|
|
الانضمام | الوصايا | محظورات الملتقى | المذاكرة | مشاركات اليوم | اجعل الحلَقات كافّة محضورة |
|
أدوات الحديث | طرائق الاستماع إلى الحديث |
#1
|
|||
|
|||
من خبر : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"
ومما تَقَرَّرَ في الخلق المحكم ما يعالج كلٌّ من فطرة أولى ، وهي جملة من العلوم الضرورية التي لا تفتقر إلى نظر أو استدلال ، وَثَمَّ من الفطرة جنس عام يجرده الذهن ، وهي ما تَنَاوَلَ المعقول والمحسوس كافة ، فَثَمَّ فطرة في الحس تُعَالِجُ من الفعل والحركة طَلَبًا أو دَفْعًا ، إقبالًا أو إدبارًا ، مباشرةً لأعيان فِي الخارجِ ، أو مباعدة من أخرى ، وكذا أَخْرْى بها تمتاز الأنواع في الخارج ، ذكرانا وإناثا ، فلكلٍّ من الفطرة ما تَنَاوَلَ الأجساد في الظاهر ، وطبائع النفوس في الباطن ، فكلُّ نوعٍ يُولَدُ على فطرةٍ في الجسد والطبع ، وهو ما يواطئ الغاية من الخلق ، وذلك ، أيضا ، مما يدخل في عموم الخبر المصدق : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، أصل عام يستغرق ، وتلك دلالة "كُلٌّ" نصا في العموم قد تناول الآحاد كافة ، وهو ما حُذِفَ وَنَابَ عنه التَّنْوِينُ ، تَنْوِينُ العوض عن المضاف المفرد على تقدير : كلُّ أحدٍ مُيَسَّرٌ لما خلق له ، فَثَمَّ عموم قد استغرق ، فلكلٍّ من التقدير أول يسبق ، وذلك ما تناول الحس والمعنى ، فَيُسِّرَ الذَّكَرُ لوظائفَ في الخارج تُوَاطِئُ غايةً من الخلقِ قد أُحْكِمَتْ ، فَهُيِّئَ الجسد بما صَلُبَ من الْبِنْيَةِ في الخارج ، وَهُيِّئَ العقل فلا تغلب عليه دوافع الأنثى ، فالجنان منها أَشدُّ حرارةٍ في المواجيد ، وقد يسبق العقل في مواضيع ، فيكون من ذلك ما يفسد ، لا جرم كان مِنْ رَائِدِ العقلِ لدى الذكر أولٌّ به قد فُضِّلَ في التكوين ، وهو ما عَمَّ العقل محل الفكرة ، والدماغ ، وهو الواسطة بين الفكرة والحركة ، إذ يتأول المعنى المعقول فَلَهُ تأثير هو الأول ، ولا تنفك آثاره في الدماغ تظهر بما يكون من إِفْرَازٍ وَنَبْضٍ ، وهو ما يَتَفَاوَتُ من نوع إلى آخر ، فدوافع الذكر تواطئ وظائف القوامة التي هيئ لها ، فكان التفضيل في الخلق ، وهو ما عم العقل والدماغ والجسد ، فَعَقْلُ الرجل أكمل فلا تستبد بع عاطفة تَغْلِبُ ، ودماغه كما دل التجريب والبحث ذو زيادة في الخلق بها يُفَضَّلُ ، وإن هيِّئَ من الأنثى آخر يطيق من الوظائف ما يَتَعَدَّدُ ، فذلك ما به صلاح المعاش في البيوت ، ولا يكون ذلك إلا بمخلوق لطيف يحنو ويعطف ، كما وصف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصالحات من نساء قريش ، فـ : "خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نساءُ قريشٍ أرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يَدِه وأحناهُ علَى ولَدٍ في صِغَرِهِ" ، فكان من ذلك مثال يدخل في العموم آنف الذكر : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، فذلك من تيسير قد جَمَعَ الْخُلُقَ الظاهر وَالْخَلْقَ الباطن ، فَهُيِّئَتِ الأنثى ، حسا ومعنى ، لوظائف بها إصلاح الزوج والولد والبيت ، وتلك معان جسام لا تحصل وتكمل إلا أن يكون من الكفالة ما يُفَرِّغُ الأنثى ، فلا تحمل قلبين اثنين في الجوف ، ولا عبرة بما نَدَرَ فلا حكم له ، أن يكون من آحاد من النساء من أُوتِيَتْ فَضْلَ عقلٍ وقوَّةٍ أن تَنْهَضَ بِأَمْرِ السَّعْيِ في الخارج ، وإصلاحِ البيت وَتَرْبِيَةِ الولد ، فَثَمَّ من ذلك حكمة في التقدير الأول ، وهو ما أبان عنه التجريب والبحث في مُدْرَكَاتٍ من الحس تحكي إتقانا وإحكاما في الخلق ، ومنه القدر الجامع بين النوعين ، ومنه آخر فارق بما هُيِّئَ له كلٌّ من الوظائف ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما عم الحس والمعنى ، الخَلق والخُلق ، فكان من هيئات الرجال في الخارج ، وأخلاقهم إذ يكابدون أسباب العيش ، وهو ما استوجب المخالطة والظهور ، كان من ذلك ما به قوامة الرجال تَثْبُتُ ، فَلَهَا من الخلق دليل الفطرة ، ولها من الحكم دليل الشرعة ، فـ : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ، وذلك مما يجري مجرى الخبر الذي يُرَادُ به إنشاء ، فهو يوجب للرجال قوامة ، وَيُبِينُ عن أسبابها ، فَثَمَّ من التعليل ما به المعنى يرسخ ، فكان من الباء في قوله : (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ، بَاءُ سَبَبِيَّةٍ وَتَعْلِيلٍ ، فَثَمَّ تفضيلٌ في الخِلقة بما يواطئ أولا من الفطرة ، وهي وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فَقَدْ رُكِزَ ضرورةً في الوجدان ، إن حسا أو معنى ، ولا تَنْفَكُّ آثاره بَعْدًا تظهر بما يكون من تأويل في الفكرة والحركة ، وإن في مواضع اللعب واللباس والزينة ..... إلخ ، فَيَتَنَاوَلُ كُلٌّ منها ما يواطئ نَوْعَهُ ، حكمةً في الحركة تَصْدُرُ عن أولى من الفكرة ، ومعدنُ كُلٍّ : فطرةٌ أولى تَنْصَحُ بما كان من تقدير أول في علم محيط قد استغرق ، فآيه ما يعالج الناظر في الخارج من إتقان وإحكام ، وما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى ضرورةٍ في الحس والمعنى ، وبه حفظ النوع بما يكون من زوجية بها اكتمال القسمة في الخارج ، وَمَيْلِ كلِّ نوعٍ إلى الآخر ، إِنْ مَيْلَ الجسدِ مباضعة أو الروح مساكنة ، فَهُيِّئَ كُلٌّ لِمَا خُلِقَ له من الوظيفة ، إن في الخَلق أو في الخُلق ، وذلك أول قد رُكِزَ في فطرة أولى ، وهي ، كما تقدم ، مما عم الحس والمعنى ، فَعَقْلُ الرجلِ قائد ، وعقل المرأة عاطف ، فهو تابع يَلِينُ ومحله تال لمتبوع يشتد ، وبهما اكتمال الحد ، لينا في مواضع وشدة في أخرى ، ولكلٍّ من المقال ما يواطئ ، فَغَلَبَ على الرجال ما به القيادة ، وَغَلَبَ على النساء ما به الرعاية ، وتلك قسمة العدل التي تناولت الأجزاء على قاعدة من التقدير المحكم ، فكان من ذلك آية في الخلق تنصح ، فـ : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، فثم آية في الأنفس ، إذ خلقت على نوعين ، فكان منها الزوجان ، وَكُلٌّ لزوجِه يُكْمِلُ ، فلا يَنْهَضُ واحدٌ بالأمر كلِّه ، ولا ينهض أحدهما بوظائف الآخر ، وإن خالف عن فطرة التكوين وَتَكَلَّفَ لذلك ما يجافي الحكمة ، مع آخر قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، أَنْ كان ثَمَّ خروج عن الجادة ، فِطْرَةً وَشِرْعَةً ، فلا يخلو من جحود وإنكار ، ولو بالنظر في المآل ، ألا يسلم في الخارج بما كان من فطرة التكوين النافذ ، فَلَيْسَ ثَمَّ مِنْهَا أول ثابت ، فذلك ما يقيد الحرية التي أُطْلِقَتْ في الجيل المتأخر على قاعدة الخروج عن كلِّ سلطان يحكم ، عدل أو ظلم ، نَزَلَ من السماء أو حدث في الأرض ، فلا يحسن يميز في الباب ، وإنما يُجْرِي كُلًّا على جادة واحدة من الإنكار والمناجزة ، وهو ما خالف عن قانون الحكمة الذي رُكِزَ في العقول ضرورةً ، فهو يوجب التفريق بين المختلفين ، فسلطان الخالق الذي أتقن وأحكم ، وسلطان الإله الذي أَنْزَلَ من الخبر ما يصدق ، ومن الشرع ما يعدل ، وإن خالف ، بَادِيَ الرأيِ الساذج ، ما يَتَوَهَّمُ الناظر أَنَّهُ العدل ، فَقَدْ فَسَدَ منه ابتداء التعريف والحد ، فَحُدَّ العدلُ أنه تسويةٌ مطلقةٌ ، ولو بين مختلفين في الحقيقة والوصف ، إن في الحس أو في المعنى ، وذلك ، بداهة ، ما يخالف عن جادة الحكمة ، فإنها تَقْضِي ضرورةً بالتفريق بين المختلفين ، فَيُعْطَى كُلٌّ ما يُوَاطِئُ ، وهو ما يُسِّرَ له بما كان من تقدير أول ، وذلك لازم ضرورة في العقل يثبت ، كما تقدم في مواضع من حكاية التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا ينفك الخلق يطلب خالقا هو الأول ، ولا ينفك خلقه في الخارج بما أظهر التجريب والبحث من إتقان وإحكام ، لا ينفك يدل ضرورة على تقدير أول قَدْ عَمَّ الجليل والدقيق ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، عن خبط عشواء هو الأول ، فتلك مادة الخروج عن سلطان الحق والعدل ، إن في الخلق أو في الشرع ، طلبا لما لا حقيقة له في الخارج تَثْبُتُ ، فليس إلا المجرد الذهني الذي لا يجاوز ، فمنه الحرية المطلقة بشرط الإطلاق ، وذلك جنس من المعنى لا وجود له في الخارج يثبت إلا بالقيد ، ولو قيد الخلق الظاهر بما كان من جسد الذكر أو الأنثى ، فذلك قَيْدُ تكوينٍ يَنْفُذُ ، وهو محل التسيير لا التخيير ، وإن كان من ذلك تَيْسِيرٌ يقرن ، فثم تسيير يحكي من وصف الجلال أولا ، وثم تيسير بما هُيِّئَ لَهُ كُلٌّ من الوظائف ، فَأُعِدَّ المحل بما يُوَاطِئُ ، فكلٌّ يعالج من أسباب الحس والمعنى ما يحكي إتقانا وإحكاما في الخَلق والخُلق ، فحصل من التيسير جمال ، كما أول من التسيير قد حصل به الجلال ، فلم يكن منه خلق وإهمال ، فيكون من ذلك جلال في الإيجاد دون حكمة في الإعداد والإمداد ، وقد الْتَزَمَهُ بعضٌ فَصَرَّحَ ، فالخلق قد صدر عن ربٍّ أول ليس له من الفعل إلا الخلق ، فَخَلَقَ الخلق ثم أهمل ، أو تَرَكَ الخلق لِيُدَبِّرَ أمره دون تأثيرٍ من خارج ، إن بالتدبير الكوني ، أو بالتكليف الشرعي ، وهو ما اصطلح فِي الجيل المتأخر أنه المذهب الربوبي ، لا ربوبية التقدير والإيجاد والرزق والتدبير ....... إلخ ، كما النبوات قد ذَكَرَتْ ، وإنما ربوبيةُ خَلْقٍ مجرَّد ، لا عن تقدير أول ، فَلَيْسَ ثَمَّ من العلمِ ما يَسْبِقُ ، وإن ثَبَتَ منه شيء ، فذلك الكلي المجمل الذي لا يَتَنَاوَلُ الجزئيات ، وبها آثار الإتقان والحكمة تظهر ، فكان من ذلك ما يضاهي مذهب الحكمة الأولى أن الخلق قد صدر عن عِلَّةٍ أولى وهي الفاعلة بالطبع اضطِّرَارًا ، فلا علم تقدير قد عم فاستغرق آحاد المقدورات كافة ، إن الجليلَ أو الدقيقَ ، وبه آثار الإتقان والحكمة تَظْهَرُ ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن علمٍ محيطٍ قد اسْتَغْرَقَ ، لا عن علة فاعلة بالطبع اضطِّرَارًا ، فلا علم به التقدير ، ولا إرادة بها التخصيص والترجيح ، وبه خروج المقدور من العدم إلى وجود في الخارج يُصَدِّقُ ، وإنما أول في الوجود كلا شيء ، فلا وجود له في الخارج يثبت ، فالمطلق بشرط الإطلاق لا وجود له في الخارج يصدق ، وذلك أصل يطرد في جدالِ كُلِّ منكرٍ يغلو في التجريد الذهني ، فلا وجود في الخارج إلا بقيد زائد يميز الموجود من غير ، وبه امتاز واجب الوجود الأول ، وله من وصف الوجود : وصف ذات لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب أول يسبق ، بل له من الأولية ما أطلق فلا أول قَبْلَهُ ، وكل ما سواه من الموجودات فهو المحدَث الذي يصدق فيه أنه الجائز ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فلا ينفك يطلب أولا يسبق ، وهو له يُوجِبُ ، فيصير الواجب لغير ، فليس وجوبه ذاتيا لا يُعَلَّلُ ، وإنما يطلب من الموجِب ما يسبق ، وذلك ما تَسَلْسَلَ فِي النَّظَرِ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قبله ، فَلَهُ من ذلك أولية تُطْلَقُ ، وله من وصف الوجوب : وصف ذات لا يعلل ، فلا يفتقر إلى غيرٍ ، وغيرٌ له يَفْتَقِرُ ، إن المحلَّ أو السببَ ، أَنْ يُقَدِّرَ منهما أولا في الأزل قد ثَبَتَ ، فذلك التقدير المحكم ، وصف المقدِّر المحكِم بما كان من علم محيط قد استغرق ، فليس العلم الكلي المجمل ، وإنما ثم من التفصيل ما تَنَاوَلَ الأجزاء والدقائق ، وآي ذلك ، كما تقدم في مواضع ، ما يعالج الحس والتجريب والبحث من آي في الآفاق وفي النفس ، ومنها آي الزوجية آنف الذكر ، وما كان من إتقان وحكمة ، فذلك ما يجاوز ، بداهةً ، فعل الخلق ضرورة بلا علمٍ أول يُقَدِّرُ ، ولا إرادةٍ بَعْدًا تُرَجِّحُ ، وإنما فِعْلٌ بِالطَّبْعِ اضطِّرَارًا كما النار إذ تحرق والسكين إذ تقطع ، فلا علم لهما ، بداهة ، ولا إرادة ، وإنما هما من الوسائل التي لا يسند إليها الفعل اختيارا ، وإنما هي السبب المؤثِّر بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُؤَثِّرُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ أولا قد خَلَقَهَا ، ثُمَّ أحكم سَنَنَهَا أَنْ تُفْضِيَ إلى المسبَّب إذا اسْتُوفِيَ شَرْطُهَا وَانْتَفَى مانعُها ، فذلك المجموع المركب الذي اصطلح النظار أنه العلة ، ولا تنفك تطلب أولا يسبق وهو المعلِّل ، وإن كان في نفسه علة تَفْتَقِرُ إلى معلِّل يسبق ، فَثَمَّ من ذلك تسلسل لا يحسم إلا أن يُرَدَّ الجميع إلى مسبِّب أول لا مسبِّب قبله ، فكل ما سواه فِإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ أَنْ يُقَدِّرِ ويوجِد ويدبِّر ، وليس يفتقر إلى غيرٍ يَسْبِقُ ، فله من وصف الوجوب : وصف ذات لا يعلل ، وبه امتاز من الجائز ، وهو سائر هذا الوجود الحادث ، فَثَمَّ واجب أول ، واجب الوجود لذاته ، فذلك شطر من القسمة ، وثم آخر يقاسمه الجنس الأعلى ، جنس الوجود المجرد ، وبه اكتمال القسمة فهي بين الواجب لذاته الموجِب لغيره ، فذلك شطر ، وآخر هو الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وبه يصير الواجب لا الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَلَيْسَ ذلك إلا وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، وإنما وجود المخلوق إذا وَجَبَ بَعْدَ جوازٍ بما كان من ترجيحٍ بالإرادة يُوَاطِئُ أولا من التقدير بالعلم والحكمة ، فوجود المخلوق المحدث بما كان من الترجيح آنف الذكر : وجود واجب لغير بما كان من مرجِّح من خارج ، ومآله في النظر إذ يمنع التسلسل في المؤثرين أزلا ، مآله إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ مِنْ وصفِ الوجوبِ : وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وله من الإيجاب وصفُ فعلٍ ، نوعه أول يَقْدُمُ ، وثم من آحاده بَعْدًا ما يحدث ، فَهُوَ دليلٌ يصدق ما كان أولا من وصف يزيد ، فليس الأول في النبوات كالأول في مذاهب من الحكمة محدثَاتٍ ، الأوَّلِ المجرَّدِ ، مُطْلَقًا بِشَرْطِ الإطلاقِ ، فَلَا وجودَ لَهُ فِي الخارجِ يُصَدِّقُ ، بل أول النبوات هو الأول الذي ثَبَتَ لَهُ من الذات والوصف ما كَمُلَ فِي الأزلِ ، فَلَمْ يَكُنْ من ذلك وجودٌ بَعْدَ عَدَمٍ ، بل له من الكمال المطلق : وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فَلَيْسَ وجودُه المطلق بِشَرْطِ الإطلاقِ وصفَ الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، بل ثم من ذلك حقيقة في الخارج قد حصلت من الذات وما يقوم بها من قَدْرٍ يزيد من المعنى ، فذلك الوصف ، إن الجمال في الإتقان والإحكام في التقدير أو الجلال في الإنفاذ والتكوين وما تلا من وظائف الربوبية : الرزق والتدبير ..... إلخ بما ينزل من أسباب ذات قوى تؤثر ، فقد هُيِّئَ لها في المحال أخرى تَقْبَلُ ، وذلك مما أبان التجريب والبحث عن طرف منه يصدق ، فأثبت ضرورة من الوصف ما زَادَ فهو يقوم بالذات ، فلا يكون الإتقان والإحكام إلا بأول من التقدير قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فكان من ذلك علم محيط ، وثم آخر من الحكمة في التقدير ، وثم من الإرادة ما به الترجيح والتخصيص ، فكل أولئك من أوصاف المعنى التي تَثْبُتُ ضرورةً إذا أنصف الناظر وتجرد ، فعالج من أي الآفاق والأنفس ما يَشْهَدُ ، فليست الذات الأولى الواجبة : الذات المجردة من الوصف ، الفاعلة بالطبع اضطرارا ، فلا علم ولا إرادة ، فليس يكون في الخارج مطلق بشرط الإطلاق ، كما الحكمة الأولى قد غلت في التجريد ، إن الأسماءَ أو الصفاتِ ، وهو ما قَبَسَ منه التَّثْلِيثُ شعبةً إذ قال بتجريد الوصف ، وهو ما اصطلح أنه الأقنوم ، فذلك معنى كالكلمة قد قام في الخارج بنفسه ، فَتَجَسَّدَ في ناسوتٍ محدَث ، وهو ، مع ذلك ، على قَيْدِ التجريد كلمة مطلقة ، ونسبة إلى المتكلِّم بها ، وإن فارقته وتجسدت في آخر ، فذلك ، لو سُلِّمَ به في جدال الخصم ، فهو يُبْطِلُ نسبة الكلمة إلى الذات الأولى إذ فَارَقَتْهَا ، وَأَثْبَتَتْهَا لِلذَّاتِ الثانية إذ تجسدت فِيهَا ، فَلَيْسَ يَصْدُقُ فِيهَا ، من هذا الوجه ، أنها كلمة الله ، وصفا ، فالصفة لا تُفَارِقُ الموصوف ويكون لها آخر من الوجود ، فَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا قد فَارَقَتْهُ وقامت بآخر ، فهي وصف الآخر لا الأول ، فَلَا يَصْدُقُ فِيهَا وقد فارقت الذات الأولى أنها كلمة الله ، فالإضافة قد انْقَطَعَتْ بِمَا كان من المفارقة إلا على تأويل يصدق ما كان من توحيد النبوات المحكم ، أن النسبة في هذه الحال : نسبة ذَاتٍ قد خُلِقَتْ بالكلمة ، ذات المسيح عليه السلام ، فـ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فليست الذَّاتُ عَيْنَ الكلمةِ ، وَإِنَّمَا بِهَا قد خُلِقَتْ ، فَأَطْلَقَ السبب ، وهو الكلمة ، وأراد المسبَّب وهو المخلوق بها ، وذلك مما يجري مجرى المجاز المرسل ، عند من يُثْبِتُهُ فِي اللِّسَانِ والوحيِ المحكَمِ ، فذلك مَجَازُ السَّبَبِيَّةِ إِذْ أَطْلَقَ السَّبَبَ وأراد المسبَّب ، وإنما اختص المسيح ، عليه السلام ، بذلك ، أن كان من خلقه آي تخالف عن العادة والمسلك ، أن يكون الخلق من ذكر وأنثى ، فكان من خلقه من أم بلا أب آي تعظم ، فـ : (جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) ، فكان من الإسناد إلى ضمير الجمع في "جَعَلْنَا" ما يواطئ الإعجاز في الخلق ، فلا يكون إلا عن عظيم أول قد حَسُنَ في فعله أَنْ يُسْنَدَ إلى الجمعِ ، مع آخر يحكي من الوصف ما تَعَدَّدَ ، وإن كان من الحقيقة في الخارج ما يُصَدِّقُ توحيدَ النبوات ، توحيد الواحد في الذات ، الأحد في الصفات ، فلا ند له ولا مثيل ، وكان من تنكير "آيَةً" ما يحكي تعظيما آخر ، فهي ابتداء تحكي نوعية لا تجاوز إثبات الحقيقة في الخارج ، عَظُمَتْ أو صَغُرَتْ ، فلا تخلو من إجمال في الدلالة ، ولا تنفك تطلب قرينة تُبَيِّنُ ، إذ تُرَجِّحُ مراد المتكلم لا سيما في نوعية تحتمل أضدادا من المعنى ، فكان من قرينة السياق ما يُرَجِّحُ في هذا الموضع ، بداهة ، التعظيم ، فهي آية عظيمة في القدر والوصف ، ولأجلها اختص المسيح ، عليه السلام ، بهذا الوصفِ ، وصفِ الكلمة ، وإن صدق في كلِّ مخلوقٍ في هذا العالم المحدَث أنه كلمة ، فذلك العموم الذي يستغرق ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فَيَصْدُقُ فِي الجميعِ أنه كلمة الله ، وإنما اختص المسيح ، عليه السلام ، لما كان في خلقه من آيِ إعجازٍ ، ومن يُنْكِرُ المجاز فهو جَارٍ على أصل له قد اطرد ، أن ذلك مما كَثُرَ فِي اللِّسَانِ العربيِّ وَاشْتُهِرَ ، وإن خالف عن حقائق اللسان المجرَّدة ، فَثَمَّ من عُرْفِ الاستعمال والتداول ما صَيَّرَهُ حقيقةً أَخَصَّ ، حقيقةَ الْعُرْفِ ، وهي تَقْضِي في أولى من النطق ، قضاء المحكم في المتشابه ، فيجري الباب مجرى الخاص والعام ، فلا تعارض ، إذ الخاص يَقْضِي في العام ، أو هو يجري مجرى التَّرَاجُحِ فِي الحقائقِ ، فحقيقة العرف الأخص تُقَدَّمُ على حقيقة اللسان الأعم ، والتراجح في هذه الحال بين حقيقتين ، لا بين حقيقة ومجاز ، وفي كلتا الحالين ، القول بالمجاز والإنكار ، يصدق في الكلمة أنها سبب ، والمسيح ، عليه السلام ، أنه مسبَّب ، والسبب بَدَاهَةً غَيْرُ المسبَّب ، فالأول لِلثَّانِي يَسْبِقُ ، ضرورة في النظر تُلْجِئُ ، إلا عن قول آخر للحكمة الأولى لا يخلو من الامتناع الذاتي ، أن العلة تَقْرِنُ المعلول ، فَضْلًا عن آخر من الاتحاد والحلول ، أَنَّ العلة هي عين المعلول ، فيكون من هذا العالم : قديم أول قد قَرَنَ العلة في الوجود ، فليس ثم في الأزل إلا موجود واحد بالعين ، فهو العلة والمعلول ، وما العالم المحدث في الخارج إلا مظاهر لحقيقة واحدة في الأزل تَثْبُتُ ، فلا امتياز فيها لواجب من جائز ، بل كلٌّ قَدْ وَجَبَ الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا شيء من هذا العالم يصدق فيه أنه المحدَث ، بل هو القديم في الأزل ، وإنما الأعيان في الخارج مظاهر له تصدق ، فلا شيء منها مخلوق محدَث ، ولا امتياز لأعيانها ، فهي واحدة بالعين ، فلا يعالج الناظر في الخارج إلا المظاهر ، وهو ما يخالف ضرورة عن مدارك الحس الظاهر الذي يميز الأعيان في الخارج ، كما الذكر والأتثى مثالا تقدم ، فَثَمَّ من النوع ما امتاز ضرورةً ، وثم من الآحاد ما امتاز ، أيضا ، وهو ما يعالج الحسُّ في الخارج ، وثم من حدوث الأعيان المخلوقة بعد عدم ، ما يُبْطِلُ ضرورةً القول بِالْقِدَمِ ، فذلك مما يطلب علة أولى تَسْبِقُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من وصف الوجوب الذاتي ما تَقَدَّمَ ، وله من وصف الإيجاب وَصْفُ فعلٍ قَدْ قَدُمَ ، وآحاده لا تَنْفَكُّ في الخارج تحدث ، وهي لمقدور أول في الأزل تُصَدِّقُ ، وبها الترجيح في الجائز من هذا العالم الحادث أن يخرج من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فحقيقته بداهة وهو عدم لدى المبدإ إذ كان المقدورَ في علم أول قد استغرق ، فهو الجائز ، وما كان من وجوب له يثبت ، فهو وجوب لغير بما تَقَدَّمَهُ مِنَ العلة والسبب ، فحقيقته آنفة الذكر تخالف ضرورة عن حقيقة الواجب الأول ، واجب الوجود لذاته ، وبه بطل مذهب الحلول والاتحاد ، فلا تنفك آثاره تظهر في كلِّ جيلٍ ، إن في الحسِّ أو في المعنى ، فالوجود في الخارج ضرورةً في العقل فذلك من مقدمات النظر المحكم ، الوجود في الخارج لا يُطْلَقُ بِشَرْطِ الإطلاقِ ، وإنما امتاز في الخارج ، فهو الواجب في حَدٍّ ، والجائز في آخر ، على التفصيل آنف الذكر ، وإنما اقترحت الحداثة في الجيل المتأخر أن يكون المرجِع من الأرض ، وهو الإنسان الذي فَرِحَ بمدركاتِ الحسِّ من علوم التجريب والبحث ، وَلَوْ تَدَبَّرَ في وحي قد أُحْكِمَ فَسَلِمَ من التبديل والتحريف ، لَوَجَدَ أن ما نَالَهُ من العلم المحدَث لا يضاهي ما جاء به الوحي المنزل ، وهو ما تَنَاوَلَ أصول النظر والاستنباط ، وطرائق الإثبات لما صَحَّ من الأدلة ، وطرائق الاستدلال الذي يستنبط المدلول النظري من مقدمات ضرورة أولى في الوجدان تَنْصَحُ بِمَا رُكِزَ فِي النَّفْسِ من فطرة أولى بها العقل يَنْصَحُ ، فامتاز من سائر النوع المعجم ، وكان من ذلك خاصة النطق ، وهي مناط التكليف إذ يصدر الكلام عن منطق أول يَبْطُنُ ، وذلك المعنى الذي يحصل في النفس مبدأ النظر ، وهو شطر أول في حد الكلام المفهِم ، وله من الحد ما يجاوز مقدمات الضرورة الأولى ، وهي مُدْرَكَاتُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي ركزت في الجسد ، وهي أولى من الفطرة تَثْبُتُ ، فطرة الجسد ، ومنها ما تَقَدَّمَ من قسمةِ النوع ذكرا وأنثى ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من مَيْلِ جِبِلَّةٍ إلى الآخر ، وبه اكتمال القسمة التي بها حِفْظُ النَّوْعِ ، مع حصول كفاية تشبع الحاجة التي جُبِلَتْ عليها الخلائق كافة ، فَثَمَّ خاصة الفقر الضروري إلى السبب ، إن الموجِد من العدم ، أو تال يحفظ النفس أو النوع ، وتلك خاصة في المخلوق المحدث تدل ضرورة على قسمة النظر إذ يَسْتَقْرِئُ ، فَثَمَّ من جنس الموجود ما أُطْلِقَ في الذهن ، وله من القسمة في الخارج ما تقدم من الواجب والجائز ، فتلك أولى ، وثم قسمة الغني والفقير ، ولكلٍّ من وصف الذات ما وَجَبَ ضرورةً ، فَثَمَّ الفقير : الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وذلك حد المخلوق المحدَث ، والحس بذا يشهد ، فَثَمَّ فَقْرُ ضرورةٍ إن في الحس أو في المعنى ، فالجسد يطلب من أسباب بها الحفظ والصيانة ، مع ما يكون من لذة تستصحب بما يطعم الجسد ويشرب ، فتلك غريزة بها الباعث المحفِّز بما كان من إتقان وإحكام في الخلق والسنن الجاري في الكون ، فلا ينفك كلُّ أولئك يَطْلُبُ أَوَّلًا يَسْبِقُ ، وله من التسلسل في المؤثرين أزلا ما امتنع ، فوجب الانتهاء إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، وله من وصف الغنى الذاتي ما لا يُعَلَّلُ ، فذلك الوصف الواجب لذاته ، لا لغير ، فلا يفتقر إلى سبب يسبق ، يُوجِدُ أو يَرْفُِ الوجود بما يحفظ ويصلح ، بل كل المحال والأسباب إليه تَفْتَقِرُ أن يُقَدِّرَ بعلم أول يحيط قد استغرق الكليات والجزئيات كافة ، ويوجد بالقدرة والإرادة ، فيكون من ذلك تأويل المقدور في الأزل بما حدث من الموجود في الخارج ، وهو ابتداء الجائز ، فَثَمَّ المقدور الأول في علم إحاطة قد استغرق ، وهو ما افْتَقَرَ ضرورةً إلى مرجِّح من خارج ، وبه يصير ذا وجود في الخارج هو المحدَث ، وهو ، لِمَا كان أولا من التقدير يُصَدِّقُ ، وبه إثبات القسمة آنفة الذكر ، الواجب في حد ، والجائز في آخر ، فالأخير لا ينفك يوصف بالعدم ، وإن كان ثم وجود في التقدير الأول ، فهو وجود القوة لا الفعل ، فلا ينفك يطلب المرجح الذي يخرجه من القوة إلى فعل في الخارج يصدق ، فيكون من ذلك ما يواطئ علم تقدير أول ، وحكمة بالغة تنصح ، ومنها خلق الأزواج التي تتكامل ، فَفِي كُلٍّ من النَّقْصِ أول يثبت ، وهو يطلب زوجا له يكمل ، فَثَمَّ من الفقرِ : وصفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، فَثَمَّ الافتقار إلى المقدِّر الأول الذي يحد الحقائق في الأزل قبل خروجها إلى الوجود من العدم ، وثم الافتقار إلى المتقِن المحكِم ، فَلَهُ من العلم ما عم فاستغرق الكليات والجزئيات ، ولا تنفك رحمات في ذلك تظهر بما كان من قوى في الأعيان قد ركزت ، وما يسر لها من أسباب في الخارج ، ولها من القوى ما به تُبَاشِرُ ، فتلك زوجية تعدل زوجية الذكر والأنثى ، زوجية المحل الذي يَقْبَلُ والسبب الذي يُبَاشِرُ بما رُكِزَ في كلٍّ من قوى تدق ، فلا يكون ذلك ، عن عشواء وخبط ، أو عن علة أولى فاعلة بالطبع اضطرارا فلا علم ولا إرادة ، بل ثم من الوصف ما ثَبَتَ بالعقل ضرورة ، فهذه الأعيان بما سُنَّ لها من الزوجية المتقنة الجارية على سنن هي المحكمة ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى تُوَاطِئُ ما لأجله قد خُلِقَتْ ، فذلك ، كما تقدم ، مما يدخل في العموم المستغرق في قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" .
والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
فهذه الأعيان لا تكون ضرورة إلا عن أول له من وصف الوجود : وصف الواجب لذاته ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فَلَهُ من ذلك غنى هو المطلق ، لا كما غنى المخلوق المحدث ، فهو المكتسب بعد عدم ، بل وجوده ابتداء حاصل بعد عدم ، فكذا وصف المخلوق المحدَث من حياة وغنى وعلم وحكمة وقدرة ...... إلخ ، فذلك مما لم يكن ، فـ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، و : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، وتلك قسمة في العقل تثبت ، وبها الوجود في الخارج ينقسم ، فَثَمَّ الغني الغنى المطلق في حَدٍّ ، وثم آخر وهو المخلوق الحادث ، فالفقر وصف ذات له لا يُعَلَّلُ ، كما نَظَمَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فهو يفتقر ابتداء إلى المقدِّر ثم المتقِن المحكِم ، ثم الموجِد الذي يخرج المقدور من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، ثم الرَّازِقِ الذي يجري الأسباب التي بها حفظ الأبدان والأنواع ، ثم المدبِّر بما سَنَّ من السنن المحكم ، وعليه يجري هذا العالم المحدَث ، ولا ينفك يحصل له من الحدث ما يخالف ، كما أُثِرَ عن بعض من حقق ، فكان من الحدث ما يخرج عن السنن المحكم في بَعْضٍ ، فتلك آحادٌ تُسْتَثْنَى من أصل أول هو المحكم ، فكان من ذلك دليل يَنْفِي الشبهة ، فَلَوْ كَانَ ثَمَّ إِحْكَامٌ فِي السَّنَنِ يَطَّرِدُ في كلِّ موضعٍ فلا يكون ثم خلاف عنه في آحادٍ تُسْتَثْنَى ، لو كان ذلك أصلا محفوظا فلا تخصيص بدليل ، وبه الخروج عن العادة والإلف في التقدير ، لو كان ذلك لكان من صاحب الشبهة الجاحد أن يَرُدَّ ذلك إلى سَنَنٍ قد اطرد ، فليس ثم فاعل أول يسبق ، وإن خالف ذلك عن قياس العقل المصرح ، فإن هذا الاطراد الذي يَتَّخِذُهُ شُبْهَةً بها يطعن ، هو لِشُبْهَتِهِ يَدْحَضُ ، فالفعل ضرورةً لا بد له من فاعل أول يسبق ، فكذا السنة المحكمة فلا بد لها ضرورة من سَانٍّ أول ، وإحكامها وإتقانها لا يَنْفَكُّ يدل على آخر أخص من علم تقدير قد جاوز الكليات المجملة ، فَثَمَّ حكمة لا تكون إلا عن خبير أول قد أحاط بالكليات والجزئيات كَافَّةً ، فَثَمَّ من علمه بالدقائق ما تَنَاوَلَ الجزئيات كما الكليات ، وتأويله في الخارج ما يكون من أعيان متقَنة وسنن محكَمة ، ولو في مواضع التجريب والبحث التي يَتَبَجَّحُ بها الخصم الجاحد أنه قد استغنى عن الخالق ، فلا حاجة له في علم غيب يجاوز الحس المحدَث ، ولو التزم القول إنه حيوان لا تجاوز مداركُه غرائزَه ! ، فَفِي مسائل التجريب والبحث ما لا يمكن حده بالحس ، قانون الجذب إلى أسفل مثالا ، وقد كان أصلا من أصول الحداثة في رَدِّ كل الظواهر في هذا الكون إلى قوانين محكمة تُقَاسُ وَتُضْبَطُ ، فهي من المشهود الذي لا يجاوز ، فحصل بها الاستغناء عن خرافة ما بعد الشهادة ، فلا غيب يجاوزها ، بل الشهادة هي الأصل ، إذ الإنسان هو الأصل ، وقد اخْتُزِلَ فِي الجسدِ الذي يُقَاسُ بأدواتِ التجريب والبحث ، وليس ثم دليل إلا ما يدركه الجسد بما رُكِزَ فيه من غَرَائِزِ الحسِّ المحدَث ، فلا غريزة له تجاوز من عقل ، هو وصف الروح ، وهي الشطر الذي أهملته الحداثة في حد الإنسان ، فكان الحد : مادة بلا معنى ، وله اقْتَبَسَ شعبةً من مقال الحلول والاتحاد ، فالمعنى قد حَلَّ في المادة ، فاضمحل وزال ، ولم يَبْقَ في الخارج إلا المادة التي تُدْرَكُ بالحسِّ ، وَتُقَاسُ بأدواتِ التجريبِ والبحثِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ روح إذ لا تُدْرَكُ بالحسِّ ، وليس ثم عقل يجاوز ، فليس إلا الدماغ الذي تُقَاسُ نَبَضَاتُهُ وَإِفْرَازَاتُهُ ، وإن كان في ذلك دليل يشهد بِضِدِّ ما أراد الجاحد المنكر ، فذلك حدث في الخارج لا ينفك يطلب أولا يسبق ، وهو المحدِث ، فَثَمَّ عِلَّةٌ تَسْبِقُ المعلولَ ، فالدماغ لا يستأنف الإفراز والنبض من لا شيء ، بل ثم سبب أول يسبق ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ في المشهود المدرَك بالحس والتجريب حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى سقف من الشهادة لا يُجَاوَزُ ، فلا ينفك يطلب سببا يُجَاوِزُ ، وليس إلا الغيب الذي فَرَّ منه كما يفر من الأسد ، وإن كان فيه جواب ما سأل ، فسؤال التسلسل لم تحسم مادته بالسبب المشهود ، فلا ينفك يطلب أولا يجاوز المحسوس ، فَثَمَّ من المعنى ما جاوز المادة التي اقترحها حقيقةً في الخارج واحدةً ، فالمعنى قد اتحد بها فاضمحل ، فليس إلا هي في الخارج ، وإن لم يحصل بها جواب يشفي السائل ، فَثَمَّ من التسلسل في المؤثِّرين ما استوجب ضرورةً مجاوزةَ الحسِّ إلى المعنى ، الشهادةِ إلى الغيبِ ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، حدثا بلا محدِث ، مخلوقا بلا خالق ، مُسَبَّبًا في الخارج بلا سبب ، معلولا وهو النبض والإفراز في الدماغ ، فذلك أَثَرٌ في الخارج يُرْصَدُ ، ولا ينفك يطلب علة أولى عنها يصدر ، وليست الشهادة تجيب عن ذلك جوابا محكما يسلم من الاستدراك ، فلا ينفك التسلسل يثبت حتى يجاوزها ضرورة إلى غيب هو الأول ، فَثَمَّ من المعاني ما يَلْطُفُ ، وهو ما يحصل في العقل الذي يجاوز الدماغ ، فتلك حكاية لطيف من الأعيان ، روحا تجاوز الجسد الذي انتهت إليه الحداثة حقيقةً في الخارج لا حقيقة من الغيب لها تجاوز ، فليس إلا الحس : دليل الإثبات والنفي ، وإن انحط الإنسان إلى دركة الحيوان الذي لا ينطق ، فَجَحْدُ الغيبِ ، لو تدبر الناظر ، جحدٌ لخاصَّةِ الإنسان المكلَّف ، أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ ، فإن من الكلام لدى المبدإ : معنى يقوم بالنفس ، فهو أول يلطف فلا يدرك بالحس ، وثم من الصوت المدرَك بَعْدًا بالحسِّ ما يحكي هذا المعنى ، فيكون من ذلك مجموع مركب ، بعضه مشهود من اللفظ ، وبعضه لطيف مغيب من المعنى الذي يقوم بالنفس ، فهو يقوم بالعقل الذي يجاوز الدماغ ، كما الروح تجاوز الجسد ، فَثَمَّ لطيف يجاوز الكثيفَ المدرَك بالحسِّ الظاهرِ ، وليس ذلك يثبت إلا بإيمانٍ بِغَيْبٍ لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن وجد الناظر آثاره ضرورةً في الخارج ، بما يعالج من حركات الاختيار الباطن والظاهر ، إِنْ جبلةً أو فكرةً ، فتلك حركة الجسد التي لا تفسرها قوانين المادة ، وإن كان من ذلك ما يَنْفَعُ في علوم الجسد من التشريح والوظائف وآخر يعالج النسيج الجامع ، وبعده ما يعالج خلايا تدق ، وما دونها في الحد من عضيات تلطف ، وما يكون من كيمياء الحياة ، تفاعلات تدق ، وبها حصول الصلاح والصحة بما لطف من المادة ، وما وجب لذلك من شروط تُسْتَوْفَى وموانع تُنْفَى ، وَحَوَافِزَ من جزئيات وأحوال ، كما الحرارة والوسط المائع ، فالماء سبب في كلِّ حَيَاةٍ تَنْشَأُ ، فَثَمَّ مثالُ حياةٍ يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهرِ ، وثم آخر يدق ، وهو ما بَلَغَ حدا من الغيب يَثْبُتُ ، ولو النسبيَّ لا المطلق ، فكان من الاستدلال على الخصم ما يُلْزِمُ ، فَيُحْتَجُّ عليه بالنسبي الذي كان غيبا ، فحقيقته في الخارج أولا تَثْبُتُ ، وإنما كشف عنه التجريب والبحث ، فلم ينشئه من العدم ، وكذا آخر لَمَّا يُكْشَفْ بَعْدُ ، فَلَا زَالَ من الغيب الذي يَلْزَمُ الجاحدَ وإن في علم التجريب الحادث ، فما خفي كان أعظم ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، آي آفاق وأنفس لا تَنْفَكُّ تَدُلُّ عَلَى الحقِّ يَقِينًا يَجْزِمُ ، فلا يعدل عنه إلا الجاحد المستكبر ، وكذا سِرُّ الحياةِ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فهي تجاوز ما يضاهي التجريب والبحث في المعمل ، فقد يضاهي مواد في الخلايا والأنسجة بما يراكب من العناصر في البحث ، ولكنه لا يطيق ما به الحياة تَثْبُتُ ، فلا يكون من مواده في البحث إلا الموات فهي تطلب بعدا سبب الحياة الأخص ، فلا تدب فيها الحياة إلا أن تُضَمَّنَ مِثَالَ حَيَاةٍ ، ولو خَلِيَّةً تدق ، فيكون من ذلك ما لا يملك له التجريب والبحث جوابا ، وإن سَلَّمَ به ضرورة فقد عالج آثاره ، فآمن بالغيب ، شاء أو أبى ، وإلا خالف عن ضروري أول ، ولو في التجريب والبحث المحدَث ، فَقَانُونُ الجذبِ مثالا مما يُقَاسُ بالحسِّ ، وهو مع ذلك ، مما لا يحد بالحس الحد الجامع المانع ، فالجذب ليس ذا ماهية في الخارج يتناولها الحس ، وإن وجد آثارها في الفعل ، فاستدل بالأثر على المؤثر ، وذلك قانون السببية المحكم الذي به يُحَاجَجُ ، فَقَدْ أَثْبَتَ من الغيوب ما لَطُفَ ، فلا جرم لها يثبت في الخارج ، وكان دليله ما وجد من آثارها كما سقوط التفاحة ، حَدَثًا قَدِ اشْتُهِرَ ، فَإِنَّهَا قَدْ سَقَطَتْ بِقُوَّةٍ لا حقيقة لها في الخارج تُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن كان منه ما يقيس آثارها ، وبالأثر قد اسْتَدَلَّ عَلَى مُؤَثِّرٍ لم يدرك حقيقته بالحس المجرد ، فيصدق فيه أنه غيب ، ولو النسبيَّ لا المطلقَ ، فكيف بهذا الكون بما أُتْقِنَ من أعيانِه وَأُحْكِمَ من سَنَنِهِ ، وهو ما يعالج الحس الظاهر ، فلا ينفك يطلب أولا يواطئ مقدمات الضرورة في العقل الناصح ، أَنَّ الأثر لا بد له من مؤثر ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى بَلَغَ سَقْفًا من الشهادة لا يُجَاوَزُ ، وليس به حسم المادة التي تمتنع ، مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا تنفك تطلب سَبَبًا من الغيبِ يُجَاوِزُ ، ومنه ، أيضا ، المخلوق المحدَث ، كما مثال الخلية آنف الذكر ، فما ضاهى البحث من موادها في الخارج لم يكتسب الحياة إلا بعد أن ضُمِّنَ مثالا حيا ، فلم يطق البحث والتجريب له عِدْلًا ، فذلك سبب قد غاب ، ولو المخلوق المحدَث ، فكان من ذلك روح تلطف ، وهي سبب في صلاحِ الجسدِ وحفظِه وما يكون من حركاته اضطِّرَارًا أو اختيارًا ، وما يكون من تَفَاعُلَاتٍ تدق ، إن في البناءِ أو في الهدمِ ، وهو ما أبان عنه التجريب والبحث فَحَكَى مِنْ ذَلِكَ ما تَقَدَّمَ من الإتقانِ والإحكامِ ، ولا يكون ذلك إلا عن تقديرٍ وتدبيرٍ ، فَهُوَ يجاوز ما اقْتَرَحَ بَعْضٌ خواتيمَ العصرِ الوسيطِ ، أن يكون ثم إيمان مجمل بِرَبٍّ قد خلق ، فليس بَعْدُ يُؤَثِّرُ في الخلق بِسَنَنٍ قَدْ أُحْكِمَ في الكونِ ، أو قد سَنَّ من ذلك أولا ، ثم تَرَكَهُ فَنَسِيَ ، فالكون يصدر عن سَنَنٍ ذاتيٍّ لا يُعَلَّلُ ، وإن لم يكن من ذلك جواب ما تَقَدَّمَ من سؤالِ التسلسلِ ، فلك سنن محكم يطلب بداهة السَّانَّ الأول ، وهو ما جاوز في الوصف ما تقدم من المطلق بشرط الإطلاق ، أو العلة الفاعلة بالطبع اضطرارا ، المجردة من الوصف علما وإرادة ، فَثَمَّ من الإتقان والإحكام ما لا يكون بداهة عن خبط عشواء ، وإنما تقدَّمه التقدير المحكم الذي تَنَاوَلَ الكليات والجزئيات كافة ، ما جَلَّ وما دَقَّ ، فَثَمَّ من ذلك تأويل لاسم الخبير الذي يعلم ما دق ، واللطيف الذي خفي فلا يدرك بالحس ، وإن دل عليه العقل ضرورة بما عالج الحس من آثار تقديره وتدبيره في الخارج ، أعيانا قد أُتْقِنَتْ ، وَسَنَنًا قد أُحْكِمَ ، فَخَفِيَ ، وإن دَلَّ عليه العقل ضرورةً ، فهو من الغيب ، بل هو أَجَلُّ الغيوبِ ، وله من قسمة الوجود المطلقة في الذهن : شطر الواجب لذاته فلا يفتقر إلى أول يسبق ، بل له منها ما أطلق فاستغرق وجوه المعنى ، فهو الأول فلا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حسم مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا تحسم إلا بإثبات الغيب الذي يجاوز مدارك الحس ، وإن احتالت الحداثة ما احتالت أن تجحده ، فلا ينفك شاهد الحس الذي عنه تصدر ، يَحْكِي ضِدًّا من مذهبِها المحدَث ، فَثَمَّ آثار يعالجها الحس ، فلا تَنْفَكُّ تَدُلُّ على أول هو الخالق ، وله من الوصف ما يجاوز مذهب الربوبية المحدَث ، أنه الخالق وكفى ! ، فقد تَرَكَ وَنَسِيَ ، فليس يدبر الكون بعدا ، إذ سلك به جادة من السنن المحكم ، وذلك في نفسه شاهد بِضِدٍّ ، فلا يكون إلا عن أول قد قَدَّرَ بالعلمِ وَأَوْجَدَ بالقدرةِ وَرَجَّحَ وَخَصَّصَ بالإرادة ، وبها صار المقدورُ الجائز : وَاجِبًا في الخارج ، وإن لغيره ، بما كان من سبب أول يُرَجِّحُ ، وبه حسم أخرى تَمْتَنِعُ في القياس المصرح ، أن يكون ثم ترجيح بلا مرجح ، فلا ينفك الجائز يطلب المرجِّح من خارج ، وهو ما تَسَلْسَلَ ضرورةً فَانْتَهَى إلى الأول الذي لا أول قَبْلَهُ ، فَبَلَغَ سَقْفَ الشهادةِ ، وليس بها حسم المادة ، فَلَزِمَهُ ضرورةً إثباتُ ما جاوز الشهادة ، وليس إلا الغيب ، وإن النسبيَّ ، ولا ينفك يَنْتَهِي إلى آخر هو المطلق ، ومنه ، لو تدبر الناظر ، مخلوقٌ محدَث ، كما الملَك سَبَبًا في التدبير ، فذلك غيب لا يثبت إلا بِالتَّوْقِيفِ ، توقيفِ الوحي مرجعا من خارج يجاوز العقل والحس ، وإن لم يكن منه حرج ينالهما أن يضطرهما إلى التصديق بالمحال الذاتي الذي يمتنع ، بل غايته أن يَبْتَلِيَ بالمحار الذي لا يُدْرِكُ الحسُّ حقيقتَه في الخارج ، فليس العقل يحيله أو يمنع ، فذلك المحار من غيوب منها الجائز ، كما قصة الخلق الأولى ، ومنها الواجب ، كما وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، فإثبات وجوده أولا مما يدل عليه العقل ضرورة وإلا نُقِضَ قانون السببية الذي عليه تقوم العلوم كافة ، ومنها علوم التجريب والبحث التي غلا فيها الخصم حتى حَجَّرَ الواسع فَلَيْسَ ثَمَّ علم يجاوز الجسد الحادث ، فإثبات وجود الخالق ، جل وعلا ، أول في العقل الصريح يثبت ، وذلك من مقدمات الضرورة في الباب ، حسما لما تقدم من مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، وثم من وصفه ما يدرك بالعقل ، فالإتقان والإحكام ، كما تقدم ، دليل في الخارج يشهد ، فلا يكون إلا عن علم وحكمة وقدرة وإرادة ، وثم من ذلك ما لا يقوم إلا بحي ، فالحياة أصل الصفات الذاتية ، قيوم على كل موجود ، فالقيومية أصل الصفات الفعلية ، رحمن بما أجرى من أسباب بها الإيجاد والرزق والتدبير ، عَلِيٌّ ، فالعلو الذاتي الأعم مما يدركه العقل ضرورةً بما رُكِزَ في الفطرةِ من تَوَجُّهِ المخلوقِ إلى خالق أعلى ، فهو يحفظه ويدبر أمره ، وتلك ضرورةٌ قَدْ رُكِزَتْ فِي الوجدانِ ، وإن تَكَلَّفَ لَهَا من تَكَلَّفَ أَنْ يُنْكِرَ ، وقد تَكَلَّفَ آخر أن يَتَأَوَّلَ إذ صدر عن مقدمات تخالف عما جاءت به النبوات ، فكان من ذلك آثار حكمة أولى محدَثة لا حظ لها من رسالة منزلة ، فكيف يكون منها أدلة بها الوحي يَثْبُتُ ؟! ، وهي ، ابتداء ، لا تؤمن به بل ولا تدرك ، فلم يكن لها منه ، في الجملة ، حظ .
فَثَمَّ من الصفات الإلهية ما يدل عليه العقل ضرورة بما رُكِزَ في الفطرة من مقدمات في الاستدلال تَنْصَحُ ، وهي ، كما يقول بعض من حقق ، مما جاوز صفات سَبْعًا قد اصطلح أهل الشأن أنها صفات المعاني إذ العقل يدل عليها ، وإن كان المرجع الأول في هذا الباب : الوحي المنزل ، فذلك باب غيب مطلق ، فالعقل ليس له يُدْرِكُ ، وإن كان من إِثْبَاتِهِ معلومٌ ضروريٌّ ، كما جنس الصفات المعنوي ، فذلك مما صَرَّحَ به العقل أولا بما رُكِزَ فيه من مقدِّمات الضرورة في باب الخلقِ والتدبيرِ ، وصدقه بَعْدًا النقل ، وَزَادَهُ مِنْ خَبَرِ الغيبِ ما لا يستقل فيه بإثبات ولا نفي ، فلا يدل عليه دلالة أخص ، وإن كان منه ابتداء تجويز أعم ، فَلَيْسَ يُحِيلُ ما قد جاء به النقل الصحيح ، وإن حار في الحقيقة والكيف ، فَثَمَّ منه الجائز الذي يحتمل ، فلا ينفك يطلب من الخبر ما يُرَجِّحُ ، فذلك المرجِّح المعتبر فيما جاوز العقل والحس المحدَث من غيوب ليس لها يثبت وإن لم يُحِلْ وَيَمْنَعْ ، فالأمر ، كما تقدم ، جائز يطلب مرجِّحا يُثْبِتُ من مرجع يجاوز العقل والحس المحدَث ، وإلا وجب التوقف فاستصحب ابتداء العدم ، لا عدم المحال الممتنع لذاته ، وإنما عدم الجائز المحتمل ، فإذا كان ثَمَّ مرجِّح من خبرِ الوحيِ المصدَّق كان الإثبات الأخص ، وإن لم يكن ، فالعقل على أصل أول في باب الغيب وهو التوقف حتى يرد الدليل المرجِّح ، لا جرم كان من الوحي رائد صدق قد أجاب عن السؤل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عم الخبر والحكم ، فكان من ذلك تأويل لتوحيد النبوات المجزئ ، توحيد الرب المدبِّر ، وتوحيد الإله المشرِّع ، فَثَمَّ لكلٍّ ، التدبير والتشريع ، من الكلمات ما تَنَزَّلَ من واحد قد انفرد بوصف الربوبية خلقا وتدبيرا ، ووصف الألوهية حُكْمًا وَتَشْرِيعًا ، وبه امتاز الوحي من آخر هو الوضع المحدث ، وإن كان ثم اتفاق في مواضع ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، رِكْزُ فطرةٍ أولى تَنْصَحُ ، ولو لدى جاحد ينكر ، فإن جحوده لو التزم في الخارج لوازمَه ، فَهُوَ قَاضٍ بِسَلْبِ المعنى ، ولو أخلاقا في النفس قد أُجْمِلَتْ ، فَلَيْسَ إلا المادة التي عنها يصدر ، وهي ، بداهة ، بلا أخلاق ولا مبدإ ، إلا ما يُدْرَكُ بالحس المحدث من نفع يعجل ، فما يجد الجاحد المنكر في نفسه من أخلاق ومبادئ ، ولو آثارا ، فذلك شاهد بضد ما ينتحل ، فَنِحْلَتُهُ التي تجحد لا تثبت معنى يجاوز مادةً قد حصلت في الكون بلا موجِد ، وسلكت جادة خبط وعشواء ! ، فليس ثم حُسْنٌ أو قُبْحٌ ، عدل أو ظلم ، إباحة أو حظر ...... إلخ ، فتلك معان تجاوز المادة ، فإثباتها يستلزم آخر من محل يَلْطُفُ ، وهو يجاوز المادة الكثيفة ، فيكون ثم روح لطيف يجاوز الجسد ، وله من العقل وصف يجاوز الدماغ المدرَك بالحس ، فالروح معدن أخلاق وأحكام لا تَنْفَكُّ تطلب المرجع المجاوز من خارج ، فليس من أسبابها ما يدرك بالحس ، كما المادة التي صدرت عنها الحداثة ، فكان من الوحي ما جَاوَزَ ، وهو المصدِّق لفطرة أولى من الأخلاق والأحكام ، وتلك ما يجد الجاحد المنكر منها بَعْضًا ، ولو آثارا في النفس تُجْمَلُ فلا تنفك تطلب مرجعا من خارج يجاوز فهو يُبِينُ عَنْهَا وَيُفَصِّلُ ، فيجد من ذلك ما يجد ضرورة لا يُنْكِرُهَا ذو عقل يَنْصَحُ ، وله من الأحكام ما ينصف ، وإثباتها ، ولو مجملة ، إثبات لمعيار حاكم يجاوز المادة المدركة بالحس الحادث ، فلا أخلاق لها بداهة ، وإنما كم وكيف يدرك بالتجريب والبحث ، فلا يطيق حَدَّ ما لَطُفَ من المعاني أخلاقا وأحكاما فذلك مما افتقر إلى معيار من خارج يجاوز ، فليس إلا الوحي الصحيح الذي جاء يواطئ ما صَرُحَ مِنَ العقلِ والفطرةِ ، فَصَدَّقَ بهما في الجملة ، وَفَصَّلَ ما أُجْمِلَ من أحكامهما بما كان من خَبَرِهِ صِدْقًا وَحُكْمِهِ عَدْلًا ، وَقَوَّمَ ما اعوج بما كان من شرك وظلم ، فجاء يَنْصَحُ لِمَا صَرُحَ من العقلِ ، فَلَمْ يخالف عن مقدماتِ ضرورةٍ في الحكم ، بل فيه ، كما يقول بعض من حقق ، ضرب لأمثال محكمة تجاوز ما اقترحت الحكمة المحدثة إذ تَتَبَجَّحُ بمقاييس في العقل ، لها حظ من الصحة والنصح ، ولكنها ، لو تدبر الناظر ، لا تَعْدِلُ أخرى قد جاء بها الوحي النازل ، مع يُسْرِ عِبَارَتِهِ فَلَا تَكَلُّفَ ، ونصح مادته التي تخاطب العقل والجنان ، وبها تزكية المحال كافة ، وجواب سؤالات الخلق الأول والمعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات ......... إلخ ، وذلك بحث يطول ، وفيه تَفْنَى الأعمار وَتَنْقَضِي الدهور ، أن يعالج الناظر من دقائق ذلك نُصُوصًا في محال النِّزَاعِ ، إن في الخلق أو في الشرع ، وبها يحصل لدى المنصف يَقِينٌ يَجْزِمُ أَنَّ المؤمن بالوحي الصادر عنه مرجعا في الخبر والحكم لا يَفْتَقِرُ إلى آخر ، فما عند غيره من الحق ، فهو عنده وزيادةٌ تُفَصِّلُ ، وعبارة ناصعة تُبَيِّنُ ، فَلَا تَكَلُّفَ فِيهَا باصطلاحٍ محدَث لا يُدْرِكُهُ إلا مَنْ تَضَلَّعَ من فنون النظر والمنطق ، بل ثم ذِكْرٌ قَدْ يُسِّرَ ، وعنه الخلق كافة يَصْدُرُ ، إِنِ العالمُ المحقِّق أو العاميُّ المقلِّد ، فأصوله وكلياته ، إِنْ فِي الخبرِ أو فِي الحكمِ ، قد بُذِلَتْ بلا تكلف في الاستدلال والنطق ، وإنما صدرت عن مقدمات ضرورة تَنْصَحُ فَهِيَ تُوَاطِئُ مَا رُكِزَ أولا في العقل المصرَّح ، وَتُصَدِّقُ فطرة الخلق الأولى ، وَتُوَافِقُ ما انْتَهَى إِلَيْهِ الحسُّ إذ يعالج آي الكون إِنْ في الآفاقِ أو في الأنفسِ ، فلا حاجة إلى غَيْرٍ ، فَفِي الوحيِ غنية ، وهو ما جُمِعَتْ مادته الناصحة في نُبُوَّةٍ خاتمة قد خُوطِبَ رسولُها صلى الله عليه وعلى آله وسلم باستفهامٍ يُنْكِرُ على المخالِف أن لم يكتف بما نَزَلَ من كتابها : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . وإن وَاطَأَهَا مرجع الإنسان المحدَث في الأرض ، فذلك شَاهِدٌ لها بما تقدم من فطرة أولى تَنْصَحُ ، فَوَاطَأَتْ مرجِعَ الوحيِ المنزلِ ، إن في كُلِّيَّاتٍ مجملة أو آحاد من الجزئيات مفصلة ، بل ثم من رُوحِ الوحيِ ، كما شهد به الخصم ، ثم مادة ناصحة قد اقْتَبَسَ مِنْهَا شُعْبَةً لَمَّا غَزَا بلاد الشرق واحتل ، فاحتمل من مدونات الفقه ما صاغ به جُمَلًا رَئِيسَةً من الدساتير والقوانين المحدَثة ، فذلك ما صَدَّقَ بفطرته شَاهِدًا مِنْ نَفْسِهِ ، وإن جحد المرجع الذي منه قد اقْتَبَسَ ، فَلَمْ يحصل بموافقته في جُمَلٍ من الكليات والجزئيات ، وَإِنْ كَثُرَتْ ، لم يحصل بها إيمان ينفع إذ قد جَحَدَ المرجع الأول الذي عنه قد نَقَلَ ، فلا يحتج المخالف على أتباع الوحي أن كان منه موافقة لهم في موضع ، فَنَصَرَهُمْ فيه ، وذلك مما يحمد ، فلا يجحد ، ولكنه لا يجاوز قَدْرَهُ ، فقد وافق الخصمُ الوحيَ على قاعدة من مرجعِه المحدَث الذي صدر عن الإنسان ، وقد صار الإله الذي يشرع على قاعدة من الجسد والحس المحدَث ، وإن كان من نَقْصِهِ ما دل عليه الحس ضرورةً ، فمرجعه الذي عنه يصدر قَاضٍ بِنَقْضِ مذهبِه الذي به يحكم ! ، فَمَا غَلَا إنسان في نَفْسِهِ فَظَنَّ منها إلها يحكم إلا وظهر له من نَقْصِهَا وَافْتِقَارِهَا ضرورةٌ في الوجدان تَطْلُبُ الغني الذي يَرْفِدُ بالأسباب ، وبه اكتمال القسمة الناصحة في العقل ، قسمة الواجب والجائز ، الغني والفقير ، وهي شاهدة بالإبطال على مرجعه المحدَث الذي صدر عن فَقِيرٍ لا تَنْصَحُ حكومته ، فلا تُؤْمَنُ مقالتُه إذ اتُّهِمَ بما يروم من هوى قد أعجبه ، وَحَظٍ قد حصله ، فلا تُؤْمَنُ إلا حكومة الغني الذي لا يفتقر إلى سبب ، فليس فقيرا يَتَأَوَّلُ من الحكم ما به يَنَالُ الغرض ! ، فذلك ، بداهة ، مما تَنَزَّهَ عنه الخالق الأول ، جل وعلا ، فما غَلَا إنسان في نفسه إلا وظهر له من نقصه ما يبطل ، وما غَلَا إنسان في آخر مثله فَظَنَّ منه إلهًا يحكم ، وَرَائِدًا يَنْصَحُ في كلِّ موضعٍ ، وإن لم يكن له مرجع يجاوز هواه وحظه ، ما كان ذلك من إنسان في آخر ، إلا وظهر له ضرورةً ما يَنْقُضُ هذا التصور الفاسد ، فَوَجَدَ من ضعفِ إلهِه وفقرِه ، بل وَفَنَائِهِ وموتِه ما يُبْطِلُ غُلُوَّهُ في مخلوقٍ مِثْلِهِ ، فذلك ضعف في العقل قد نال كُلَّ جاحدٍ للوحيٍ ، فلم يكن إلا الضلال ، فـ : (مَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، وَإِنْ وَاطَأَ مرجِعَ الوحيِ الذي صَدَرَ عَنِ الرحمنِ ، جل وعلا ، فذلك اتفاق يحكي بَقِيَّةَ فطرةٍ في نَفْسِهِ تَنْصَحُ ، وليس يُلْزَمُ بها أتباع الوحي المنزل ، أن يواطئوا حكومته فينصروه كما قد نصرهم ، فذلك ما لا يطلق في الحكم ، وإنما يُنْصَرُ الخصمُ فِيمَا واطأ الحق الذي أطره مرجع الرحمن على جادة من الحق والعدل والعفة ...... إلخ ، فَلَا يُنْصَرُ الخصمُ مُطْلَقًا ، فإنه مَا نَصَرَ أَتْبَاعَ الوحيِ إلا عن مرجعِه الذي به امتاز ، فَطَرَدَهُ في كلِّ حكمٍ ، صَحَّ أو فَسَدَ ، فَوَافَقَ بَعْضًا مما به الوحي قد نَزَلَ ، ولو خالف عنه الوحي ما أقام له الوزن ، فأتباع الوحي أولى بذلك ، أن يطردوا حكمهم في المواضع كافة ، إذ لهم من المرجع ما قد أُحْكِمَ ، وهو ، مع ذلك ، يُفَصِّلُ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى آخر يعضد ، فيكون من مرجعِهم : مرجعُ الرحمنِ في كل موضع ، كما الخصم له آخر من مرجعِ الإنسانِ ، فَعَنْهُ يَصْدُرُ ، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي موضعٍ ، فَكُلٌّ قَدِ امْتَازَ من الآخر بالأصل الذي عنه يَصْدُرُ ، فلا يُدَاهِنُ صاحبُ المرجع الإنساني فهو يصدر عنه في كلِّ تصورٍ وحكمٍ فقد نصر صاحب المرجع الرحماني أَنْ وَافَقَ ذلك مذهبه الذي يَنْتَحِلُ ، فلا يخلو ، بداهة ، من حَقٍّ ، وإن المجملَ في مواضِعَ ، فَثَمَّ من الكليات أصل جامع ، وهو ، كما تقدم ، شاهد عليه لا له فما كان ذلك إلا بَقَايَا فطرةٍ أولى لا يَنْفَكُّ يجحدها لِيَسْلَمَ له مذهبه أن يكون الإله الذي يُشَرِّعُ فَلَا يَصْدُرُ عن مرجعٍ من خارج الهوى والحظ المحدَث ، فَنَصَرَ صاحبَ المرجع الرحماني في موضع لا يخالف مرجعه الإنساني ، فذلك المحكم الذي يَرُدُّ إليه المتشابه من الأمر ، وإن الوحي المنزل ! ، فصاحب المرجع الرحماني بِذَا أولى ، أَنْ يَطْرُدَ حكمَه بما يواطئ مرجعَه المحكم فلا يُدَاهِنُ فِيهِ لِيَرُدَّ جميلا لا يَلْزَمُهُ ، فلو لم يكن الأمر على معيار الأول ذي الأصل الإنساني المحدث ما نَصَرَهُ ابتداءً ، وآية ذلك ما يقع بَعْدُ من الاختلافِ بل والتَّنَاقُضِ ، فَكُلٌّ يَصْدُرُ عن مرجعٍ يُغَايِرُ الآخر ، إن في التصور أو في الحكم ، وبه امتاز كل بدينه الذي ينتحل ، ومرجع له ينتصر . والمبدأ أَبَدًا : رُبُوبِيَّةٌ تَنْصَحُ ، ولها في الخارج آي من الآفاق والأنفس ، فذلك أَثَرٌ في الخارج يَثْبُتُ ، وهو دليل على أول من التقدير والتدبير ، فذلك ما قد دل عليه ضرورةً القياس الصريح ، بل والحس السليم قَدْ شَهِدَ بِمَا عالج من آثار ذلك في الخارج ، إن في الآفاق أو في الأنفس ، فاستدل به ضرورة على خالق هو الأول ، فالخلق المتقَن والسنن المحكَم ، وكل أولئك مما اطَّرَدَ فِي الخارجِ ، فالحس به شاهد ، كلُّ أولئك دليلٌ في الباب يَنْصَحُ أَنَّ ثَمَّ خالقا مقدِّرا مدبِّرا هو الأول بما له من علمِ إحاطةٍ يَسْتَغْرِقُ ، ولو كان الباب ، كما تقدم ، سَنَنًا قد اطَّرَدَ فِي كلِّ حالٍ ، لكان منه شبهة يصدر عنها من يَنْتَحِلُ المذهب الرُّبُوبِيَّ آنف الذكر ، فكان من الحكمة الربانية البالغة أن يُخَالَفَ عن السنن في بَعْضٍ ، وبه تأويل لاسم الرب ، جل وعلا ، يَنْصَحُ ، فهو خالق الشيء وضده ، مع ما يجري من سنن تدافع بين الأضداد ، وبه الحكمة تظهر في المقادير والأحكام ، فَثَمَّ من الربوبية مقام به الجمع ، كما يقول أهل الزهد والرياضة ، فالرَّبُّ ، جل وعلا ، هو خالقُ كلِّ شيءٍ ، فذلك مقام الجمع الذي تَنَاوَلَ المخلوقات كَافَّةً ، المحل الطيب وآخر هو الخبيث ، الخير والشر ، فَقَدَرُ التكوينِ النافذ جامع ، وذلك توحيد أول في الخبر والفعل ، وهو مَلْزُومٌ به التوسل بالنظر المصرح إلى آخر وبه الفرق يَثْبُتُ بعد جَمْعٍ ، فَثَمَّ فَرْقٌ يميز في الأخبار والأحكام ، توحيد التأله تصديقا وامتثالا ، فمقام الجمع هو ، كما يقول بعض من حقق ، حقيقة قدرية قد أَقَرَّ بها خصوم النبوات في الجيل الأول ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَثَمَّ مِنْ ذِكْرِ السماواتِ والأرضِ خَلْقًا ، والشمس والقمر تَسْخِيرًا ، ثم منه ، لو تدبر الناظر ، مِثَالٌ لِعَامٍّ قد استغرق الآحاد كَافَّةً ، آحادَ المخلوقاتِ ، إِنِ المحالَّ أو الأسباب ، وهو ما جاوز الإيجاد المجرَّد ، فَثَمَّ من آي الإتقان والإحكام ، وما جَرَى مِنَ السننِ المحكَم الذي يطلب الفاعل الأول فَهُوَ من يُجْرِي السَّنَنَ ، فذلك فِعْلُهُ في التكوين والتدبير ، فليس الفعل خلقا مجرَّدا ، قد خرج به المخلوق من العدم إلى الوجود ، بلا تال من التدبير الذي يجري على السنن المحكم ، فذلك تأويل لِمَا كان من تقديرٍ أَوَّلَ قَدْ تَنَاوَلَ من المحالِّ والأسبابِ ما أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ ، فَفِي كُلٍّ من القوى ما يطلب التأويل ، وهو الْمُخْرِجُ لَهُ من القوة إلى الفعل المصدِّق في الخارج ، فَثَمَّ سنن محكم وهو النافذ ، فذلك قدر التكوين الذي عَمَّ فاستغرق الإيجاد والتدبير المحكم ، فليس الأمر ، كما تقدم ، إخراجًا لمخلوقٍ من العدم إلى الوجود ، وإن كان ذلك مِمَّا يَشْهَدُ لمعنى الربوبية الأول ، فالمبدأ منه الإيجاد ، وبه الإيجابُ فِي جائزٍ أَوَّلَ مِنَ المقدورِ ، فَقَدِ اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الاحتمالِ ، الإثبات والنفي ، الوجود والعدم ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وَبِهِ يصير ذا وجود في الخارج يجاوز وجود القوة المجرد في علم تقدير أول ، فالجائز يطلب المرجِّح من خارج ، وبه يصير ذا وجود في الخارج يجاوز ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، وهو ما انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، ولو في إيجادِ مخلوقٍ في الخارج ، ولو الناقصَ المعيب ! ، فلا بد من موجِد أول ، ووجوده بداهة يسبق وجود المخلوق المحدَث ، وذلك قانون السببية المحكم إذ السبب ، بداهة ، يسبق المسبَّب ، وذلك ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أَوَّلٍ في السببية لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَمَا سواه فالمخلوق المحدَث الذي يطلب المرجِّح من خارج ، فَانْتَهَى الخلقُ ضرورةً إلى واجب أول ، له من الوجود وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فهو واجب الوجود في حد ، وما سواه فَجَائِزٌ مَبْدَأَ الأمرِ ، وهو يطلب المرجِّح الموجِب الذي يخرجه من العدم إلى الوجود المصدِّق لما كان أولا من التقدير في الأزل ، فَلَمَّا يَزَلْ بَعْدُ على قَيْدِ العدمِ ، فذلك وجودُ قُوَّةٍ في العدم ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ تأويلُه في الخارج بمرجِّح به يَصِيرُ ذَا وجودٍ بالفعل يُصَدِّقُ مَا كَانَ من وجودِ القوة الأول ، فيخرج من العدم إلى الوجود ، سواء أكان الوجود المغيَّب أم آخر هو المشهود ، فَكُلٌّ قَدِ انْتَهَى إلى أوَّلٍ لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبهما ، الواجب لِذَاتِهِ في حَدٍّ والجائز في آخر ، بهما قسمةُ الوجود المجرَّد في الذهن تَكْتَمِلُ ، وبه مقال الحلول والاتحاد يَبْطُلُ ، فلا يستقيم النظر ضرورة إلا أن يكون ثم قسمةُ : واجب وجائز ، خالق أول ومخلوق هو بَعْدُ المحدَث ، فالواجب لذاته موجِب في غير من الجائز ، فيوجب فيه بوصف الفعل الذي يصدر عن إرادة بها التخصيص والترجيح ، فلا يكون منه فعل الاضطرار عِلَّةً فاعلة بالطبع مجرَّدةً من الوصف ، مع ما تَقَدَّمَ في مواضع من غُلُوٍّ في التعطيلِ ، مبالغةً في الإطلاق حتى انْتَهَى النظر إلى مطلَقٍ بِشَرْطِ الإطلاقِ ، فذلك العدم الذي لا يصدر عنه بداهة وجود ، فما أحوجه إلى موجِد يخرجُه من العدم إلى الوجود ، فكيف يمنح المعدوم وجودا ، وهو في نفسه عدم في الخارج لا وجود له يجاوز التجريد في الذهن ؟! ، فَثَمَّ ضرورةً واجبٌ أَوَّلُ ، له من الوصف ما يجاوز الوجود المجرَّد في الذهن ، فآثاره في الخارج تَظْهَرٌ مِنْ وجودٍ ليس المعيب أو الناقص ، فالبحث والتجريب بضد شاهد ، وَإِنْ تَكَلَّفَ مَنْ تَكَلَّفَ أَنْ يَقْتَرِحَ من العيب ما يقدح في دليل الإتقان والإحكام ، فَثَمَّ من متشابهات ما اقْتَرَحَ مَا رُدَّ إلى محكَمات من البحث والتجريب تَنْصَحُ ، وهي بِضِدٍّ تَشْهَدُ ، أن ثم خالقا هو الأول ، وله من الوصف ما جاوز المجرد في الذهن ، فَثَمَّ العلم المحيط المستغرق الذي تَنَاوَلَ الكليات والجزئيات ، وَثَمَّ الحكمة في التقدير ، وَثَمَّ الإرادة في التخصيص والترجيح ، وثم الكلمة التي بها الخلق ، وبها خروج المقدور من العدم إلى وجود في الخارج هو المحدَث بعد عَدَمٍ ، وهو المصدِّق لِمَا كَانَ أَوَّلًا في الأزل ، فذلك ما عَمَّ المخلوقات كافة ، ومنها السماوات والأرض خلقا ، وهو المثال في الخارج لِعَامٍّ قَدْ تَنَاوَلَ المخلوقاتِ كُلَّهَا ، ومنها الشمس والقمر تسخيرا ، وهو المثال في الخارج لعام قد تَنَاوَلَ المسخرَّاتِ كُلَّهَا ، فَثَمَّ من ذلك دليل قد اصطلح أهل الشأن أنه دليل الاختراع لا على مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك البدع ، وهو ما جاء به الوحي مُقَيَّدًا ، فَوَصْفُ الخالقِ الأوَّلِ ، جل وعلا ، أنه : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وذلك ، أيضا ، من الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فهو بَدِيعُ كُلِّ شيءٍ من هذا العالم المحدَث لا على مثال أول قد تَقَدَّمَ ، وإنما له من ذلك وصف به قد انْفَرَدَ ، فذلك من توحيده ، جل وعلا ، في الوصف والفعل ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بالعلم الذي أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، فَعَمَّ المقدورات كافة ، ما جَلَّ وما دَقَّ ، مع حكمة أخص ، فَثَمَّ إتقان المحال والأسباب بما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى ، وثم إحكام السنن التي تجري ، وبها تأويل القوى المركوزة في المحال والأسباب ، وكل أولئك ، بداهة ، مما لا يكون عن عشواء تخبط ، أو عن جَمْعٍ من طفرات قد نهضت فجأة لا عن تقدير أول ، فحصل منها وجود بعد عدم ، وكان الترجيح بلا مرجِّح ، فاستؤنف الخلق لا عن خالق أول يقدم ، وكان المسبَّب في الخارج لا عن سبب أول يسبق ، فَثَمَّ من دليل الاختراع ما جاوز في الخارج الوجودَ المجرَّد ، فَثَمَّ وجود أخص على مثالِ إتقانٍ وإحكامٍ أدق ، فلا يكون ذلك عَنْ عَدَمٍ ، فالعدم لا يكون منه وجود في الخارج ، ولو المعيب الشائه ، بل لا بد من أول هو الفاعل طردا لما استقر ضرورةً في الوجدان الناصح أن الفعل لا بد له من فاعل ، وأن الخلق لا بد له من خالق ، فكيف وثم من الدليل ما زاد ، فكان من ذلك الإتقان والإحكام ، فلا يكون عن عدم أول ، ولا يكون عن أول كَلَا أَوَّل ، فليس إلا التجريد في الذهن مطلقا بشرط الإطلاق ، فلا وجود له في الخارج يثبت ، ولا يكون عن علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف ، بل ثم أول له من الوجود في الخارج ما جاوز التقدير المجرَّد في الذهن ، وله من وصفِ العلمِ والحكمةِ والقدرةِ والإرادةِ ما دل عليه العقل ضرورة ، وإن لم يكن ثَمَّ وحي ، فذلك رِكْزُ فطرة أولى في الوجدان تحصل ، فَثَمَّ من مقدماتِ النظرِ الضروريةِ ما يدل على فاعل أول وعنه الفعل يصدر ، ومعالجة الفعل نَظَرًا وَتَدَبُّرًا أخص يبين عن إتقان وإحكام في الحد ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، عن عدم وجهل ، مع قدرة وإرادة فَهِيَ سَبَبٌ يُخْرِجُ المقدورَ من العدمِ إلى الوجودِ ، فَحَصَلَ من ذلك جُمْلَةُ صفاتٍ لا تقوم بداهة إلا بِحَيٍّ ، فالحياة أصلٌ لكلِّ صفةٍ ، ذاتيةٍ أو فعليةٍ ، معنويةٍ يُدْرِكُ العقل منها طرفا ولو لم يكن ثَمَّ وحي يدل عليها ذِكْرًا ، أو خبرية لا يدل عليها العقل إلا دلالة الجواز المحض ، فلا يطيق فيها الإثبات أو النفي ، بل لا يَنْفَكُّ يطلب أولا من الدليل الخبري ، وهو العمدة في الغيبيات كافة ، إن الإلهيات أو السمعيات ، فالحياة أصلٌ لكل صفة ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم قيومية بها القيام والتدبير ، وهو ما يعالجه الناظر في وجوه من البحث والتجريب قد أبانت عن أخص من التقدير والخلق ، فَثَمَّ الإتقان والإحكام آنف الذكر ، فكان من التقدير الأول ما به رِكْزُ قوى في المحال والأسباب تنصح ، ولكلِّ سَبَبٍ مَحِلٌّ يَقْبَلُ ، ولكلِّ مَحِلٍّ سَبَبٌ يَرْفِدُ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ مَا اصْطَلَحَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أنه الإيجاد والإعداد ، إعداد المحال ، والإمداد ، الإمداد بالأسباب ، وكل أولئك ما يطلب سننا هو المحكم ، وبه تأويل ما رُكِزَ في كلٍّ من قوى تَنْصَحُ ، فَثَمَّ من ذلك فعل به جريان السنة ، وهو ، أيضا ، ما يطلب فاعلا هو الأول ، فتلك مقدمة ضرورة أخرى ، وثم من ذلك آي عناية ورحمة ، بما أُجْرِيَ من الأسباب وَهُيِّئَ من المحالِّ ، فالرحمة ، أيضا ، كما يقول بعض من حقق ، مما دل عليه العقل المصرح إذ يطالع آيا من الآفاق والأنفس ، فحصل من ذلك جملة من الصفات المعنوية التي تحصل بفطرة أولى تَنْصَحُ ، ونظر في آي الكون بَعْدُ يَتْبَعُ ، وهو ما قد جاء الوحي بَعْدًا يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ من النبوات أوَّلٌ يُصَدِّقُ مَا نَصَحَ مِنَ الفطرةِ ، عِلْمَ ضرورةٍ قَدْ رُكِزَ في الوجدان ، فَجَاءَ الوحيُ يُصَدِّقُ ، وكان منه آخر يُبَيِّنُ ، وكان ثالث يُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ إِذْ خُولِفَ بالفطرة الأولى عن جادة الخلق الأول ، فأشركت النفس ، أَنْ أَسْنَدَتِ الخلقَ إلى غير الخالق ، جل وعلا ، وَإِنْ تَكَلَّفَتْ لأجلِ ذلك أقوالا طَرْدُ لَوَازِمِهَا يُفْضِي إلى القول بالعدم ، فليس ثم وجود في الخارج يثبت إلا أن يُرَدَّ إلى واحد في الأزل يثبت ، فله من ذلك توحيد آخر يثبت في العقل ضرورة ، توحيد الأولية ، فهو الأول الذي لا أول قبله ، وليس بغير ذلك يكون هذا العالم المحدث الذي يعالج الحس والتجريب والبحث أعيانه وأحواله في الخارج ، فلا يكون ذلك إلا أن تُحْسَمَ مادة التسلسل في الأزل بأول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك وصف القدم ، القدم المطلق ، وهو ما ثَبَتَ على حد الكمال المطلق ، فلم يكن من أوليته ما يَطْلُبُ تَالِيًا يُكْمِلُ ، بل ما كان بعدا من الإيجاد والتدبير ، فهو على كماله المطلق في الأزل دليل ، فما يكون في هذا العالم من الفعل ، فهو تصديق ما كان في الأزل من كمال الذات والوصف . وكل أولئك من ضرورِيٍّ أول في أَيِّ وجدانٍ يَنْصَحُ ، وهو ما جاءت النبوات له تصدق ، فإن من رِكْزِ الوجدانِ كُلِّيَّاتٌ مجملة ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم التكوين والتشريع كافة ، وهو من التيسير آنف الذكر أَنْ يُسِّرَ كُلٌّ لِمَا خُلِقَ له فَيُسِّرَ الإنسانُ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَدَبَّرَ بما رُكِزَ فيه من قوى العقل ، مناط التكليف المنزل ، فإن من مبادئ التحسين والتقبيح ما رُكِزَ في الوجدان ضرورة كما مقدمات النظر في باب الخلق والتدبير ، فثم مقدمات ضرورة في الربوبية تكوينا ، وثم أخرى في الألوهية تشريعا ، وبينهما من التلازم ما تقدم في مواضع ، فالنفس تميز مواضع الحسن من أخرى تقبح ، ولو المجملَ الذي رُكِزَ في الوجدان لدى المبدإ ، كما كليات في التصور والحكم ، حسن الإيمان وقبح الكفر ، حسن الصدق وقبح الكذب ، حسن العدل وقبح الظلم ، حسن الأمانة وقبح الخيانة ، فكل أولئك مما دَلَّ عليه العقل ضرورةً ، فتلك الكليات التي يصدر عنها الناظر في التصور والحكم ، ولا تنفك يدخلها الإجمال الذي يُشْكِلُ في مواضع تدق ، فلا تنفك تطلب دليلا من خارج يبين ، وهو من عَوَارِضِ النَّقْصِ يَسْلَمُ ، فلا عدم ولا جهل يسبق ، ولا هوى ولا حظ يحدث ، فيتكلف له الحاكم من التأويل ما يبطن ، ليسلك بهواه وحظه جادة العدل ، وإن كان عين الظلم ، وهو ما لا يَسْلَمُ منه الخلق ، وإن تحروا من العدل ما تحروا ، فلا يكون من ذلك ما ينصح إلا أن يَتَجَرَّدَ العقل فَيَخْضَعَ لسلطان الوحي المنزل ، حكما من خارج قد سلم من عوارض النقص وطوارئ الهوى والحظ ، فالوحي رائد صدق ، قد جاء يصدق أولا في النفس ، فتلك الكليات المجملة إن في التكوين أو في التشريع ، فلم يخالف عنها النقل الصحيح ، بل كان منه التصديق أولا ، والتبيين تاليا ، فلا ينفك رِكْزُ النفس يُجْمَلُ ، فهو يطلب دليلا من خارج يُبَيِّنُ ، وثم ثالث يقوم ما اعوج من الفكرة إذ خولف بها عن جادة الشرعة ، بل وصريحٍ أَوَّلَ من الفكرة ، بما كان من الجهل والنقص ، والهوى والحظ الذي يفسد التصور والحكم ، فذلك دليل أول في الوجدان يدل ضرورةً على حاجة الخلق إلى الوحي ، فحاجتهم إليه أعظم حاجة ، فكما الأبدان قد افْتَقَرَتْ إلى خالقٍ أَوَّلَ وَمُدَبِّرٍ لأمرها بَعْدًا بما أجرى من الأسباب الكونية ، وذلك مقام الربوبية الأول ، وهو الملزوم وله لازم تال في القياس المصرح ، وهو مقام الألوهية في التصور والحكم ، فالنفس فيه ، أيضا ، تفتقر إلى الإله الذي يخبر ويحكم ، فالأديان تفتقر إلى عطاء الألوهية ، إن في الخبر أو في الإنشاء ، كما الأبدان تفتقر إلى عطاء الربوبية ، إن في الخلق أو في تال من التدبير ، فَثَمَّ من ذلك دليل ينصح في باب النبوات ، فالمبدأ فيها بَيَانُ الافتقار ، افتقار النفوس إليها إِنْ فِي تصديقٍ أو تَبْيِينٍ أو تَقْوِيمٍ ، وثم تال يَتَنَاوَلُ الجنسَ ، جنس الخبر والحكم الذي جاءت به ، فلا تخبر إلا بصدقٍ ، ولا تحكم إلا بعدلٍ ، وثم ثالث يَتَنَاوَلُ الشخص ، صاحب الدعوى الرسالية ، وما كان من خُلُقٍ أول قد عهد ، وما كان من نَسَبٍ له في القوم ، وما كان من تابع له في القول والعمل ...... إلخ ، فذلك مسلك ينصح في إثبات النبوات ، وهي أشرف ما ينال من المطالب الخبرية والإنشائية ، إذ بها صلاح الدور كافة ، الأولى والآخرة ، فسعادة ونجاة ، وذلك مراد العقلاء كافة . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
لعبة "لم الشمل" .. تحضير درس صرفي بالألعاب اللغوية "أوزان الفعل غير الثلاثي" | فريد البيدق | حلقة فقه اللغة ومعانيها | 0 | 07-06-2016 04:14 PM |
ما رأي المشايخ في كتاب " المختار من صحاح اللغة " ؟ ألا يعتبر أفضل من " مختار الصحاح " للرازي ؟ | أبو زارع المدني | أخبار الكتب وطبعاتها | 6 | 06-06-2014 12:50 AM |
مصطلح "استخلاص السمات" مع نصوص أقاصيص القرآن والحديث وقصصهما القصيرة، لا "النقد" | فريد البيدق | حلقة البلاغة والنقد | 0 | 18-12-2011 09:53 PM |
لم ذكر " الحر " ولم يذكر " البرد "، وذكر " الجبال " ولم يذكر " السهل "؟ | عائشة | حلقة البلاغة والنقد | 5 | 25-11-2008 05:39 PM |