|
#16
|
|||
|
|||
بارك الله فيك ونفع بعلمك.
وأنا لا أرى صوابًا في عدولك عن رواية (لا تخلوا)؛ لما يأتي: 1- أن الأخذ بالمروي إن كان يؤدي المعنى أولى من تمحل وجه آخر لم يرد. 2- أنك رددته بحجة أنه غير مألوف في كلام العرب مثل (لا تخلوا الدم)، وأنا أقول إن المعهود من كلام العرب في الطل بمعنى الإهدار أن يكون قبل وقوع القتل لا بعده. 3- أن الجار والمجرور بعده (لهم) أليق بالتخلية منها بالإهدار. 4- أن (تخلوا) أقرب في الرسم إلى الروايات الأخرى المسبوقة بهمزة: (تعلوا، وتغلوا) من الرسم الذي رجحته، بل إنها أقرب منه إلى (تعقلوا)؛ لأن التحريف والخلط يكثر بين الحروف المستلقية لا القائمة، و(تطلوا) فيها عصا الطاء واللام، فمظنة التحريف إليها أقل. والله أعلم في دفينتك الثالثة ذكرت البيت: فجاشت إليَّ النفسُ أولَ مرةٍ فرُدَّت على مكروهها فاستقرَّتِ وفي نفسي شيء من هذا البيت، فلعلك ترد النظر فيه كرة أخرى: فأولا: قوله (فجاشت) جواب شرطـ (لما) في البيت الذي قبله، فهل تراه مستساغًا اتصال الفعل بالفاء؟!! أم أن في الكلمة تحريفًا، والأصل (تحاشت) أو نحوه؟ وثانيًا: لا أرى نفسي تطمئن لـ: (فرُدَّت)، ففيه التفات من المعلوم إلى المجهول، وهذا ليس معهودًا في أشعارهم. ولا يزول الإشكال لو قلنا إنها (فرَدَّت) بالفتح؛ لأن الشاعر في معرض الفخر وذكر المآثر، وردُّ الخيل إلى المكروه محل فخر ولا شك، فكان الأولى والأليق بشعرهم أن ينسب الشاعر هذا العمل لنفسه، لا أن يذكره بصيغة المجهول. وقد وقع في نفسي أنَّه ربما يكون الأصل (فزِدْتُ)، وربما يكون (رددت)، وعلى هذا الوجه الأخير يكون الفعل هو جواب الشرط ويزول الإشكال. والله أعلم. |
#17
|
|||
|
|||
بارك الله فيكم أستاذنا الكريم تقنويه، وبارك لكم في شهر رمضان، وسأعود قريبًا للتعليق على ما أرودتموه إن شاء الله.
|
#18
|
|||
|
|||
اقتباس:
1 - الأول منهما أن أكون أحقّق كتابًا أريد إخراجه للناس، فحينئذ لا يجوز لي أن أغيّر الوجه الوارد إن كان له معنى صحيح، بل أُثبتُه كما هو، وأُعلّق إن شئتُ في الحاشية، بل لعله لا يجوز لي أن أغيّره ولو كنتُ أرى أنه لا معنى له، لأنه قد يكون له معنى يخفى علي، ثم يهتدي إليه غيري، فيجب أن أُبقي الكتاب على حاله، وأُعلّق بما شئتُ في الحاشية، لأن إخراجي الكتاب محققا معناه أنني أقول للناس هذا كتاب فلان أَدّيتُه إليكم كما بلغني، فينبغي أن أُؤدّيه كما أَدَّتْه إلي المخطوطات، إلا في أشياء قليلة كالتحريف في الآيات أو أن يكون الخطأ كالشمس في رابعة النهار كأن يقع في كتاب مثلا (الناتقة الذبياني!) ونحو ذلك، فهذا يغيره المرء ولا بدّ. فكلامكم حق في هذه الحال الأولى لا في الحال الثانية التي سنذكرها. 2 - الثاني منهما أن أكون أتأمل الشعر وأدرسه لنفسي وأتفهّمه فأرى أن المعنى على الروايات كلها غير صحيح، وأن الوجه ينبغي أن يكون كذا، وأعتقد هذا لنفسي لا أذهب وأغيّره في ديوان الحماسة، فإنه يحقّ لي في مثل هذا أن أردّ ما شئتُ من الروايات وأن أعتقد فيها ما أشاء وليس لأحد أن يلزمني بتلك الروايات، ويحقّ هذا لكل واحد من الناس كما يحقّ لي، بل يحقّ لي أيضا ولغيري أن أنشر رأيي هذا وأذيعه كما أفعل هنا في الملتقى، فإن الناس يقرأون كلامي وينظرون فيه، فمن شاء قبله ومن شاء ردّه، وأنا لم أغيّر ما في الكتب ولا جنيتُ على أحد، إنما بيّنتُ الشيء الذي أراه، والقارئ بالخيار، يأخذ من كلامي ما يشاء ويدع. اقتباس:
بل أكثر استعمال الطلّ يكون بعد وقوع القتل، وأما الهدر فأكثر استعماله يكون قبل القتل، هكذا رأيتُها، وأنا لم أر تفريقًا صريحًا في كتب اللغة بين الإهدار والطلّ، بل رأيتهما كالشيء الواحد وهو أن لا يكون في الدم عقل ولا قود، بل يذهب باطلًا، فلا أدعي بينهما فرقًا في أصل المعنى، لكني أحسب أن بينهما فرقًا في كثرة الاستعمال قبل القتل وبعده، فإني رأيت الطلّ أكثر استعماله أن يكون بعد وقوع القتل أو الجناية، وهذا عكس ما ذكرتموه من أنه يكون قبل وقوع القتل لا بعده، فقد عكستم الأمر، وتبيّن لي أن الهدر أكثر استعماله يكون قبل وقوع الجناية أو القتل، وسترى شواهد ذلك، فنبدأ بالإهدار ثم نأتي إلى الطل، فمن شواهد وقوع الإهدار قبل القتل: 1 - قال في خبر في الأغاني: " قال حدثني عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال حدثني بعض رواة عذرة: أن السلطان (أهدر) دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه قد غشي دورهم. فحذرهم مدة، ثم وجدوه عندها، فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا أن ينشب بينهم وبين قومه حربٌ في دمه، وكان قومه أعز من قومها، فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلباً شديداً، فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة...". فترى أن السلطان أهدر دمه قبل قتله، أي: من قتله منكم في المستقبل فدمه باطل لا يُطلب به القاتل. 2 - وفي الأغاني أيضا في خبر آخر: "قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة: أن حارثة بن بدر الغداني كان سعى في الأرض فسادا، (فأهدر) علي ابن أبي طالب عليه السلام دمه، فهرب فاستجار بأشراف الناس، فلم يجره أحد، فقيل له: عليك بسعيد بن قيس الهمداني فلعله أن يجيرك. فطلب سعيداً فلم يجده، فجلس في طلبه حتى جاء، فأخذ بلجام فرسه فقال: أجرني أجارك الله، قال: ويحك، مالك؟ قال: أهدر أمير المؤمنين دمي. قال: وفيم ذاك؟ قال: سعيت في الأرض فساداً. قال: ومن أنت؟ قال: حارثة بن بدر الغداني ...". فترى هنا أيضا أن إهدار دمه كان قبل قتله. 3 - وفي العقد الفريد: "الشيباني قال: قال سعيد بن سلم: (أهدر) المهدي دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن دله عليه أو جاءه به مائة ألف درهم. قال: فأقام الرجل حينًا متوارياً ثم إنه ظهر بمدينة السلام، فكان ظاهراً كغائب، خائفاً مترقباً. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه...". فترى هنا أيض أن إهدار دمه كان قبل قتله. 4 - وفي خبر كعب بن زهير في جمهرة أشعار العرب: "وعن الشعبي قال: لما بلغ رسول الله، ، أن كعب بن زهير بن أبي سلمى هجاه ونال منه، (أهدر) دمه، فكتب إليه أخوه بجير بن زهير، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، يعلمه أن النبي، ، قد قتل بالمدينة كعب بن الأشرف، وكان قد شبب بأم الفضل بن العباس وأم حكيم بنت عبد المطلب، فملا بلغه كتاب أخيه ضاقت به الأرض ولم يدر فيما النجاة، فأتى أبا بكر، ، فاستجاره، فقال: أكره أن أجير على رسول الله، ، وقد أهدر دمك ...". والخبر مشهور، وترى هنا أيضا أن إهدر دمه كان قبل قتله. وغير هذا. وأما الطلّ فإني رأيت أكثر استعمالهم أن يكون بعد الجناية، أو بعد القتل، فمن ذلك: 1 - أنشد في الأشباه والنظائر: إذا قَتَلوا طُلَّتْ دماءٌ (قَتيلهم) وإنْ قُتِلوا لم يقشَعِرُّوا من القتلِ فأخبر أن قتيلهم الذي يقتلونه يُطَلّ دمُه، أي بعد قتله، لا أنهم يقولون للناس قد أهدرنا دم فلان قبل أن يقتلوه، بل المقصود أنهم يقتلونه ثم يذهب دمُه باطلا بعد قتله، والبيت واضح الدلالة على هذا.2 - وقال الحماسي: وما مات منا ميّتٌ حتف أنفه ولا طُلّ منا حيث كان (قتيلُ) فقوله (قتيل) معناه أنه قد قُتِل، فيقول من قُتِل منا لم يذهب دمُه بعد قتله باطلا، بل نثأر به.3 - وقال الحماسي أيضًا وهو كعب بن زهير: لقد ولى أليته جُوَيٌّ معاشرَ غيرَ مطلولٍ أخوها وخبر هذه الأبيات أن الخزرج قتلت جُوَيًّا المزني هذا، ثم ثأرت به مزينة، ثم قال كعب هذه الأبيات بعد إدراك الثأر، فأراد أن من قُتِل من مزينة كما قُتِل جُوَيٌّ هذا لا يذهب دمُه باطلًا بعد قتله، بل يدركون ثأره، ولم يُرِد أنه لا يُهدِر دماءهم أحدٌ كسلطان ونحوه بأن يقول: أهدرتُ دمَ فلانٍ المزني فمن لَقِيَه فليقتله، لم يُرد كعبٌ هذا.4 - قال ابن عنقاء الفزاري: كلا الفريقين أغنى قتل صاحبه هذا القتيلُ (بـمَيْتٍ) غَير مَطلول يقول: هذا الذي قُتل اليوم إنما قُتل ثأرا بميتٍ غير مطلول قد قُتل من قبل، فالذي وصفه بأنه غير مطلول هو ميتٌ قد قُتل من قبل، فمعناه أن المطلول هو الميت المقتول الذي لا يُدرَك ثأره بعد قتله.وغير هذا، فقد تبيّن أن ما ذكرتموه من أن المعهود في كلام العرب هو أن الطلّ يكون قبل القتل هو عكس للواقع، بل المعهود في كلامهم أن يكون بعد القتل. وسأعود إن شاء الله إلى باقي كلامكم. ودمتم بخير حال. |
#19
|
|||
|
|||
اقتباس:
اعلم أن عمرو بن معد يكرب هو: عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد الله بن زُبَيد بن مُنبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن مُنبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج. وكان من خبر أبيات كبشة هذه في ما رواه صاحب (الأغاني): أن عبد الله بن معد يكرب أخا عمرو كان رئيس بني زبيد، فجلس مع بني مازن في شَرب منهم، فتغنّى عنده حَبَشيٌّ عَبدٌ للمخزم أَحَدِ بني مازن في امرأة من بني زُبَيد، فلطمه عبدُ الله وقال له: أَما كفاك أن تشربَ معنا حتى تُشَبِّبَ بالنساء؟! فنادى الحبشي: يا آل بني مازن! فقاموا إلى عبد الله فقتلوه، وكان الحبشيُّ عبدًا للمخزم، فَرَأَسَ عمرو مكان أخيه ... وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا: إن أخاك قتله رَجُلٌ مِنّا سَفِيهٌ وهو سكران، ونحن يَدُكَ وعَضُدُك، فنسألُك الرَّحِـمَ وإلا أَخَذتَ الدِّيَةَ ما أحبَبت! فهمّ عمرو بذلك، وقال: إحدى يديّ أصابتني ولم تُرِدِ فبلغ ذلك أختًا لعمرو يقال لها كبشة، وكانت ناكحًا في بني الحارث بن كعب، فغضبت، فلما وافى الناس من الموسم قالت شعرًا تعير عمرًا:أرسل عبد الله إذ حان يومه إلى قومه لاتعقلوا لهم دمي - فإذا نظرتَ في نسب عمرو الذي سقناه أولا رأيتَ أنه من بني (زُبَيد بن مُنبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة)، ورأيتَ أن هؤلاء القوم الذين قتلوا أخاه هم من بني مازن بن ربيعة لكنهم ليسوا من بني زُبَيد، فهم أبناء عمومته لَـحًّا، ثم رأيتَ أنهم بعد قتل عبد الله لم يستكبروا ولم يصرّوا على العداوة والمجاهرة بها بل جاؤوا إلى عمرو وقالوا له: "إن أخاك قتله رجل منا سفيه وهو سكران"، وهذا اعتذار وتبرؤ من جنايته، ثم قالوا له: "ونحن يدك وعضدك"، وهم في هذا يمتّون بالرحم التي بينهم وبصداقتهم وقربهم، ثم قالوا له: "فنسألك الرحـمَ وإلا أخذتَ الديةَ ما أحببت!"، وهذا كلام مهم جدًّا، فإنك تراهم سألوه أن يعفو ويصفح إكرامًا لهم وللرحم التي يـمتّون بها، ثم قالوا: أو خذ الدية إن لم تعفُ وتصفح الصفح الجميل، وهذا هو الذي أخبرت به كبشةُ حذوَك القذة بالقذة، فإنها قالت: أرسل عبد الله أن لا تطلوا لهم دمي -أي طلًّا هدرا بدون قصاص ولا دية- ولا تأخذوا منهم دية.ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكراً وأترك في بيت بصعدةمظلم ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم وهل بطن عمرو غير شبرلمطعم فإن أنتم لم تقبلوا واتديتم فمشوا بآذان النعام المصلم أيقتل عبدَ الله سَيِّدَ قومه بنو مازن أَن سُبَّ راعي المخزم فإذا تأملتَ هذا كلَّه تبين لك أن (لهم) في قولها: "لا تَطُلُّوا (لهم) دمي" حسنٌ موقعُها، فإن معناها (من أجلهم) أو (إكراما لهم) أو (من أجل قرابتهم ورحمهم)، أي: لا تجيبوهم إلى طل دمي إذا التمسوا منكم ذلك، فكانت (لهم) هنا أحسن شيء موقعًا. وإنما تقبح وتُستنكر لو كان الذين قتلوه قومًا بُعَداء محاربين مجاهرين بالعدواة المستأصلة وكان هؤلاء القوم يفتخرون بقتل عبد الله ويعيرون عمرًا بذلك ويتحدّونه أن يأخذ بثأره منهم ونحو ذلك، فإنه لا يصلح حينئذ أن تقول: (ألا تطلوا لهم دمي)، ولكانت (لهم) في هذا الموضع قبيحة بخلاف مجيئها في ذلك الموضع، فتبيّن ذلك وتأمله. |
#20
|
|||
|
|||
اقتباس:
أما اللام التي في (تطلوا) فهي موجودة أيضا في (تـخلوا) و(تغلوا)، فبقي الكلام عن الطاء والخاء والغين وهل تلتبس الطاء بالخاء والغين، أقول قد تلتبس بهما التباسا شديدا، ولا ترينّ أن الطاء في المخطوطات القديمة كالطاء التي تراها هنا، بل ربما تُكتب عصا الطاء شيئا شبيها بالنقطة منفصلا عن دائرة الطاء، وهذا تراه حتى في خط الناس اليوم الذي يكتبونه بأقلامهم، فصارت دائرة الطاء بعصاها القصيرة المنفصلة عنها شبيهة بالغين مع نقطتها، وأما الخاء فإن كثيرا من الناس يقفل طرفيها ولا يترك أحدهما مفتوحًا، فتصير شبيهة بالطاء الموصوفة وبالغين، والمقصود أن الطاء التي تُرسم بالصورة الموصوفة قد تُقرأ غينا أو خاء، وهذا وارد جدًّا. وهنا رسم للحروف الثلاثة بالصور التي أعنيها، ولعلكم تحتملون قبح خطي: |
#21
|
|||
|
|||
اقتباس:
وأما استشكالكم أن يكون جواب (لما) فيه الفاء فقد أجاب عنه العلماء في هذا البيت وغيره، ووجهوه بما يزيل اللبس ويرفع الإشكال، قال المرزوقي في شرح هذا البيت في الحماسة: "ويجوز أن يكون الفاء في (فجاشت) زائدةً، في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش، ويكون جاشت جواباً للما. والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت. وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفاً، كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته فقرت، طعنت أو أبليت. ويدل على ذلك قوله: علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن ... فحذف (طعنت أو أبليت) لأن المراد مفهومٌ. وهذا كما حذفوا جواب لو رأيت زيداً وفي يده السيف! وعلى هذا الكلام على المذهبين في قوله : (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)، وفي قول امرئ القيس:فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبتٍ ذي قفافٍ عقنقل وحذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ وأدل على المراد وأحسن، بدلالة أن المولى إذا قال لعبده: والله لئن قمت إليك، وسكت، تزاحمت عليه من الظنون المعترضة للوعيد ما لا يتزاحم لو نص من مؤاخذته على ضربٍ من العذاب. وكذلك إذا قال المتبجح: لو رأيتني شاباً، وسكت، جالت الأفكار له بما لم تجل به لو أتى بالجواب". انتهى كلام المرزوقي.وقال لبيد بن ربيعة في معلقته: حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا غضفا دواجن قافلا أعصامها قال أبو بكر بن الأنباري في شرحه: "وجواب (حتى إذا): (أرسلوا)، والواو مقحمة، [أي: حتى إذا يئس الرماة أرسلوا]، كما قال : (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها)، أراد: فتحت أبوابها، فأقحم الواو.فلحقن واعتكرت لها مدرية كالسمهرية حدها وتمامها وقال بعض النحويين: (أرسلوا) نسق على (يئس)، والجواب محذوف، أراد: حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ظفروا ولحقوا، فحذف الجواب لمعرفة المخاطبين به". انتهى فإذا كان كذلك لم يكن لاقتراح (تحاشت) بدلا من (فجاشت) وجه، فلا معناها أجود ولا الكلام محتاج إلى اقتراحها مع ما ذكرنا، ومثلها (رددت)، فلا حاجة إلى اقتراح هذا أصلا ولو كان معناه أجود مما في الحماسة لأن الكلام مخرّج على ما ذكرنا، فكيف إذا كانت (فجاشت) و(فرُدّت) أحسن في المعنى، ولا أريد أن أطيل بإثبات ذلك. وأما قولكم حفظكم الله: (وردُّ الخيل إلى المكروه محل فخر ولا شك)، فليس على ما ذهبتم إليه، ولم يرد الشاعر الخيل في قوله (فرُدّت على مكروهها فاستقرت)، وإنما أراد نفسه، يعني أنها جاشت وفزعت ثم وطنها على المكروه فاستقرت. على أن لملاحظتكم وجهًا حسنًا يدل على فهمكم ويقظتكم، ولكن ليس التصحيح كما اقترحتموه، بل التصحيح يكون بذكر البيت الذي سقط في بعض روايات الحماسة كرواية المرزوقي، وهو البيت الذي فيه جواب (لما)، ورواية الشنتمري فيها بيت بين البيتين يزيل الإشكال كله من أساسه، روى الشنتمري: ولما رأيت الخيل زورا كأنها جداول زرع أرسلت فاسبطرت فـ (هتفتُ) هنا هي جواب (لما)، وهذا يزيل الإشكال.(هتفتُ بخيل من زبيد فداعست إذا طُردت جالت قليلًا فكرّت) وجاشت إلي النفس أول مرة فردت على مكروهها فاستقرت وقد جاء هذا البيت في ديوانه أيضا، ولكن الترتيب فيه هكذا: ولما رأيت الخيل زورا كأنها جداول زرع أرسلت فاسبطرت وهو ترتيب جيد أيضا، و(هتفتُ) هنا أيضًا هي جواب (لما)، وبها يزول الإشكال.فجاشت إلي النفس أول مرة فردت على مكروهها فاستقرت (هتفتُ فجاءت من زبيد عصابة إذا طُردت فاءت قريبا فكرّت) ولذلك قال البغدادي في (الخزانة) معلقا على ما قاله شراح الحماسة وهو تخريج المرزوقي الذي ذكرناه قبل قليل: "الفاء زائدة، وجاشت: جواب (لما) عند الكوفيين والأخفش. وعند البصريين للعطف، والجواب محذوف يقدر بعد قوله: (فاستقرت)، أي: طاعنت أو أبليت. والقرينة عليه قوله: علام تقول الرمح.. البيت، كذا قال شراح الحماسة، وهذا تعسف نشأ من أبي تمام، فإنه حذف بيت الجواب اختصارًا كعادته. لكن كان على الشارح مراجعة الأصل. والجواب هو البيت الثالث المحذوف، وهو: هتفت فجاءت من زبيد عصابةٌ إذا طردت فاءت قريباً فكرّت". انتهى كلام البغدادي في الخزانة، والله أعلم، وجزاكم الله خيرا على المشاركة والتنبيه ونفع بكم. |
#22
|
|||
|
|||
بارك الله فيك أستاذ صالح، وأشكر لك اهتمامك بدفع ما أوردتُ، وأتفق معك في كثير مما ذكرتَ.
وقد عجبت كيف لم تفطن إلى أن قولي: (رد الخيل) سبق قلم، والمراد بالطبع رد النفس. |
#23
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم قال قبيصة بن جابر في مقطوعة له:- 5 - المقطوعة رقم: 243 فَلَسْنا مِن بَني جَدَّاءَ بِكْرٍ ولكنَّا بَنُو جِدِّ النِّقَالِ قال الإمام المرزوقي في شرحه: "الجداء: المقطوعة الثدي. والبكر: الباقية على حالتها الأولى. ويقال رحمٌ جداء، إذا كانت غير موصولة. والشاعر جعل الجداء البكر كنايةً عن الضعيفة الشر، القليلة الأهل، على عادتهم في جعل النتاج لها، والولاد والرضاع والفطام إذا فظعوا حالها. فيقول: لسنا أبناء الحرب القليلة الدر، اليسيرة الأذى والشر، التي لم يتكثر موقدوها، ولم يتشمر لها خطابها ومولدوها ولكنا بنو المناقلات الشديدة الهياج، والوقعات الصعبة المراس، التي كثر ذرؤها، وتركر القتال حالاً بعد حالٍ من أهليها. وقوله بنو جد النقال يريد: بنو النقال البليغ المتناهى، الذي لا مساهلة فيه ولا مياسرة. ويجوز أن يكون المعنى: لسنا أصحاب حربٍ بكرٍ، ولكنا بنو حربٍ عوانٍ. كأنه جعل النقال في الولاد. وقد اضطرب بعض المفسرين في هذا البيت، فأتى بما يحجبه السمع، ولا يعيه القلب، فقال: المعنى لسنا بعقمٍ لم يكثر أولادنا، بل فينا الكثرة والعز. وقوله بنو جد النقال يعني به المناقلة في الكلام، يريد أنهم خطباء. قال: فالمصراع الثاني ليس من الأول في شيءٍ، وإذا كان كذلك فكأن أبا تمامٍ ذكر البيت على رداءته ليتجنب قول مثله، ولينبه على المترذل منه، كما نبه على المختار المستحسن بغيره. وهذا القائل لم يرض بذهابه عن الصواب، حتى ظن بأبي تمامٍ ما لم يخطر له ببالٍ". ثم قال قبيصة: تفرى بيضها عنا فكنا … بني الأجلاد منها والرمال قال المرزوقي: "تبجح فيما مضى بما أعطاه الله من الظفر بالأعداء، وتوحده به من الفطنة والذكاء، والنكارة والدهاء، وبحسن الصبر على مدارسة العوصاء، ومداوسة الغماء، وبمجانبة الهين من الحروب، واقتحام أصعب الخطوب. وأقبل الآن يفتخر بالكثرة، إذ كان العز فيها، فقال: تغرى بيضها عنا. والضمير في بيضها للأرض، كما يقال: من الأرض خلقنا وإليها عودنا. وفي القرآن: " ألم نجعل الأرض كفاتاً. أحياء وأمواتاً ". وساغ ذلك وإن لم يجر لها ذكرٌ لما لم يلتبس، لدلالة الكلام عليه. والمعنى: تشقق بيض الأرض عنا، فنحن بنو حزونها وسهولها. وإنما يعني كثرتهم واتساع ديارهم، إذ كان الأرض لا تنقصم إلا إليها. والأجلاد: جمع الجلد، وهو الصلب من الأرض، وذكر البيض مثلٌ، وقد تقدم القول في بيضة البلد". وفي التبريزي في شرح البيت الأول منهما: "وقال أبو هلال: أصل الجداء في قلة اللبن، وهي هنا في قلة الغناء وقلة العدد، أي كثر عددنا فلسنا من نسل امرأة نزور، والنقال: الجدال، ورجل نَقِل: جَدِل، والنَّقَل: المجادلة، والنقل أيضا: ما يبقى من الحجارة والجص من هدم البيت". وفي شرح البيت الثاني: "وقال أبو هلال: أراد بيض الأم، وهو مثل، أي كثر عددنا فملأنا الأرض كلها". وفي شرح البيت الأول في الشرح المنسوب لأبي العلاء: "الجداء المرأة لا لبن لها، وفي الغنم يقال جدود، والنقال المناقلة في الكلام والمحاورة، ورجل نقل أي فصيح، يقول: لسنا لامرأة قليلة الولد ولكنا ذوو عدد وبيان وقدرة على الجواب". وفي شرح البيت الأول في شرح الشنتمري: "والنقال والمناقلة والنقل ضرب من سير الإبل شديد، ويضرب مثلا في المفاخرة". وهكذا في أشياء نحو من هذه في الشروح الأخرى، ولن يستطيع أحد منهم أن يشرحه شرحا صحيحا، وهم لا يلامون في ذلك، لماذا؟ لأن البيت محرَّف، وقد ذكرنا مرارا أن البيت إذا حُرِّف لم يُفهَم معناه. فأنت ترى أن الشاعر يقول في الشطر الأول من البيت الأول: لسنا بني امرأة نزور قليلة الولد، ولكنا بنو ...، ولكنا بنو ماذا؟ الوجه الذي يبدر إلى ذهن كل إنسان أنه سيقول: ولكنا بنو امرأة كثيرة الولد، لكنه قال على ما أُثبت في روايات الحماسة: ولكنا بنو (جد النقال)، وأنت ترى أن بعضهم فسر النقال بالجدال وبعضهم فسره بضرب من سير الإبل وبعضهم فسره بالحرب والقتال، فبالله كيف تسوغ هذه مع ما في الشطر الأول، وأعيد القول بأن هؤلاء العلماء الأجلاء الأئمة لا ذنب لهم ولا عيب عليهم في هذا، وإنما هم يفسرون الشيء الذي أمامهم، وهو مشكل حقا. ثم لما نظروا في البيت الثاني وجدوه يقول: تفرى بيضها عنا، فما هي هذه التي تفرى بيضها عنهم، قال أبو هلال: هي الأمّ، وقال المرزوقي والتبريزي: هي الأرض، وكلاهما لم يجر لهما ذكر، ثم هل للأم من البشر بيض؟ وهل للأرض بيض؟ أما الاستشهاد بقولهم هو بيضة البلد فأراه بعيدا عما نحن فيه. إذن ما هو التحريف وما هي صحة البيت، لا شك أن هذا صعب مشكل جدًّا، وليس يسيرًا أن ينصرم ثلاثة عشر قرنا يتتابع فيها كبار الأئمة وفطاحلة العلماء والأدباء على قراءة والحماسة وحفظها ودراستها وتدريسها ولا يتبين لهم الخطأ ثم يتبين الخطأ لرجل متأخر أقل منهم علما، ولكن هذا هو الحال، وكم ترك الأول للآخر، وتأمل الذي أذكره وتأمل البيتين وتأمل ما ذكروه واجعل نفسك حكما على ذلك كله، على أني لا أجزم بهذا الذي سأذكره جزما قاطعا لا ريب فيه ولا تردد، وإنما هو رجحان قوي في نفسي، أعني أن صواب التحريف هو ما سأذكره، وأما وقوع التحريف في هاتين الكلمتين (جد النقال) فلا أشك فيه البتة. فدونك صوابهما إن كنت حفيًّا بالحماسة والشعر والأدب: فلسنا من بني جداء بكر ولكنا بنو (حُمْرِ النِّمَالِ) النِّمال: جمعُ النَّمْل، والنمل يكون ضرب منه أحمر ويكون ضرب منه أسود، وما أشبه (حمر النمال) بـ (جد النقال) في الرسم، فتحرفت الأولى إلى الثانية فصار البيت مشكلا لا يفهم، فإذا جعلتها في البيت (حُمْرَ النِّمَالِ) فُهِمَ البيتان واتسق معناهما أحسن اتساق، لأنه يقول: لسنا بني امرأة نزور قليلة الولد، أي لسنا قليلي العدد، والعرب تفتخر بكثرة العدد، ولكنا بنو النِّمَال الحُمْر، أي بنو نِساءٍ كثيرٍ عيالُهُنَّ، يضعن من الأولاد كما تضع النمل من البيض، وهذا الشاعر قبيصة بن جابر طائي، وبيته هذا يشبه قول الحماسي الطائي الآخر: تفرى بيضها عنا فكنا بني الأجلاد منها والرمال أبى لهم أن يعرفوا الضيم أنهم بنو ناتقٍ كانت كثيرًا عيالُها فإذا تبين لك هذا في البيت الأول عرفتَ على ماذا يعود الضمير في قوله في البيت الثاني: (تَفَرَّى بَيضُها عنَّا)، وعلمت أن الضمير في (بيضُها) عائد على النِّمال الحُمْر، والعرب تشبه القوم الكثير بالنمل وهو موجود في كلامهم وفي شعرهم، ومن أمثالهم في جمهرة الأمثال وغيره: هم أكثر من النمل. وقال بعض الشعراء: ترى الناس ورّادا إلى باب ملكه فرادى وأزواجا كأنّهم النمل وقال رؤبة بن العجاج يصف ولادة جدهم تميم بن مُرّ والد قبيلة بني تميم: قَالَ الحَوازي وأَبَى أَن يُنْشَعا ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَشَرْيةٌ فِي قَرْيةٍ مَا أَشْنَعا قال في اللسان: "أَي قَالَتِ الحَوازي، وهُنَّ الكَواهِنُ: أَهذا الْمَوْلُودُ شَرْية فِي قرْيةٍ؟ أَي حَنْظلة فِي قريةِ نَمْلٍ، أَي تمِيمٌ وأَولادُه مُرُّونَ كالحَنْظَلِ كَثِيرُونَ كَالنَّمْلِ". وفي شمس العلوم: "ويقال: هم كالنمل كثرة: أي هم كثير. ومن ذلك قيل في تأويل الرؤيا: إِن النمل عدد كثير من ولد أو قوم". فتأمل هذا الذي ذكرناه فإنه لا تجده في غير هذا الموضع، والله أعلم. |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 2 ( الجلساء 0 والعابرون 2) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
إعراب الحماسة | أوراق | أخبار الكتب وطبعاتها | 2 | 28-09-2024 09:43 AM |