سؤال عن التصريع في حشو القصيدة

[خبيب بن عبدالقادر واضح]

يقولُ ابنُ مالكٍ في أثناءِ "اللّاميّة"، في أوّل أبنيةِ أسماءِ الفاعلين:

كوزنِ فاعلٍ اسمُ فاعلٍ جُعِلا مِن الثّلاثي الّذي ما وزنُه فعُلا

نراه قد وقف على «جعل» كأنّها رويٌّ مطلقٌ، مدّ فتحَته، وذلك لا يكونُ في آخر الصّدر؛ في غيرِ صدر القصيدة؛ فهل له ما يشفع له؟

[أبو محمد فضل بن محمد]

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد :
وجدت بعد البحث أن تصرف الشعراء في ذلك على ثلاثة أنحاءٍ :
الأولُ :
تصريع البيت الأوَّل فقط ، وهذا هو الأكثر ، ولا يحتاج إلى تمثيل .
الثَّاني :
تصريع البيت الأوَّل ومعه غيره أثناء القصيدة ، ومثاله :
أ ـ معلقة امرئ القيس ، حيث قال في مطلعِها :

[ الطَّويل ]
قفا نبكِ منْ ذكرى حبيب ومنزلِ ......... بسقطِ اللوى بين الدَّخول فحوملِ

ثم قال في أثنائها :

أفاطمُ مهلا بعض هذا التَّدلُّلِ ......... وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملِي

ب ـ قصيدة حسَّان بنِ ثابتٍ رضيَ الله عنهُ الَّتي ابتدأها بقولِه :

[ الطويل ]
ألمْ تسألِ الرَّبْعَ الجديدَ التَّكلُّما ......... بمدفعِ أَشْداخٍ فبرقة أظلما

ثمَّ قالَ في حشوِ القصيدةِ :

أبَى رسمُ دار الحيِّ أن يتكلَّما ......... وهلْ ينطقُ المعروفَ مَن كانَ أبكما

الثَّالثُ :
أن يكونَ البيتُ الأولُ غيرَ مصرَّعٍ ، ثمَّ يأتي الشَّاعرُ في أثناءِ القصيدةِ ببيتٍ أو أكثرَ مصرَّعًا ، ومن شواهدِه :
أ ـ قول عمرو بن أحمر الباهلي في أولِ قصيدةٍ :

[ الطَّويل ]
لعمرك ما خلفت إلا لما أرى ......... وراء رجال أسلمونى لما بيا

ثم قال بعد أبيات :

فأمسى جناب الشول أغبر كابيا ......... وأمسى جناب الحي أبلج واريا

ب ـ أمية بن حرثان بن الأسكر الكناني في أوَّلِ قصيدة له :

[ البسيط ]
أصبحتُ هزءًا لراعِي الضأن أُعْجِبُهُ ......... ماذا يُريبُك مِنِّي راعِيَ الضانِ

ثم قال بعد بيتٍ :

يـا ابـني أميَّـةَ إنِّي عنكما غاني ......... وما الغِـنى غير أني مشعرٌ فانِي

وقالتِ الأستاذةُ عائشة في إحدى مشاركاتِها :

( ليس التَّصريعُ بلازمٍ في مطلَعِ القصيدةِ ؛ فمنَ الشُّعراءِ من لَّم يُصرِّعْ أوَّلَ شِعْرِهِ ، ثُمَّ يُصَرِّعُ بعد ذلكَ ؛ كقولِ ذي الرُّمَّةِ أوَّلَ قصيدةٍ :

[ الطويل ]
أدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ......... فَمَاءُ الهَوَى يَرْفَضُّ أوْ يَتَرَقْرَقُ

ثُمَّ قال بعد عِدَّة أبياتٍ :

أَمِنْ مَيَّةَ اعْتَادَ الخيَالُ الـمُؤَرِّقُ؟ ......... نَعَمْ؛ إنَّها مِمَّا علَى النَّأْيِ تَطْرُقُ

وأكثرُ شِعْرِ ذي الرُّمَّة غير مُصرَّعِ الأوائِلِ ، وهو مذهب الكثيرِ من الفُحولِ .
راجِع : " العمدة في محاسن الشِّعرِ وآدابه ونَقده " ، لابن رشيق القيروانيّ : 1/175، 176 ) اهـ كلامها رحمها الله .

وعدَّ بعضُ نقَّادِ الشِّعرِ تركَ تصريعِ البيتِ الأوَّلِ عيبًا ، وأنَّ الشُّعراءَ المجيدينَ لا يفعلونه ؛ لأنَّ بنيةَ الشعرِ هو : ( التسجيعُ ) و ( التَّقفيةُ ) و ( التَّصريعُ ) .

وأمَّا ( التجميع ) وهو : أن ينتهى الشطر الأول من البيت نهاية يتوقع القارىء أنها ستتكرر فى نهاية الشطر الثاني من نفس البيت لكنها تأتى على خلاف ما يتوقعه القارىء فغيرُ حسنٍ ، كقول الشمَّاخِ :

[ الطويل ]
لمن منزل عاف ورسم منازل ......... عفت بعد عهد العاهدين رياضها

والله أعلمُ .

[منصور مهران]

قد يُصَرِّع الشاعر في غير مطلع القصيدة ويكون ذلك إذا انتقل من غرض إلى غرض آخر أو إذا أنشأ حكمة أو عظة أو عند بلوغ الغاية من وصف والتحول إلى وصف مختلف ؛ وهذا شائع في الشعر على مر عصور الأدب .
ويحسن التصريع من الشاعر الفحل في كل موضع من القصيدة في دقة اللفظ وقوة الصورة وحسن التقسيم .
ويقبح التصريع إذا تكلفه الشاعر بلفظ ركيك أو معنى هزيل .
وينظر العمدة لابن رشيق للاستزادة
ولابن الأثير كلام رائع في التصريع وأقسامه .

[خبيب بن عبدالقادر واضح]

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
علّمتمونا ما جهلنا، فلكم حقُّ الشّكر والدّعاء؛ أجزل الله لكم المثوبة.

[خبيب بن عبدالقادر واضح]

كنتُ أودُّ أن أقولَ هذا -لكنّي أُنسيتُه-:
كلامُ ابنِ مالكٍ -إذًا- جارٍ على قانونِ الشّعراءِ في التّصريعِ عند استئنافِ غرَضٍ، وقد فعله هنا؛ بشروعِه في أبنيةِ الأسماءِ، بعد أن كان الكلامُ قبلُ عن أبنيةِ الأفعالِ وتصاريفها؛ ففصل بينهما بهذه النّكتةِ الخفيّة! وفعل مثلَه في أوّل أبنيةِ الفعلِ المجرَّد؛ وذلك قوله:

بفعلل الفعلُ ذو التّجريدِ أو فعَلا يأتي ومكسور عينٍ أو على فعُلا(1)

فهو مُستأْنَفُ الموضوعِ؛ فصرّع البيتَ لذلك، وإن كان هذا قد يتكلَّف له الرّجل وجهًا آخر؛ فيزعم أنّ الألف في (فعَلا) ألفُ التّثنية؛ جاء بها ليصحِّح الوزن؛ كما قد يُلحقُ تاءَ التّأنيثِ في موضعٍ آخر!!
فإن صحّ ذلك في هذا الموضع فلن يصحَّ في الموضعِ المنشودِ أوّلًا؛ لأنّه غيرُ جائزٍ أن تكونَ الألفُ فيه للتّثنيةِ، ومِن هنا انتصيتُه في السّؤالِ دون هذا.
وكان هذا المعنى -أعنى التّصريعَ ابتغاءَ تغييرِ المعنى- قد بدا لي تخمينًا، لكنّي لم أفُهْ به؛ خشيةً مِن التّخرُّص، والحمدُ لله على مواطأةِ الصّواب، وما زلتُ لكم شكورًا.

الحاشية:
(1) كذا يُضبَط البيتُ؛ بفتحٍ في الأوّل، وضمٍّ في الأخيرِ؛ وعلى ذلك كلُّ النّسخِ والشّروح الّتي اطّلعتُ عليها قبل بحرقٍ، وضبطه بحرقٌ بما هو مشهورٌ الآن: بضمٍّ في الأوّل وفتحٍ في الأخير، وعليه أحال الحسنُ بن زَينٍ القنانيُّ في قولِه: (تضعيفُ ثانٍ، وهْو لمعنًى ...، كالأخيرِ جلا ، فاعمل به وأصب مع الأخير وخذ بذا ...)، والكلامُ عن ذلك ليس في هذا الموضع.