيد ، أن يكون الإيمان بالله ، جل وعلا ، وحده ، وهو مَا نَصَّ عليه السياق ، وإن لم يقصر ، فَاسْتُفِيدَ ذلك ضرورة إذ يُقَدِّرُ الذهنُ عَهْدًا أخص ، وهو الإيمان المعتبر فلا يكون إلا أن يُفْرَدَ به الرب المهيمن ، جل وعلا ، على تقدير : آمنوا بالله ، جل وعلا ، وحده ، فلا تشركوا به أحدا في إيمان أخص ، الإيمان بالرب الخالق والإله الحاكم ، فكان من اسم "الله" ، جل وعلا ، الاسم الجامع لأوصاف الكمال المطلق ، وهو المستغرق لوصف الرب الخالق ، وذلك توحيد الله ، جل وعلا ، بأفعاله ، ووصف الإله الحاكم ، وذلك توحيد آخر في النسك والعبادة ، وهو ما لا يكون إلا بشريعة تحكم ، ومن يُبَلِّغُهَا هو الملَك فالرسول الأرضي الذي خوطب بها أولا خطاب المواجهة ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم تال يَتَنَاوَلُ الجمعَ المكلَّف كلَّه ، وذلك خطاب الاستغراق الذي يعم بوضع أول ، وإن كان ثم استثناء فهو خلاف الأصل المطرد ، كما في خطاب يخصص العموم بصورة السبب ، فيكون واقعة العين فلا عموم لها يجاوز ، وذلك خروج عن الأصل الأول ، أصل العموم المستغرق في خطاب الشرع المنزل ، فلا يكون التخصيص تحكما بلا دليل يُرَجِّحُ فهو نَصٌّ يقصر العام الذي ورد عليه الخبر على عين السبب ، أو آخر أعم ، وإن خُصَّ من وجه آخر ، وهو ما اصْطُلِحَ أنه تخصيص العام بصورة السبب التي تَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا في الخارج ، وكل أولئك مما لا يثبت إلا بدليل أخص ، إذ يخالف عن الأصل ، وإلا تَذَرَّعَ كُلُّ أحدٍ رَامَ تَعْطِيلَ حكمٍ بِعَيْنِهِ ، بل وحكومات الوحي عامة ! ، أنها وقائع أعيان تَتَنَاوَلُ آحادا ، أو أُخْرَى تَتَنَاوَلُ أجيالًا ، فَقَالَ مَنْ قَالَ بالتاريخانية أن النبوات لا تجاوز أجيالها التي انْقَرَضَتْ ، فكانت حكوماتها المنسوخة بَعْدًا ، إذ لكلِّ جيلٍ من العرف ما يخصص ، وذلك مما له أصل في الوحي يَنْصَحُ ، بل هو من أصول التشريع كما تناولها أهل الشأن ، فالعرف محكم ، ولكنه ، من وجه آخر ، المقيد ، فلا يخالف عن الوحي المنزل إذ له من ذلك وصف المرجع المجاوز من خارج العقول والأعراف ، ولو كانت مما اصطلح أنه المجموع ، فالعقل الجمعي ، من وجه ، عُرْفٌ عام يستغرق ، وهو معيار يجاوز الأفراد ، من وجه ، إِنْ صَحَّ أنه مما ينضبط فقد قَدَحَ بعضٌ من أهل الاجتماع في حصوله وضبطه إذ غَلَا فيه من أثبت ، فأهدر لأجله الفرد ، وصار الجمع هو من يصنع ، ولا امتياز لفرد بملكات بها يجاوز إطار الجمع فَهُوَ يُؤَثِّرُ فيه وَيُغَيِّرُ بما حاز من أسباب سواء أكانت وهبية كما النبوة فقد قام بها أفراد أَثَّرُوا في أممهم ، وإن كَذَّبُوا فَقَدْ أقاموا عليهم الحجة ، وما كان ذلك يحدث لو كان العقل الجمعي هو الصانع الذي يقهر الأفراد على طريقة من العادات والأعراف ، فسواء أكانت الأسباب التي بها امتاز الفرد ، سواء أكانت وَهْبِيَّةً أم كَسْبِيَّةً كما العلوم والمعارف التي يكتسبها فَرْدٌ فيكون من أَثَرِهِ في الجمع ما يظهر ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما قد يستغرق المفسِد كما المصلِح ، فقد خرج عن ناموس الجمع وأتاهم بما لا يعرف من طريقة تُذَمُّ ، إن في الأخلاق أو في السياسة ..... إلخ ، لا جرم كان المعيار الحاكم الذي يَنْضَبِطُ هو ما يجاوز الفرد والجمع كافة ، فيحكم فِي كُلٍّ الحكمَ السالم من الهوى والحظ . والشاهد أَنَّ بَعْضًا قَدْ قَدَحَ في حصولِ العقل الجمعي وَضَبْطِهِ ، وإن كان مما يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُثُلٍ من التحكم بها الاستبداد يمكر بالجمع إذ يَأْطِرُ العرفَ أَنْ يُوَاطِئَ رَغَائِبَ الملإ الغالب الذي استجمع أسباب الجاه والمال والسلطان ، مع نفوذ الأمر في سائر الجمع ، فَيَأْطِرُهُ على مثالٍ يَصْنَعُ العرفَ والعادةَ بما يكون مِنْ قَهْرِ السلطان ، وإن لم يَضْرِبْ وَيُعَنِّفْ ، فلا زال يوسوس بما يقول ويكتب ، وبما يصنع من مُثُلِ الاقتداءِ إِمَّا به أو بِغَيْرٍ يُصْنَعُ عَلَى عين الملإ ، فيكون من ذلك ما يُبَدِّلُ العادة والعرف المباح إلى آخر يحرم ، فمن فساده ما يعظم ، وإن حَجَبَتْهُ سكرةً تحدث ، فيكون من مكر القول ما يُبَدِّلُ العرف ، على مكث ، فيكون من عقل الجمع أو العرف العام ما لا يسلم من المؤثِّر من خارج ، فَلَيْسَ منه ما يُعْصَمُ ، وإن جَاوَزَ عقل الفرد ، فَثَمَّ معيارُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، ولو أعم ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الجمعَ بما استقر من العرف ، فلا ينفك يَتَعَدَّدُ ، وهو ما يضطرب إذ كلُّ جَمْعٍ يَرَى عُرْفَهُ هو الأنصح ، وَلَهُ يَتَعَصَّبُ ، إِنْ صحيحًا أو فاسدًا ، فلا يُسَلِّمُ جَمْعٌ لآخر ، كما لا يُسَلِّمُ فَرْدٌ لآخر ، فكلٌّ قَدِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ ، فَلَا يحسم النِّزَاعَ إلا مَرْجِعٌ من خارج يجاوز الأفرادَ والجماعاتِ كَافَّةً ، فَثَمَّ من المرجع الأعلى ما يأطر العرف ، وإن كان المعتبر في مواضع ، لا في تشريع أول يَتَنَاوَلُ مناط الحكم ، وإنما في تحقيقه في الخارج ، كما آخر في مباحات قد سكت عنها الوحي ، أو مصالح قد أَرْسَلَهَا ، فكل أولئك مما سَاغَ الخلاف فيه ما لم يخالف عن منصوص صحيح صريح ، فلا يكون من العرف ما يَنْقُضُ أصلَ الحكمِ ، وَبِهِ قد جَاوَزَ الوحيُ جِيلَهُ في التكليف والاستدلال ، فَلَهُ من الإسناد ما اتَّصَلَ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى جيلٍ قد انقرض ، ويكون من تَالٍ ما يسعه الخروج عن حكم الوحي الذي وسع بالمنطوق والمفهوم كافة ، بالنص وبالقياس ، فَثَمَّ من العرف ما صار الحاكم لا المحكوم ، فخالف عن المنقول والمعقول كافة ، إذ العرف المحدَث لا يسلم من الهوى والحظ ، على التفصيل آنف الذكر ، فلا ينفك يطلب المرجع من خارج إذ يأطر غَيْرَ المعصومِ على جادة عصمة قد جاوزت العقل بما كان من الوحي ، وهو ما لا يُسَلِّمُ به ، بداهةً ، إلا من يُؤْمِنُ بالنبوات نَوْعًا ثم آحَادًا ، فجداله في الباب أيسر ، إذ آمن بالجنس المطلق ، وهو أول ما يُطْلَبُ في النبوات ، وبعده يكون آخر يَتَنَاوَلُ الآحاد ، وإذا طَرَدَ الناظر الأمر وَتَجَرَّدَ من الهوى والحظ لم يجد في النبوات السابقة ما يخالف عن أخرى هي الخاتمة ، وهو ما استوجب القيد ، قَيْدَ الدينِ لا الشَّرْعِ ، فالدين واحد ، وإن تعددت الشرائع ، والسابق قد شهد لِلَاحِقٍ ، وكان من حكمة الرب الشارع ، جل وعلا ، أَنْ أَبْقَى ذكر الخاتمة في نُسَخٍ من الكتب الأولى ، فكان من البشارة ما لم تَنَلْهُ يَدُ التَّبْدِيلِ والتحريف ، وإن نَالَتْ من أخرى قد بَدَّلَ الكهان فِيهَا وَحَرَّفُوا ، وهو مما يُلْجِئُ المخالفَ في الجدال فإن جحد البشارة أَنَّ نُسْخَتَهَا هي المحرَّفة ، فتلك دعوى لا دليل عليها ، فمن له بأصل محكم من الكتاب الأول قد سَلِمَ من التبديل والتحريف ، فَيُبِينَ عن تحريف في نُسْخَةِ الخصم الذي يحتج بما دُوِّنَ فيها من البشارة ، فلم يكن من ذلك إلا دعوى مجردة فيجزئ في رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي دون أَنْ يَتَكَلَّفَ صاحبها دليلا أخص ، بل له من الدعوى ضد ، فنسخة الأول هي ما بُدِّلَ فيه وَحُرِّفَ أَنْ تُحْذَفَ الْبِشَارَةُ ، وكلٌّ لا يملك دليلا أخص إلا الدعوى المجردة ، فكان من ذلك تَكَافُؤٌ فَتَسَاقُطٌ ، وهو ما استوجب آخر يجاوز كِلَيْهِمَا من خارج ، فَيَقْضِي فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ من الدَّعْوَى ، إذ كلٌّ لَا يَسْلَمُ من النَّقْدِ ، وإن احْتُجَّ بالبشارة من باب : وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها ، فإن لم تُرْضَ شهادته ، فلازم ذلك أفدح ، فلا ينفك المنكِر يُقِرُّ أن التبديل والتحريف قد وقع في نسخ من كتابه ، وإن لم يُقِرَّ بها ، فما بِيَدِهِ ليس بِأَسْلَمَ من القدح مما زعم فيه التحريف والدس ، إذ ليس ثم ، كما تقدم ، معيار من خارج يَسْلَمُ ، وهو ما شهد به علماء الكتاب الأول أن التبديل والتحريف قَدْ وَقَعَ وأن ليس ثم أصل واحد ، ولو بإسنادِ آحاد يَسْلَمُ ، لا أصل يُحْتَكَمُ إليه مما كتب بين يدي النبوة الأولى بِلِسَانِهَا الذي به قد نَطَقَتْ ، في مقابل ما أَقَرَّ به كل ذِي عقل ينصح ، وله مع ذلك إنصاف يحمد ، أن الكتاب الخاتم وحده هو السالم من دعوى القدح بالزيادةِ أو بِالنَّقْصِ ، بالتبديل أو بالتحريف ، وإن لم يُؤْمِنْ أنه الكتاب المنزل ، فَقَدْ ثَبَتَ عنده إسنادُه المتواتر إلى مخرج واحد ، وهو صاحب الدعوى الخاتمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في مسلكِ نَوْعٍ يتناول ما جاء به النبي من الوصايا والأحكام أَهِيَ مما علم حُسْنُهُ ضرورةً أم قد جاء بما يقبح وهو ما امتنع بداهة في دعوى النبي الصادق لا المتَنَبِّئِ الكذاب ، فالنبي الصادق لا يأمر بالشرك أو الفحش ، ولا يأتي بما هو كهانة أو سحر ، وثم آخر بَعْدَ نَوْعٍ ما جاء به ، فهو يَتَنَاوَلُ شخصه وما كان من سيرته في الخلق أكان من أهل العفة والصدق أم هو على ضد من الفحش والكذب وما نَسَبُهُ في قومه وهل ثم ذريعة أَنْ يَدَّعِيَ هذه الدعوى ليطلب بها ملك آباءٍ قد فاته ، كما سؤالات هرقل لأبي سفيان وهي نص في الباب قد نطق به عالم بالكتاب الأول وإن حال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإيمان ملك زَائِلٌ قد ضَنَّ به فأورده المهالك ، فكل أولئك من دَلَائِلَ لِلنُّبُوَّةِ تَعُتَبَرُ مع ما قد اشتهر من بشارة لدى علماء الكتاب الأول ، ومنهم من استفتح به واستنصر ، فَلَمَّا بُعِثَ جَحَدَ رسالته حسدا ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في عين الدعوى الخاتمة بعد أول في الجنس ، جنس النبوات الأعم ، فَتَنَاوَلَ الناظر المدقِّقُ منها حاجة الناس إلى النبوات إذ تخبر بما لا يطيق العقل منفردا ، وإن أَثْبَتَ مُجْمَلًا أَنَّ ثم ضرورة في الوجدان تُلْجِئُ بما تقدم من الإيمان بالله ، جل وعلا ، خالقا هو الأول ، بما استوجبه دليل الاختراع والإتقان ، وآخر يمنع التسلسل في المؤثِّرِينَ أزلا ، فَوَجَبَ رَدُّ الكونِ ، وهو ، مَبْدَأَ النظرِ في قسمة الوجود في الخارج ، هو الجائز فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يطلب واجِبَ الوجودِ الأول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وليس إلى سبب من خارج يفتقر ، بل الأسباب كافة إليه تَفْتَقِرُ أَنْ يُوجَدَ عَلَى هَيْئَةٍ مخصوصةٍ مُحْكَمَةٍ ، وَأَنْ تُرْكَزَ فِيهِ قُوَّةُ تَأْثِيرٍ تَنْصَحُ ، وَيُهَيَّأَ لَهَا من المحل ما يقبل ، فكل أولئك مما يثبته العقل ضرورة ، وإن لم يَرِدْ به وحيٌ مُنَزَّلٌ ، فذلك من رِكْزٍ أول في الوجدان ، مع آخر من فطرةِ تَوْحِيدٍ تحكي الافتقار إلى الخالق الغني القدير الذي يدعوه الخلق كافة في شِدَّةٍ تَطْرَأُ ، فعندها تَزُولُ الحجب المانعة ، فَيُقِرُّ كلٌّ بأولَّ وحده من يغيث المضطر ، فكل أولئك من أدلة من المنقول والمفطور والمحسوس من أدلة في الخارج إن في الآفاق أو في الأنفس ، فوجودها المجرَّد أولا يدل على موجِد أول ، كما تقدم من امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، ووجودها تاليا على هذا المثال المحكَمِ ، ذلك مما يشهد بالإتقان أنها لم تكن خبطا ، فلا يكون من الخبط والعبث هذا الخلق المحكم ، ولو فُتِحَ باب الإحصاء تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فقد أَثْبَتَ البحث أن ذلك يعدل في الاحتمال الرياضي الرقم صفر ! ، فهو عدم يمتنع ، وهو المحال بالعقل والحساب ! ، فكل أولئك من المجمل الذي يفتقر إلى ما يشهد ، فكان من خبر الوحي ما صَدَّقَ فِطْرَةَ النَّفْسِ الأولى ، وكان من تَالٍ مَا فَصَّلَ المجمَلَ ، وكان من ثالث قد قَوَّمَ ما اعْوَجَّ من فطرةٍ أولى تشهد بالتوحيد ضرورة ، وكذا في إيمان بِيَوْمٍ آخر ، إذ العدل مما قد أَجْمَعَ العقلاءُ كَافَّةً أَنَّهُ الْحَسَنُ الْحُسْنَ المطلقَ ، وهو ما لا يُسْتَوْفَى جميعا في هذه الدار ، ولو في الظاهر ، وإلا فَثَمَّ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ثم من العقوبات القدرية ما يَنَالُ من الظالم إذا لم تَنَلْ منه العقوبات الشرعية ! ، ففي الظاهر سلامة وفي الباطن خسران وضنك هو أول ، والساعة تَالٍ وهي أَدْهَى وَأَمَرُّ ، فالإيمان باليوم الآخر ضرورة أخرى قد رُكِزَتْ في العقل والفطرة ، فجاء الوحي لها ينصح بما يُفَصِّلُ من أحوال تغيب فلا يدركها العقل بالتفصيل ، وإن أدرك منها المجمل ، كما الإلهيات في باب الإيمان بالله ، وَكَمَا رُكِزَ في الوجدان ضرورةً من حُسْنِ العدلٍ ، وهو ما به ينصح الحكم ، وذلك محل إجماع آخر لا ينفك يجمل ، فهو يطلب مرجعا من خارج يفصل ، فلا يحسمه عقل الفرد ولا الجمع ، على التفصيل آنف الذكر ، فكل أولئك من أدلة النبوات الأعم ، وثم أخص قد نالت منه الخاتمة حظا أوفر ، إذ كان منها ختام محكم ، فلا نبوة تَلِي بَعْدًا ، فكان من أدلتها الأخص : إعجازٌ في البيان ، وآخر في جُمَلٍ من أخبار الغيب ، وثالث من إعجاز في دقائق من الكون ، ورابع في دقائق من الشرع ...... إلخ ، فَكُلُّهَا تشهد للخاتمة ، وهي الجامعة المصدقة ، من وجه ، المهيمنة مَرْجِعًا من خارج الكتب الأولى يحكم ، إذ قد سَلِمَ من التبديل والتحريف المحدَث . فكان من ذلك نبوة تجاوز جيل التَّنْزِيلِ الأول ، فَثَمَّ من عموم لفظها ومعناها ما يجاوز ، وإن خوطب بها واحد في مقامِ التبليغ والتبيين الأول ، فخطابه ، من هذا الوجه ، عام يستغرق ، وَإِنِ انْفَرَدَ مِنْهُ بمعنى أخص ، معنى الصدارة إن فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، أو في التبليغ والتبيين ، فهو أول من خوطب أن يقول ، والجمع له يَسْمَعُ ، وذلك ما قد عَمَّ فَجَاوَزَهُ إِذِ استغرق الجمع المكلَّف كله ، فَثَمَّ قَرِينَةُ العمومِ في خطاب التكليف ، وهو مَا جَاوَزَ الجمع المخاطَب مواجهةً ، وَإِنْ حَصَلَ له ، أيضا ، معنى أخص إذ له من شهود التنزيل ما به عَقْلُ مَعْنًى أخص ، فليس من شهد كمن سمع ، وليس من حضر كمن غاب ، وَثَمَّ من عَدَالَةٍ مَا ثَبَتَ ضرورةً بالنقل والعقل ، فَإِنَّ إثبات النبوة يستلزم تعديلهم إذ قد شهدت لهم بِذَا ضرورة تلجئ وإن لم يكن ثم عصمة في القول والعمل تُرْجَى فذلك مقام النبوة حصرا وقد قُبِضَتْ بِقَبْضِ النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَهُمْ من الهنات ما لا يَسْلَمُ منه بشر ، وإنما نَظَرُ المنصِف نَظَرُ الغالب الذي لا يَنْهَضُ له نادر ، فلا حكم له يَرُدُّ مَا غَلَبَ من الحال مع سلامة من الكذب في النقل وذلك معيار الصحة في بلاغ الوحي وبيانه ، ولهم مع ذلك سلامة اللسان المفصِح ، وبه قد نَزَلَ الكتاب المحكم ، فَسَلِمَ لسانهم من اللحن والعجمة ، فَهُمْ أَعْلَمُ الناس بِمُرَادِ الشِّرْعَةِ التي نَزَلَتْ بهذا اللسان العربي المبين ، لا كَمَا حَالُ جيلٍ قد تلا ، إذ فَسَدَ منه النطق الباطن في تصور المعاني ، والظاهر في لفظ المباني ، فكان من الفَسَادِ ما قَد نَالَ التَّصَوُّرَ والحكمَ جَمِيعًا ، تَصَوُّرَ المعاني وَحُكْمًا في الخارج يُصَدِّقُ ، وهو حكم النطق الذي يُظْهِرُ المعاني في مَبَانٍ مفردة ، وما رُكِبَّ مِنْهَا جُمَلًا ذات دلالات أخص إذ يكون من قَيْدِ السياق ما يزيد في المعنى بما اطَّرَدَ من قانون النحو المركب ، مع تلاؤم بين الصوت والمدلول ، فكان من مادة المعجم ما اسْتُقْرِئَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ أول ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جعله الخصم غَرَضًا أن يَنَالَهُ من شبهاته ما يقدح في النقل والتحقيق ، فَلَيْسَ إلا المنتحلَ الدخيلَ ، فلا أصل له يَنْصَحُ كما زعم رُوَاتُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا ، فإذا نال من ذلك غرضا ، انتقل إلى تال يَتَنَاوَلُ الشريعة لفظا ومعنى ، فإن فاته منها النقل المتواتر ، فهو يقدح في الآحاد مع ما حُرِّرَ من اصطلاح يُدَقِّقُ في التصحيح والتضعيف وما يكتنف كُلًّا من قَرَائِنَ قَدْ تَنَاوَلَهَا أهلُ الشأنِ ما لم يَتَنَاوَلْهَا آخر ، وَإِنْ في كتابِ تشريعٍ جامع ، كما الكتاب الأول فإنه لم يحظ من ذلك بشيء ، ولو نَقْلَ الأخبار الآحادية في الشريعة الخاتمة ، مع توافر الهمم أَنْ تَجْمَعَ وَتُحَرِّرَ الكتاب الأول ، فلم يكن من أهله حِفْظٌ بل كان منهم بَعْضٌ من كهنة قد عَظُمَتْ جنايتهم إذ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا ، وكتبوا من الكتاب ما كتبوا بخطهم ، فكان من ذلك ما يواطئ أهواءهم وحظوظهم ، وذلك مما استوجب دَفْعَ الصائل باسم الدين في جيل اصطلح بعدا أنه التنوير ، فكان من ذَلِكَ غال في آخر لم يسلم من الغرض ، وَإِنِ اتَّخَذَ حجة ناصحة من البحث والنظر ، فَنَقَدَ ما بُدِّلَ من الكتاب الأول ، وإن لم يكن ثم زيادة إنصاف أن يطلب الكتاب الحق ، بل قد رَامَ نَقْضَ الأصل ، أصلِ الوحي مَرْجِعًا من خارج يجاوز ، فَرَدَّ الأمر إلى العقل ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، ولا يَسْلَمَانِ ، كما تقدم في مواضع ، لا يَسْلَمَانِ من الهوى والحظ ، وهو ما انْتَقَلَ به القوم من غُلُوٍّ إلى آخر ! ، ولم يكن من الدليل ما يَنْصَحُ إلا المقال المحدَث ، إن مقالَ كَهَنَةِ دين مبدَّل ، أو قبيل آخر لم يسلم من وصف الكاهن تحكما واستبدادا وإن باسم التجريب والبحث إذ تحكم في الحد ، فَحَدَّ العلم أنه ما يدرك بالحس حصرا ، وذلك من التحكُّمِ بما لا يخفى ، وقانون النظر له يَنْقُضُ ، إذ عدم الوجدان بالحس الظاهر لا يستلزم عدم الوجود في الخارج ، بل قد يُوجَدُ الشيء ، ولو غَيْبًا نسبيا في هذا العالم المحدَث ، ولا يدركه بعض فهو عنده غيب ، وليس ذلك ، بداهة ، دليلَ العدم في نفس الأمر ، بل هو الموجود وإن لم يدركه القاصر إذ عجزت منه المدارك ، فليس عجزه دليلا على قادر ، وليس جهله دليلا على عالم ، بل القادر والعالم حجة على ضد من عاجز وجاهل ، فمن علم فهو حجة على من لم يعلم ، وثم من الغيب ما لا يدرك إلا بالخبر ، فكان النظر في أدلته أولى من معارضتها بالحس ، فالجهة تَنْفَكُّ ، إذ الغيب يجاوز مدارك الحس ، وإن لم يجاوز أخرى في العقل ، ولو التجويز العقلي المحض ، فهو أول في الاستدلال إذ لا يأتِي الوحي بالمحال الذاتي ، وإنما يأتي بمحار هو في المبدإِ : الجائزُ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، إن في إيجاده أو في إثباته ، فيكون من خبر الغيب ما يرجح في العقل إذ قد تَوَقَّفَ ، بادي الرأي ، فلم يُثْبِتْ وَلَمْ يَنْفِ ، فالباب من الجائز المحتمل ، فهو يطلب من خَارِجٍ الدليلَ المرجِّحَ ، وليس في الغيب المطلق دليل ينصح إلا ما كان من خبر وحي يَنْزِلُ ، فهو مرجع من خارج يجاوز العقل والحس كافة ، فينصح لهما بإثبات أخص ، فكان من تحكم جِيلٍ يَنْهَضُ ، وإن تَدَرَّجَ في الدعوى ، فلم يَفْجَإِ الكهنة بخصومة تُعْلَنُ ، بل قد رَامَ من نصهم ما يشهد ، ولو لدعوى تُبْطِلُ أصلَ الوحي إذ تَنْزِلُ به من السماء إلى الأرض ، فيصير الإنسان فيها هو المركز ، ويصير العقل ، كما يقول أهل الشأن ، هو المعيار الحاكم فَإِلَيْهِ قد رُدَّتِ السلطة المطلقة ، ولو فيما جاوز مداركه ، فصار يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ في الوصف ، وصار بَعْدًا يحكم بإباحة أو بِحَظْرٍ مع ما تَقَدَّمَ مرارا من نَقْصٍ فِيهِ جِبِلَّةً ، وما يعتريه من الأهواء والأذواق ، إن الفرد أو المجموع ، فكان من ذلك ما اتخذ من العقل اسم شريعة ودين ، فهو دين الطبيعة الذي يَقْتَصِرُ على كُلِّيَّاتِ العقل المجملة ، وهو الدين الذي يواطئ حاجة الإنسان فهي باعث التشريع وليس للوحي إلا أن يستجيب ! ، وهو ما ضاهى مقالا في جِيلٍ قد تَأَخَّرَ قد نال من الوحي الخاتم أَنْ صَيَّرَهُ مثالا يستجيب لحاجة الجمع بما يكون من سبب عليه تَنْزِلُ الآي ، أو آخر عليه يَرِدُ الخبر ، فالإنسان هو الأصل والوحي فَرْعٌ لَهُ يَتْبَعُ ، فما كان وَحْيٌ إلا أن يحقق مآرب الخلق ، لا أن يكون محل ابتلاء بالخبر والحكم تأولا لغاية الخلق التي جاء بها الوحي نصا يجزم ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وهو ما اصطلح في مذاهب محدثة أنه المنفعة التي لم تجاوز في الحد ما يدرك بالحس ، فصنع الإنسانُ الدينَ الذي يواطئ حاجته ، كما صنعت الحكمة الأولى آلهتها ، وكان من تجسد اللاهوت في الناسوت ، وَصَلْبِهِ أَنْ يُحَرِّرَ الخلق فيدخلوا الملكوت ، كان من ذلك ما صَيَّرَ الإنسان هو الغاية والمقصد ، فليس الوحي إلا تاريخ الإنسان ، وقد اشْتُقَّ له من ذلك نسبةٌ إلى الإنسان ، فذلك وحي لم ينزل من السماء ، وإنما من الأرض قد خرج ! وإن تَذَرَّعَ بوحي ذي نسبة إلى السماء ، صَحَّتْ أو بَطَلَتْ ، فلا يكون من ذلك إلا انتقاء وتحكم ، أن يتخذ من الوحي دليلا يشهد لما انتحل من مذهب محدَث ، فالوحي يحكي احتياج الخلق إلى مثال كامل في الوصف ، فَعَجْزُ الإنسان قد ألجأه أن يصنع في الخارج إلها يَقْدِرُ ، فالوحي من العقل قد صدر ، وليس إلا حكاية حاجة تلجئ ، والإنسان ، كما تقدم ، هو المركز ، وهو ما قد رَفَدَ بَعْدًا جُمَلًا من المقالات قد غَلَتْ في الإنسان ، فَصَيَّرَتْهُ الخارق الذي لا يعجز ، فليس يحتاج إلا رب يقدر ، وذلك ما رام في مواضع ، ولو هدنة حتى يكون من القوة ما يدفع ، ما رام الاقتباس من الوحي أدلة تشهد لما أَحْدَثَ من القول ، صَحَّ النَّقْلُ أو بَطَلَ ، فإذا صح فهو يحتال بالتأويل الباطن إذ أَحْدَثَ من أدوات التفسير الباطل ما يخرج بالألفاظ عن دلالاتها الأولى ، ولا يَسْلَمُ له ذلك ، وَثَمَّ إرث من لسان ينصح ، فهو عمدة في الاستدلال المحكم الذي يقضي على تأويلاته بالبطلان إذ تخالف الضروري من اللسان : معجما واشتقاقا ونحوا وبيانا ، فهو يخالف عن معيار اللسان كَافَّةً ، فلا يسلم له هذا المذهب من التأويل الباطن إلا أن يقدح في الإرث المحكم من النَّثْرِ والنَّظْمِ ، وتلك ذريعة تأويل لا منتهى له ، وهو عوض من آخر قد جبن عنه ، ولو حتى حين ! ، أن يقدح في نقل الوحي ، وإن جعل من ذلك غَرَضًا يُقَرِّبُ أن يقدح في صحة آحاد تُنْقَلُ ، فإن لم يطق ، فهو يقدح في أصل الاحتجاج بها ، ولو في بعض من المسائل ، تفريقا بين متماثلات ، فيحتج بها في باب ويردها في آخر ، وتلك ذريعة لمن تلا أن يَرُدَّهَا في الأبواب كافة ، وأن يَزِيدَ فيقدح في أصل الصحة ، بل ويقدح بَعْدًا في أصل الوحي المنزل ، فلا يطلب مرجعا من خارج يفصل ، إذ لم يكن ثم من ذلك إلا دين الكهنة وليس من دين النبوة في شيء إلا الاشتراك في الاسم وأصل النسبة مع بَلْوَى قد عمت بما قارف الكهنة من جناية في الحس وفي المعنى ، فَنَفَرَ الخلق من الحق ، وكان من ضِدٍّ في الفعل ما قد غَلَا أن صار العقل والحس وحدهما مرجعَ التصور والحكم ، فما خالف عنهما فهو العدم ، وتلك حكاية خصومة قد استحكمت في عصر وسيط يظلم بين دين كهنة محدث ، وآخر من عقل يروم التحرر ، فَغَلَا في ضِدٍّ من الفعل ، وكان ما كان من خصومة الوحي أن لم يكن منه مثال في الخارج إلا دين الكهنة الباطل ، فضاهى به من ضاهى وحي النبوة الخاتم قِيَاسًا مع الفارق ، أي فارق ، فاقترح من الخصومة ما لم يكن في النبوة الخاتمة إذ لا يعارض منقولُها الصحيح المعقولَ الصريح ، بل هو له يَرْفِدُ رَائِدَ صدقٍ يَنْصَحُ ، وهو ، أبدا ، يتصدر ، فذلك الرائد الذي لا يكذب أهله ، وهو ما تَوَجَّهَ به الخطاب ، على التفصيل آنف الذكر ، فمنه خطاب أول قد توجه إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كما في قوله ![]() إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فلا يخاطب واحدا مُعَيَّنًا في الخارج وإنما يصدق ضمير الخطاب "أَنْتَ" في كل مخاطب حضر أو غاب ، وجد أو عُدِمَ فَلَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ . وقد يقال إن الجمعَ قَدْ دَخَلَ ، بادي الرأي ، فَزِيدَ في حد المفرد من الحد ، سواء أقيل إنه خاصٌّ يُرَادُ به عام ، أو العموم قد ثَبَتَ ، مَبْدَأَ النَّظَرِ ، وقد شهد له آخر في مواضع من التنزيل ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#9
|
|||
|
|||
![]() وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما خالف عنه خصوم النبوات ، إذ كان من قياسهم ما قد فَسَدَ ، فقد رَدَّ الغائب وهو الخالق العليم ، جل وعلا ، إلى الشاهد من المخلوق المحدَث ، فكان من ذلك ظَنٌّ باطل فهو المذموم في آي الوحي النازل ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، وله من سبب النزول ما يُؤْثَرُ ، إذ : "كانَ رَجُلَانِ مِن قُرَيْشٍ وخَتَنٌ لهما مِن ثَقِيفَ -أوْ رَجُلَانِ مِن ثَقِيفَ وخَتَنٌ لهما مِن قُرَيْشٍ- في بَيْتٍ ، وفي رواية أخرى تبين عن وصفهم "كَثِيرَةٌ شحومُ بطونهم ، قَلِيلٌ فقهُ قلوبِهم" ، فَقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أتُرَوْنَ أنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا؟ قالَ بَعْضُهُمْ: يَسْمَعُ بَعْضَهُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ، فَأُنْزِلَتْ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ)" ، فَكَانَ من وصفهم ما أَفَادَ كَسَلًا فَلَا حَرَكَةَ تَنْفَعُ في دين أو دنيا ، وتلك ذريعة أن يكثر الشحم بما يعالج القاعد من الترف والنوم ، وهما مما به القلب يقسو ، والعقل يضعف ، فكان من ذلك فَسَادُ التَّصَوُّرِ في باب الإلهيات ، أَنْ قَاسُوا وصف الخالق ، جل وعلا ، على وصف المخلوق ، في وصف السمع خاصة ، والعلم عامة ، فعلم الخالق ، جل وعلا ، العلم المحيط الجامع إِنْ فِي تَقْدِيرٍ أول قد استغرق المقدورات كافة ، الكونية والشرعية ، ومنها ما يكون من تقدير الأعيان في الأزل ، وما يقوم بها من الأوصاف ، ولا يخلو ذلك من حكمة في التقدير الأول ، فليست كما زعم من قال بالخبط والعشواء ، فَإِنَّ إعطاءَ كُلِّ ذي خلق الخلقةَ التي تواطئ ، ذلك مما اطَّرَدَ في الأجناس والأنواع كافة ، وهو ما لا يكون بداهة ، وهو الوصف الأخص ، ما لا يكون بلا عَلِيمٍ أول يُقَدِّرُ تَقْدِيرَ الحكمة في الهيئة والسبب الذي يُبَاشِرُ ، ولا يكون قَبْلًا وهو الوصف الأعم ، لا يكون بلا مُوجِدٍ أول ، فذلك مما امتنع في القياس المصرح إذ يوجب ، كما تقدم مرارا ، الأول الذي لا أول قبله ، فإليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، تقديرا وإيجادا وتدبيرا أن هُيِّئَ لَهَا من المحالِّ مَا يَقْبَلُ ، وكان من رِكْزٍ في كُلٍّ ما قد أُحْكِمَ ، رِكْزِ التَّأْثِيرِ في السبب ، وَرِكْزِ القبولِ في المحلِّ ، وهو ما لا يكون إيجادا مطلقا لماهيات قد جُرِّدَتْ من وصفٍ أخص يجاوز مطلق الوجود ، فذلك مما لا حقيقة له في الخارج تثبت ، بل ثم من وجودِ كُلٍّ في الخارج ما امتاز من غير بما كان من وصف أخص ، وبه يمتاز من بقية الموجودات ، ويكون من ذلك قسمة في الذهن تنصح ، إذ ثم من الوجود جنس في الحد والتعريفِ يُضَاهِي مطلقَ الحصولِ والثبوتِ في الخارج ، فلا يلزم منه خلق وحدوث من العدم ، كما المخلوق المحدَث ومنه ما يغيب فلا يدرك إلا بخبر يأرز إلى مرجع مجاوز من خارج ، كما الملَك والجن والعرش وما كان من أول في قصة الخلق ، ومنه آخر يُشْهَدُ بما تناولته مدارك الحس الظاهر ، فذلك الموجود المحدَث ، حدوث الأعيان وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام وعامة الأحوال ، وثم آخر لا يصدق فيه وصف الحدوث من العدم ، وإن كان من آحاد أفعال ما يحدث إذ يناط بمشيئة تَنْفُذُ ، فليس ذلك مما يحدث الحدوث المطلق من العدم ، كما وصف المخلوق المحدث ، وإنما يُحْدِثُ الخالقُ ، جل وعلا ، من آحادِ أفعالٍ ما يُنَاطُ بالمشيئة ، ونوع الوصف ، مع ذلك ، قديم أول ، كما الذات التي يقوم بها ، وذلك أصل يستصحب في أوصاف الأفعال كَافَّةً ، فَثَمَّ شطر آخر في القسمة ، قسمةِ الوجودِ ، إذ ثم واجب وجود أول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو الأول فَلَا أول قبله ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الذَّاتَ وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام ، وإن كان من أفعال التكوين آحادٌ تُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ فَهِي المرجِّح في الجائز ، أن يكون له بَعْدًا من الحقيقة في الخارج ما يصدق علم التقدير الأول ، وهو العلم الذي يجاوز ، فليس العلمَ الموجِد إذ يُثْبِتُ الحقيقة مطلقا ، فَذَلِكَ العلم الكلي المجمل الذي اقتصر عليه أرباب الحكمة الأولى فَمَنْ بَلَغَ منهم في الباب شَأْنًا ! ، لم يجاوز أن أَثْبَتَ أولا لهذا الخلق طَرْدًا لِمَا دَلَّتْ عليه ضرورات العقل ، ولكنه لم يحسن القول ، فذلك باب غيب لا يُتَلَقَّى إلا من مِشْكَاةِ الوحيِ ، فَمَا أُجْمِلَ فِي الوجدان مقدماتٍ في الاستدلال هي الأولى ، ومنها أصل يستصحب في باب الفعل والتأثير أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فلا يحسم هذه المادة إلا أول لا أول قَبْلَهُ ، له من الوجود وصف أخص ، فالوجود الثَّابِتُ في حقه ليس كالوجود المحدَث من العدم ، كما المخلوق ، إِنِ المغيَّب أو المشهود ، على التفصيل آنف الذكر ، فوجود الأول ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، يقتصر في دلالة المعجم المفرد على الحصول والثبوت ، لَا مَا زَادَ في حَقِّ المخلوقِ من الوجود بعد عدم ، فذلك مما انْتَفَى بَدَاهَةً في حق الأول ، فإنه إن كان الموجود بعد عدم ، فذلك مَا يُسَوِّيهِ بالمخلوق المحدَث ، فيكون الجائز مثله ، فلا ينفك يفتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجوده ، بداهة ، إِنْ سُلِّمَ أنه الجائز ، بادي الرأي ، لا يكون وجوده بلا موجِد ، فيكون من ذلك ما امتنع في القياس المصرح أن الممكن أو الجائز لا بد له من موجِب أو مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجود محدَث من العدم بلا موجِد يتقدم ، ولا يكون ترجيح في جائز بلا مرجِّح ، فذلك مما يوجب أبدا ، رَدَّ الجائزات أو الموجودات المحدَثة من العدم ، إلى أول لا أول قبله ، فَلَئِنْ شاطرها جنس الوجود الأعلى ، فقد امتاز منها ، إِنْ في معنى أخص في معجم اللسان المفرد ، فوجود الخالق الأول ، جل وعلا ، وجود واجب أول له من ذلك الوصف المطلق ، واجب الوجود الأول ، وله من ذلك توحيد يَنْصَحُ في العلم ، وهو ما يواطئ الضروري من مقدمات الاستدلال في العقل ، أَنَّ الجائزات كافة مما يَتَسَلْسَلُ ، فكلُّ جائزٍ يطلب قَبْلًا موجِبًا له فهو فيه يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح حتى تُرَدَّ هذه الجائزات كَافَّةً إلى واجب أول ، له من وصف الوجود ما به امْتَازَ مِنْ سَائِرِ الموجودات المخلوقات ، فهو واجب وهي جائزة ، وَعَنْهُ جَمِيعًا تصدر ، صدورَ الجائز الممكن عن الواجب المرجِّح ، وهو ما امتاز ، كما تقدم ، بقيد أخص ، قيد الأولية المطلقة ، والذاتية التي لا تُعَلَّلُ ، فوجوده الواجب لا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح أول يَتَقَدَّمُ ، بل له ، كما تقدم ، من الوصف أولية مطلقة فلا أول يَتَقَدَّمُهُ في الوجود ، بل كل الأوليات سواه ، فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ ، إذ ليس من وصف الأول الأخص ، الوصف المطلق الذي لم يسبق بأول ، ليس من هذا الوصف الأخص إلا واحد يثبت لأوَّلٍ وَاحِدٍ دون غيره ، وإلا أفضى الأمر إلى التسلسل الممتنع في العقل ، تسلسل المؤثِّرين في الأزل ، فلا يكون الوجود المحدَث من هذا العالم ، لا يكون إلا أن يُرَدَّ إلى واجبٍ أوَّلَ ، مِنْ غير قد امتاز أَنَّ وجوبه ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليه فهو يفتقر ، وهو ما زاد في دلالة "أل" في اسمه "الأول" ، فهي تحكي أولا يُبِينُ عن جنس المدخول من وصف الأولية ، وهو مما يقبل الشركة في الخارج كما الوجود ، إذ ثم من الأولية : أولية مطلقة لا أولية تَتَقَدَّمُهَا ، بل هي الواجبة لذاتها فلا تفتقر إلى سبب من خارج ، وذلك ما رفد "أل" إذ تحكي ما زَادَ من استغراقٍ قد تَنَاوَلَ وجوه المعنى كافة ، وكذا آحادها ، فذلك ما يصدق في الذات أولا ، ويصدق بَعْدًا فِيمَا يَقُومُ بِهَا من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَلَهُ من وصف الخلق أول لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله منه ما عم وجوهَ المعنى فذلك خلق التقدير في الأزل بما كان من العلم المحيط الجامع ، وَثَمَّ خَلْقٌ تَالٍ يُصَدِّقُ ، خلقُ الإيجادِ من العدم ، مع تصويرٍ لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وذلك تأويل اسمه البديع ، وهو مما قُيِّدَ في نص التنزيل ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وذلك "فعيل" من "فاعل" ، فهو البديع من المبدِع ، وهو اسم الفاعل من الرباعي "أَبْدَعَ" ، وهو ، من وجه آخر ، مما يجري مجرى المثال لعام يستغرق ، فلا يقتصر الوصف ، بداهة ، على السماوات والأرض ، بل يجري الباب ، لو تدبر الناظر ، مجرى التنبيه بالأعلى على الأدنى ، كما في قوله
![]() ![]() ![]() فالوجود الذي يَصِحُّ به إطلاق لفظ الموجودِ على الخالق ، جل وعلا ، إنما يقتصر في الدلالة اللغوية على الثبوت والحصول دون الحدوثِ من عَدَمٍ ، وإن كان من وصف الباري ، جل وعلا ، ما يَصْدُقُ فيه وصف الحدوث ، لا أنه من العدم ، فَثَمَّ من وصف الفعل والحكم ما يصدق فيه أنه حادث ، لا حدوثَ نَوْعِهِ بل هو قديم أول ، وإنما يحدث منه في الخارج آحاد تصدق ، فهي لنوعه الأول تَتَأَوَّلُ ، كما تقدم من خلق أول ، فذلك ما يكون بعلم محيط يستغرق ، وهو ما قَدُمَ نوعه ، وثم من آحاده في الخارج ، كلمات تكوين تحدث ، وبها تأويل ما كان أولا من علم محيط يقدر ، فذلك علم تال ، والكلمات الكونية منه ، فيصدق فيه حُدُوثُ آحادٍ بمشيئة تُرَجِّحُ لا حدوث نوعٍ ، بل هو القديم الأول ، والمشيئة له تَتَأَوَّلُ بما يكون من وجود في الخارج يصدق ، فذلك خلق الإيجاد الذي يصدق ما كان أولا من التقدير المحكم ، فيصدق فيه أنه علم الظهور والانكشاف لما كان أولا من تقدير قَبْلَ الإيجاد ، وثم من العلم بعدا : علم الإحصاء الذي يصدق إذ يستنسخ ما كان في هذا الوجود المحدَث فلا يقع إلا تصديقا لما تقدم من علم أول يحيط وما سطر بَعْدًا في لوح التقدير . فكان من اعتياد التَّرَفِ ما أفسد تصور أولئك النفر الذين جَلَسُوا في بَيْتٍ وَتَنَاوَلُوا بَابًا من الإلهيات ، باب السمع والعلم ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فلم تطق أذهانهم البليدة التي أفسدها الترف إذ راكم من الشحوم في أبدانهم بِطْنَةً أذهبت الفطنة والفكرة ، فلم يكن منهم إلا قياس الغائب على الشاهد ، مع القدر الفارق ، أَيِّ قَدْرٍ ! ، فكما الإنسان لا يملك من السمع إلا المدارك المحدودة بأصل الخلقة فلا يسمع إن جاوزها الصوت ، فكذا الرب الخالق ، جل وعلا ! ، فليس إلا التشبيه المذموم الذي يدل على طبع أدنى قد انحط إلى مدارك الحس السفلى ، وهو ما عَمَّتْ بَلْوَاهُ في الجيل المحدَث أن صار الحس هو المرجع فَحُدَّ به العلم فما جاوزه فليس بِعِلْمٍ ، بل العلم هو التجريب والوضع حصرا فَنَشَأَ جِيلٌ من الحضارة على هذه القاعدة التي تُعَزِّزُ في النفوس الأثرة والشح طلبا لِلَذَّةِ حِسٍّ قد صارت هي منتهى السؤل مع جحود ، يصرح تارة وَيُكَنِّي أخرى ، فليس ثم بعد هذه الدار أخرى تجاوز ليعمل لأجلها العامل ويحتمل من الجهد والنصب ما به يَدَّخِرُ الأجر في دار غيب ، فلو كانت لأدركها الحس الذي صار وحده معيار العلم ! ، فلم يحسن أولئك النفر الرجوع في هذا الباب الشريف ، باب الإلهيات ، إلى مرجع يجاوز من الوحي الصحيح ، فلا يخالف عن قياس العقل الصريح الذي يَقْضِي ضرورة بِقَدْرٍ مشترك في الباب ، وهو المعنى المجرد في الذهن ، وآخر فارق في الحقيقةِ والكيفِ في الخارج ، فَلَيْسَ السمعُ كالسَّمْعِ ، وإن اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، إذ ليس السامع كالسامع في الخارج ، فَثَمَّ من قيد الإضافة إلى الموصوف ما يميز الحقائق في الخارج ، فَسَمْعُ الخالقِ ، جل وعلا ، يُغَايِرُ ، بَدَاهَةً ، عن سمع المخلوق ، إذ القول في الوصف فرع عن القول في الموصوف ، كما يقول أهل الشأن ، وإنما اعتادت النفوس التَّرَفَ الذي يفسد النظر ، وَيَنْحَطُّ بِصَاحِبِهِ إلى دركة الحس فلا يحسن ينظر في المعقولات ، وإن عالجت المشهود من ظواهر الاجتماع والسياسة ..... إلخ ، فكيف بالإلهيات وهي مادة من غيب أَعْلَى يُجَاوِزُ طَوْرَ العقلِ في درك الحقائق ، وإن لم يَتَكَلَّفْ من ذلك ما يُلْجِئُ العقل ويحرج أن يؤمن بالمحال الذاتي الذي لا وجود له في الخارج يصدق ، فلا يجاوز ، كما تقدم في مواضع ، حَدَّ الفرضِ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فالغيبيات ، عامة ، والإلهيات خاصة ، مما لا يَتَنَاوَلُهُ العقل إلا الإيجاب في مواضع كَمَا رِكْزْ الفطرة الأولى التي تشهد ضرورة بخالق أول ، وصفُه العلم المحيط المستغرق لِمَا خَلَقَ ، فذلك ما جاوز الجليل من الأعيان إلى الدقيق من الأوصاف والأحوال ، فَثَمَّ ، من ذلك تأويل قد استغرق من الأسماء ثلاثة : العليم والخبير واللطيف ، فهو عليم قد استغرق علمه العاملَ وعمله ، الذواتَ وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، إِنِ الاختياريَّةَ أو الاضطراريَّةَ ، إن الدينيَّةَ أو العاديَّةَ ، فذلك علم قد تَنَاوَلَ تَقْدِيرًا هو الأول ، وبه الخلق كان ، فهو علم يُؤَثِّرُ في المقادير ، وهو مرجع في الأزل قد ثَبَتَ ، وتلك الأولية التي أُطْلِقَتْ فَاسْتَغْرَقَتْ ذَاتَ الخالقِ ، جل وعلا ، وما قام بها من وصفِ الذَّاتِ والفعلِ ، الخبري الذي يجري مجرى الجائز فلا ترجيح فيه من خارج بما يكون من رِكْزِ فطرةٍ أو عَقْلٍ ، بل مرجعه إلى الوحي مطلقا ، كما المثل يضرب بأوصاف اليد والوجه ...... إلخ ، فذلك مما لا يوجبه العقل ولا يمنعه ، بل هو الجائز المحتمل ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ ، إذ ليس ثَمَّ مَرْجِعٌ يُثْبِتُ أو آخر يَنْفِي ، وإن كان ثَمَّ نَفْيٌ في الباب فهو المستصحب في باب الأصل فيه التوقف ، فَلَيْسَ النفي أَنْ كان ثَمَّ دليل أخص يَنْفِي الوصف محل البحث ، وثم من الوصف آخر ، وهو محل الشاهد من العلم والخبرة واللطف ، فذلك مما اصطلح أنه من أوصاف المعاني ، فإن العقل يَتَصَوَّرُهَا ، بادي الرأي ، بل وَيُوجِبُهَا بما رُكِزَ فيه من مقدمات الاستدلال الضرورية ، فلا خَلْقَ إلا بِعِلْمٍ أَوَّلَ يَتَقَدَّمُ ، وذلك خلق التقدير ، ولا خلق إلا بِقُدْرَةٍ بها إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، ودليل الخلق الشاهد إِنْ أَجْرَامًا أو أعيانًا وما كان من سنن محكم به التدبير ، كل أولئك يشهد ، أَيْضًا ، ضَرُورَةً فِي العقل تُلْجِئُ أَنَّ ثَمَّ من العلم ما هو أخص ، حِكْمَةً تَتَنَاوَلُ المحالَّ وما يُبَاشِرُهَا من الأسبابِ ، وَمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى في المحل تَقْبَلُ ، وأخرى في السبب تُؤَثِّرُ ، وَخِبْرَةً تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وَلُطْفًا وَخَفَاءً في التأثير والفعل ، فَيُسْتَدَلُّ عليه بما كان من آثار في الصنعة فَهِيَ تحكي أولا من وجود الصانع إذ لا حادث بلا محدِث ، فذلك مما يخالف عن ضرورات العقل المحكم ، وتحكي بَعْدًا من حكمة في التقدير ، وخبرةٍ تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وخفاءٍ قد تَقَدَّمَ ، خفاءِ اللطيف فلا تدركه الأبصار المخلوقة في دار التكليف ، فذلك ما يُبْطِلُ خاصة الابتلاء في باب الاعتقاد أن يؤمن المكلف بغيب لا يخالف عن قياس العقل المحكم ، وإن ابتلاه بما يحار في حقيقته وكيفه لا ما يحيله من الممتنعات الذاتية ، وإن أَدْرَكَهُ بَعْدًا في دار الجزاء ، فلا يحيط به ، وذلك ، أيضا ، قياس العقل المحكم إذ يقضي ضرورة أن المحدود من نظر المخلوق لا يحيط بغير المحدود من حقيقة الرب المعبود ، جل وعلا ، فَكُلُّ أولئك مما يدل عليه العقل ضرورةً بِمَا رُكِزَ فيه من مقدمات استدلال أولى ، وكذا ما يكون بَعْدًا من قدرة تَنْفُذُ ، وبها ، كما تقدم ، إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، من الغيبِ إلى الشهادة ، فكل أولئك من أوصاف المعاني التي يَزِيدُ العقل فيها دلالة إيجابٍ تُرَجِّحُ ، فليس يَتَوَقَّفُ العقلُ فِيهَا عند التجويز العقلي المحض ، فهي مَعَانٍ يُدْرِكُهَا العقل إِدْرَاكًا أَخَصَّ ، ولكنه ، مع ذلك ، لا يستقل فيها بإثبات أخص ، إذ الوحي ، أَبَدًا ، رَائِدٌ فِي التَّكْلِيفِ مَرْجِعًا يجاوز من خارج ، إِنْ فِي الأخبارِ أو في الأحكامِ ، فهو رائد العقل في باب الأمر والنهي ، مُصَدِّقًا لأول قد رُكِزَ فِي العقلِ من معيار الحسن والقبح المحكم وهو ، مع ذلك ، يُفَصِّلُ مَا أُجْمِلَ منه ، وَيُقَوِّمُ ما اعوج منه إذ فسدت الفطرة بما يكون من وسواس من خارج ، ما خَفَيِ من شيطانٍ وحديثِ نَفْسٍ وما ظهر من مَلَإٍ قد استجمع أسبابا بها يأطر الجمع على ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه وما يطرأ من المصلحة والمنفعة الخاصة ، وإن اكتست لحاء العام فهو الموضوعي المجاوز لعقول الأفراد ، فلا يَنْفَكُّ ، وهو أعلى ، يخضع لمؤثرات أدنى إذ لم يفارق وصف الأرضي المحدَث ، فَثَمَّ أسباب يمتلكها قليل وبها يأطر كثيرا على ما بِهِ طغيان الأول يَرْسَخُ ، فَيَرُومُ أَنْ يكونَ إِلَهًا يُعْبَدُ ، كما يحكي بعض النظار في جيلٍ قد تَأَخَّرَ من موت حضارة وأمة قد امتلكت الأشياء ولم تأطرها بناصح من الأفكار ، بل قد صارت ذريعة الطغيان ، فالإنسان فِيهَا قَدْ أَعْلَنَ التمرد والعصيان لِأَمْرِ الخالقِ ونهيه ، بل وَتَبَجَّحَ أَنْ خَالَفَ عن فطرة التكوين الأولى بما سلك من بُنَيَّاتٍ حَادَتْ بِهِ عن الجادة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، ولو لم يكن لهم من دين الوحي ما يَعْصِمُ ، فَثَمَّ من فطرة التكوين الأولى بَقِيَّةٌ تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ، فكان من مكرِ الملإِ أَنْ يأطر الجمع على رَأْيٍ يُوَاطِئُ طغيانه ، فقد صار الإله الحاكم إذ مات الإله الخالق وَاسْتُبْدِلَ به الإنسان الذي طَغَى فَنَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، مَنْصِبَ التشريع في إباحة وحظر ، وَتَقَصَّدَ المخالفة في الأمر والنهي أن يكون هو المرجع المجاوز في الحكم ، وإن لم يكن له من علم ما يعصم من الخطإ مع ما جُبِلَ عليه من نَقْصٍ ، وَطَلَبِ حَظٍّ ، وَطَارِئِ مَرَضٍ وهرم .... إلخ ، فكل أولئك مَئِنَّةُ اتِّهَامٍ أن يكون المرجعُ هو الهوى والذوق ، وهو ما اضطرب فلا يستقر ، وقد صار أوله منفعة أو مصلحة ، إن لفرد أو لجمع ، فَلَا تَنْضَبِطُ في الخارج إذ يَتَنَازَعُهَا أصحابها ، وهي لمن غلب ، فيكتب من الشرع ما يُرَسِّخُ غَلَبَتَهُ ، فإذا غَلَبَهُ آخر نَسَخَ شريعته بأخرى ، فالمرجع لا يستقر أَبَدًا بما يطرأ لكلٍّ من وجوه المصلحة ، معتبرة أو مهدَرَةٍ ، ودليل النسخ ليس المحكم من خارج الخصوم ، فَلَيْسَ إلا القوة التي يمتلكها الغالب فَيَقْهَرُ المغلوبَ على حكمه وَيُصَيِّرَهُ الشرعَ المحكمَ حتى يأتي آخر يَغْلِبُ ، فالشريعة لِمَنْ غَلَبَ كَمَا الدولة والسلطان ! ، وذلك ما يُؤْذِنُ بالفساد إذ ثم اضطراب في المرجع بما كان من تَنَازُعِ خُصُومٍ تَكْثُرُ ، فَلِأَيِّهم يُسَلِّمُ الجمع المغلوب ، وَإِنْ قُضِيَ الأمر باسمه في مُثُلٍ تَمْكُرُ ، فَتُفْسِحُ له أن يختار فهو الحر الممَكَّنُ ، وهو ، مع ذلك ، لَا يَخْتَارُ إلا ما اختارت له إذ تحكمت في القسمة سَبْرًا وَتَقْسِيمًا ، فآل الأمر إليها ، وَإِنْ بَاشَرَهُ الجمعُ بِيَدِهِ لا بِيَدِ عمرو ! ، فَلَيْسَ يَسْلَمُ عقلُ الفرد ولا الجمع ، إلا أن يكون ثم مرجع من أعلى يجاوز العقول كافة ، فهو الموضوعي المطلق ، كما اصطلح أرباب المنطق ، فليس الموضوعي المقيَّد من عَقْلِ جَمْعٍ يصدق فيه أنه موضوعي يجاوز عقول الأفراد ، ولكنه ليس المطلَقَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عوامل في الأرض تُؤَثِّرُ ، مكر الملإِ إذ يُوَسْوِسُ ، فلا يحسم هذا الوسواس إلا وحي من السماء قد تَنَزَّلَ ، وإلا رُدَّ كُلٌّ إِلَى عَقْلِهِ الأخص فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ الفردِ ، أو إلى آخر قد صُنِعَ عَلَى مُكْثٍ بِمَا كان من دعاية وَتَزْيِينٍ ، فَحَصَلَ منه معيار تحسينٍ وَتَقْبِيحٍ لم يسلم من التأثير بل والتبديل والتحريف حتى يَرَى القبيحَ حَسَنًا ، والحسنَ قَبِيحًا ، كما تقدم من نظم أبي الطيب في مواضع ، فـ : يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فذلك نكد في أمر سياسة أو حرب ، فكيف بما جاوز من أمرِ دِينٍ يَتَنَاوَلُ الكليات والجزئيات كافة ، إِنِ الخبرَ المبيِّن أو الشرع المحكَّم الذي استغرق الجليل والدقيق كافة من أحوال الاختيار ما بطن من الاعتقاد والإرادة وَجُمِلَ من أعمال الجنان ، وما ظهر فَصَدَّقَ على اللسان وبه قد شهدت الأركان في امتثال الأمر فِعْلًا والنهي تَرْكًا ، فكان من أولئك الطواغيت إذ استجمعوا من السبب ما به اغْتَرُّوا ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، بِضِدِّ دعواهم يشهد ، إذ ليس الإلهُ المستغني مَنْ يَطْلُبُ السبب الذي به يَسْتَغْنِي ، بل له من وصف الغنى ما أطلق ، فالأسباب والمحال وكل شيء في هذا الكون المحدَث فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ الافتقارَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، كما غِنَى الخالق الحق هو الأول فَلَيْسَ قبله شيء ، فهو ، أيضا ، مما تناولته الأولية المطلقة ، إذ استغرقت الذات المقدسة وما قام بها من أوصاف الكمال المطلق ، فكان من أولئك الطواغيت ما خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس الشاهد بِنَقْصِ جِبِلَّتِهِمْ وطريقتهم ، فكان منهم أَنْ نازعوا الإله الحاكم ، جل وعلا ، منصب التشريع ، بل وَنَازَعَ جيل آت قد عَظُمَ فُحْشُهُ في الاعتقاد والعمل ، نَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، منصب التكوين في إيجادٍ وخلقٍ على فطرة أولى رَامَ الطاغوت المحدَث إفسادها بما وَسْوَسَ ، فَخَرَجَ عَنْ كُلِّ معقول ولا زال ، فلا منتهى له في الضلال إذ قد حاد عن معدن الهداية في الفطرة والشرعة ، في الفكرة والحركة ، فذلك وحي النبوة الذي جاوز من خارج ، وَهُوَ رَائِدُ العقلِ فِي بابِ الإثباتِ والنفيِ مُصَدِّقًا لأول من معاني الكمال المطلق وهي مما أُجْمِلَ في الذهن من أوصاف المعاني ، وَمُفَصِّلًا بما كان من أدلة أخص في الباب ، كما في هذا الموضع الذي ذم النفر السمين السفيه أن أنكر من وصف الخالق ، جل وعلا ، ما دل عليه العقل ضرورة ، فهو من صفات المعاني التي يدركها العقل ، بادي الرأي ، وليس ، مع ذلك ، يستقل بالإثبات ، وإن كان منه دليل ناصح في معاني الكمال المطلق ، فالوحي ، أبدا ، أول وَثَمَّ تَالٍ له من العقلِ كما في صفات المعاني ، والفطرةِ التي تحكي من التوحيد الخبري والحكمي مادة ضرورة مجملة لا تنفك ، أيضا ، تطلب بَيَانًا من خارج يفصل ، مع معيار في التقويم إِنِ اعْوَجَّتْ وخالفت عن الجادة ، والحسِّ فهو شاهد بدليل الإتقان في الخلقة والإحكام في السنة مع العناية بالخلق كافة ، فتلك رحمة عامة قد استغرقت ، فكل أولئك دليل علم وحكمة ، ومشيئة وقدرة ، مع رحمة بالخلق بما تَنَزَّلَ من أسباب الرزق ، وهداية في الباب أعم بها تقام الحجة على الخلق ، وأخرى أخص قد امتن بها الخالق ، جل وعلا ، على قَبِيلٍ مؤمن قد استجاب لداعي النبوة إذ يُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ ، فكان من هذا النفر السمين السفيه ما جحد ضرورة في العقل من إحاطة علم وسمع ، مع أخرى أقبح إذ خالفت عن نص الوحي المنزل ، فكان من الآي ما سجل الجناية ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وحسن لأجله إيراد الكينونة الماضية فهي مئنة ديمومة في الوصف وذلك آكد في الإثبات ، مع آخر أعم يستصحب في بَابِ الزِّيَادَاتِ كَافَّةً ، فزيادة المبنى لا تنفك تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، وثم من الشهود ما أطنب في ذكره إِنْ فِي حَدِّهِ مِنْ "أَنْ" وما دخلت عليه من العامل المضارع "تَسْتَتِرُونَ" ، فهي في تأويل المصدر ، على تقدير : وما كنتم تستترون من شهادة السمع والأبصار والجلود ، وقد حذف الجار "مِنْ" على ما اطرد ، أَيْضًا ، في لسان العرب من الحذف والإيصال أن يَتَعَدَّى اللازم بواسطة تُحْذَفُ وهي في الكلام تُقَدَّرُ ، وكان من آخَرَ في الإطناب أَنِ اسْتَوْفَى مَدَارِكَ الحسِّ الظاهرِ من السمع والبصر والجلد ، مع تكرار النفي وأداته "لَا "، فذلك ، أيضا ، من زيادة المبنى التي تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، ومن ثم كان الاستدراك الذي يجري مجرى التعليل ، فما كنتم تستترون ، وذلك خطاب الجوارح إذ تشهد ، لأنكم ظننتم الظن الفاسد : (أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ التوكيد بالناسخ ، وذلك ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية ، وقد سَدَّ مَسَدَّ المفعولين للعامل "ظَنَّ" ، ولا يخلو من الإطناب بالناسخ ومدخوليه إذ ناب سِيَاقُهُمْ عن مفعولين يُقَدَّرَانِ في الكلام ، فَظَنَنْتُمْ عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، مُنْتَفِيًا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تعملون ، وذلك ظن يحكي الاعتقاد الجازم ، وإن فَاسِدًا ، وهو ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية أَنْ حصلت منهم جزما يقطع ، فالظن ، كما يقول أهل الشأن ، مادة يجردها الذهن ولها في الخارج آحاد تَتَفَاوَتُ على سبيل الاشتراك ، فَثَمَّ ظن يجري مجرى الجزم ، ومنه الصحيح كما في قوله ![]() فكان من ذلك دَرْسٌ مقارن إن في رواية الأخبار الدينية أو نظيرتها التاريخية ، وهو درس يَتَنَاوَلُ النقد الخارجي لإسناد الرواية المنطوقة أو المكتوبة ، وذلك ما استوجب جَمْعَ الطرق والكتب والمقارنة بَيْنَهَا على قَاعِدَةِ نَظَرٍ يدق فهو يَتَنَاوَلُ منها الاختلافات ، وَإِنْ دَقَّتْ ، ويميز منها المخارج ، فَلَا يُسَوِّي بَيْنَ ما ظاهره تَعَدُّدُ المخارج وأصله واحد ، وما تعددت مخارجه ، فَثَمَّ من الطرق المجموعة زيادات بها يَسْتَبِينُ الخطأ ، وأخرى يستفاد منها إن في الإسناد أو في المتن كما اصطلح في علم الرواية أنه زيادة الثقة .... إلخ من معايير النقد والنظر المحكمة ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، أمر يستوجب التحرر من نَزْعَةِ التَّقْلِيدِ في تدوين التاريخ ، والتي تعتمد الرواية المجردة دون نَظْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ اصطلح في الدرس التاريخي المعاصر أنها النقد الداخلي لمتن الخبر ، وهو محل نِقَاشٍ في الدرس الإسلامي المعاصر ، فَثَمَّ من ينظر في نشأة التدوين لدى كل فريق ، ففي الدرس الإسلامي كانت نشأة الرواية التاريخية التي غلب عليها الجمع والتدوين ، كانت هذه النشأة على قاعدة فكرية مستقرة ، فالوحي قد أعطى العقل المسلم جواب السؤالات الكونية الكبرى التي انطلق منها العقل على قاعدة محكمة من النقل ، وهو ما يُشَبِّهُهُ بَعْضُ المفكرين بشهود النبوة وشهود التصوف ، فشهود النبوة في الغار وما كان بَعْدًا في المعراج ، كان قوة روحية كبرى باشرت بها النبوة التأثير الفاعل في ضبط حركة التاريخ ، خلاف الشهود الصوفي ذي الطابع التجريدي الذي خَرَجَ من دائرة الفعل الإصلاحي بعد سلوكه مسلك الفلسفة الباطنية ذات الأصول اليونانية التي غلب عليها الطابع التجريدي ، فالوحي ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، بدايةٌ ، بدايةُ الفعل المؤثر في الخارج دعوة وفتحا ، فتلك حركة فاعلة تضبط التاريخ إذ تأطره على جادة تَنْصَحُ ، والكشف عند صاحبه نهاية سالبة للفعل والحركة ، لا جرم كان من اليقين المحدَث ما لم تَأْتِ به نُبُوُّةٌ إذ صَارَ الغاية من العبادة ! فالتكليف يسقط عندها ! ، والتكليف يَبْدَأُ عند النبوة ، فشتان ! ، فكان صراع العقل المسلم الذي أكسبه الوحي خاصة التجريب والبحث في منهج استقراء في مقابل منهج استنباط في الفلسفة اليونانية ، فَخَاصَّةُ النقد في العقل الاسْتِقْرَائِيِّ أصيلة ، وهو ، كما تقدم ، ما انطلق منه العقل المسلم في فِعْلِهِ الفكري والعلمي والسياسي من قاعدة مستقرة من الوحي الذي امتاز بخاصة العصمة ، فمنح الأمَّةَ الخاتمة هذه الخاصة ، لا عصمة الأفراد ، وإنما عصمة المجموع التي تَمَثَّلَتْ فِي الدليل الثالث من أدلة الأحكام ، دليلِ الإجماعِ ، فعصمة الأمة في إجماعها قد نابت عن عصمة النبوة في أخبارها وأحكامها ، وعصمة الأمة ، كما يقول بعض المحققين ، قد أغناها عن عصمة الأئمة ، فالإمام في الدرس الإسلامي السياسي السني : نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حفظ الوحي وسياسة الدنيا به ، ونيابته المثلى إنما تكون باختيار الأمة ، وإن لم يشترط فيه الإجماع إلا أنه الصورة السياسية للإجماع الأصولي ، فَلَهُ صورة فقهية في الأحكام ، وله صورة سياسية في السلطان ، فالإمام في الفكر السني ليس المعصوم الذي لا تجوز مخالفته ، وليس نائب المعصوم الذي ينوب عنه حتى خروجه ، وإنما الإمام في الفكر السني نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، من وجه ، ونائب عن الأمة ، من آخر ، فينوب عنها باختيارٍ ، إِنِ الإجماعَ أو الرجحان ، فلا يشترط الإجماع القطعي المقرر في الدرس الأصولي ، فخلاف الواحد أو الاثنين يضر في الإجماع الفقهي ما لا يضر في الإجماع السياسي ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ البيعة السياسية الإجماع القطعي ، وإنما تنعقد البيعة الخاصة باختيار أهل الحل والعقد ، وهي ما لا يَكْتَسِبُ الشرعية السياسية المثلى إلا أن تُتْبَعَ بالبيعة العامة ، بَيْعَةُ السقيفة وهي بَيْعَةُ أهلِ الحل والعقد من رءوس المهاجرين والأنصار وإن غاب عَنْهَا بعض السابقين من الْقَبِيلَيْنِ ثم البيعة العامة في المسجد فذلك مثال قياسي للبيعة السياسية في الفكر السياسي السني ، فانتقلت العصمة من النبوة إلى الأمة ، فإجماع الأمة معصوم كما الوحي ، وإن كان الوحي أصل الأدلة كافة ، فالكتاب المنزَّل ، كما يقول الأصوليون ، هو الذي دل على حجية السنة ، وهما جميعا قد دَلَّا على حجية الإجماع ، وهو الذي أغنى الأمة الخاتمة عن نُبُوَّةٍ بعد النبوة الخاتمة التي كانت روح الفكر والحركة الفاعلة حتى قيام الساعة ، وإن كان ثم فُتُورٌ في أجيال ، وَهُوَ مَا يُبِينُ عن عظم الجناية التي قَارَفَهَا الاستبداد في العصر المتأخر الذي سَلَبَ الأمة الخاتمة خَاصَّةَ الاجتهاد الفاعل في الفقه والسياسة والحرب والاقتصاد والتجريب والبحث وقواعد العمران والاجتماع على قاعدة محكمة من الدين والأخلاق ، فَتَعَطَّلَتْ فِيهَا القوى الفاعلة إذ قَيَّدَهَا الاستبداد الذي انْتَزَعَ منها أدوات القوة الفكرية والحركية ، المعنوية والمادية ، فلم يَعُدْ ثَمَّ منها فِعْلٌ يُبَادِرُ ، وغلب عليها التقليد والجمود وذاعت فِيهَا مذاهب الجبر والقعود التي غَلَتْ في الاحتجاج بالقدر الكوني النافذ ، وذلك الحق الذي يُرَادُ به الباطل ، فَثَمَّ آخر قد جفاه النظر الجبري القاعد وهو الاحتجاج بآخر من القدر الشرعي الحاكم الذي يَتَنَاوَلُ الأسبابَ معالجةً ومدافعةً ، فلا يستقر إيمان إلا على قاعدة تسليم بالقدر الأول ومعالجةٍ لأسباب الشرع المنزل الذي به يَتَأَوَّلُ الفاعل ما قُدِّرَ أولا فلا يخرج عن محكم سَطْرِهِ ، وإن لم تكن تلك ذريعة إلى قعوده وكسله ، فإنه لا يعلم ما قُدِّرَ لدى المبدإ لِيَحْتَجَّ به على نَقْصٍ وَفَشَلٍ ، وإيمانه ، لو الْتَزَمَ قسمته في نص الشرع المحكم ، إيمانه قد استوجب آخر قد أمر بمعالجة الأسباب المشروعة ، فلا يكون حَظُّهُ مِنَ الوحيِ المحكَمِ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ ويكفر بآخر ، فكان من ذلك ما أوجزه بعض المتأخرين من نظار المركز في عبارة ناصحة ، وإن من خصمٍ يناجر فهو العدو العاقل ! ، أَنْ جَعَلَ الإيمان بالقدر لدى القبيل الرسالي الخاتم : سَبَبًا فِي نَهْضَةٍ أولى ، وآخر في قُعُودٍ وَكَسَلٍ لدى الجيل المتأخر ، فالسبب واحد ، وإنما اختلف تأويله لدى كُلٍّ تَصَوُّرًا وَحُكْمًا ، فَتَصَوَّرَهُ الجيلُ الأوَّلُ التَّصَوُّرَ الناصح الذي صَيَّرَ الاعتقاد قوة باعثة من الروح بها تحركت الأجساد والجوارح فَتْحًا للأرضِ وعمارة ، وحملانا للوحي إلى الناس كافة ، رسم الخيرية الخاتمة ، فـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، وهي خيرية التكليف وبه التشريف إِنِ امْتُثِلَ دعوةً إلى الهدى ودين الحق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، ما استوجب شَطْرَيْ قِسْمَةٍ قد اطردت في نصوص الوحي كافة : الجمال والجلال ، جمال الكتاب إذ يَهْدِي ، وجلال السيف إذ لِوَسَاوِسِ الخصم يشفي ، فذلك ما تَصَوَّرَ الجيل المتقدم من إيمان بالقدر الأول ، في مقابل آخر قد عمت به البلوى إذ تصوره الجيل المتأخر أنه سبب في القعود والكسل وَتَرْكِ المعاجلة للأسباب ، وترك المجاهدة لِذِي الظلم والعداون ، إِنْ مِنَ المستبِدِّ الذي يحكم أو المحتل الذي يَغْزُو ، فتمام الإيمان أن يُسَلَّمَ لهم ، فَهُمْ قدر التكوين النافذ وليس ثم مؤمن ينصح وهو مع ذلك يُدَافِعُ القدر المنزل ! ، وإن بقدر آخر قد تَنَزَّلَ بشريعةٍ تَنْهَى وَتَأْمُرُ ، وتعالج من أسباب الكون ما به صلاح الحال والمآل كافة ، فالسبب واحد وشتان التأويلان في الخارج . وكان من أَسْبَابِ النَّقْصِ ، أيضا ، نَزْعَةٌ روحيَّةٌ رياضية قد سَرَتْ إلى العقل المسلم من قَبِيلِ العجم الذي احتفظ بإرث رياضي ذي مسلك باطني يَغْلُو في التجريد في مقابل مَا تَقَدَّمَ من خاصة العقل المسلم الفاعل في البحث والتجريب ، فالتجريد الروحي والنظري يَسْتَنْزِفُ طاقة العقل في بحث سالب لا أَثَرَ له في الخارج ، لا في تجديدِ فكرٍ ولا سياسة ..... إلخ ، لا جرم دعم الاستبداد المتأخِّر هذا السلوك الروحي المحدَث الذي منح السلطان شرعية مطلقة تَسْتَبِدُّ إذ تَسْتَنِدُ إلى حق إلهي قد أَمْلَاهُ القدر نَظَرًا في الباب قد أهمل عين الشرع الحاكم وما أوجبه من بذل السبب الفاعل في الاختيار والإنكار والتغيير .... إلخ ، فذلك ما اجتهد الاستبداد في حسم مادته من العقل الرسالي في الجيل المتأخر مع ما أصابه ، بادي الرأي ، من خمول وكسل ، ورغبة في التقليد لا الاجتهاد وإعمال النظر ، فَمَنَحَ ذلك القعودُ في الفكر والحركة ، مَنَحَ الذريعةَ لاستبدادٍ في الداخل ، وكان من الغزو المحتل من خارج ما دعم كُلًّا ، فَدَعَمَ المسلك الروحي الخامل ، ودعم الاستبداد الحاكم ، فتلك البلوى التي تَعَدَّدَتْ روافدُها من النفس : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ومن غَيْرٍ قد تسلط إن في داخل يَظْلِمُ وَيَقْمَعُ ، أو من خارج يدعم ويمد بالأسباب الفاعلة بما يُضْفِي من شرعية سياسة قد احتكر أدواتها في الجيل المحدث ، وأخرى أخص فهي دعم ذو طابع مادي مباشر ، فعمت البلوى بِرَوَافِدَ تكثر منها بَعْضٌ من نَفْسٍ قد استوجبت الإصلاح ، ومنها آخر من خارجها قد استوجب المجاهدة والدفع بِمَا تَيَسَّرَ من أسباب بها يتأول المدافع سنن الشرع المحكم في مجاهدة الخصم ، وذلك ما استوجب الفقه الأخص في نَظَرِ حِكْمَةٍ يضع أسباب المجاهدة في الموضع الذي يلائم ، فَلَا يَتَعَجَّلُ فِي دَوْرٍ ، وإنما يُعْطِي كُلَّ ذي حق الحقَّ ، ويحسن يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال ، بما حصل له من وصف ضعف يستوجب المداراة مع دعوة إلى السبيل بحكمة وموعظة تحسن ، فـ : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، فالجمال فيها غالب وإن لم تخل من جلال عابر يزجر الخصم أَلَّا يجاوز الحد إن آنس الضعف الذي نال من قَبِيلِ الحق في أجيال الابتلاء بالشر فتنة قَدْ عمت فَتَنَاوَلَتْ أعظمَ أجناسها : فتنة في الدين قد جاوزت في الوصف القتل ، فـ : (الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، فَيُحْسِنُ يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال بما حصل له من أسباب تضعف في مواضع أو أخرى من قُوَّةٍ في السياسة والحرب ، فهي تستوجب الدفع بِعُدَّةٍ تُنَاجِزُ ثم الطلب بأخرى تُبَادِرُ إن كان من ذلك قوة ترهب الخصم مع جمال في دعوة الخلق إلى الحق ، فتلك الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يعبد الله ، جل وعلا ، وحده ، ولا يكون ذلك إلا بدعوة الخلق إلى الحق ، ومبدؤه حملان الوحي بِرَسْمِ الدعوة أو الفتح ، ولكلٍّ كما تقدم ، فضاء فيه يتحرك بما يواطئ معيار النظر المحكم أن يوضع كُلٌّ في الموضع الذي يواطئ ، وذلك ما استوجب الرجوع إلى الوحي ، ولو بعد خمول وكسل ، قد ضمرت به خاصة العقل الرسالي أن يجتهد في النظر على قاعدة من النقل قد استقرت ، فالوحي قد احتفظ بأصوله الناصحة وقوته الفاعلة في إحياءٍ وتجديدٍ يَتَكَرَّرُ تأويلَ الوعد المصدق في آي الوحي المنزل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان من ذلك قاعدة محكمة انطلق منها العقل وقد استقر له منها نقل صحيح قد أجاب عن سؤالات الخلق الأول وما يكون من المصير والغاية ، وما يحتاج الناس من شريعة الأمر والنهي المحكمة التي اتسعت مدلولاتها بما انضاف إليها من روافد الرأي والاجتهاد المعتبر الذي عَزَّزَتْهُ خاصة النقد في العقل الاستقرائي الذي تحرر من قيد الدرس اليوناني الاستنباطي ذي الطابع التجريدي ، وهو ، مع ذلك ، لم يخرج عن قاعدة النقل الصحيح الذي أغناه عن سلوك جادة البحث في سؤالات الفلسفة الأولى ، سؤالات الخلق وأصل الكون وغاية الأمر .... إلخ ، فذلك ما جعله بعض الباحثين سَبَبًا في غلبة النقل والتدوين دون بحث أخص في التحليل والتركيب طلبا لنظرية تفسر الكون ، فالقاعدة الفكرية قد استقرت ، ثم جاء التدوين التاريخي الذي اهتم بالجمع ، ولم يشترط من نقد الأخبار التاريخية ما اشترطه في الأدلة الشرعية ، فإن النقد الخارجي والداخلي قد انصرف جُلُّهُ إن لم يكن كُلُّهُ إلى الأدلة الشرعية التي عمت بها البلوى ما لم تَعُمَّ في الأخبار ، وذلك خلاف ما كانت الحال في المثال الغربي العلماني الحديث ، فإنه قد نشأ في سياق مغاير ، فكان من ذلك ، كما يقول بعض الباحثين ، الانتقال من هيمنة الكنيسة ذات الدرس الفلسفي المجرد ، الفلسفة المدرسية مثالا ، وقد أخذت من الرُّشْدِيَّةِ تقريراتها الأرسطية ، فكان من ذلك جمود غلب على العقل الغربي في العصر الوسيط ، فكان الانتقال الإصلاحي المتدرج في عصر النهضة ، والانتقال الثوري الحاد في عصر الأنوار ، وهو ما قَوَّضَ أركان النظرية الكونية والدينية لدى الكنيسة ، فاحتاج العقل الغربي إلى إجابة جديدة عن سؤالات الوجود والغاية بعد أن أخفقت الكنيسة في الإجابة إذ لم يكن من دِينِهَا إِلَّا دِينٌ مُبَدَّلٌ مُحَرَّفٌ قد نالته أيدي الكهنة بالعبث مع ما كان من طغيانهم ذي الطابع الهرمي المركزي الصارم الذي انطلق من قاعدة عصمة للبابا والإكليروس ، فَمَا عَقَدُوهُ فِي الأرض فَلَيْسَ يُحَلُّ في السماء ، وما حَلُّوهُ في الأرض فليس يعقد في السماء ، وتلك عصمة الأعيان التي احتكرت منصب النيابة عن الوحي ، كما الأئمة في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي ، فَأُخْرِجَ المجتمع من معادلة الفكر والحركة ، بل وَأُخْرِجَ من التاريخ وصار القوة المعطلة التي تنتظر المخلَّص ، أو هي تابعة للإمام أو البابا المشرِّع ، واضمحل الإجماع الفكري والسياسي فلا حاجة له وثم معصوم يَتَصَدَّرُ المشهد ! ، فكل أولئك مما ألجأ العقل الغربي وقد أَبَى الانقياد للوحي ، إذ لم يَرَ منه إلا الصورة المبدلة المحرفة ، ولم يكن من الإنصاف لديه أن ينظر في الوحي الحاكم على الضفة المجاورة ، فَثَمَّ إرث من الأحقاد المركوزة في الوجدان الغربي من لدن الحملات الصليبية ذات الطابع الديني المتعصب ، وهو ما لم ينجح الوجدان الغربي في التخلص منه ، وهو الفرع ، وَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْ سلطان الكنيسة وهو الأصل ! ، فانطلق في فضاء من الشك والحيرة وقد كفر بالدين القديم كله ، ولم يجد من القاعدة الفكرية الصلبة ما يصدر عنه في تصوره وحكمه ، فكان ذلك سَبَبًا رَئِيسًا في ظهور المدرسة النقدية التاريخية التي اهتمت بالتأصيل والتدوين معا ، فكان نظرتها الفلسفية في التاريخ طلبا لنظرية جديدة تفسر بها الظاهرة الكونية والإنسانية بعيدا عن الدين الذي لم تجد من مُمَثِّلِهِ في الحياة العامة ، وهو الكنيسة ، إلا كلَّ استبدادٍ وظلم ، وكان الانتقال الحاد من تجريد غال إلى تجريب غال قد جاوزت فيه المدرسة الوضعية حدود العلوم التجريبية فتناولت بالبحث التجريبي : القيم والمبادئ المستقرة ، وصارت الأخلاق وقواعد الاجتماع .... إلخ ، صارت نسبية لا موضوعية مطلقة من خارج . والشاهد أَنَّ من ظن أولئك النَّفَرِ الذي جلس في بَيْتٍ وقد كَثُرَ منه الشحم وخف منه العقل ، كان من ظَنِّهِ : ظن فاسد ، وإن اعتقدوه جزما فذلك من خذلان في الباب يَعْظُمُ ، أن يفسد التصور فَيَرَى صاحبه الباطِلَ حقا ، ويعتقده جزما ، فكان من ذلك : ظَنُّهُم الذي يقبح إذ : (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُكِيَ ماضيا فأفاد من ذلك تسجيلا أخص لجنايةٍ تَعْظُمُ ، وهو ما حَسُنَ معه الإطناب بالناسخ المؤكد ومدخوليه : جملةً سدت ، كما تقدم ، مسد المفعولين ، وثم من التوكيد أخرى قياسية في الباب ، كما الاسمية : اسمية الجملة حكايةَ الثبوت والاستمرار ، مع إطناب في الخبر : (لَا يَعْلَمُ) ، فقد حُدَّ جملةً ، مع تكرار الفاعل إذ اسْتَتَرَ في العامل "يَعْلَمُ" الاستتار الجائز ، ومرجعه المبتدأ الأول ، اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، فهو ، من هذا الوجه ، رابط قياسي في الباب إذ افْتَقَرَ إليه الخبر الذي حُدَّ جملة فلا بد من رابط يرجع إلى المبتدإ ومنه الضمير آنف الذكر ، فَتَكَرَّرَ الفاعل : فاعل اللفظ الذي استكن في العامل "يَعْلَمُ" ، وفاعل المعنى وهو المبتدأ : اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، وثم من المضارعة في العامل "يَعْلَمُ" ما به استحضار الصورة وهو آكد في تسجيل الجناية ، مع عموم قد استغرق وهو في الباب أقبح ، فكان منه نَفْيُ العلم عن الله ، جل وعلا ، النَّفْيَ العام المستغرق إذ تسلط النَّفْيُ على المصدر الكامن في الفعل "يَعْلَمُ" . ومن ثم كان الإطناب إشارةَ البعيدِ إلى ما تَقَدَّمَ قريبا ، فـ : (ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فكان من ذلك إشارةُ بعيدٍ إِمَّا جريا على معهودِ لِسَانٍ أول به الوحي قد تَنَزَّلَ ، أو هو ذو دلالة أخص إذ يحكي البعد تحقيرا لذلك الظن الفاسد فمنزلته من الوصف منزلة السافل ، وثم من الخبر : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) ، وهو ما أجراه بَعْضٌ مجرى التعدد في الأخبار حكاية الإطناب ، فكان من ذلك زيادة مبنى تحكي أخرى تضاهي من المعنى ، فكان من الأخبار : "ظَنُّكُمُ" و : "الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ" ، و : "أَرْدَاكُمْ" ، وكان من الأخير أخص يحكي المآل الذي يقبح ، وهو مما به العاقل يعتبر ، فيخالف عنه لئلا يكون من مآله ما يفجع ، وهو ما حسن معه الإطناب في خبر تال : (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فذلك آكد من القول في غير التنزيل : فأصبحتم خاسرين ، فَزِيدَتْ "مِنْ" ، وَهِيَ تحكي بَيَانَ جِنْسٍ وابتداءَ غايةٍ ، فَكَأَنَّ وصفهم قد ابْتُدِئَ من معدن الخسران ، وذلك أقبح في الوصف ، مع استغراق قد دلت عليه "أل" ، فَثَمَّ منه المعنوي الذي استغرق وجوه الخسران كافة ، ولا يخلو الخبر ، من هذا الوجه ، أن يدل على إنشاء به الاعتبار نهيا عن انتحال هذا الظن الفاسد ، وَأَمْرًا بِضِدٍّ من اعتقاد في الله العليم ، جل وعلا ، اعْتِقَادًا يَنْصَحُ أَنَّهُ قد أحاط بكلِّ شيءٍ علما . والله أعلى وأعلم . |
![]() |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
![]() |
||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
هل نشر القاموس المحيط مضبوطا و مشكولا ؟ | أحمد عبد اللـه | أخبار الكتب وطبعاتها | 0 | 19-10-2012 05:40 PM |