ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #16  
قديم 10-11-2023, 05:08 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 45
افتراضي

وكل أولئك مما أُحْدِثَ في الديانة ، وَإِنِ اتَّخَذَ المحدِث من ألفاظها وعاءً قَدْ أَفْرَغَهُ من المدلول الأول ، مدلولِ الوحي المنزل بل وآخر من اللسان المحكم ، ثم شَغَلَهُ بَعْدًا بما أحدث من المذاهب ، فَكَسَاهَا ، كما يقول بعض من حقق ، كَسَاهَا لحاء النبوة ، وإن كانت على ضِدٍّ بل ونقيض يبطل ! ، فكان من ذلك المحدَث الذي رُدَّ إِذْ خالف عن الأمر الأول ، في مسائل من الاعتقاد والتكليف لا يستقل العقل فيها بالتشريع ، وإنما مرد ذلك إلى الوحي الذي أبان فَفَصَّلَ ، ولم يترك ذريعة لِمُتَأَوِّلٍ أو محدِث ، فما خالف عن الأمر الأول فهو رَدٌّ ، كما في الخبر أَنْ : "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" ، و : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُو رَدٌّ" ، فَعَمَّ الْخَبَرُ مَنْ أَحْدَثَ ، ومن عمل بَعْدًا فَاقْتَدَى بما هو محدَث إلا أن يكون ثم من عذر الجهل ما يَثْبُتُ ، فَظَنَّ ما يَصْنَعُ حَقًّا ولم يكن ثم من الدليل ما يَظْهَرُ مع صِحَّةِ قَصْدٍ لدى الناظر فَقَدْ رَامَ الحق فأخطأ ، واجتهد ما استطاع أن يَبْلُغَ الحق في نفس الأمر ، وإن لم يخل من وجه تقصير ، فمثله كمثل المجتهد إذا أخطأ ، فَلَهُ من أجر واحد ما يجبر ، وإنما فاته الأجر الثاني إذ لم يخل من تقصير ، وإلا بم يَمْتَازُ المجتهد المصيب وَقَدْ أَتَى بما يزيد ؟! ، وتلك آيَةٌ تَحْكِي لُزُومًا تَقْصِيرًا وَنَقْصًا في حال المخطئ ، وإن لم يُذَمَّ ، بل له من الأجر مَئِنَّةُ المدح ، وإن دون المصيبِ ، وذلك ، من وجه آخر ، الفضل ، فضل الله ، جل وعلا ، أن عَمَّ المجتهدين كَافَّةً بما يمدح من الوصف ويثبت من الأجر ، لَا كَمَنْ حَجَّرَ الواسع فقال بما اصطلح في الأصول بعدا أنه تأثيم المجتهدين فَقَصَرَ السلامة على المصيب دون المخطئ ، ولازم قوله أَلَّا يجتهد إلا مَنْ يُعْصَمُ فهو السالم من الخطإ يقينا , وإلا فلا يجتهدَنَّ ناظرٌ خشيةَ الإثم ، وذلك ، لازما آخر في الباب ، مما يسد باب الاحتهاد فكل يخشى الإثم وإن كان أهلا للنظر والحكم ! ، لا كمن يَعْلَمُ بُطْلَانَ قَوْلِهِ ، بادي الرأي ، وإنما يجتهد في تَلْفِيقِ شبهة بها يحتج لِبَاطِلِهِ أن يُسَكِّنِ من ضميره ما يؤلم ، وَأَنْ يُحْمَلَ التابع على ما يواطئ هوى المتبوع وحظه ، فهو الضال المضل ، الذي سَنَّ سُنَّةَ السوءِ ، فَلَهُ منها كفل ، وله تال من أَكْفَالِ مَنْ يَتْبَعُ لا يَنْقُصُ ذلك من أكفالهم شيئا ، كما الخبر المحكم من كلام صاحب الشرع المنزَل صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا»" .
فَثَمَّ من العموم القياسي : عموم الشرط الذي صُدِّرَ به السياق ، وهو ما تَنَاوَلَ المدخول تَنَاوُلَ العموم ، فَقَدْ دخل على المصدر الكامن في العامل "سَنَّ" ، ولا يخلو الشرط من دلالة تذكير في لفظِه "مَنْ" ، وإن عم كل أحد ، ذَكَرًا أو أُنْثَى ، فَاسْتَغْرَقَ بما اصْطُلِحَ أَنَّهُ التَّغْلِيبُ لقرينة العموم في خطاب التشريع ، وهو ما استصحب أصلا في الاستدلال هو الأول ، حتى يكون من القرينة ما يرجح آخر من الاقتصار على جِنْسٍ بِعَيْنِهِ ، إذ ثم من التكليف ما اختص به فلا يجاوزه إلى آخر ، كما المثل قد ضُرِبَ ، فِي مَوَاضِعَ ، بِشِرْعَةِ القتال والحرب فهي ، في الجملة ، مما اقتصر على الرجال دون النساء ، فَاقْتِصَارُ اللَّفْظِ على جنس دون آخر هو الاستثناء الذي يُخَالِفُ عَنِ الأصل ، أصلِ التَّغْلِيبِ الذي يُجَاوِزُ فهو يَسْتَغْرِقُ كُلَّ أَحَدٍ صَحَّ تَوَجُّهُ التكليفِ إليه ، كما في هذا الموضع ، فَذَكَرَ لفظَ الشَّرْطِ "مَنْ" ، وهو خاص ، وَعَمَّ كُلَّ أَحَدٍ ، ذكرا أو أنثى ، وذلك عام ، وهو مما به يَسْتَأْنِسُ من يُجَوِّزُ المجاز في الوحي واللسان ، فذلك خاص قد أُرِيدَ به عام ، وهو ما اصطلح في درسِ البيانِ أنه مجاز الخصوصية ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل أول يطرد في حِجَاجِهِ أن ذلك مما اشتهر في اللسان واطرد وإن خالف عن حقيقة أولى مطلقة ، فَثَمَّ من عُرْفِ الاستعمال الأخص ما يَرْجُحُ عرف اللسان الأعم ، فالعرف حقيقة في النطق قد اشتهرت ، وإن لم تواطئ أولا من وضع الألفاظ ، وضع المعجم المطلق الذي يجتهد في تجريد المعنى الدلالي المفرد ، والسياق في هذا الخبر شاهد لحقيقة العرف المتداول أن ذلك هو العام الذي يستغرق كُلَّ أَحَدٍ .
وثم من السُّنَّةِ في قوله صلى الله عليه وعليه وعلى آله وسلم : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً" ، ثَمَّ منها ما يجري في الوصف أنه الموطِّئ لما تلا من الوصف ، إِنْ حُسْنًا أو سُوءًا ، فكان من ذلك مقابلة بالنظر في أجزاءِ الكلامِ إذ ائْتَلَفَ من جملتين مركبتين : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" ، و : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" ، مع آخر يجري مجرى الطباق إيحابا بالنظر في الألفاظ : "حسنة" و "سَيِّئَة" ، و : "أجر" و "وِزْر" .
وَثَمَّ من الشرط ما اطرد وانعكس ، فالتلازم بين الجزأين ، الشرط والجواب ، تلازمُ ضرورةٍ في العقل بين المسبَّب والسبب ، بَيْنَ الحكم وهو الجواب ، والعلة وهي ما تَقَدَّمَ من الشرط صدرَ الكلامِ ، وثم من الجواب ما حُدَّ ماضيا على حد الكينونة الماضية في "كَانَ لَهُ أَجْرُهَا" ، وذلك آكد في تقرير المعنى إذ الكينونة تحكي ديمومة الاتصاف ، وهو ما جاوز في الدلالة أَصْلَ الوضع الأول من زَمَنٍ ماضٍ تَقَدَّمَ ، فثم من دلالة الشرط ما يحكي الاستقبال ، إذ يُعَلَّقُ فيه الجواب على الشرط ، فمتى وقع الأخير كان الثاني ، وذلك ما يُسْتَقْبَلُ فِي زمنٍ تالٍ ، فَكُلَّمَا أحدَثَ المكلَّف الشرطَ حدث له تال من الجواب ، إن مدحا أو ذما ، فالشرط آكد في تلك الحكاية ، حكايةِ المدح وما يستجلبه من الأجر وذلك الوعد ، كما الشطر الأول من الخبر : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" ، وحكاية ضد من الذم وما يستجلبه من ضد من الوزر وذلك الوعيد ، كما الشطر الثاني من الخبر ، فـ : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" ، فَحُدَّ الجواب في كُلٍّ حَدَّ الكينونة الماضية وهي ، كما تقدم ، آكد في الدلالة ، حكايةَ ديمومةٍ ماضيةٍ كما أصل الوضع الأول ، مع أخرى تَرْفِدُ فَهِيَ تزيد الحال والاستقبال لما كان من قرينة السياق ، فذلك شرط والشرط ، كما اطرد في درسِ النحو ، مِمَّا يُسْتَقْبَلُ في الزَّمَانِ ، وهو ، من وجه ، مما يجري مجرى التأويل في الاصطلاح المتأخر ، فَثَمَّ كينونة ماضية تدل بأصل الوضع الأول على ديمومةِ اتِّصَافٍ في زَمَنٍ مَاضٍ تَقَدَّمَ ، وثم من دخول الشرط صدرَ الكلام ، ثم منه قرينة تزيد في دلالة الكينونة الماضية فتخرج بها عن ظاهر منها يَتَبَادَرُ وهو اقتصارها على الزمن الماضي ، فتخرج بها عن هذا الظاهر المتبادر إلى آخر لَا يَتَبَادَرُ وهو ما جاوز من دلالتها على الحال والاستقبال ، فذلك تأويل معتبر إذ اللفظ قد احتمل المعنى المؤَوَّل ، وإن لم يظهر باديَ الرأيِ ، فهو من الجائز ، وإن مرجوحًا ، فلا يصار إليه أَوَّلًا وإنما يُتَوَقَّفُ في إثباته ، وَيُسْتَصْحَبُ من ذلك عدم أول حتى يكون من القرينة الأخص ما يثبت ، فهو يرجح المرجوح من المؤول ويصيره الراجح بَعْدًا ، فالجائز الذي استوى طرفاه يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج وَإِلَّا اسْتُصْحِبَ منه العدم ، والظاهر الذي له أول يَثْبُتُ ، فهو الراجح الذي يُسْتَصْحَبُ حتى يكون ثم من القرينة ما يصرف ، فيكون منها مرجح من خارج يجاوز ، فهو يصير المرجوح راجحا ، وَإِنْ خالف عن الظاهر المتبادر ، مبدأ النظر ، وهو ، والشيء بالشيء يذكر ، مما به يستأنس من يُجَوِّزُ المجاز في الوحي واللسان ، إذ كان من ذلكَ حكايةُ التَّنَاوُبِ ، فَقَدْ ناب الحد الماضي في "كَانَ" ، ناب عن حَدِّ استقبالٍ ، فَزِيدَ في الأول بما كان من شرطٍ في السياق قد تقدم ، زِيدَ فيه ما جاوز الماضي فاستغرق الحاضر والاستقبال كَافَّةً ، فذلك مجاز بما كان من تَنَاوُبٍ أو تَبَادُلٍ بَيْنَ صِيَغٍ ، فَصِيغَةُ ماضٍ تحكي أخرى تجاوز من الحال والاستقبال ، على التفصيل آنف الذكر ، فَيُضَاهِي ، ولو من وجهٍ ، ما اصطلح في درس البيان أنه مجاز التعلق الاشتقاقي ، إذ تَنُوبُ صيغةٌ في اللفظ عن أخرى ، تَنُوبُ عَنْهَا في حكاية معناها الذي استقر ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل أول يُسْتَصْحَبُ في كل موضع يُدَّعَى فيه المجاز ، فذلك مما اشتهر في الكلام ، فهو من الظاهر المركب ، إذ يَأْتَلِفُ من اللفظ بما كان من وضع أول له في اللسان ، والسياق فهو قرينة تُعَيِّنُ مراد المتكلم ، وسياق الشرط مما يُتَدَاوَلُ في اللسان ، بل هو من حقائقه المشتهرة في الْبَيَانِ ، فلا وجه يلجئ أَنْ يَتَكَلَّفَ الناظر من المجاز ما يدق ، فالمعنى قد ظهر بادي الرأي .
وثم من حكاية الجواب تقديم الظرف "له" في : "كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ" ، فلا يخلو من دلالة أخرى تؤكد ، إذ قُدِّمَ وحقه التأخير ، فأفاد من ذلك الحصر والتوكيد مع دلالة اللام إذ تحكي الاختصاص والاستحقاق ، وهو في باب الوعد كما الشطر الأول : فَضْلٌ يعظم ، وهو في باب الوعيد كما الشطر الثاني : عدل ينصح ، فالخلق كافة ، بين الفضل جمالا والعدل جلالا ، ولكلٍّ من ذلك ما يُوَاطِئُ حَالَه ، فتلك الحكمة البالغة أن يُقَدَّرَ لِكُلِّ محلٍّ من الحال ما يواطئ ، وبها الجلال يَثْبُتُ ، والجمال بَعْدًا يَرْفِدُ ، وذلك حد الكمال المطلق ، وثم من الإطناب في الشطر الأول : "كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ" ، ثم منه ما يزيد في البشارة بما كان من أجر يزيد ، فقد استغرق أَجْرَ العاملينَ كَافَّةً إِذِ اقْتَدُوا بالعامل الأول ، وهو ما خَصَّهُ السياق بما كان من سَبَبِ الورود ، فلم يكن من ذلك استئناف لمطلق تشريع ، فليس ذلك إلا للوحي المنزل بما يجري على لسان صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يُنْقَلُ من آي قد تَوَاتَرَ ، وبما يُخْبِرُ من آحاد تشاطر المتواتر قسمةَ الوحي المنزل ، وإن اختلفا في الدرجة ، فكلٌّ حجةٌ في العلم والعمل ، وَإِنِ اشْتُرِطَ في الآحاد بحث أخص يتناول الصحة ، ولو ظنا يرجح ، خلاف المتواتر الذي يفيد يقينا يجزم ، فكلاهما يجزئ في الاستدلال ، على تفصيل تناوله أهل الحديث والأصول ، وإن كان المبحث للأولين آكد إذ لهم من حده ما ليس لأهل الأصول ، لا سيما المتأخرين ، وقد كان من بحثهم ، كما يقول أهل الشأن ، ما نَالَ منه علمُ الكلام ، ولو بَعْضًا ، من أصول محدَثة لَا يُسَلَّمُ بِهَا .
فكان من السَّنِّ في الشطر الأول ما يحكي الاقتداء لما هو أصل مشروع لدى المبدإ ، فليس الاستئناف ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم من الإطناب في الأجر ما يجري مجرى الوعد الباعث على الفعل ، وهو ما يَنَالُ السَّانَّ الأول ، وثم من الاحتراز بَعْدًا في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" مَا يَنْفِي الاحتمال أَنَّ أجر الفاعلين يَنْقُصُ ، وهو ما يزيد في الوعد إذ عم الأول ومن اقتدى به بَعْدًا ، وكذا يقال في الشطر الثاني ، وإن كان على ضد من الوعيد ، فالاحتراز ختام الجواب : "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" يزيد في الوعيد ، فَالسَّانُّ الأول له منه وِزْرٌ يَعْظُمُ ، وهو ما تناول من مادة السَّنِّ ما يذم بما يكون من إحداث في الدين يستأنف صاحبه من العلم أو العمل ما لا يزيد في مواضع توقيف لا تنال إلا من مشكاةِ وحيٍ يجاوز من خارج ، فهو الذي يستأنف الأخبار والأحكام كافة ، فمن سَنَّ السنة السيئة فَلَهُ منها وزر يخص ، وآخر يناله من خارج بما يكون من اقْتِدَاءِ غيرٍ في موضعِ ذَمٍّ وإثمٍ ، وهو ما استوجب الاحتراز كما الشطر الأول ، وإن على ضد من وعيد يزجر في قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" .
وبه كان الإنشاء الذي يَأْمُرُ وَيَنْهَى ، فَيَأْمُرُ بِاسْتِئْنَافِ العملِ الصالحِ ذِي الأصل الدلالي الثابت ، وَإِنِ الجنسَ الأعمَّ ، كما جنس الصدقة ، وهو سبب ورود الخبر آنف الذكر ، إذ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَفْدٌ عَلَيْهِ آثارُ الجهدِ ، فَدَعَا النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمعَ أَنْ يَتَصَدَّقَ ، وذلك فعل قد ثَبَتَ من الشرع لدى المبدإ ، فَالسَّنُّ فيه ليس استئنافَ حكمٍ لا أصل له في الوحي ، بل هو شُرُوعٌ في عَمَلٍ يُحْمَدُ ، فيكون لِأَوَّلٍ من الأجرِ ما ليس لِتَالٍ ، فالأول قَدْ بَادَرَ ، فَكَانَ مَحلَّ الاقتداء إِذْ سَنَّ من الصدقة في هذا الموضع خاصة ما يُحْمَدُ ، وذلك ، من وجه ، مِثَالٌ لعام فلا يُخَصِّصُ السنَّةَ الحسنةَ ، لا جرم حُدَّتْ حَدَّ العموم إذ وردت نَكِرَةً في سياق الشرط في قوله صلى الله عليه على آله وسلم : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً" ، فَثَمَّ عموم في النكرة "سُنَّةً حَسَنَةً" ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ آحادًا من الأفعال المحمودة في الشَّرْعِ ، فالصدقة واحد منها ، قد شَرَعَ فيه المتصدِّق الأول على وجه اقتداء عام لم يُخَصِّصِ العمل بهيئَةِ تَوْقِيفٍ لَا تُنَالُ إلا مِنْ نَصٍّ أَخَصَّ في التَّشْرِيعِ ، فَشَرَعَ المتصدِّق في صَدَقَتِهِ مطلقةً ، فَلَمْ يُعَيِّنْ قَدْرًا كما الصدقة الواجبة فَإِنَّ مقاديرَها مِمَّا حُدَّ في الشرع حَدًّا أخص لَا يُنَالُ باجتهادٍ أو نَظَرٍ ، بل هو محلُّ تَوْقِيفٍ ، فَلَا يُقَاسُ عليه ، ولا يُجْزِئُ فيه الإطلاق أَنْ يَتَصَدَّقَ مُطْلَقًا بِلَا نِيَّةٍ تُعَيِّنُ الصدقة الواجبة ، وبلا أخرى تُوَاطِئُ قَدْرَهَا ، فإن زاد المتصدِّق فَنَافِلَةً تحمد ، وهي ما لا يجزئ ، بادي الرأي ، حتى يُسْتَوْفَى القدر الواجب ، فلا عاقل يَتَنَفَّلُ وهو لَمَّا يَأْتِ بَعْدُ بالواجب الأول ، فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ إلا بقدر مخصوص في الواجب المعين قد ثَبَتَ بِنَصِّ الشرع المنزل فذلك التوقيف الذي لا يَدْخُلُهُ النظر قِيَاسًا ، بل يجري مجرى التعبد ، وهو ما لا تُشْرَعُ فيه زيادةٌ تَحْدُثُ على حد التَّقْيِيدِ لا الإطلاق ، فإن من المعنى المطلق مَا تَقَدَّمَ من السنة الحسنة ، فهي مما أُطْلِقَ فَلَمْ يُقَيَّدْ ، فلم يكن من الهيئة زيادةٌ مخصوصة بلا دليل يُخَصِّصُ ، فَالتَّخْصِيصُ في باب التوقيف لا يكون إلا بِالنَّصِّ ، فلا يكون بهوى أو ذوق ، أَنْ يَسْتَحْسِنَ من الهيئة المخصوصة في العبادة ما يُصَيِّرُهُ دِينًا يُشْرَعُ ، وإن كان أصله المطلق جائزا ، كما الصلاة ، فهي بالنظر في إطلاقها مما يُشْرَعُ إِلَّا ما كان من أوقات نهي ، وهي ، أيضا ، مما ثَبَتَ بالتوقيف ، فلا يجتهد ناظر في حَدِّهَا فينهى عن الصلاة في غيرها وإلا ناله من الذم بعضٌ مما نَالَ الناهي في آي العلق : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ، فكان من عموم الصلاة ما يُشْرَعُ مُطْلَقًا في غير أوقات النهي ، وذلك ، بداهةً ، النَّفْلُ الذي يحسن بعد الفرض ، فكان من النَّفْلِ ما شُرِعَ مُطْلَقًا ، ولا يلزم من ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، لا يلزم منه شرع آخر يُقَيَّدُ بهيئة مخصوصة ، فيحدث المحدِث صلاةً مخصوصة بهيئة وعدد ، ويحتج بمطلق من الدليل يحض على النفل ، فذلك الإطلاق لا يجزئ إلا في النفل المطلق ، لا في آخر يقيده الناظر بهيئة وعدد .... إلخ ، فذلك القيد : قَدْرٌ زائد في بابٍ ، الأصلُ فيه التوقيف ، فلا يثبت إلا بدليل ، فالزيادة المخصوصة من الهيئة والعدد ، ذلك مما لا يَثْبُتُ إلا بدليل من آي أو خبر .
فكان من مُطْلَقِ الصدقة في موضعٍ تُحْمَدُ فيه المبادرة ليكون من الاقتداء ما يبعث الهمم ، لا سيما إن كان المقتدَى بِهِ من ذوي الهيئات المتبوعة ، فَلَهُمْ في الناس وجاهة ، إن في الدين أو في الدنيا ، فكان من ذلك المطلق ما لا يُقَيَّدُ بقدر مخصوص أو جنس من المال بِعَيْنِهِ ...... إلخ من وجوه التقييد الأخص فإنها لا تثبت إلا بدليل أخص هو في محل النِّزَاعِ النصُّ ، إذ تجري الزيادة ، من هذا الوجه ، مجرى الدعوى وهي قدر يزيد فلا يُقْبَلُ إلا بدليل ، فلا تجزئ الدعوى دليلا ، فهي محل النزاع الذي يطلب دليلا من خارج ، فكيف تكون هي الدليل والمدلول معا ؟! ، بل لا بد من دليل أول فهو على المدلول يشهد ، وإلا كان الدَّوْرُ الباطلُ ، أن يستدل على الشيء بِنَفْسِهِ ، فيحتج الناظر بصورة الخلاف ، وهي محلُّ النِّزَاعِ الذي لا يُسَلِّمُ به الخصم ، بادي الرأي ، فكيف يُحْتَجُّ عليه به ، بل لا يُلْزِمُهُ في الْحِجَاجِ إلا دليلٌ من خارج الخلاف ، وإلا كانت المصادرة على المطلوب ، كما اصطلح النظار ، فالدليل أن هذه الصورة المخصوصة من العبادة جائزة أو مستحبة ... إلخ ، الدليل على ذلك : أنها جائزة أو مستحبة ...... ! ، لا أن دليلا من خارج يَشْهَدُ أنها جائزة أو مستحبة .... إلخ ، فالدعوى المطلقة لا تقبل حتى يكون من الْبَيِّنَةِ ما يشهد ، وإلا أَجْزَأَ فِي رَدِّهَا أخرى مثلها تضاهي في القدر وَتُضَادُّ في الوصف ، فَنَفْيٌ مطلق لا يَفْتَقِرُ إلى دليل معين في مقابل إثبات مطلق لا دليل عليه يشهد ، فَتَسَاوَا وَتَسَاقَطَا ، كما يقول أهل الشأن .
فَالنَّافِلُ الذي تصدق في محلِّ ورودِ الخبر قد استأنف من العمل ما له أصل يثبت ، ولم يَتَحَرَّ هيئة أخص لا تثبت إلا بدليل معين ، فَلَوْ تحرى هيئة مخصوصة وكساها لحاء أخص من الندب ، فصيرها من النفل المقيد لا آخر هو المطلق ، لو كان منه ذلك لَرُدَّ ، فهو ، من هذا الوجه ، يدخل في العموم آنف الذكر : "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" ، وَلَطُولِبَ بالدليل الأخص نصا في محل النزاع ، فقد أتى بزيادة ، والأصل عدمها فالذمة منها تبرأ حتى يكون من الدليل خاص يَشْغَلُ ، فإذا جاء مَنْ يَشْغَلُهَا بِزِيَادَةٍ لم يقبل قوله إلا أن يأتي بدليل ناقل عن الأصل الأول المستصحَبِ ، أصلِ البراءة ، إذ الذمة لا تُشْغَلُ بدعوى مطلقة فلا تُشْغَلُ إلا بدليل أخص يصدق فيه أنه زيادةُ العلمِ الناقلة عن الأصل ، فمن معه زيادة علم فَقَوْلُهُ يُقْبَلُ ، والناظر إِلَى مَا جاء به يَعْدِلً ، فَيُفَارِقُ ما كان من أصل عدمي أول ، فهو المستصحب حتى يكون من الدليل ما ينقل ، فَمَنْ أتى به فقوله يَرْجُحُ إذ معه من الدليل ما يشهد لا دعوى مجردة هي ابتداء إلى الدليل تَفْتَقِرُ ، وكذا يُقَالُ في نَفْلِ الصلاة مثالا آخر ، فإن المطلق منه يشرع وليس دليلا يجزئ في مواضع التقييد ، فيحتج من يحدث صلاة ذات هيئة أو عدد مخصوص ، وذلك القيد الزائد ، يحتج بمطلق أول من النفل ، فلا يجزئ في موضع تقييد أخص .
فلا يحتج في موضع التقييد بدليل مطلق ، وإلا كان من ذلك إحداث في الدين يذم ، فهو يدخل صاحبه في شطر تال من الخبر ، فـ : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" .
فالشطر الأول : "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا" ذو دلالة خبرية تُحْمَدُ ، فلا ينفك يدل لزوما على إنشاءٍ يأمر بامتثال هذا الفعل المحمود ، والشطر الثاني ، في المقابل ، ذو دلالة خبرية تُذَمُّ ، فلا ينفك ، أيضا ، يدل لزوما على إنشاء يَنْهَى عن هذا الفعل المذموم ، فاطرد الباب ، إن في الخبر أو في الإنشاء ، ومحل الشاهد منه في باب المحدَثَةِ المردودةِ ، محل الشاهد منه شطر ثان يحكي السنة السيئة ، ومن ذلك عموم آخر يستغرق إذ وردت النكرة "سُنَّةً سَيِّئَةً" في سياق الشرط ، فاستغرقت السَّنَنَ السَّيِّئَ في الاعتقاد والقول والعمل ، مع دلالة مبادرة واقتداء تَطَّرِدُ ، إن في الخير أو في الشر ، فرءوس الأمر في كلٍّ لهم وصف أخص ، ولهم من الأجر أو الوزر آخر أخص ، وله في باب الجرح والتعديل قدر مُعْتَبَرٌ ، كما حرر النقاد روايةَ المبتدِعِ ، فاختلفوا فيها على أنحاء ، فَثَمَّ من طرد الزجر فَرَدَّهَا كَافَّةً ، وثم من قصر الرّدَّ على رءوس الأمر دون آحاد من الأتباع إلا أن تشهد الرواية لما انتحلوا من البدعة ، وثم من نظر في حال الراوي عدالةً في باب الصدق والكذب ، وضبطًا في باب التحمل والأداء ، فَقَبِلَ منه مُطْلَقًا ، وإن إماما في محدَثته إذ المناط في قبول الرواية : الصدق والضبط ، فصدقه يحول دون الكذب وإن رَوَى ما يشهد ظاهره لمحدثته ، وهو ضابط يقبل خبره حتى يكون من القرينة دليل أخص يثبت الخطأ في نفس الأمر ، وذلك مبحث قد بسطه أهل الشأن ، ومحل الشاهد منه ما يَنَالُ المحدِثَ في الديانة فأمره رَدٌّ ، وكذا العاملُ الذي يسلك جادته ، فـ : "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ" .
فَثَمَّ من العموم القياسي : عموم الشرط الذي صُدِّرَ به السياق ، وهو ما تَنَاوَلَ المدخول تَنَاوُلَ العموم ، فقد دخل على المصدر الكامن في العامل "عَمِلَ" ، وله من عموم المعنى ما يجاوز العمل ، فَثَمَّ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، الإحداث في الاعتقاد والقول والعمل ، وقد يُقَالُ ، من وجه آخر ، إن العمل يحكي عموما في المعنى يجاوز العمل المتبادر ، لا سيما ومن العمل ما بطن ، ومن حركات الجنان ما لَطُفَ ، ولو في أصل الاعتقاد الأول ، فهو التصديق وذلك تال بعد عرفان أول ، وهو المجرَّد فلا ينفك يطلب تاليا من المرجِّح ، فَيُضَاهِي الجائز المحتمل الذي اسْتَوَى طرفاه في الحدِّ ، فَثَمَّ من الموجِب ما يرجح ، وكذا العرفان المجرد فإنه مما يحصل لكلِّ أَحَدٍ ، آمنَ أو كَفَرَ ، فلا ينفك يطلب من العمل تاليا يُرَجِّحُ ، فذلك التصديق الذي يجاوز العرفان المجرَّد ، فَثَمَّ من حركة الجنان مَا يُرَجِّحُ في الجائزِ مبدأَ النظر ، وهو العرفان المجرد ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، فيكون من ذلك تصديق أخص إذ يحكي القبول والإذعان والانقياد والاستسلام .... إلخ ، وَكُلُّهَا مَعَانٍ أَخَصَّ يصدق فيها أنها عمل ، وبها التصديق يَنْصَحُ ، وذلك ما آثارُه في المحالِّ كَافَّةً تَظْهَرُ ، فتظهر في المحل الباطن وهي ما يجاوز التصديق إلى قَبُولٍ وَرَدٍّ ، وَتَالٍ من حُبٍّ وَكُرْهٍ ، وثالثٍ من إرادةٍ تَرُومُ الفعلَ وأخرى على ضِدٍّ من التَّرْكِ ، وَكَذَا ما يكون من حركاتٍ في الجنان أَخَصَّ ، من الرَّجَاءِ والتوكل والإنابة .... إلخ ، فكل أولئك مما يصدق فيه أنه عمل ، وكذا ما يكون من القول ، فإن حركة اللسان مما يصدق فيه أنه عمل ، سواء أَنَطَقَ بالأصلِ التوحيدي أم زَادَ ذِكْرًا وَتِلَاوَةً ، وثم من حركات الجوارح أخص فهو ما يَنْصَرِفُ إليه اسم العمل ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، وَهُوَ مَا يَعُمُّ ، من وجه آخر ، الأفعال والتروك ، فكل أولئك مما يدخل في حد العمل ، على التفصيل آنف الذكر ، وكذا المحدَثَاتُ فَمِنْهَا أولى في الفكرة ، ومنها تال في الحركة ، حركة اللسان إذ ينطق ويسكت ، وحركة الأركان إِذْ تَفْعَلُ وَتَتْرُكُ ، فالمحدَثات منها أفعالٌ ومنها تُرُوكُ ، ومنها من وجه آخر : محدَثات الاعتقاد بما يكون من غُلُوٍّ أو جَفَاءٍ ، وهو ما تَنَاوَلَ الشرائعَ السماوية المنزَّلَة ، فَلَمْ تَسْلَمْ من المحدَثات ، وهو ما نَالَ بَعْضًا في الأصل الأول ، فَبُدِّلَ منه الكتاب والمستند ، ونال آخر كما الدين الخاتم بما كان من فِرَقٍ تَظْهَرُ ، ولكن المنة في الباب تَعْظُمُ إذ اخْتُصَّ الوحي الخاتم أَنْ حُفِظَ منه المبنى والمعنى كَافَّةً ، فلا تخلو الأرض من قائم له بحجة ، وإن قَلَّ وَخَفِيَ ، فَحُجَّتُهُ أَبَدًا تَسْلَمُ ، وَإِنْ كَانَ من المحدَثة ما يظهر بل وَيَفْشُو في أعصار أو أمصار حتى يصير هو السنة ، وتصير السنة هي البدعة ! .
فالغلو والجفاء في باب الاعتقاد قد نَالَ الرسالات المنزلة ، على التفصيل آنف الذكر ، وكذا مَا حَدَثَ بَعْدًا من المذاهبِ الأرضيةِ فَهِيَ محدَثَاتٌ في الفكرة ، بل وَدِينٌ قَدِ اسْتَغْرَقَ الحركة والسَّكَنَةَ إما نظرا في الباعث ، باعث الحركة في الخارج ، فلا ينفك المكلَّف ذُو الحياةِ والحسِّ والحركةِ الإراديَّةِ ، لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ أولا من الفكرة ، وهي دِينٌ عند من يَنْتَحِلُ ، صَحَّ أو فَسَدَ ، فالحكم فَرْعٌ عن التصور ، وثم دين آخر أظهر بما يكون من شريعة تحكم ، وهي تحكي ، ولو في الجملة ، مبادئَ وَقِيَمًا عنها المشرِّع يصدر في سَنِّ الأحكام ، فَثَمَّ كليات جامعة ، وثم معان في الوجدان معظَّمة ، وآثارها تَظْهَرُ فِي شَرَائِعَ تُفَصِّلُ ، كَمَا دينُ النبوة الذي يحكي إيمانًا بِغَيْبٍ يجاوز من خارج ، ودينُ الحداثة ، وهو على ضِدٍّ ، فإنها تصدر عن الجسد ، فمدارك الحس المشهود هي مرجع التشريع ، فلا يجاوز ما يُدْرِكُ ، بل بالغيبِ يَسْخَرُ وَيَتَهَكَّمُ ، فكل ما لم يدرك الحس فهو عدم ! ، وذلك من التحكم في القسمة بما يجافي عن ضرورات اللسان ، فإن الغيب يشاطر الشهادة لا العدمَ ، فليس كُلُّ مغيَّبٍ عَدَمًا ، بل ثم ما غاب عن الحس وله من الحقيقة في الخارج ما يثبت ، فهو موجود وإن لم يكن المشهود ، وثم من الغيب ما هو معدوم ، وَذَلِكَ ما يَتَنَاوَلُ اثْنَانِ في القسمة : الجائز الذي استوى طرفاه في الحد ، وله في علم الغيب الأول وجود ، وَإِنِ العدَمِيَّ ، فَلَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ في الخارج بما يُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المحكم الذي تَنَاوَلَ الكليَّاتِ والجزئياتِ كَافَّةً ، وَبِهِ امتاز مرجعا محكما إن في التكوين النافذ أو في آخر من التشريع الحاكم ، بِهِ امتاز من آخر هو الوضع المحدث الذي لا يَنْفَكُّ يوصم بالنقص ، ولو العدم الأول ، مع ما يكون بعدا من أعراض وآفات ، وما يَنْتَهِي إليه من الهلاك والفناء ، فَامْتَازَ الوحي المنزَل من الوضعِ المحدَث الذي يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ على قاعدة هوى وذوق ، فَلَهُ من المرجع ما اضطرب ، إن عَقْلُ الفردِ الأخص أو آخر من عقل الجمع الأعم ، إذ تَتَنَازَعُهُ الأهواء والحظوظ مع خَاصَّةٍ أولى من القصور ، فإن العقل مخلوق ، وهو الخارج من العدم إلى الوجود ، فالمبدأ تقدير أول في الأزل ، لم يكن له وجود بالفعل يصدق ، ثم كان الوجود بَعْدًا ، والمبدأُ منه نَاقِصٌ ، كما عقل الوليد ، فهو مجمل يصدق فيه ، أيضا ، عقل القوة لا الفعل ، وإن كان له وجود في الخارج يصدق ، فَثَمَّ من عقل القوة معدومٌ من كل وجه ، فَلَمْ يوجد في الخارج ، ولو الغريزة المجملة في الوجدان ، وهي التي يتأولها الطفل الصغير بما يكتسب من علوم بالممارسة والتجريب ، فيكون من الحركة ما به يَتَعَلَّمُ ، وإن تَضَرَّرَ بجرح أو كسر .... إلخ ، مع رُكُونٍ إلى مَدَارِكِ الحس ، فإن العقل في هذا الطور لا يجاوز مقدمات الضرورة فلا يطيق ما تَلَا من العلوم النظرية المركبة ، فهي وإن رُدَّتْ إِلَى مقدِّماتِ ضرورةٍ إِلَّا أنها تستوجب قدرا يزيد من النظر الذي يَتَنَاوَلُ المقدِّمات وَيُؤَلِّفُ بَيْنَهَا عَلَى مثالٍ مخصوصٍ من القياس ، فيكون من ذلك علم نظري أخص لا يطيقه بداهة إلا صاحب العقل بالفعل ، العقل المكتمل السالم من الآفة ، بل لا بد له ، مع ذلك ، من تحصيل قدر زائد من العلم يُحْسِنُ صاحبه تأليف المقدمات ، فَثَمَّ أطوار يَنْتَقِلُ فِيهَا العقل من العدم إلى الوجود ، فَشَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شأنُ أَيِّ مخلوقٍ ، فإن له وجودا بالقوة هو الأول ، وذلك التقدير في علم محيطٍ مُسْتَغْرِقٍ ، فَثَمَّ معلوم أول في الأزل ، فلا وجود له في الخارج يقدم ، بل وجوده بَعْدًا هو المحدَث الذي يُصَدِّقُ مَا كَانَ أولا مِنْ علمِ التقديرِ المحيطِ ، فَثَمَّ وجود أول يصدق فيه أنه العدم ، إذ ليس له في الخارج وجودٌ يَصْدُقُ فِيهِ أَنَّهُ وجودُ الفعلِ ، بل وجودُه في العلم الأول : وجود عدمي ، فإن القديم المطلق ليس إلا واحدا فَلَا يَتَعَدَّدُ ، وله من الذات ما انْفَرَد بالوجودِ الأول ، الوجود الواجب الذي يَقْدُمُ ، فذلك واجب الوجود الأول ، وله من الوصف ما به انفرد ، وإن كان ثَمَّ اشْتِرَاكٌ يَصْدُقُ ، فَفِي المعنى الكلي المطلق ، فذلك الجنس الذي يجرده الذهن ، فلا وجود له في الخارج يصدق ، إذ المطلقات بشرط الإطلاق ، كما تقدم في مواضع ، لا وجود لها في الخارج إلا أن تُقَيَّدَ ، فيكون من الحقيقة ما يَتَنَاوَلُهُ الْحَدُّ ، فَفِيهِ الفصل الذي يميز ، فلا حد يقتصر على الجنس العام في التعريف ، فإن هذا الجنس ، كما الذات مثالا ، ذلك الجنس مما يجرده الذهن ، فلا وجود له في الخارج يَثْبُتُ إلا مُقَيَّدًا بالمضاف إليه ، فَيُقَالُ : ذات زيد وذات عمرو وذات بكرٍ ...... إلخ ، فَثَمَّ جنس عام لا أعم منه يجرده الذهن إذ يستنبط المعنى المشترك بين الآحاد في الخارج ، وهو الذات المجردة ، فلا وجود لها في الخارج يَصْدُقُ ، فالتجريد الذهني ليس له وجود خارجي يُصَدِّقُ ، فالذات المطلقة بِشَرْطِ الإطلاقِ ليس لها وجود في الخارج يصدق ، بل وجودها لا يجاوز الذهن إذ يُطْلَقُ ، فلا بد من قَيْدٍ يزيد وبه الحقائق في الخارج تمتاز ، فيكون من الفصل في الحد ما يميز ، فذلك القيد الذي يُخَصِّصُ العام الذي لا أعم منه ، فَتَحْتَ الجنسِ نَوْعٌ ، وتحت النوع آحاد ، وهي الخاص الذي لا أخص منه ، فَثَمَّ التَّدَرُّجُ فِي التخصيص من العام الذي لا أعم منه إلى الخاص الذي لا أخص منه ، فمن الجنس إلى النوع إلى الآحاد ، فالجنس والنوع لا وجود لهما في الخارج يصدق ، فإن جنس الحيوان ونوع الأسد مثالا ، كلاهما لا وجود له في الخارج إلا بقيد أخص ، فالحقيقة والنوع يُشَخَّصَانِ في الخارج في واحد من آحاد النوع وهو أسد بِعَيْنِهِ في الخارج ، فذلك الخاص الذي لا أخص منه ، فَثَمَّ الاشتراك المعنوي في الجنس العام الذي لا أعم منه ، الذات مثالا تقدم ، فلا وجود له في الخارج يصدق ، وإنما وجب من القيد ما يميز في الخارج ، وهو ما امتاز أولا إلى ذَاتٍ هي الواجبة ، ذات الخالق الأول ، جل وعلا ، وهي الواجبة في الأزل ، فوجودها ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى أول يَتَقَدَّمُ ، ولا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج يقرن ، ولا يفتقر إلى تال من ولد ، فوصف الغنى المطلق : وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، وهو ما انْفَرَدَ به واحد ، وإلا لم يكن هذا العالم ، فإنه لا يوجد في الخارج وجودا أخص ، فليس التجويز العقلي المحض ، وذلك ، أيضا ، مما يَتَدَرَّجُ من الممتنع ، وهو ما يفرضه الذهن : الفرضَ المجرد فلا وجود له لا في الذهن تصورا ، ولا في الخارج من باب أولى ، وثم الجائز ، وهو بادي النظر ، معدوم في الخارج فلا وجود له يجاوز فَيُصَدِّقُ ، فَضَاهَى الممتنع ، من هذا الوجه ، وإن كان ثم قيد يميز ، فإن عدم الممتنع : عدمٌ ذاتي لَا يُعَلَّلُ ، فلا يحتمل الوجود في الخارج بَعْدًا ، فليس ثم إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وأما عدم الجائز ، فهو من اسمه جائز إذ استوى طرفاه فاحتمل كُلًّا ، فيحتمل الإيجاد بموجِب من خارج يُرَجِّحُ إذ يُخْرِجُهُ مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، من الجواز إلى الوجوب ، وهو وجوب لِغَيْرٍ بِمَا كان من ترجيح من خارج ، فَثَمَّ موجِب يَتَقَدَّمُ ، وهو في الجائز يُرَجِّحُ ، فيخرجه من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، وإن وجودا مُقَيَّدًا فَلَيْسَ ، كما تقدم ، الواجب لذاته الذي لا يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وإنما وجوبُ الجائزِ بَعْدًا بما يُصَدِّقُ في الخارج تقديرًا أول يتقدم ، وجوبُه بَعْدًا هو : وجود لغير بما احتف به من قرينة من خارجٍ تُرَجِّحُ ، فَلَيْسَ الوجوبَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فليس ذلك إلا لواحد هو واجب الوجود الأول ، فهو ثالث في القسمة آنفة الذكر : ممتنعٌ لذاته وهو المعدوم فلا وجود له في الخارج يصدق ، ولو احتمالا ، وإنما غاية ما يثبت منه الفرض المحض في الذهن تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، و : جَائِزٌ قد اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الحدِّ ، وهو ، أيضا ، ما يَصْدُقُ فِيهِ أَنَّهُ المعدوم ، وإن كان عدمه لا كَعَدَمِ الممتنِعِ لذاتِه ، فَقَدِ اشْتَرَكَا ، أيضا ، في الجنس العام المجرد في الذهن ، جنسِ العدمِ ، فيصدق في الممتنع أنه معدوم ، ويصدق في الجائز مبدأ النظر أنه معدوم ، وإن كان له وجود في الذهن ، فلا يجاوز حد التقدير المجرد ، وآخر في العلم الأول ، علم التقدير المطلق الذي يَقُومُ بِوَاجِبِ الوجودِ الأوَّلِ ، وصفًا يَزِيدُ على الذات ، وهو ما استغرق الكليات والجزئيات كافة ، فذلك العلم الإلهي الذي جاءت به النبوات ، فهو العلم المحيط الجامع الذي استغرق المعلومات كافة ، الكونية والشرعية ، الممتَنِعَة فَرْضًا ، والجائزة احتمالا ، والواجبة كما العلم بذات الخالق ، جل وعلا ، وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فلا أحد أعلم بالله ، جل وعلا ، بداهة ، من الله ، فـ : "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" ، فأعلم الخلق به وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يحصي ثَنَاءً عليه إذ لا يحيط المخلوق أبدا بالخالق ، جل وعلا ، وَإِنْ أعظمَ الخلق وهو الأعلم بِالرَّبِّ ، ، فقد أحاط بمحامد من محامده ، جل وعلا ، لم يحط بها غَيْرٌ ، بل وثم أخرى يُلْهَمُهَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو سَاجِدٌ بَيْنَ يَدَيِ العرش طالبا الإذن في بَدْءِ الحسابِ ، وتلك الشفاعة العظمى ، فلا يعلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن كان الأعلم ، لَا يَعْلَمُ من ذلك العلمَ المحيط الجامع ، إذ الله جل وعلا : (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) ، فلا تدركه في الأولى ، ولو مطلقَ رؤيةٍ أولى ، ولا تدركه في الآخرة دَرَكَ الإحاطة وإن كان ثم رؤيةُ تَنَعُّمٍ ، كما الخبر قد صح ، وذلك ، من وجه ، مما يجري ، أيضا ، مجرى الجائز في العقل ، فذلك مُنْتَهَى ما يَبْلُغُ العقلُ فِي بابِ غيبٍ لَا يُنَالُ إلا من مشكاة السمع الصحيح ، فأمر الرؤية ابتداء مما يَتَوَقَّفُ فيه الناظر ، فهو على حد العدم ، لا أنه معدوم في نفس الأمر ، وإنما عدم العلم فلا يستلزم العلم بالعدم ، بل قد يثبت الشيء ويجهله الناظر ، فَأَمْرُ الرؤيةِ ابْتِدَاءً : عدم ، وعدمه عدم الجائز الذي لا يحيله العقل ولا يمنع ، وإنما يُجَوِّزُ ، والتجويز العقلي المحض عَدَمٌ ، وَإِنِ امْتَازَ من الممتنع لذاته ، أن الجائز يقبل الترجيح ، فهو معدوم قد يوجد ، وهو مَنْفِيٌّ في باب الأخبار قَدْ يَثْبُتُ ، فَالْجَائِزُ قَدِ اسْتَوَى طَرَفَاهُ : الوجوب والامتناع ، الوجود والعدم ، فَيُسْتَصْحَبُ منه أولًا : العدمُ والنفيُ حَتَّى يكون دليل إيجاد في الأعيان وإثبات في الأديان ، فَعَدَمُهُ ليس كَعَدَمِ المحالِ الممتنِع لذاته ، إذ الممتنع لذاته لا يتصور ، ولو التصور المجرد في الذهن ، فليس يجاوز في الباب حَدَّ الفرضِ المحضِ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، لا كالجائزِ آنفِ الذِّكْرِ ، فإنه وإن كان ابتداء على قَيْدِ العدمِ ، فَهُوَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ في الذهن ، والتصور ، كما يقول أهل الشأن ، قدر يزيد على الفرض المحض الذي يجرده الذهن ، فالتصور لجائزٍ ، والفرض لمحال ممتنع لذاته ، وإن اسْتُصْحِبَ مِنْ كُلٍّ عدمٌ أول ، فعدم المحال الذاتي مما يَتَّصِلُ ، وأما عدم الجائز فهو المحتمل الذي يقبل الإيجاب من خارج ، فيكون من الدليل المرجِّح فِي الأعيان ما يُوجِدُ : وجودا تاليا في الخارج يُصَدِّقُ الوجودَ العدمي الأول ، وجود المقدور في العلم المحيط المستغرق ، إذ يَصْدُقُ فِيهِ أنه موجود ، لا أنه قديم يستقل بالوجود ، بل وجوده القديم الأول : وجود تقدير في علم محيط يستغرق ، فالقدم ، لو تدبر الناظر ، هو قدم العلم المحيط الجامع الذي يقوم بذات أولى تَقْدُمُ ، فَلَهَا مِنْ ذلك الوصف المطلق ، وتلك الأولية المطلقة التي لا أولية تَتَقَدَّمُهَا كما في دعاء آخر يؤثر عن صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو الثَّنَاءُ عَلَى رَبِّ الأرضِ والسماءِ ، جل وعلا ، فـ : "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ" ، فَثَمَّ من ضمير الخطاب "أَنْتَ" ما به يَتَوَجَّهُ الداعي ، وهو يخاطب الحاضر ، وَإِنْ غَابَ ، فَحَسُنَ في موضع الدعاء : الخطاب ، إذ حضر الْمَدْعُوُّ ، وهو الله جل وعلا ، فهو القريب ، وذلك حضورٌ وقربٌ بالعلم المحيط الجامع ، وبآخر من السمع والبصر ، فكان من الخطاب ، خطاب أخص ، خطاب القريب الذي قَرُبَ بالوصف ، وصفِ العلم الأخص ، وهو مما تَنَاوَلَ المقدور الأول في الأزل ، فَذَلِكَ علمُ إحاطةٍ قد جاوز فاستغرق الذوات وما يقوم بها من الأوصاف والأفعال ، ومنها فعل الدعاء إذ الداعي به يَتَوَجَّهُ ، فذلك مما عُلِمَ أَزَلًا بِعِلْمِ إحاطةٍ يَسْتَغْرِقُ ، علمِ التقدير الأول ، وثم من تأويله في الخارج بَعْدًا مَا يُصَدِّقُ ، وهو ما يَتَنَاوَلُهُ وصفُ السمع والبصر الأخص ، فهو يُحْصِي مَا ثَبَتَ أولا في علم التقدير الجامع الذي استغرق الذوات وما يقوم بها من الأسماء والصفات والأفعال والأحكام ، فَثَمَّ تقديرٌ أول ، وهو ما يَثْبُتُ مِنْ علمٍ محيطٍ يَسْتَغْرِقُ ، فالمقدورات المعدومات فيه تَثْبُتُ ، فَلَهَا وجود هو الوجود العلمي المطلق ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استجمع الوجود والعدم معا ، لا تناقضا ، وإنما الجهة قَدِ انْفَكَّتْ ، فَجِهَةُ الوجودِ ما كان من تقدير أول في علم محيط يستغرق ، فالمقدورات فيه تَثْبُتُ إذ تَنَاوَلَهَا تَنَاوُلَ التفصيل لا الإجمال كما اقترحت الحكمة الأولى تَشَهِّيًا بهوى وذوق ، فإن ذلك ، أيضا ، من باب الغيب الذي لا يثبت إلا بخبر يُتَلَقَّى من مرجعٍ من خارج يجاوز العقول كافة ، الفرد والجمع ، فذلك الوحي الذي يُفَصِّلُ ما أجمل من فطرة أولى تَنْصَحُ فِي باب توحيدٍ ، العقلُ يدل عليه لدى المبدإ ، ولو دلالةَ الإجمالِ الذي يَفْتَقِرُ إلى بَيَانٍ بِمَا رُكِزَ في العقل من مقدمات الضرورة الأولى ، فهي تدل دلالة القطع ، ولو لم يكن ثم خبر وحي ، أن ثم محدِثا لهذا الكون المحدَث ، وهو مَا يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِي ضرورةً أخرى في العقل ، فلا بد من واجب وجود أول ، إليه تَنْتَهِي الموجِبات جميعا فهي على حد الجواز إذ تَتَسَلْسَلُ ، فالعدم ينالها ، ولو تقديرا أول ، قَبْلَ أن توجد ، فَلَهَا كسائِرِ المقدورات ، لَهَا وجود يَقْتَصِرُ على العلم الأول المقدِّر ، فهو الوجود العلمي ، أو الوجود العدمي ! ، فالجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، إذ جهة الوجود ما كان من العلم الأول المحيط ، وجهة العدم ما يكون من عَدَمِ هذا المقدور في الخارج ، فذلك مما يُسْتَصْحَبُ أولا حتى يكون ثم دليل أخص يُرَجِّحُ في هذا المقدورِ خَاصَّةً ، فَيُخْرِجُهُ من العدم إلى الوجود ، فيكون من الوجود تال أخص ، الوجود بالفعل الذي يصدق أولا من وجود القوة ، قُوَّةِ التقديرِ فِي علمٍ أول هو المحيط المستغرِق ، فيكون من الوجود بالفعل ما يَتَنَاوَلُهُ وصف أخص ، وهو السمع والبصر ، وبهما القرب في الآي المحكم : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ، بهما القرب الأخص يَثْبُتُ ، فَثَمَّ علم أول هو المحيط الجامع ، وثم علم تال وهو ما يحصي المقدورات بعد خروجها من العدم إلى الوجود ، فيكون من ذلك تأويل في باب الدعاء ، فهو القرب العلمي الأعم ، وَثَمَّ تال من السمع والبصر ، وهما ، أيضا ، مما افْتَرَقَ في الحد ، فمنه أعم ، وذلك ما يستغرق المقدورات كافة ، ومنه أخص ، فسمع وبصر في مقام النصرة ، كما في قوله : (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، وآخر في مقام الطلب والتَّضَرُّعِ ، فيسمع الدعاء ، وذلك ما به توسل زكريا ، عليه السلام ، فـ : (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) ، فذلك سمع أخص إذ قُيِّدَ بالإضافة إلى الدعاءِ ، فالسمع ، من هذا الوجه ، جنس عام يستغرق ، فَتَحْتَهُ آحادٌ تَنْقَسِمُ في الجملة على نوعين : عام وخاص ، فالعام ما يستغرق المسموعات كافة ، حُمِدَتْ أو ذُمَّتْ ، والخاص نوعٌ ، وله في الخارج آحاد تَتَفَاوَتُ ، فمنه النصرة ، ومنه سماع الدعوة ، وبه فُسِّرَ القرب في قوله : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، فذلك قُرْبٌ عِلْمِيٌّ أخص ، وهو قُرْبُ سمعٍ يجيبُ ، وهو ما شَهِدَ له لحاقٌ تال في الآية يفسر : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ، فيجري مجرى الْبَيَانِ بَعْدَ الإجمال ، وهو ، من وجه آخر ، مما يجري مجرى الاحتراز ، فإن القرب قد يُوهِمُ قُرْبَ الذَّاتِ ، وهو مما يوهم آخر أَفْحَشَ من حلولٍ أو اتحاد يَقْبُحُ ، فكان من ذكر الإجابة في قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ما قَصَرَ المعنى ، إذ حَدَّ القربَ أَنَّهُ قُرْبُ الإجابةِ لا قُرْبُ الذاتِ ، وكذا ما يكون من سماعٍ وبصرٍ في مقام النصرة ، وآخر أعم فَهُوَ العلمُ ، إِنِ العلمَ المحيطَ الجامعَ ، علم التقدير في الأزل ، أو آخر يَتَأَوَّلُ ما كان من العلم الأول ، إذ يَتَنَاوَلُ علمُ الإحصاءِ تأويلَ ما كان أولا من علم التقدير الأول ، وكل أولئك مئنة حضور وشهود ، فالرب ، جل وعلا ، حاضر يشهد ، لا بذات تَقْرُبُ فيكون من ذلك ما يوهم حلولا واتحادا يبطل ، فَلَهُ ، جل وعلا ، من وصف العلو : علو الذات ، فَثَمَّ عُلُوٌّ بالذات ، قُرْبٌ بالوصف ، فهو ، ، حَاضِرٌ يَشْهَدُ بِعِلْمِهِ ، إِنِ العلمَ الأول المحيط ، أو ما يكون بَعْدًا وهو ما يجري مجرى التأويل ، تأويل المعلوم المقدور الأول بما يكون من تال في الخارج يصدق ، وهو ما يَتَنَاوَلُهُ علم ثان يحصي المقدورات بَعْدَ خروجها من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، فيكون من الوجود بالفعل في الخارج ما يصدق الوجود بالقوة في علم أول يقدر ويحيط ، فكذا علم الإحصاء يحيط ، فَثَمَّ رَبٌّ عليم يدبر ، وتأويل مقدوراته في الكون لَمَّا يَزَلْ يَحْدُثُ ، فيكون منه آحاد تُصَدِّقُ ما كان من علمِ تَفْصِيلٍ يحيط بالمقدورات كَافَّةً ، فَثَمَّ آخر يحصي بَعْدًا الموجوداتِ في الخارج ، فهي تأويل المقدورات في العلم المحيط الجامع ، فذلك رَبٌّ حاضرٌ يَشْهَدُ بِعِلْمٍ محيط يَسْتَغْرِقُ ، وفعلٍ في الكون يُدَبِّرُ إذ يخرج المقدورات من العدم إلى الوجود ، ويكون من التدبير أخص بما ركز في الأعيان من قوى تَقْبَلُ ، وفي الأسباب من قوى تُؤَثِّرُ ، فَثَمَّ إتقانٌ في الخلقة ، وإحكامٌ في السنة قد تَنَاوَلَ الأعيان والأسباب كافة ، وذلك تكوين منه إيجاد لِمَا قُدِّرَ في الأزل من الأعيان والأسباب ، ومنه آخر يدبر بما كان من سنن جار محكم ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، خبط عشواء يَعْبَثُ ، كما زعم فرض التطور ، وهو مثال آخر لِمَا يُفْرَضُ الفرضَ المحضَ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فلا وجود له في الخارج يصدق إذ يخالف عن مقدمات الضرورة الأولى في أي قياس ينصح ، مع مخالفة لفطرة أولى تلجئ ، فكل أولئك مما يوجب ضرورة : أولا لا أول قبله حَسْمًا لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فَثَمَّ حدث في الخارج له وجود يصدق ، وهو ما بالحس يشهد من آيِ آفاقٍ وَأَنْفُسٍ ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، عدما لا وجود له إلا على مذهبِ جحودٍ وسفسطَةٍ يُنْكِرُ الضرورات والبدائه فلا ينفع جداله إلا أَنْ يُقِرَّ أولا بمقدماتِ ضرورةٍ يُسَلِّمُ بِهَا الخصوم ، وإلا كان الجدال عَبَثًا لَا يَنْفَعُ ، فَثَمَّ من آي الآفاقِ والأنفسِ ما ثبت في الخارج ، فهو من المدرَكِ ضرورةً ، فالحس يَتَنَاوَلُهُ والعقل يُعَالِجُهُ بِمَا رُكِزَ فيه من مقدمات الضرورة الأولى التي يَنْتَظِمُهَا القياس المصرحُ في سلك به يَتَوَسَّلُ إلى علومٍ نَظَرِيَّةٍ تَنْفَعُ ، فَمَبْدَأُ النَّظَرِ العقلي المركب : مقدمات ضرورية هي المفردات التي تَنْتَظِمُهَا جملة الاستدلال بما أُحْكِمَ من نَحْوِهَا ، فذلك قانون يطرد في القياس المعقول كما الكلام المنطوق ، بل ذلك ما يحكي التلازم ، فإن المنطوق مَبْنًى يسبقه في الذهن : المعقولُ مَعْنًى ، وبه حَدُّ الكلامِ في اصطلاح النحاة أَنَّهُ : لفظ ومعنى ، ولكلٍّ مِنَ السِّلْكِ مَا يَنْتَظِمُ الآحادَ فِي جُمَلٍ تُفِيدُ ، فيكون من مقدمات الضرورة العقلية مَا يَنْتَظِمُهَا سلك جامع من الاستدلال الناصح فَيُفْضِي بِهَا إلى علم نظري نافع ، فالمبدأ ، كما تقدم ، مقدماتُ ضرورةٍ هي كالمفردات في النطق ، وثم تال من النظم ، إن في العقل أو في النطق ، فَثَمَّ من آي الآفاق والأنفس ، وهو محل شاهد تقدم ، ثم من ذلك ما يَتَنَاوَلُهُ الحس السليم والعقل الصريح ، فهو يدل ضرورة أن ثم محدِثا لهذا الكون المحدَث ، فَلَيْسَ ، بداهة ، الخبطَ والعشواءَ ، وليس المادة القديمة فهي المحدَثة التي لا تُحْسَمُ بِهَا مادة التَّسَلْسُلِ بَلْ لَا بُدَّ لها من أول يَتَقَدَّمُ ، فَهُوَ يُوجِدُهَا من العدم ، وَيُخْرِجُهَا من التقدير قُوَّةً أولى ، إلى وجودٍ بالفعل يُصَدِّقُ ، فالمادة القديمة التي اقْتَرَحَهَا الفلاسفة : مادة مَيِّتَةٌ فلا علم لها يُقَدِّرُ وَيُدَبِّرُ إذ لا بد من حياة هي أصل الصفات عامة ، والمادة القديمة لا حياة فيها ليكون ثم علم يُقَدِّرُ أو إرادة تُرَجِّحُ فهي تُخَصِّصُ بما كان من حكمة في التقدير الأول أن هُيِّئَ كُلٌّ لِمَا خُلِقَ له ، فذلك قانون عام يَسْتَغْرِقُ المحال والأسباب ، فَهُيِّئَتِ المحال أن تقبل والأسباب أن تُؤَثِّرَ ، فالمادة القديمة التي اقترحتها الفلسفة لا حياة فيها ولا إرادة ، فالمخلوق أكمل منها إذ له من الحياة والحس والحركة الإرادية التي لا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ تَصَوُّرًا أول من العلم ، ولو التصورَ المجملَ الذي لا يجاوز مدارك الغريزة والحس ، فكيف يكون المخلوق المحدَث أكمل من القديم الأول الذي عنه يَصْدُرُ ، وكيف تحرك هذا القديم فكان من حركته هذا الكون المتقن المحكم ، فلا تكون الحركة بداهة إلا بمحرِّك أول ، كما أن المحدَث لا يكون إلا عن محدِث أول يَتَقَدَّمُ ، فالمادة ليست قديمة ، إذ لا تنفك ضرورةً تطلب أول يتقدم ، وبه حصلت ، والأول يطلب آخر يَتَقَدَّمُ ..... إلخ ، فيكون التسلسل الممتنع في المؤثرين أزلا ، فالمادة التي اقْتَرَحَتْهَا الفلسفة مادة ميتة ، فليست إلا العلة المادية ، جوهرا قديما قد وجد بلا موجِد ! ، مع أخرى فاعلة فيها بالطبع مجردة من الوصف ، فقصة الخلق عند الفلاسفة : مادة قديمة مَيِّتَةٌ قد وُجِدَتْ بِلَا مُوجِدٍ ، وعلة فاعلة فيها بالطبع ، فلا وصف لها ولا فعل ، بل هي عدم آخر إذ حُدَّتْ في اصطلاح الحكمة الأولى أنها : المطلق بشرط الإطلاق ! ، وثم قصة التطور وقد اقْتَبَسَتْ من قصة الفلسفة شعبةً إذ كانت الصدفة والترجيح بلا مرجح والخبط والعشواء الذي صدر عنه هذا الإتقان والإحكام ! ، وثم قصة النبوة في خلق السماوات والأرض وخلق آدم ، عليه السلام ، وليختر العاقل ما يواطئ عقله ويسلك به جَادَّةَ استدلال محكم ، ولا يكون ذلك إلا أن يتجرد من الهوى ويسلم ، مع سداد أول لا يَنْفَكُّ يطلبه صاحبه من رب حكيم مدبِّر ، فلا يكون طلب الهدى منه إلا على هَيْئَةِ الافتقارِ أن يُهْدَى السائل لما اختلف فيه من الحق في هذا العالم .
فليست المادة قديمة فلا تُسْتَحْدَثُ من العدم كما اشتهر في أوليات البحث والتجريب المحدث ، إذ ثم مِنْهَا ما يحدث بَعْدًا ، كما يَرَى النَّاظِرُ من استحالة أعيان إِلَى أخرى ، والمثل له يُضْرَبُ بما يكون من نُطَفٍ تَضْمَحِلُّ ماهيَّاتها ويخرج منها المشيج المختلط الذي يعلق بالرحم ثم يستحيل مضغة فَعِظَامًا ..... إلخ ، فإن الماهية الأولى تَضْمَحِلُّ فليست هيولى أو جوهرا واحدا يقدم ، ثم الصور تَتَنَاوَلُهُ بل ثم من الجواهر ما يَحْدُثُ بَعْدَ عَدَمٍ ، وشاهد الحس في هذا العالم يصدق ، ولو فِي تَجَارِبِ المعمل ، فإن حصول المركب من عناصر لا يكون إلا بعد اضمحلال الماهيات الأولى فقد تَرَاكَبَتْ فَخَرَجَ منها جديد لم يكن شيئا ، كما خلق الإنسان وبه القياس المصرَّح في قوله : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) ، فَلَمَّا تَعَجَّبَ زكريا ، عليه السلام ، من خروج ولد من صلبه وقد بَلَغَ من الكبر عِتِيًّا ، كان من الاستدلال بخلقه هو ولم يكن شيئا ، فكان عدما ، وإن الجائزَ المقدور في الأزل ، فهو من المعلوم الذي استغرقه علم التقدير المحيط ، ثم كان خروجه من العدم إلى الوجود ، فَثَمَّ كلمة تكوين أعم ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وذلك العموم المستغرق نَصًّا ، إذ "شَيْئًا" : النكرة في سياق الشرط "إِذَا" ، فتحكي العموم من هذا الوجه ، كما قرر أهل الأصول والنظر ، وثم من سَبَبٍ يُبَاشَرُ في الحس بما يكون من المباضعة وبها المشيج يأتلف في الرحم ، فَثَمَّ سبب في الحس يُشْهَدُ من إتيان الذكر الأنثى ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ كما سائر الأسباب فَمَنْ خَلَقَ الزوجينِ ؟! ، ومن رَكَزَ في كُلٍّ من قوى بها الجنين يحصل وينمو في الرحم الذي هُيِّئَ أن يحمل الوليد ويحفظه ...... إلخ ، وكل أولئك من آي إتقانٍ وإحكامٍ ، فلا ينفك يدل ضرورة على متقِن محكِم أول ، فذلك من مقدمات الضرورة في الاستدلال ، كما الإحداث الأعم فلا بد من محدِث يَتَقَدَّمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى ينتهي أبدا إلى أول لا أول قبله ، وكذا الإتقان والإحكام الأخص فلا بد له من مُتْقِنٍ محكم أول وهو ، أيضا ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ إلى أول لا أول قبله ، فليس بداهة المادة الميتة التي حصلت في القدم صُدْفَةً ، ثم دبت فيها الحركة بلا محرِّك فكان من ذلك ما يجافي القياس المصرح ، فالترجيح لا يكون إلا بمرجِّح من خارج وهو ما يتسلسل حَتَّى يَنْتَهِيَ أبدا إلى أول لا أول قبله .
فلا بد من أول لا أول قَبْلَهُ ، وبه حَسْمٌ لمادة التسلسل في المؤثِّرِينَ أَزَلًا ، فذلك الأول الذي أَثْنَى عليه صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دعائه : "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ" ، فكان من القصر بتعريف الجزأين "أَنْتَ" و "الْأَوَّلُ" ما يحكي الحصر والتوكيد ، فذلك وصف لا يقبل الشركة بالنظر في الوجود الأخص ، الوجود في الخارج ، وإن كان ثم اشتراك أول يثبت في الذهن ، فذلك المعنى المجرد في العقل ، معنى الأولية المطلقة ، فلا وجود له في الخارج ، إذ المطلقات بشرط الإطلاق ، كما تقدم في مواضع ، لا وجود لها في الخارج يصدق ، وإنما توجد في الذهن مجردة ، فمنها الأولية ، فالأولية كالذات ، فكلاهما مما يُجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ مَعْنًى كُلِّيًّا يَتَنَاوَلُ آحادا في الخارج ، فلا يثبت إلا مقيدا بها ، وذلك قيد يميز الحقائق الأخص في الخارج ، فَتَمْتَازُ ذات الخالق الأول ، جل وعلا ، من ذات المخلوق المحدث ، وإن اشتركا في اسم الذات المجرد في الذهن ، فذلك ، كما تقدم ، الجنس المطلق الذي يجرده الذهن مبدأ النظر ، فلا وجود له في الخارج إلا مُقَيَّدًا بالمضاف إليه ، فهو الفصل في التعريف والحد ، فَيُضَافُ إِلَى الخالقِ ، جل وعلا ، تارة ، وإلى المخلوق أخرى ، فيكون من ذلك قيد يميز الحقائق في الخارج ، بل هو يميزها ، ولو في المخلوقات التي يجمعها جنس أخص : جنس المخلوق ، فذلك ، أيضا ، مما يجرد في الذهن فلا ينفك يطلب فصلا آخر في التعريف ، فيكون منه الإنسان ، ويكون من الإنسان الذكر ، ويكون من آحاد الذكور : زيد وعمرو وبكر ، فأولئك المضاف إليه الذي تمتاز به الحقائق الأخص في الخارج ، فكيف بالخالق ، جل وعلا ، في حد ، والمخلوق في آخر ، فَثَمَّ مِنَ المضافِ إليه ما يميز من باب أولى ، فذات الخالق ، جل وعلا ، أولى في الأزل ، وَلَهَا من الكمال المطلق ما ثَبَتَ أَوَّلًا ، فتلك الأولية المطلقة ، وذات المخلوق من آخر : محدَثة بَعْدَ أَنْ لَمْ تكن ، فالمبدء عدم ، وإن كان ثم تقدير أول في العلم المحيط الجامع ، فذلك عدم ، وإن صَحَّ فيه وصف الوجود ، فهو وُجُودُ القوة وهو ما يكافئ العدم في الخارج ، فلا بد من مرجِّحٍ يصيره ذا وجود بالفعل في الخارج ، فهو يصدق وجود القوة الأول ، وَيُصَيِّرُ الجائزَ من الواجبِ لا لذاته ، وإنما لمرجِّح يَتَنَاوَلُهُ من خارج ، وهو ما استوجب ، أبدا ، إثبات الأول الذي لا أول قبله ، إذ تَتَسَلْسَلُ المؤثِّرات في الجائزات ، فلا بد من حسمها بأول لا أول قبله ، فَلَهُ من وصفِ الأولية ما أطلق ، وإن كان ثم اشتراك في الجنس الدلالي المجرد ، فمعنى الأولية ، أيضا ، مما يجرده الذهن ، فهو جنس دلالي عام ، فلا وجود له في الخارج يثبت إلا أن يقيد بالمضاف إليه من وجه ، أولية الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وأولية المخلوق الحادث في آخر ، ويقيد بالوصف ، من آخر ، فأولية مطلقة ، فتلك أولية الخالق ، جل وعلا ، وأولية مقيدة ، فهي أولية العرش مثالا إذ يقال هو أول مخلوق ، وأولية آدم ، عليه السلام ، إذ يقال هو أول إنسان ....... إلخ ، فَثَمَّ من الأولية جنس عام يستغرق ، وثم من الآحاد في الخارج ما امْتَازَ ، فكان من الأولية المطلقة لله ، جل وعلا ، ما رَفَدَهُ القصر في الدعاء آنف الذكر : "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ" ، إذ يفيد الحصر والتوكيد فأنت الأول لا أول قبلك ، فذلك تأويل القصر ، إذ المذكور منه لَوِ اقْتَصَرَ القارئ في النطق على : "أَنْتَ الْأَوَّلُ" ، المذكور منه يُرَجِّحُ في "أل" في "الأول" : دلالة العموم المستغرق لوجوه المعنى وهو ما يَرْفِدُ آخرَ فذلك عهد أخص ، فهو وصف واحد في الخارج لا شريك له ، فَلَهُ مِنَ الأولية المطلقة مَا لا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرٌ ، وإن شركه في الجنس الدلالي المجرد ، على التفصيل آنف الذكر ، فَلَوِ اقْتَصَرَ القارئ على : "أَنْتَ الْأَوَّلُ" ، لأجزأ في الدلالة عن محذوف هو اللازم ، فليس قبلك شيء ، فَذَكَرَهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدعاء تَوْكِيدًا إذ أغنى عن ذكره القصر : "أَنْتَ الْأَوَّلُ" ، فَذُكِرَ بَعْدَهُ إِمْعَانًا في الْبَيَانِ وَالتَّوْكِيدِ ، فتلك أولية مطلقة قد تناولت الذات والوصف ، وذلك ما ثبت في الأزل ثُبُوتَ الواجب لذاته فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، وبه استكمال القسمة آنفة الذكر : الواجب والجائز والممتنع ، فالممتنع لا وجود له في الخارج يصدق ، وَلَيْسَ ثَمَّ منه احتمال يُتَصَوَّرُ ، وإنما غايته الفرض المحض في الذهن تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، والجائز لا وجود له ، أيضا ، في الخارج ، مبدأَ النَّظَرِ والتقديرِ ، وَإِنْ تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ تَصَوُّرًا يجاوز الفرض ، إذ لا يمتنع وجوده في الخارج ، وإن كان عَدَمًا مَبْدَأَ التَّقْدِيرِ ، فهو مما استوى طرفاه في الاحتمال ، فَيَقْبَلُ الترجيحَ من خارج بمرجِّحٍ يُؤَثِّرُ ، فيكون له من الوجود بعدا ما يصدق وجودا أول في التقدير العدمي ، فوجود بالفعل يَتَنَاوَلُهُ علم الانكشاف والإحصاء بَعْدًا قَدْ صَدَّقَ وجودا بالقوة يتناوله علم التقدير الأول ، فاستصحب من الجائز عَدَمٌ حَتَّى يكون من دليل الترجيح من خارج ما ينقل ، فَيَصِيرَ ذا وجود في الخارج يُصَدِّقُ ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى ثالث في القسمة وهو الواجب ، واجب الوجود لذاته الذي ثبتت له من الأولية : أولية الإطلاق في الأزل ، فذلك مما يوجبه العقل ضرورةً بما تقدم من أصول في النظر : أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وأن ذلك مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إِلَى واجبِ وجودٍ أول ، وأن ثم قَدْرًا يزيد من الإتقان والحكمة ، وذلك مما يواطئ صريح الفطرة مع حِسٍّ سَلِيمٍ يَتَنَاوَلُ آيَ الآفاقِ والأنفسِ ، فَكُلُّ أولئك مما يَشْهَدُ ضرورةً بِوَاجِبِ وجودٍ أول ، له من الوجود ما يجاوز الإطلاق في الذهن ، وله من الوصف ما يجاوز العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، فَلَهُ عِلْمٌ محيط به التقدير المتقن المحكَم ، وله من القدرة والمشيئة اختيارا ما به يُرَجِّحُ ، فهو يُخْرِجُ المقدورَ من العدم إلى الوجود ، فَلَهُ من ذلك جُمَلُ مَعَانٍ يُثْبِتُهَا العقل ضرورةً ، ولا يجزئ ذلك في إثبات غيب لا يدرك بالحس ، وإن دَلَّ العقلُ عَلَى جُمَلٍ مِنْهُ ضَرُورِيَّةٍ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ التفصيل وذلك ما لا يكون إلا من التَّنْزِيلِ المجاوز للعقل والحس ، عَقْلِ الفردِ وَعَقْلِ الجمعِ كَافَّةً ، فلا يدركان من الحقائق إلا ظنا أو تجويزا ، فلا ينفك يطلب في الباب يقينا وترجيحا ، مع تفصيل لِمَا أُجْمِلَ مِنَ العلومِ والمعارفِ الإلهية ، فالغيب لا يُتَلَقَّى بَدَاهَةً إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الوحيِ الذي أَبَانَ وَفَصَّلَ عن وصفِ الواجبِ الأوَّلِ ، الخالقِ البارئِ المصوِّرِ المدبِّرِ ، جَلَّ وَعَلَا ، فَلَهُ من الوصف كمال مطلق لا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج يُكْمِلُ مَا كَانَ نَاقِصًا في المبدإِ ، بل كماله ، عَزَّ وَجَلَّ ، كَمَالٌ أول في الأزل ، وذلك جنس عام في الصفات تَنْدَرِجُ تحتَه آحاد ، وَمِنْهَا الغنى إذ لَا يَفْتَقِرُ الغني المطلق إلى موجِد موجِب يَتَقَدَّمُ ، ولا يفتقر إلى سبب من خارج يَرْفِدُ ، بل له من الغنى أول قد أُطْلِقَ وَحَصَلَ في الأزل ، فَلَمْ يكن ثَمَّ افتقار ثُمَّ استغناء ، ولم يكن ثَمَّ نقص ثُمَّ كمال ، ولم يكن ثَمَّ جهل ثُمَّ تَعَلُّمٌ ، كما تقدم من حال الطفل الصغير ، فَإِنَّ عَقْلَهُ لدى المبدإ : مقدورٌ في الغيب أول ، فَلَهُ من ذلك وصف العدم ، وإن جَائِزًا في علمِ تقديرٍ أول ، فذلك وجود القوة ، ثم هو بَعْدًا يُوجَدُ ، وإن كان ناقصا لا يدرك إلا ما رُكِزَ فِي الوجدانِ والفطرةِ من كُلِّيَّاتٍ مُجْمَلَةٍ ، لَا تَنْفَكُّ تطلب من البيان ما يتأوله الطفل الصغير شيئا فشيئا ، إما بالتقليد أو بالتلقين المباشر ، فيكون من ذلك تَعَلُّمٌ بَعْدَ جَهْلٍ ، وكمالٍ بَعْدَ نَقْصٍ ، فَيَصِيرُ لَهُ مِنَ العقلِ بالفعل ما يُصَدِّقُ العقلَ بالقوة ، ويكون من الكمال ما يحدث بَعْدَ نَقْصٍ ، وهو ، مع ذلك ، الكمال المقيد فلا يُطْلَقُ ، ولو نظرا في عدم أول ، فكيف بما يعتريه من الأعراض والآفات ، وما يَنْتَهِي إليه بَعْدًا من الفناء والهلاك ، فلا يصح ، بداهة ، مَرْجِعَ خبرٍ وحكمٍ ، وإن كان له من العلم حظ ، فَلَيْسَ العلمَ المحيط الجامع لا في الكونيات ولا في الشرعيات ، وذلك ما عَمَّ فاستغرق عقل الفرد وعقل الجمع ، فلا يخلو كل من النقص ، ولا يخلو كل من أَثَرِ توجيه يأطر على طريقة يُزَخْرِفُهَا قليل يحكم إذ استجمع من أسباب القوة ما به يؤثر ليحمل الجميع على خطة خسف بها ينال مصالح خاصة وإن أَتَتْ على أخرى عَامَّةً ، وتلك حكاية شُحٍّ وَأَثَرَةٍ ، وهما باعث التشريع والحكم في شرائع الأرض المحدثة ، سواء أصدرت عن عقل فرد أم عقل جمع ، فكلٌّ لا يسلم من الهوى والحظ ، ولا يسلم من التأثير والتأطير الذي يخالف عن الحق المبين فَيُزَخْرَفُ له من الباطل ما يغر ويخدع ، فَوَجَبَ الرَّدُّ إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، قَدْ سَلِمَ من هذا النقص ، فذلك التسلسل الذي وجب حسمه بأول لا أول قَبْلَهُ ، إن في التكوين أو في التشريع حكايةَ التوحيد الرسالي المجزئ : أولا لا أول قبله في الخلق وذلك توحيد الربوبية علما وخبرا ، وآخر في الأمر وذلك توحيد الألوهية إرادة وعملا ، فيكون من ذلك توحيد الجهة ، جهة الرب الخالق ملزومَ ربوبيةٍ أول في توحيد النبوات ، وجهة الإله الحاكم لَازِمًا له يَشْفَعُ بِأُلُوهِيَّةٍ تُصَدِّقُ وَتَمْتَثِلُ ، وَمَرَدُّ كُلٍّ إلى علمٍ أول هو المستغرِق الجامع ، فهو العلم التام الذي إليه تُرَدُّ المقدورات كَافَّةً ، الكونية والشرعية ، فَثَمَّ جهة التكوين التي بها مَلْزُومٌ أول من توحيدِ النبواتِ ، فذلك توحيد الرب الخالق ، جل وعلا ، وثم جهة التشريع وهي لازم ، فذلك توحيد الإله الحاكم بما أَنْزَلَ مِنَ الخبرِ الصادق والحكم العادل ، فكان من ذلك ما ينصح المحل العلمي بخبر يصدق ، وبه التصور الأول ، وذلك مبدأ لما تلا من الحكم ، فَثَمَّ ، أيضا ، التلازم بين الملزوم واللازم ، الملزوم الخبري واللازم الإنشائي أو الحكمي ، فَثَمَّ من الخبر ما ينصح المحل العلمي الباطن ، وثم من الحكم ما ينصح المحل العملي الظاهر ، فَخَبَرٌ يَصْدُقُ وَحُكْمٌ يَعْدِلُ ، وبهما توحيد النبوات يَكْمُلُ ، ومرجعه واحد وهو الرب الذي خَلَقَ ، والإله الذي حكم ، وذلك ما امتاز به الوحي المنزَّل من آخر هو الوضع المحدَث ، فالأخير ضد دائر بما يكون من تعدد المراجع الأرضية المحدثة ، فَهِيَ تحكي عقولا مفردة أو أخرى مجموعة ، وكل يختلف بما يكون من اختلاف البواعث ، فَثَمَّ من الأعراض : نقص ، ومن الأغراض : حظ ، وذلك ، بداهة ، ذريعة التَّعَارُضِ بل والتَّنَاقُضِ الذي يفسد الأرض بما يكون من العلو والكبر بغير الحق ، فكلٌّ يروم العلو على غيره ، أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ أنه الأعلم والأحكم ، وأن منهاجه هو الأقوم ، وبه المصالح تُحْفَظُ ، وهي ذريعةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا باطل يَعْظُمُ ، إذ رعايةُ المصالحِ أصل معتبر في كُلِّ شريعةٍ ، منزَلَةٍ أو محدَثة ، فكلُّ شريعةٍ لَا بُدَّ لها ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مِنْ قَدْرٍ من الرَّشَادِ بِمَا رُكِزَ فِي العقلِ والفطرةِ من مُقَدِّمَاتِ صدقٍ وعدلٍ تَنْصَحُ ، ولو المجملةَ التي تَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ أَخَصَّ ، فاتفاق العقلاء على قدر من الرشاد مَحِلُّ إجماعٍ مُعْتَبَرٍ ، وعنه أصول النظر تَنْشَأُ ، وهي ما تَتَنَاوَلُهُ فطرةٌ أولى تَجِدُ من الضرورة ما يُلْجِئُ في مسائل العدل والصدق والخير .... إلخ ، فَثَمَّ معيارُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، وهو أول في حكومة الإباحة والحظر ، فَلَا يَنْفَكُّ كُلُّ عقلٍ يُدْرِكُ من ذلك قدرا ، ولو المجملَ ، وإلا اختل المعاش ، فلا بد من قدر ضروري من الصدق والعدل وبه الأمر يَنْتَظِمُ ، ولو في الجملة ، فإنه لا يخلو من اضطراب حال التفصيل ، لا سيما ولكلٍّ من التأويل ما يُبَرِّرُ ، فَكُلٌّ يُخَرِّجُ حكومتَه على معيارِ الصدقِ والعدلِ ، وأنها مصلحة تعم الجمع ، وهي تحفظ له الدين وتصلح له الدنيا ، وتحفظ عليه القيم والمبادئ ، وتصلح له المعايش ...... إلخ ، فهي تأطر الحياة على نمط مخصوص به تمتاز الجموع إذ لكلِّ أُمَّةٍ من المنهاجِ ما يميز ، منهاجِ الحياة الذي يُعَيِّنُ المصالح والرغائب والغاية من هذا العالم ، فهو يجيب عن سؤالات المصير ، سؤالات الوجود ، وهو ما أجاب عنه بَعْضٌ بِفَرْضِ التَّطَوُّرِ والعبثِ ، فلا غاية إذ لا حكمة في المبدإ ! ، وإنما خبط وعشواء ، فلا تكريم لدى المبدإ بخلق أخص ، كما قص الوحي من خلق آدم ، عليه السلام ، ولا شرعة كما قَصَّ الوحي من خبر آدم ، عليه السلام ، أبي البشر المكرَّم فهو النبي المكلَّم الذي نَزَلَ بشريعة تامة ، غَايَتُهَا توحيدُ الخالقِ الأوَّلِ ، وهو ما عَمَّ العلم والعمل كَافَّةً ، فكان من ذلك توحيد الحاكم المشرِّع بما نَزَلَ من الأمر والنهي ، فهو يرفد أولا من التصور الذي رُكِزَ في فطرة أولى ، فطرةِ الوجدانِ المجملة ، فلا تنفك تطلب بَيَانًا يُفَصِّلُ ، فلا يكون ذلك إلا من مرجع من خارج يجاوز النفس فهو يفصل الخبر والحكم ، فيكون من النفي والإثبات ما يصدق الجنان في الفكرة ، ويكون من الأمر والنهي ما ينصح الأركان في الحركة ، فَثَمَّ من تصور أول ما به توحيد العلم يَثْبُتُ ، وَثَمَّ من حُكْمٍ تال مَا يَلْزَمُ ، إذ من قَدَّرَ فِي الأزلِ في علم محيط يَسْتَغْرِقُ ، فكان من مقدوراته : مقدورات الخلق بما كان أولا في الغيب من تَقْدِيرِ المحَالِّ والأحوالِ ، وما يَرْفِدُهَا من الأسباب ، وما رُكِزَ في كُلٍّ من قوى تُؤَثِّرُ ، فذلك توحيد التقدير الكوني الأول ، وله ثان في الخارج يُصَدِّقُ بما يكون من لوحِ تَقْدِيرٍ يَسْتَغْرِقُ ، فهو المحل المخلوق الذي سُطِرَتْ فِيهِ كلمات العلمِ المحيط الجامع ، العلمِ الأول الذي قام بذات الرب المقدِّر المكوِّن المصوِّر المدبِّر ، جل وعلا ، فذلك مَلْزُومٌ أول ، ولازمه ما يَتْبَعُ ، فهو ، جَلَّ وَعَلَا ، الحاكمُ المشرِّع الذي أَنْزَلَ من الوحي آيا وخبرا يُوَاطِئُ ما رُكِزَ في الوجدان تصديقًا وامتثالًا بهما تأويل القوة الدينية الباطنة التي لا يَهْنَأُ عَيْشٌ ولا تكون نجاةٌ في المآل إلا أن يجري تَأْوِيلُهَا على مثالِ التوحيد الجامع ، توحيد الخبر الذي يَنْصَحُ الاعتقادَ ، وتوحيد الحكم الذي يَنْصَحُ العمل ، فيكون من ذلك اسم ديني يجزئ في حصول حقيقة في الباب تَنْفَعُ ، فيكون من المسَمَّى الديني المركب من باطنِ اعتقادٍ يُصَحِّحُ الفكرة ، وظاهر قول وعمل يُصَحِّحُ الحركة ، فَتَسْتَقِيمُ الجادة وتستبين المحجة ، ويكون من الحجة ما ينصح بخبرِ وحيٍ صحيح يُوَاطِئُ ما رُكِزَ في الوجدان من مقدمات العقل الصريح ، وذلك أصل آخر في الاستدلال الرسالي المحكم ، إذ المبدأ : رِكْزُ التوحيدِ الذي تَنَاوَلَ معادِنَ من الصدق والعدل بها استبان الحسن والقبح ، ولو المعيارَ المجمل الذي يواطئ ما نَزَلَ بعدا من البيان الناصح ، فكان من الآي والخبر : معادن علم تُصَحِّحُ الفكرةَ ، وأخرى من العمل تُرَشِّدُ الحركة ، فَيَسْلُكُ كُلٌّ جادَّةً من الخير ، إِنِ الباطنَ إذ له من الوحي رائدُ الخبرِ الصادقِ ، أو الظاهر وله منه رائد الحكم العادل ، فمعادن الصدق والعدل مَحِلُّ إجماعٍ لدى الخلقِ كَافَّةً ، وهي المجمل الأول ، وثم من التفصيل تَالٍ به الحجة الرسالية تَثْبُتُ ، وَهِيَ مَا أجاب عن سؤالات الإجمال في النفس ، فأرشدها إلى الصدق والعدل ، ورفدها بما جَاوَزَ مِنَ الغيبِ ، فكان من ذلك بَيَانٌ لِمَا تَلَا من الدُّورِ ، وما يكون من المآل الذي تَنْتَهِي إليه الخلائق على حَدِّ التحقيق فهو مُصَدِّقٌ لِمَا كان أولا من التجريد ، تجريدِ المعنى والمبدإِ ، فذلك رِكْزُ الفطرةِ الأولى التي تدل ضرورةً على حُسْنِ الصدقِ والعدلِ ، وَقُبْحِ ضِدٍّ من الكذبِ والظلمِ ، فذلك المجمل الذي يَفْتَقِرُ إلى تحقيقٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، فلا يكون من المعنى مجرد في الذهن لا يثبت في الخارج ، فإن المجرَّدات ، كما تقدم في مواضع ، مما لا يجاوز وجوده الذهن ، فليس ثم في الخارج إلا المقيد الذي يميز الحقائق في الخارج ، فامتاز الواجب الأول من الجائز المحدث ، وكان من ذلك توحيد ينصح الوجدان إذ به إفراد القديم من المحدث ، وذلك أول في التصور ، وبه نقض المقال الفاحش الذي سوى بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، فجاوز التشبيه بل والتمثيل ، جاوزه إلى وحدة عين لا يمتاز فيها شيء من شيء ، فلا يمتاز خالق من مخلوق ، وهو ما يلزم منه لحوق النقص بذات الخالق الأول ، إذ حَلَّ بمخلوق أو اتحد ، فكان من أعراض الجبلة ما يناله ، وهو ما التزم بَعْضٌ فقال بالناسوت الأرضي الذي يحكي اللاهوت الأعلى ، وذلك تجسيد ينحط بالعقل ألا يؤمن إلا بما يُدْرَكُ من الشاهد ، فلا بد من مُشَخَّصٍ في الخارج يُدْرَكُ بالحس ، وهو ما نهجت المذاهب المحدثة إذ أَنْكَرَتْ مِنَ الحَقِيقَةِ ما يَثْبُتُ ، وإن غَابَ عن الحس ، فلا يَنْفَكُّ يُرَاوِحُ بين الواجب والجائز ، فليس من المحال الذاتي الذي لا يجاوز حد الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فكان من الوحي ما أخبر بوصف الواجب الأول ، فَلَهُ من الذات والوصف ما جاوز التجريد الذهني ، إذ المجرَّد بشرط التجريد لَا وجودَ له في الخارج ، لا المغيَّبَ ولا المشهودَ ، فَتِلْكَ حِكَايَةُ العدمِ وَإِنْ تَلَطَّفَتْ أَنْ أَسْنَدَتْ ذَلِكَ إلى التَّنْزِيهِ الذي يَرُومُ إِفْرَادَ القديمِ من المحدَثِ ، فَجَاوَزَتِ الحدَّ في التَّنْزِيهِ حَتَّى انْتَهَتْ إلى التعطيلِ ، وإن سَمَّتْهُ التجريدَ ، فالوحي قد جاوز هذا التجريد العدمي في الذهن ، فلا وجود له في الخارج يُصَدِّقُ ، ولم يكن منه زِيَادَةٌ تُذَمُّ في ضِدٍّ من التشبيه أو التمثيل أو الحلول والاتحاد أن يكون من الحقيقة الإلهية العليا ما يُشَخَّصُ في مخلوقِ أرضيٍّ محدَث ، فذلك ، كما تقدم ، انحطاط بالوجدان ألا يُقِرَّ إِلَّا بمدرَكَاتِ الحسِّ ، فلا يمتاز الإنسان العاقل المكلَّف من الحيوان الأعجم إلا أن يُؤْمِنَ بالغيب الذي يجاوز مدارك الحس ، ولا يلزم منه تصديق بالمحال الممتنع لِذَاتِهِ ، فَلَيْسَ ذلك بِغَيْبٍ بل هو العدم ، وإنما يؤمن العقل الصريح بما جاوز من الغيوب الواجبة أو الجائزة ، فالأولى قد ركزت في الوجدان ضرورة تلجئ مع مقدمات ضرورة في العقل تَنْصَحُ أَنَّ ثَمَّ خالقا هو الأول ، وأنه هو الواحد فَلَوْ كَانَ ثم اثْنَانِ لَفَسَدَ الكون ، بل لو لم تَنْتَهِ الأسباب إلى واحد لا سبب له يتقدم ، لو لم يكن ذلك مَا وُجِدَ هذا الكون ابتداء ، فَثَمَّ تمانع الربوبية الذي يقضي ضرورة باستحالة ربين اثنين يخلقان ، وهو الملزوم الذي يعدل توحيد الربوبية الذي جاءت به النبوات ، وثم تمانع الألوهية الذي يقضي ضرورة باستحالة إلهين اثنين يحكمان ، وهو اللازم الذي يعدل توحيد الألوهية .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #17  
قديم 01-12-2023, 05:52 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 45
افتراضي

فكان من النهي في مواضع من الذكر الحكيم ، كما آي من متواتر التنزيل ، فـ : (لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) ، كان من ذلك ما أفاد التحريم ضرورةً ، إذ تَنَاوَلَ الشرك وهو ما قَبُحَ في النقل الصحيح والعقل الصريح إذ يستلزم جحود النعمة ، فيكون من الأول : تقدير محكم في الأزل ، وتأويل له في الخارج يصدق ، بما كان من سنن محكم في الإيجاد لا ينفك يَتَسَلْسَلُ منه السبب من شهادة إلى غيب حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى خالقٍ أول ، ويكون منه تدبير محكم بما اطرد من السنن ، فَثَمَّ الإتقان في المحل ، والإحكام في السبب ، وما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى تَنْصَحُ ، ويكون من تَيْسِيرِ المعايشِ وإباحة الطيباتِ الَّتِي تَنْفَعُ ...... إلخ ، يكون من كلِّ أولئك مَا يَحْكِي نِعْمَةً سَابِغَةً على الخلق ، لا تكون ، بداهة ، عن عشواء أو خبط ، بل ثم علم أول يُقَدِّرُ ، وَمَشِيئَةٌ تَالِيَةٌ تَنْفُذُ ، وكلاهما وصفٌ يَزِيدُ عَلَى ذَاتٍ أولى لها من الكمال المطلق ما ثَبَتَ أَزَلًا ، فَإِلَيْهَا علم التقدير النافذ ، وآخر من التشريع الحاكم ، وتأويلهما في الخارج ، كما تقدم ، معنى توحيد جامع ، فَثَمَّ ملزومُ رُبُوبِيَّةٍ تُقَدِّرُ ، وثم لازم ألوهية تحكم ، فكل ما تَقَدَّمَ من نِعَمٍ سابغة ، إن من الكون أو من الشرع ، فَبِهَا المعايش تصلح ، وبها المآل ينصح بما كان من خبر الغيب الذي أبان عن مآل الخلق ، وتأول من حكومات العدل ما لم يستوف في الدار الأولى فَلَيْسَ مِنْهَا دارُ جَزَاءٍ تَامٍّ ، وإنما نَزَلَتِ الشرائعُ أَنْ يُبْتَلَى الخلق بامتثالها بما يكون من تحصيلٍ لأسبابها ، ولا يلزم من ذلك وقوع المقدور الشرعي الذي لِأَجْلِهِ نَزَلَتِ الأحكامُ ، فَفَاتَ كثيرٌ من حكومات العدل إذ كان من قدر التكوين ما نَفَذَ ، فلا يطيق أحد الخروج عنه وإن خرج عن حكومة الشرع المنزل ، فَدَلَّ ذلك ضرورةً أَنَّ ثَمَّ مِنَ الجزاءِ العادلِ ما لم يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ ، فَلَمْ يَكُنِ التَّكْلِيفُ أَنْ يَحْدُثَ بالفعل ، فقد يجاوز وسع المكلف فلا يُحَمَّلُ إلا ما أطاق أن يسعى في ذلك مَا اسْتَطَاعَ ، فبياشر ما يَقْدِرُ عليه من سَبَبٍ ، ويكون أول من التوكل الذي لا ينصح إلا بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد وإلا كان من ذلك تواكل يذم لا توكل يحمد ، قد جاء به الوحي المنقول بعد استيفاء السبب المقدور ، فـ : "اعقِلْها وتَوكَّلْ" ، فكان من الأمر الأول أَنِ "اعْقِلْ" ما أوجب ، وهو من آخر مما يجري مجرى النصح والإرشاد ، وذلك مما جاوز سبب الورود من عقل الناقة ، إذ ثَمَّ معنى أعم يَتَنَاوَلُ كُلَّ ما يطيق المكلَّف من السبب ، وذلك مما يجاوز في التكليف من خوطب به أَوَّلًا في التشريع ، فَثَمَّ من خطاب واحد معين ، وهو المأمور أَنْ يَعْقِلَ الناقة فلا تفلت ، وله من عموم المعنى ما جاوز فاستغرق الآحاد كافة بالنظر في دلالة أعم وهي الأخذ بالسبب ، فاستصحب العموم ، وذلك الأصل في التكليف لقرينة العموم في خطاب التشريع ، وهو ما جاوز الذكر إلى الأنثى ، والفرد إلى الجمع ، والحاضر إلى الغائب ، والمعدوم إلى الموجود ، والمواجه إلى غيره ، فيكون منه خطاب غير المعين ، حكاية العموم المستغرق للآحاد كافة ، وله المثل يُضْرَبُ بآخر من الخبر ، أن : "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ، فَالْقَ أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ" ، فَثَمَّ النهي الذي يجري مجرى النصح والإرشاد ، وإن لم يخل من أصل أول ، فهو نص في التحريم ، ولو لم يظهر كما الأول ، فالنصح والإرشاد في هذا الموضع أَرْجَحُ ، فكان من النَّهْيِ ، من هذا الوجه ، ما يَجْرِي مَجْرَى الاشتراك في اللفظ ، فَوَاحِدٌ منه يحكي أكثر من معنى على وجهٍ مُعْتَبَرٍ ، والجمع بَيْنَهُمَا مِمَّا يسوغ فلا تكلف ، بل ذلك مما يحسن إِثْرَاءً للسياق بما يَتَوَارَدُ من المعاني المتعددة على لفظٍ واحدٍ ، فهذا نص في التحريم ، أو هو الظاهر الراجح ، وثم آخر هو المؤَوَّل ، فهو الخفي فلا يظهر ، مبدأ النظر ، وإن احتمله اللفظ بأصل الوضع ، فذلك الاحتمال المرجوح الذي يطلب من القرينة ما يرجح ، فكان من قرينة الْمَنْهِيِّ عنه ما يحكي النصح والإرشاد ، وإن احتملَ الأصلَ ، فذلك مما جُمِعَ فيه النص والمؤول ، أو الظاهر والمؤول ، فالنهي إما نص في التحريم ، وهو مما يتداوله أهل الأصول والبيان ، وإما ظاهر وهو الأقرب إلى قواعد الاصطلاح المتأخر في الأصول ، إذ احتمل النهي أضدادا دَائِرَةً ، وإن مرجوحة لا راجحة ، فاحتمل الكراهة والنصح والإرشاد ، كما في هذا الموضع ، فيصدق فيه أنه ظاهر راجح في النهي مع احتمال أضداد وهي خفية يصدق فيها اسم المؤول ، فلا يصار إليها ، بادي النظر ، إلا أن يكون ثم قرينة ترجح ، وقد يكون من استواء الحدين ، النص والظاهر ، قد يكون من ذلك ما يَثْبُتُ ، كما قال بَعْضُ أهلِ الشأنِ ، رُكُونًا إلى حقيقة اللسان الأولى ، إذ النص هو الرفع والظهور ، ومنه قيل لمجلس العروس منصة ، إذ تعلو عليه وتظهر ، فاستوى في الحد ، النص والظاهر ، وإن أَجَابَ بَعْضٌ : إِنَّ ذلك لو جَازَ فَفِي وضع اللسان الأول ، وهو أعم لا في اصطلاح الأصول وهو الذي يجري مجرى العرف الأخص ، وَإِنِ العرفَ الذي يقتصر على أهل الصناعة والفن ، فليس مِمَّا يَعُمُّ الناس كافة ، فلا يفقه مدلوله الأخص إلا من أحاط بالأصول عامة ، ودلالات الألفاظ خاصة ، فهو في الاصطلاح ظاهر ، إذ النهي يحتمل التحريم ، ويحتمل آخر من المدلول ، وقد يجوز الجمع ، كما في هذا الموضع ، الجمع بين الظاهر والمؤول ، فالنهي في الخبر يَنْصَرِفُ إلى التحريم وهو أول في الْوَضْعِ ، وثم تال يَرْفِدُ وهو النصح والإرشاد ، فلا مانع يحول دون الجمع ، إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فلا تعارض ، بل الجمع في هذه الحال يحسن ، إِثْرَاءً للسياقِ بما نَصَحَ من المعاني ، وبه يستأنس من يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك ، وذلك مما يصدق فيه أنه جمع بين حقيقة ومجاز ، فالنهي حقيقة في التحريم ، وهو مجاز في النصح والإرشاد ، والجمع بَيْنَهُمَا ، وإن ساغ بل وحسن ، فهو مما يخالف عن الأصل ، أَنَّ لِكُلِّ لَفْظٍ من المدلول واحد في السياق الواحد ، وإن احتمل أغيارا فلا تجتمع في سياق واحد ، وإنما تَتَغَايَرُ إذ السياق يَتَغَايَرُ ، فلا يُجْمَعُ بَيْنَ اثْنَيْنِ في سياقٍ واحدٍ ، إذ المحل ، وهو اللفظ ، لا يَتَّسِعُ إلا لواحد من الْحَالِّ ، وهو المعنى ، فلا يكون المحل شَاغِرًا أَبَدًا ، فَيُجَرَّدُ من المعنى وهو المدلول الناصح ، من وجه ، ويستبدل به آخر يواطئ الهوى والذوق ، وهو ما يفضي إلى اضطراب الدلالة إذ ثم اضطراب في المرجع الذاتي الذي لا يجاوز هوى المستدل وذوقه ، إن الفرد أو الجمع ، فلا ينفك كلٌّ يطلب من المرجع ما يجاوز ، إن في صحة الدليل أو صراحة المدلول ، فلا يكون الكلام لفظا بلا معنى ، صوتا بلا غاية ، وَإِلَّا فَقَدَ من حد الكلام جزءا ، بل هو المراد الأول ، حتى قال من قال إن الكلام هو المعنى الذي يحصل في الفؤاد ، وإنما جعل النطق عليه دليلا ، فذلك ما له اعتبار ينصح بالنظر في مراد المتكلم ، فإنه ما تكلم بالحرف والصوت ونظم من ذلك اللفظ ، فهو المجموع من حروف مقطعة وأصوات مفردة ، فإنه ما صنع ذلك ليزعج المخاطَبَ ! ، إلا أن يكون مجنونا لا يَعْقِلُ ، فهو يهذي بأصوات تضطرب ، فليس منها ما يَنْتَظِمُ في الكلام ، وشرطه ، كما قال بعضٌ ، إرادة المتكلم ما يقول ، فلا يكون من النائم أو السكران أو الغاضب غَضَبًا يستغلق ، لا يكون من كل أولئك كلام معتبر ، على تفصيل تناولته الأصول في باب العوارض ، عوارض الأهلية ، فقد يكون من النظم ما يستقيم على معيار النحو والبيان ، وليس يجزئ في حصول معنى معتبر ، إذ شرطه ، كما تقدم ، إِرَادَةُ ما ينطق ، فتلك نية وقصد أخص ، وبه اقتران اللفظ والمعنى ، وإلا انقلب الكلام لفظا مجردا بلا مدلول وهو ما قَارَفَتِ الحداثة جنايته إذ أفرغت الألفاظ من مدلولاتها ، توسلا إلى التعطيل ، إِنِ الأخبارَ أو الأحكامَ ، أو كُلًّا كما قد عمت البلوى في الجيل المتأخر ، فكان من تعطيل النصوص الرسالية ما فسدت به القوى كافة ، العلمية والعملية ، ففسد التصور والحكم ، فعظمت جناية الحداثة ، إذ عطَّلَتِ المعنى ، وإن أَبْقَتْ صورة النطق والكتب بل وعظمت من ذلك نص الوحي ، فلا تجاهر بخصومته ، وإنما تحتال في حكومته أن تُجَرِّدَهُ من المدلول مع حصول الدليل المنطوق والمكتوب .

والشاهد أَنَّ اللَّفْظَ مَحِلٌّ في النطق واحد ، والأصل فيه أن يكون من المدلول واحد ، فلا يجرد اللفظ من المدلول فيصير لفظا بلا معنى ، فليس إلا الصوت المجرد فهو يعدل صوت الحيوان الأعجم ! ، فذلك الأصل الذي يتبادر حتى يكون ثم من القرينة ما يعدل عن الأصل ، فيحتمل المحل الواحد اثْنَيْنِ ، لا عن تَكَلُّفٍ في الاستدلالِ ، وَإِنَّمَا الجمعُ مُعْتَبَرٌ بِمَا تَقَدَّمَ من انْفِكَاكِ الجهةِ ، جهةِ التحريم وجهةِ النصح ، فهما مما انْفَكَّ وَتَغَايَرَ ، فَلِكُلٍّ وجهةٌ هو مُوَلِّيهَا في الدلالة ، وليس ثم تعارض ، بل ثم ، من وجه آخر ، تعاضد ، فكان من ذلك عدول عن أصل ، وهو لفظ واحد لمعنى واحد في نفس السياق ، إلى فرع ، وهو لفظ واحد لأكثر من معنى في نَفْسِ السياق ، فذلك عدول عن أصل إلى فرع ، عن ظاهر إلى مؤول ، لا تحكما ، وإنما العدول بِقَرِينَةٍ تَصْرِفُ ، وذلك ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، حَدُّ التأويلِ لدى المتأخرين من الأصوليين والبيانيين ، وهو مما يدخله أهل البيان ، ولو في الجملة ، في حد المجاز ، فيكون من ذلك مثال يَنْصَحُ ، وبه من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، بِهِ يَسْتَأْنِسُ ، ومن ينكر المجاز في الوحي واللسان ، فهو على أصل أول يستصحبه أبدا ، أَنَّ ذَلِكَ ، وإن خَالَفَ عن وضع المعجم الأول بما كان من جَمْعٍ بين مدلولين في دليل واحد ، أن ذلك مما تَدَاوَلَهُ الجمع المتكلِّم فَصَارَ من العرف المشتهر ، وهو حقيقة ، وَإِنْ عُرْفِيَّةً أَخَصَّ ، فَتَرْجُحُ الحقيقة الأولى التي يجردها اللسان ، ومنها حقائق في المعجم ، وأخرى في طرائق من الْبَيَانِ تَنْصَحُ ، كما تقدم من وضع الدليل الواحد من المنطوق لمدلول واحد من المعقول ، فَثَمَّ حقيقةُ عُرْفٍ أَخَصَّ ، وهي ما جَازَ من وضع الدليل الواحد من المنطوق لأكثر من مدلول من المعقول ، فَقُدِّمَتِ الحقيقةُ العرفية الأخص على الحقيقة اللسانية الأعم ، فالباب : تَرَاجُحٌ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ ، لا آخر بين حقيقة ومجاز ، فالكلام كله ، على هذا القول ، الكلام كله حقيقةٌ لا مجاز ، وإنما تغايرت طرائقه في البيان .

وَثَمَّ من العموم ما تَنَاوَلَهُ السياق من وجوه ، فَثَمَّ تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل "تَحْقِرَنَّ" ، فذلك نص في العموم ، وثم آخر أَقْيَسَ في باب العموم ، وهو النكرة "شَيْئًا" في سياق النهي وأداته "لَا" ، وثم ثالث يجري مجرى الخطاب لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، فَثَمَّ من النهي ما تَوَجَّهَ إلى واحدٍ في لفظِه ، وهو واحد غير معين ، فَثَمَّ عموم يصدق في كل مخاطب ، لقرينة العموم في خطاب التكليف ، وهي أصل في الباب يستصحب حتى يكون ثم من الدليل ما يُرَجِّحُ ضِدًّا يُخَصِّصُ العمومَ بِعَيْنِ السببِ أو بصورتِه ، وذلك مما خالف عن الأصل الأول الذي يُسْتَصْحَبُ ، ولو ظاهرًا يَرْجُحُ مع احتمالِ ضِدٍّ مرجوحٍ من المؤول ، فَثَمَّ من المخالف عن هذا الظاهر أَنْ يُقْصَرَ اللفظ على عَيْنِ السَّبَبِ ، فيكون من وقائع الأعيان ، ولا عمومَ لها كما قَرَّرَ أهل الشأن ، أو يقصر على صورة السبب ، وذلك نوع تخصيص ، والتخصيص ، لو تدبر الناظر ، تأويل يخالف عن الأصلِ المستصحَب في العام ، وهو جَرَيَانُهُ عَلَى عمومِه المستغرِق لآحادِه كَافَّةً ، حتى يكون ثم دليل يُرَجِّحُ ضِدًّا من التخصيص ، فلا يكون تحكما بلا دليل ، فَجَرَى ، من هذا الوجه ، مجرى التأويل فلا يكون تحكما بِلَا قَرِينَةٍ تَصْرِفُ ، وَمِنْهَا قَرِينَةُ الدليلِ المخصِّص للعام ، وإلا وجب استصحاب أول ، ولو ظَاهِرًا يَرْجُحُ ، وهو استغراق العام لآحاده في الخارج كَافَّةً ، فتلك الحقيقة في باب التكليف ، أن يكون عاما يستغرق آحاد الجمع المكلَّف جميعا ، وما غَايَرَ عنها فهو المجاز ، كما التخصيص بعين السبب ، واقعةَ عينٍ لا عموم لها ، أو التخصيص بصورته ، فَلَا يُصَارُ إِلَى المجاز تحكما بلا دليل صارف يَنْصَحُ ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما به مقال التاريخانية يُدْحَضُ إذ يَقْصِرُ المدلول الشرعي على أعيانِ مَنْ نَزَلَتْ فيهم النصوصُ ، مع غلو آخر في السبب ، أنه يَحْكِي استجابةَ السماء للأرض حتما ، فالأرض هي من يَضَعُ القانون والمعيار المشرِّع ، ويحد من ذلك كليات في الحسن القبح ، وما يكون من أمر ونهي ، وما السماء إلا صوت يصدق الأرض ! ، فالمبدأ من أدنى لا من أعلى ، وهو ما يواطئ مثالا آخر في التصور يجعل الجسد بما رُكِزَ فِيهِ من الحواس ، يجعله هو الأصل في حصول العلم ، فلا يجاوز مَدَارِكَ الشهادة ، فَمَا جاوز من الغيب فهو العدم ، وإن كان من الدليل آخر معتبر ، إن من الفطرة أو من الخبر ، فمن الفطرة حاجةُ ضرورةٍ تُلْجِئُ ، فهي تحكي أبدا رجوع المخلوق إلى خالق أول يقدر ويوجد ، وآخر يدبر ، فَثَمَّ ، كما يقول بعض من حقق ، ثَمَّ دليل من النفس يشهد من افتقار الإنسان في ذاته إلى مُدَبِّرٍ من أعلى ، وثم آخر من الخبر فهو يثبت من المدلول ما جاوز مدارك الحس من حقائق لا ينالها العقل إلا أن يكون ثم رَائِدٌ ينصح من الوحي المنزل ، فلا يكون نجم الرسالة المنزل استجابةً مطلقة لِمَا يحدث من السبب في الأرض ، بل ذلك لا يطرد في أَكْثَرِ النصوص ، فالجمهرة العظمى منها لم تَنْزِلْ عَلَى سَبَبٍ ، بادي الأمر ، وإنما نزلت لا عَلَى سَبَبٍ ، فَهِيَ تَسْتَأْنِفُ من الحكم ما لم تَسْتَدْعِهِ حاجة في الأرض أخص ، وإن كان ثَمَّ حَاجَةٌ أَعَمُّ لَا تَنْقَطِعُ ، حاجة الأرض إلى وحي السماء الذي يَنْزِلُ ، وهو من جملة أدلة يُورِدُهَا المحققِّون في باب النبوات ، فإن من أَدِلَّتِهَا ما يَرَى الناظر في أعصار وأمصار قد غربت فيها شمس الرسالة ، إذ تَضطَّرِبُ الحال ، ويفسد ناموس الكون ، ولا يفسد إلا أن يكون أول من فساد الناموس الديني والأخلاقي ، وهو ما استوجب المقوِّم لما اعْوَجَّ من فطرة الخلق ، فَلَيْسَ إلا الوحي الذي يصدق ما نصح من فطرة النفوس لدى المبدإ ، وَيُبِينُ عَمَّا أُجْمِلَ مِنْهَا ، وَيُقَوِّمُ مَا اعْوَجَّ بِمَا طرأ من الشرك ، القديم أو المحدَث بما كان من زينة في القول وزحرف فَهِيَ تكسو الشرك في كُلِّ جِيلٍ من لحاءِ الألفاظِ والحججِ ما يخدع ، فليست إلا شبهات يَسْتَبِينُ بطلانها إِذَا رُدَّتْ إِلَى محكمِ الوحي المنزل ، فتلك حاجة الضرورة إلى النبوة ، وهي ما لا يفتقر إلى آخر أخص ، أن تكون آحاد النجوم الرسالية كلها أَثَرًا لحاجةٍ في الأرض تطرأ ، فيكون من الوحي ما يجزئ في سدها ، فذلك مما ثبت في جملة من الأسباب الأخص ، أسباب النزول ، وإلا فجمهرة النصوص ، كما تقدم ، قد نَزَلَتْ لا عَلَى سَبَبٍ ، فكان من ذلك عموم يستغرق ، وهو ما يعدل في الدلالة العام الذي نَزَلَ على سبب ، وإن قُدِّمَ الأول الذي لم ينزل على سبب ، لاحتمال الثاني التخصيص ، ولو احتمالا مجردا لا يُعْتَبَرُ إِلَّا أَنْ يكون من دليل التخصيص ما يَشْهَدُ ، وإلا فالأصل المستصحَب ، كما تقدم ، هو العموم المستغرِق ، فلا يكون من تخصيص العام ، ولو بإخراج فرد واحد من أفراده ، لا يكون ذلك إلا بدليل يشهد ، فكيف بِقَصْرِ العامِّ على واحد بِعَيْنِهِ ، أو على صورة السبب ؟! ، فذلك مما افْتَقَرَ ، بداهة ، إلى دليل من خارج يُخَصِّصُ ، فلا يكون ذلك تحكما بلا دليل ، دعوى يُطْلِقُهَا المخصِّص فلا بَيِّنَةَ تَشْهَدُ ، فَتِلْكَ مَا يُجْزِئُ فِي رَدِّهَا أخرى تُضَاهِيهَا في القدر وتخالف عنها في الوصف ، فَتَنْفِي ما ادَّعَتِ الأولى ، ولا يَلْزَمُ النافي في هذه الحال دليل ، إذ لم يقم المثبِت ، بادي الرأي ، دليلا ، بل قد ادَّعَى ذلك الدعوى المجردة التي تخالف عن الأصل ، فالنافي لا يلزمه الدليل الناقض ، بل هو الجاري على الأصل الأول ، بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ من الدليل المخصِّص ، فهو يستصحب العدم الأصلي ، فلا يَلْزَمُهُ الدليل كما يلزم المثبِت ، فهو ناقل عن الأصل الأول ، فيلزمه الدليل ، من هذا الوجه ، فإن أقامه فمعه من زيادة العلم ما يوجب الانتقال عن الأصل الأول إلى قَوْلِهِ الذي صار أصلا ثَابِتًا يَنْسَخُ الأول ، فَثَمَّ أَصْلٌ جديد يُسْتَصْحَبُ ، فالنافي له في هذه الحال يَلْزَمُهُ أَنْ يُقِيمَ الدليل ، فلا يحتج بأنه قد استصحب الأصل ، فَمَا استصحبه من ذلك قد نسخه الأصل الجديد ، فَصَارَ هو صاحب الدعوى الناقلة عن الأصل ، فيلزمه الدليل الناقل من هذا الوجه ، وإلا اسْتُصْحِبَ الأصل الثاني .
والشاهد أن ثم عموما يستغرق ، فهو يجاوز عين السبب أو صورته أو الجيل الذي فيه قد نَزَلَ ، فَثَمَّ عموم في الأعيان ، وآخر في الزمان والمكان ، وذلك ما يَدْحَضُ مقال التاريخانية التي تحكمت في قصر الدليل على المدلول الأول ، فَلَيْسَ ثَمَّ عموم يجاوزه فيستغرق آحادا أخرى تُغَايِرُهُ ، إِنْ بِالنَّصِّ أو بما كان من قِيَاسٍ على السبب الأول ، فآل هذا القول أَنْ صَيَّرَ الشرعَ كلَّه وقائعَ عَيْنٍ ! فلا تجاوز المدلول الأول الذي فيه قد نَزَلَتْ ، أو الجيل الأول الذي لها قد شهد ، فَإِذِ انْقَرَضَ ، فَقَدْ نُسِخَ المدلولُ ، وإن بَقِيَتْ صورةُ الدليلِ نُطْقًا قَدْ جُرِّدَ من المعنى ، فصار الشاغر الذي يشغله كلُّ جيلٍ بما يواطئ الهوى والذوق ، فذلك التأويل الباطن الذي يتلاعب بما ثبت ضرورة من الدلالات ، وما استقر في الوجدان من العموم والإطلاق ..... إلخ من الأجناس الدلالية ، فيكون من ذلك إهدار لخاصة النطق أن يكون من المعاني جوامع تَسْتَغْرِقُ ، فَقَدْ قَصَرَهَا التأويل الباطن ، وَأَفْرَغَهَا من المدلول الناصح ، فَلَيْسَ إلا قوالب من النطق تَفْرَغُ بلا مَعَانٍ لَهَا تَشْغَلُ ، فَسَاغَ لِكُلِّ أَحَدٍ أن يتأولها فَيَشْغَلَهَا بما يواطئ هواه وذوقه .

فَثَمَّ العمومُ آنف الذكر ، عمومُ الخطابِ في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لَا تَحْقِرَنَّ" ، فَهُوَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وإن أُفْرِدَ ضميرُه لمخاطَبٍ واحد وهو المذكَّر ، إذ الضمير الذي اسْتَكَنَّ في العامل وجوبا هو ضمير المخاطب المذكر المفرد "أَنْتَ" ، وليس لتذكيره ، أيضا ، مفهوم يُخَالِفُ به تخرج الأنثى ، وإنما التغليب مدلول آخر يستصحب ، وإن خالف عن حقيقة النطق الأول ، فَثَمَّ من التغليب ما يُسْتَصْحَبُ لِقَرِينَةِ العموم في خطاب التكليف المنزَّل ، فالخطاب ، من هذا الوجه ، قد جاوز الذَّكَرَ إِلَى الْأُنْثَى ، الفرد إلى الجمع ، فَثَمَّ منه عموم لا أعم منه لِمَا تَقَدَّمَ من التغليب إلا أن يكون ثم دليل أخص ، فهو يشهد لِضِدٍّ من البقاء على أصل اللسان الأول ، أصل المفرد المذكر في النهي آنف الذكر ، وليس ثَمَّ قَرِينَةٌ تُخَصِّصُ ، لا بعين السبب ولا بصورته ولا بلفظ المذكر المفرد ، بل المعنى شاهد للأصل المستصحب من التغليب فذلك تكليف يستوي فيه الآحاد كافة .
وَثَمَّ من التوكيد بالنون المثقلة في : "لَا تَحْقِرَنَّ" ، ثَمَّ منه نَصٌّ في الباب ، وهو ، من وجه آخر أعم ، زيادةٌ في المبنى تحكي أخرى من المعنى ، ولها جرس في النطق بما يكون من تَضْعِيفٍ في الحد المسموع ، حد النون المثقلة ، فالدلالة الصوتية دلالة معتبرة في أداء المعنى ، فالمعاني اللطيفة يختار لها من الحرف ما له صوت رَقِيقٌ ، والمعاني الجليلة يختار لها من الحرف ما له صوت فخم ، فالصوت ، ولو مجرَّدًا في معجم الحرف المقطع ، الصوت ذو جرس في الأذن يمهد لمراد المتكلم الذي يحسن اختيار الأصوات والألفاظ ، فَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ ، فليس مقال الرجل في قومه وهو يخطب ، كمقاله مع أهل بَيْتِهِ وهو يَتَلَطَّفُ ، فيختار للأول من الجد ما يحفظ الهيبة ، ويختار للثاني من اللعب ما يزيد في الود والمحبة ، كما أثر عن عمر ، ، وهو يحكي حال الرجل الكامل ، فهو في بيته طفل يلعب ، وهو بَيْنَ الرجال سيد يَحْكُمُ .

فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أول في أداءِ المعنى ، إذ المبدأ في الكلام ، كما تَقَدَّمَ في موضع ، هو حرف المعجم المقطع ، فذلك صوت مجرد لا يفيد أي معنى ، ولو المفرد في دلالة المعجم الذي يجرد المطلقات في الذهن ، فَلَوْ قال قائل : آ ، فنطق بالألف دون مادة في المعجم تَرْفِدُ بآخر من الحرف نُطْقًا أو كَتْبًا ، فلم يصله بآخر من حروف المعجم ليكون من ذلك لفظ مركب من حروف ، فلو لم يكن ذلك ، فالحرف في نفسه لا يفيد أي معنى ، إلا أن يكون من ذلك كلمة ذات معنى ، فَثَمَّ من معيار الاعتلال في الألفاظ ما يُشْتَقُّ به الأمر من معتل الأول والآخر ، كما وَعَى وَوَقَى ، فالأمر منه : "عِ" و : "قِ" ، فذلك حرف في المعجم ولكنه ذو دلالة تكافئ معنى تاما يحسن السكوت عليه ، وهو الأمر الذي استكن فيه ضميره وجوبا ، على تقدير : عِ أنت ، فهو أمر لمخاطب مفرد أن يَعِيَ ويدرك ، وذلك استثناء من أصل قد تَقَدَّمَ ، أن الحرف المطلق في النطق والكتب لَا يُفِيدُ معنى ، ولو المفرَد في دلالة المعجم ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ تَالِيًا من الرافد ، وهو ما اتصل به من الحرف ، فَثَمَّ حروف تَتَّصِلُ في لفظ ، وهو أول في حصول الكلام ، وذلك ما استوجب عهدا أخص ، عهد الاستعمال في الدلالة ، فلا يكون من المهمل ، فَكُلُّ كَلِمَةٍ لَفْظٌ ولا عكس ، إذ الكلمة : لفظ ومعنى ، فلا يجزئ اللفظ المجرَّد في حصول الكلام ، فقد يكون من المهمَلِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ ، كما المثل يضرب لدى النحاة بديز مقلوب زيد ، فذلك لفظ لا كلمة إذ لا معنى يدل عليه بما استقر من عرف النطق المتداول ، ولو المعنى المجرد في المعجم ، فلا يكون اللفظ كلمة تفهم معنى أخص بما استقر في العرف ، لا يكون كذلك إلا أن يدل على معنى مخصوص ، فيكون من ذلك المجموع المركب من اللفظ والمعنى ، وذلك أول في الكلام المركب ، فَالْمَبْدَأُ : مفرداتٌ فِي النُّطْقِ يَنْتَظِمُهَا سِلْكُ النَّحْوِ ، فيكون من ذلك معنى أول ، وهو ما يَجْرِي مَجْرَى الحقيقة التي تُبَاشِرُ الذهن ، فَاسْتَوَى في دَرَكِهَا كُلُّ ذِي عَقْلٍ ، وثم أخرى أدق من معنى ثان يحصل بطرائق من البيان أخص ، وثم ، أيضا ، تَنْغِيمٌ يكسو الألفاظ لحاء لطيفا ، يُسْمَعُ وَلَا يُكْتَبُ ، وَثَمَّ من بِسَاطِ الحال ما به يُدْرِكُ الحاضر ما لا يُدْرِكُ الغائب ، فَلَيْسَ مَنْ شَهِدَ كَمَنْ سَمِعَ ، فَكَانَ للأوَّلِ من عقل المعنى زيادةٌ ، كما المثل يُضْرَبُ بِسَبَبِ النُّزُولِ وَسَبَب الورودِ في آي الوحي وخبره ، فإن صاحب القصة ، كما يقول أهل الشأن ، أعلم بمراد الخبر ، لَا جَرَمَ قُدِّمَ قَوْلُهُ حَالَ التَّعَارُضِ ، كَأَنْ يَسْتَفِيدَ من الأمر نَدْبًا ، وقد استفاد منه السامع أولا : الأمرَ بما اطرد من الدلالة القياسية في الأصول والبيان ، فاستفاد صاحب القصة من شهود الواقعة ، استفاد قرينة أَخَصَّ قد صَرَفَتِ اللفظ عن الإيجاب إلى الندب ، فالوحي قد جاء بِلِسَانِهِ ، وهو الأعلم بمدلولاته ، مع شهود الواقعة وهو ما أفاده دلالة أَخص ، فَعَقل من المعنى ما لم يعقل الغائب ، وإن بَلَغَ الغائبَ الخبرُ ، فَحَصَلَ لَهُ من ذلك دليل معتبر ، فَلَا يُقَدَّمُ على الشاهد حال التعارض وتعذر الجمع ، وإنما امتاز الشاهد بما حضر من الواقعة ، فهو من بَاشَرَ أسبابها ، وله من الدراية بدقائقها ما ليس لآخر لم يشهد ، ولو عَلِمَ وَسَمِعَ ، وحصل له من ذلك معنى معتبر ، فَهُوَ يَجْرِي مجرى الظاهر المتبادر الذي يستصحب رَاجِحًا حتى يكون من القرينة ما يُرَجِّحُ ضِدًّا يُخَالِفُ ، وهو المرجوح ، فلا يكون ذلك تحكما بلا دليل معتبر ، وهو ما عَمَّ النَّصَّ والعقلَ وبساط الحال ..... إلخ ، من القرائن المعتبرة ، وذلك ما يُوَاطِئُ حَدَّ التأويلِ في الاصطلاح المتأخر ، إذ يصرف اللفظ عن الظاهر الراجح إلى المؤول المرجوح لقرينة معتبرة ، سواء أكانت من المنقول أم من المعقول أم من المشهود بما يكون من بساط الحال ، ولكلِّ تأويلٍ من القرينة ما يُوَاطِئُ ، فالعدول عن الظاهر المتبادر في ألفاظ الإلهيات لا يكون إلا بدليل من السمع إذ العقل لا يستقل في ذلك باستدلال يجاوز حد الإثبات المجمل لواجب الوجود الأول ، فَالظَّاهِرُ فِي هَذَا الباب الجليل هو ما يَثْبُتُ حَالَ التَّجْرِيدِ ، تجريدِ المعنى في الذهن دُونَ نَظَرٍ فِي حقيقةٍ في الخارج تُدْرَكُ ، فَلَا يُجَرِّدُ النظر من الغضب مثالا ، لا يجرد منه ما يدرك في الخارج من غَضَبِ الإنسان الذي يحمر فيه الوجه وَيَنْتَفِخُ فيه العرق ويضطرب به العضو ويعلو الصوت وَيَتَسَارَعُ اللفظ ...... إلخ ، فليس ذلك الغضب الذي يجرده الذهن ، بل هو المقيد في الخارج بِغَضَبِ المخلوقِ الحادث ، فَلَا يُقَاسُ عليه ، بداهةً ، غضب الخالق ، جل وعلا ، فذلك من قياس الغائب على الشاهد ، فلا يحكم الناظر على شيء ، وهو أولا لم يتصور ، إذ الحكم على الشيء فَرْعٌ عن التصور ، فامتنع في باب الإلهيات : القياس الذي يتناول الحقائق المقيدة في الخارج ، إذ الكلام في الوصف فرع عن الكلام في الموصوف ، فإذ جُهِلَ الموصوف ، لا أنه المعدوم ، وإنما جاوزت حقيقته العليا الفهوم ، فلا تحده العقول ، فَإِذْ جُهِلَ الموصوف وهو الموجود وإن المغيَّبَ غير المشهود ، فَإِذْ جُهِلَ الموصوف ، فلا يجاوز العقل الحد فيخوض في الوصف الذي يقوم به ، إذ قد جَهِلَ الذات ، فكيف يُدْرِكُ وَصْفَهَا في الخارج ، فَثَمَّ قدر فارق ضرورةً ، ولو مَازَ مخلوقا من آخر ، فكيف إن كان طَرَفَا القسمةِ : الخالق ، جل وعلا ، في حَدٍّ ، والمخلوق الحادث في آخر ، إذن لَثَبَتَ القدر الفارق من باب أولى ، فلا بد من هذا القدرِ الفارقِ فِي الذوات المقيدة في الخارج ، فَمَنْ نَفَاهُ ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، فقد وَقَعَ في التمثيل ، أَنْ قَاسَ حقيقةَ الخالقِ ، جل وعلا ، على حقيقة المخلوق ، فكان من ذلك غلو وجفاء ، غلو في المخلوق ، وجفاء في الخالق ، جل وعلا ، وهو مما يَتَلَازَمُ في الدلالة ، وتلك مادة الشرك التي اطردت في الأديان المبدلة والمذاهب المحدثة كَافَّةً ، وهو ما يَرْفِدُ مقالات أرضية محدثة قد غلت في الإنسان فَصَيَّرَتْهُ المركز الذي يعالج الوجود بحواسه الظاهرة ، فَتَحَكَّمَتِ الحداثةُ في حد الأدلة أن قصرتها على الدليل المشهود في الخارج الذي يعالجه الحس الظاهر ، فهو مما يحد ويقاس بالآلة ، فَمَا جَاوَزَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وإن كان له وجود في نَفْسِ الأمرِ ، وهو ما استوجب القول بالاتحاد والوحدة ، أن حَلَّ المطلق الأول فِي هذا الوجودِ المخلوقِ المحدَثِ ، وهو مَا سَرَى إلى الحقيقة الإنسانية فهي الروح والجسد ، فَاتَّحَدَا فِي واحدٍ ، وهو الجسد ، فذلك المرجع الذي لا يجاوز من خارج الأرض ، فَقِصَّةُ الخلقِ من الأرض تَثْبُتُ ، لا من السماء تَنْزِلُ ، وتلك مقابلة لا يَتَّفِقُ طَرَفَاهَا ولا يَلْتَقِيَانِ ، فَثَمَّ تَعَارُضٌ فِي المرجعِ ، مرجعِ التصور والحكم ، فلم يكن من قصة الأرض إلا ما يُدْرَكُ بالحسِّ ، فتلك قصة الجسد لا الروح ، فالمادة هي الأصل ، وليس ثم من الفكرة ما يَقْرِنُ ، فقد اتحدت الفكرة بالمادة ، فصارت المادة هي الحقيقة الثابتة في نَفْسِ الأمرِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ ما يجاوزها مما لا يدرك بالحس ، وإن كانت آثاره تدرك بالحس بما يكون من حركة البدن ، فهي تأويل لقوى في الأعضاء تَثْبُتُ ، فإذا فَارَقَتْهَا الروح بما يكون من نَوْمٍ أو موتٍ ، فاتصال الروح يَضْعُفُ بالنوم ، وينقطع بالموت ، فتسكن الأركان بل وتفسد ، فمادة صلاحها مَا يَعْمُرُهَا من روحٍ تَلْطُفُ ، وهي مِمَّا لا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن كانت آثاره في الخارج تُدْرَكُ ، فَثَمَّ التسلسل في المؤثرين ، فلا بد من سبب به حركة الأعضاء تَثْبُتُ ، وذلك ما يجاوز المحسوس من الأسباب المشهودة إلى المغيَّب من أسباب لا تدرك بالحس ، وإنكارها جحود يخالف عن بدائه النظر المصرح ، فإن لكل أَثَرٍ في الخارج سَبَبٌ يُؤَثِّرُ ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ ، فإذا بَلَغَ حَدَّ الشهادةِ ، فهو لا محالة يجاوزها إلى الغيب ، ولو المجملَ ، فلا يدرك ما وراء الشهادة من الأسباب المغيَّبَةِ ، وهو ، مع ذلك ، يُثْبِتُهَا ضرورةً لئلا يُلْزَمَ بما يخالف عن البدائه ، أَنَّ ثم محدَثا في الخارج لا محدِث له يَتَقَدَّمُ ، فذلك مما يمتنع في بَدَائِهِ العقل ، بل قد يكون السبب الذي يَتَقَدَّمَ ، ويكون ، مع ذلك ، من الغيب فلا يشهد ، وليس عدمُ شهودِه بالحس دليلَ العدم في نفس الأمر ، بل قد يوجد ويكون المغيَّبَ ، فلا يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، وإن المغيَّب النِّسْبِيَّ لا المطلَق ، فلم يكن جهل المستدل به ، أو عجزه أَنْ يُطِيقَهُ فهو مما يجاوز مداركه ، لم يكن ذلك الجهلُ أو العجزُ دليلا على العدم ، فمن يعلم ويقدر فهو حجة على من لا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ ، فَثَمَّ ضرورةٌ في العقل تُلْجِئُ أَنَّ الحادِثَ لا بد له من محدِث أول يَتَقَدَّمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ فَيُجَاوِزُ الشهادةَ إلى الغيبِ ، ولا بد من أول في الباب لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فإليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، فذلك الخالق الذي يُقَدِّرُ بالعلم الأول المحيط ، وكل أولئك من الغيب اللطيف الذي لَا يَتَنَاوَلُهُ الحس ، ولا يدركه العقل ، إلا إدراك الجملة الذي يفتقر إلى بَيَانٍ يُفَصِّلُ ، فلا يطيق في ذلك إلا التجويز العقلي المحض ، فلا بد من مرجِعٍ من خارج العقل يَفْصِلُ ، فهو يُبِينُ عَمَّا أُجْمِلَ منه ، فآل الأمر إلى حقائق من الوحي تلطف ، ولا بد لها من محل يواطئ ، فهو يقبل آثارها التي تغيب فلا تدرك بالحس ، فلا يجاوز في الإدراك ما يُشْهَدُ ، فَمَا غَابَ فَهُوَ يَفْتَقِرُ إلى مرجعٍ من خارجٍ يجاوز الشهادةَ إلى الغيبِ ، وله من المحل ما يُوَاطِئُ ، فَذَلِكَ الروح اللطيف الذي يُغَايِرُ الجسدَ الكثيف في الحقيقة والماهية ، ولكلٍّ من المدرَكَاتِ ما يواطئ ماهيته في الخارج ، فالجسد لا يطيق ما جاوز مداركه من خبر الغيب الذي يَقُصُّ من خبر الخلق الأول ما لا يدرك بالحسِّ المحدَث ، ولا العقل يُطِيقُهُ ، وَإِنْ أَدْرَكَ منه المجملَ من مقدماتِ الضرورةِ أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث يَتَقَدَّمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فذلك واجب الوجود الأول ، وكذا الفطرة تُدْرِكُ من ذلك ما يَنْصَحُ ، فالإيمان بوجود الخالق الأول ، جل وعلا ، مِمَّا ركز في الوجدان الناصح ، فلا ينكره إلا جاحد أو مسفسِط ، فَتِلْكَ فطرة أولى يُقَامُ لها الوجه توحيدا ، فيكون من ذلك تأويل في الخارج ينصح لما كان من فطرة أولى في الوجدان تَثْبُتُ ، فذلك مما رُكِزَ في النَّفْسِ إلا أن يكون ثم من المبدِّل المحرِّف ما يُفْسِدُ ، فذلك ناقل عن أصل أول ، ولا يكون ذلك إلا بسبب من خارج يُؤَثِّرُ ، فيكون من ذلك وَارِدٌ يُفْسِدُ بما يطرأ من الشرك والمحدثات التي تَنَالُ من حقيقة التوحيد ، فـ : "«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»" ، فإذا حُرِفَتِ الفطرة عن جادة التوحيد الأولى فهي تَطْلُبُ مِنَ السَّبَبِ مَا يُقَوِّمُ ، فَيَرُدُّهَا إلى الجادة المحكمة ، وَبِذَا جاءت النبوات ، فقد جاءت بما يُكْمِلُ الفطرة ، فهو يُصَدِّقُهَا ، بادي الرأي ، فالوحي دليلٌ يُوَاطِئُ كُلَّ دَلِيلٍ معتبر ، فهو يُصَدِّقُ الحس الذي يَتَأَمَّلُ في آيٍ من الخلق المحكم ، إن الآفاق أو الأنفس ، وَيُصَدِّقُ مَا رُكِزَ في الفطرة من وجدان التوحيد ضرورةً لَا تَفْتَقِرُ إلى نَظَرٍ ، وإنما النظر يجب في حق من شك أو جحد ، فيخاطب بالحجة الرسالية المحكمة التي تدحض مقال الجاحد وتهدي المرتاب الحائر ، فذلك تصديقُ مَا أُجْمِلَ من قوى الاستدلال المعتبرة ، إِنِ الحسَّ أو الفطرةَ أو العقلَ ، وَثَمَّ من بَيَانٍ يُفَصِّلُ ، وهو ما لا يدرك بالعقل ولا يُطِيقُهُ الحس ، وثم ثالث وهو ما يُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ بما كان من شرك وجحود ، فهو المحدَث في الجنانِ بعد أن لم يكن ، بل الكائن الأول : وجدان التوحيد المحكم ، فذلك الأصل الذي كان الناس عليه أمة واحدة تَنْصَحُ حَتَّى كان من الشرك ما يَحْرِفُ ، فـ : (مَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) ، وذلك ما حُدَّ حَدَّ القصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، وثم من الكينونة الماضية حكايةُ ديمومة واستمرار ، فتلك حال قد اتَّصَلَ زَمَانُهَا ، فَاسْتُصْحِبَتْ حتى كان الدليل الناقل الذي به الاختلاف يَثْبُتُ بما كان من شِرْكٍ يطرأ ، وهو ما استوجب أمرا يَرُدُّ المكلَّف إلى الجادة ، وهو ما احتمل التأسيس ، من وجه ، والتوكيد من آخر ، فـ : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، فذلك الأمر الذي يحكي أولا من المدلول ، وهو الإيجاب الذي يُلْزِمُ ، فالأمر نص في الإيجاب ، أو هو ظاهر إذ يحتمل غَيْرًا ، ولو مرجوحًا لا يَتَبَادَرُ ، كما الندب والإرشاد والإباحة ..... إلخ ، وفي كِلْتَا الحالينِ فالإيجابُ يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يكون من الدليل ما يَصْرِفُ ، وليس ثم في هذا السياق ما يَصْرِفُ ، بل الأمر بالتوحيد ، بداهة ، أَوَّلُ واجبٍ على العبيدِ ، فالسياق يَرْفِدُ الدلالة النصية أو الظاهرة للأمر ، على التفصيل آنف الذكر ، فهو نص في الإيجاب ، وهو ما احتمل ، كما تقدم ، التأسيس ، وذلك ما يَنْصَرِفُ إلى الجاحد الذي لا يؤمن ، أو التوكيد ، وذلك ما يَنْصَرِفُ إلى المؤمن الذي يُقِرُّ أَنْ يَثْبُتَ وَيَسْتَمِرَّ ، وكلا الوجهين ينصح ، فلا حاجة إلى الترجيح ، كما قال من قال : إن الكلام إذا دَارَ بَيْنَ التَّأْسِيسِ والتوكيدِ ، فحملانه على التأسيس أولى ، وذلك إنما يَلْجَأُ الناظر إليه ، إذا كان ثَمَّ تَعَارُضٌ ، وَتَعَذَّرَ الجمعُ بين المتعارِضَاتِ ، فإذا جاز الجمع الناصح فلا تكلف يظهر ، فَالْأَوْلَى المصيرُ إليه في التأويل أَنْ يُرَدُّ الواحد من الدليل إلى اثنين في الدلالة ، فكلاهما يصح ، والجمع بَيْنَهُمَا زيادة في الخير ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فذلك لفظ واحد ، وله من المدلول ما جاوز ، وَإِنْ فِي سِيَاقٍ واحدٍ ، فَلَا تَعَارُضَ إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، كما يقول أهل الشأن ، فَثَمَّ من الدليل واحد ، وله في الخارج من المدلول اثْنَانِ ، وَكَذَا يُقَالُ فِي المأمورِ ، وهو ما استكن ضميره إيجابا في العامل "أَقِمْ" ، فذلك فاعل المبنى ، وإن كان المفعول في المعنى ، فهو المأمور أَنْ يُقِيمَ وجهَه ، فَثَمَّ مرجع الضمير الذي ينصرف إلى المخاطَب ، فتقديره في اللفظ "أَنْتَ" الذي يَحْكِي المخاطب المفرَد المذكَّر ، وهو ما خوطب به أَوَّلٌ في المواجهة وهو صاحب الشريعة الناصحة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو أول مخاطب بالوحي ، وأول مكلَّف بالأمر والنهي ، ومنه الأمر محل الشاهد في الآية أَنْ "أَقِمْ" ، والخطاب في حقه يحتمل ، فقد يكون التأسيس بالنظر في حَالِهِ قَبْلَ الوحيِ ، فـ : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) ، وذلك مما عَظُمَتْ به المنة ، لا جرم حَسُنَ الإسناد إلى ضمير الجمع في "أَوْحَيْنَا" ، فتلك حكايةُ الجمعِ لَا في الذوات ، فليس ثم إلا واحد في ذاته أَحَدٌ في صفاته ، وهو الله ، جل وعلا ، وإنما الجمع يَتَنَاوَلُ الصفاتِ ، ومنها صفات الفعل ، ومنها الوحي محل الشاهد ، وذلك مما قَدُمَ نَوْعُهُ فِي الأزل ، فذلك من العلم المحيط المستغرق ، إذ منه علم التشريع الذي يخبر بالصدق ويحكم بالعدل ، وتلك مادة إخبار وإنشاء قد غَايَرَ الوحي بَيْنَهُمَا في الذِّكْرَى ، وبهما خطاب النفس ، فتارة يحسن الخبر الذي يَصْدُقُ ، وأخرى يحسن الإنشاء الذي يَعْدِلُ ، والنفس لها أحوال وأغيار ، فَلَيْسَ يُوَاطِئُهَا جنس واحد من الخطاب ، بل لكلِّ مقامٍ مقالٌ ، وكان من الاستعارة في مواضع ما يحسن ، إذ استعير الخبر للإنشاء في مواضع ، وبه تَقْرِيرٌ وَتَوْكِيدٌ ، كما في آي من الذكر الحكيم تحكي من الحكومات ما يجب ، فَثَمَّ تَوْكِيدٌ أَنْ تُورَدَ مَوْرِدَ الخبر ، كما في قوله : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، فتقدير الكلام : لِتَتَرَبَّصِ المطلقاتُ بأنفسهن ثلاثة قروء ، أو : تَرَبَّصْنَ أَيَّتُهَا المطلقاتِ بأنفسكن ثلاثة قروء ، فذلك الخبر الذي يحكي الإنشاء الآمر ، وهو ما انصرف إلى الإيجاب ، وذلك الأصل ، كما تقدم ، وَقَدْ زَادَهُ فِي الدلالةِ أن حُدَّ حَدَّ الخبر ، وكل أولئك مما يَدْخُلُ في حَدِّ الوحي آنف الذكر ، إذ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ الخبر والإنشاء ، وهو ، من آخر ، بين جلال العزيمة وجمال الرخصة ، ولا يخلو كُلٌّ من علم وحكمة ورحمة ..... إلخ ، فكان من الصفات التي تَكْثُرُ ، وبها الثَّنَاءُ عَلَى الرب المهيمن ، جل وعلا ، يَعْظُمُ ، كان من ذلك ما حَسُنَ لأجلِه الإسناد إلى ضمير الجمع في "أَوْحَيْنَا" ، وثم من روح الوحي ما ابْتُدِئَتْ غايته من الأمر في قوله : (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) ، وهو ما جَاوَزَ المتبادر من الأمر فِي اصطلاحِ الأصولِ الَّذِي يُقَابِلُ النَّهْيَ ، بل ذلك أَمْرٌ من الوحي قد عَمَّ فاستغرق الخبر والحكم ، فهو مفرد الأوامر لا الأمور ، ولا تخلو "مِنْ" أن تحكي ، أيضا ، بَيَانَ الجنس ، جنس المدخول من الأمر ، وثم آخر ثالث وذلك التبعيض ، فإن ما نَزَلَ من الوحي الخاتم بَعْضٌ مِنْ كلم الرَّبِّ الخالق ، جل وعلا ، إذ من كلامه : تكوين وتشريع ، فحصل من ذلك ، أيضا ، شاهد به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ العمومَ في دلالة اللفظ المشترك ، فَحَدُّ "مِنْ" في النطق وَاحِدٌ ، وهو مَا ائْتَلَفَ من حَرْفَيْنِ من حروفِ المعجَمِ ، الميم والنون ، وله من المدلول ما تَغَايَرَ ، فَمِنْهُ بَيَانُ الجنسِ ، ومنه ابتداء الغاية ، ومنه التبعيض ، على التفصيل آنف الذكر ، فالوحي بَعْضُ الأمرِ ، وذلك ، كما تقدم ، ما جاوز الأمر المعهود في اصطلاح الأصول ، فَثَمَّ من الأمر ما عَمَّ فَجَاوَزَ ، فَهُوَ يستغرق الأمر والنهي ، الخبر والحكم ، وذلك ما أُضِيفَ إلى ضمير الجمع في "أَمْرِنَا" حكايةً أخرى تَعْظُمُ ، ولا تخلو من دلالةِ عمومٍ آحادُه في الخارج تَكْثُرُ ، إذ قوتها في المدلول تَعْدِلُ قوة : أوامرنا ، فَثَمَّ من أوامر الوحي ما به الشرع يَأْمُرُ وَيَنْهَى ، فَذَلِكَ الروح الذي أوحى به الرب ، جل وعلا ، إلى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَحُكِيَ روحًا في لفظه ، إذ به الروح تَنْصَحُ بما يُصَحِّحُ قوى العلم والإرادة ، فيكون من التصور ما يَصْدُقُ ومن الحكم ما يَعْدِلُ ، فإطلاق الروح من هذا الوجه يجري مجرى المسبَّب الذي يدل على السبب ، وهو الوحي الذي يُعَالِجُ الروح فَتَحْيَى ، فأطلقها في اللفظ وَأَرَادَ السبب الذي به حياتها ، وهو الوحي المنزل ، فهو روح النفوس الذي به تحيى ، فالوحي مادة حياة للروح ، كما أن الروح مادة حياة للبدن ، أو الوحي من الأديان كما الروح من الأبدان ، فالوحي سبب به تصح الأديان ، كما أن الروح سبب به تحفظ الأبدان ، فَشُبِّهَ روح الوحي وهو غير مخلوق ، فذلك من الكلام الإلهي ، وهو من وصف الرب العلي ، عَزَّ وَجَلَّ ، شُبِّهَ هذا الروح غير المخلوق من كلمات الشرع المنزل ، شُبِّهَ بروح آخر مخلوق ، وإن لطيفا لا يدرك بالحس ، فلا يجد الناظر إلا آثاره في الجسد بما يكون من صلاح وحفظ ، وحركة وحس ، وهو المخلوق بما كان من كلمات تكوين تَنْفُذُ ، وهي ، أيضا ، من السماء تَنْزِلُ ، فالملَك يَنْزِلُ بالأمر ، إِنْ أَمْرَ التكوينِ النافذ وبه استصلاح الأبدان ، أو أَمْرَ التشريعِ الحاكم وبه استصلاح الأديان .
وثم أخرى استعير بها روح الحس ، وله من المعنى ما هو أعم ، فَثَمَّ ريح هي روح من الرحمن ، جل وعلا ، حكايةَ سعةٍ وَشَرْحٍ ، وذلك المحسوس الذي استعير لمعقول به تُشْرَحُ الصدور وَتُفْسَحُ ، كما اللحم يُشْرَحُ ، فيكون من ذلك ما به الماهية تَنْتَشِرُ فهي تُبْسَطُ فِي الطَّبَقِ أو الصحفةِ ، إذ تَصِيرُ على شَرَائِحَ ، فاستعير المحسوس لمعقول به تُشْرَحُ وَتُفْسَحُ ، فيكون من ذلك مادة بها النفس تَسْعَدُ في الأولى وَتَنْجُو الآخرة ، وذلك مراد العقلاء كافة ، وهو ما توجه به الخطاب لدى المبدإ إلى صاحب الشرع المنزَّل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من ذلك الأمر آنف الذكر أن : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) ، وهو مَا خُوطِبَ به صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فاحتمل التأسيس من وجه ، وهو ما يَنْصَرِفُ إِلَى حاله ، بَادِيَ الأمر ، قبل أن يكون ثم من الوحي ما يَنْزِلُ ، فكان الأمر بإقامة الوجه تَوْحِيدًا يَنْصَحُ ، فذلك أول واجب على العبيد يَتَوَجَّهُ ، فَتَوَجَّهَ الأمر أولا إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ هو أول مخاطَب بالوحيِ ، أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، ثُمَّ يُبَلِّغَ وَيُبَيِّنَ ، ووصفه في الكتاب الأول أنه الذي : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، وذلك ما تفاوت ، إِذِ الأصلُ في الأشياء الإباحة ، فَقُدِّمَتِ الطَّيِّبَاتُ وهي المجموع الغالب ، فالأصل في الأشياء أنها طَيِّبَةٌ مباحة حتى يكون ثم دليل ناقل عن الأصل ، فيكون من ذلك الاستثناء ، وهو قليل أو نادر ، فَلَا يُصَارُ إليه ، بادي الرأي ، وإلا كان التحكم الذي يَتَنَطَّعُ صاحبه وَيَتَكَلَّفُ فيتوقف في موضع لا يحسن فيه التَّوَقُّفُ ، بل الأصل أن يمضي فلا يسأل ، فالمباح أصل في الأشياء كافة ، وذلك كثير غالب ، فلا يصار إلى قليل أو نادر ، لا يصار إليه إلا بدليل ناقل ، وإن خالف عن الأصل ، فيكون من ذلك مثال تأويل في اصطلاح المتأخرين ، فهو العدول عن الظاهر الراجح إلى المؤول المرجوح لقرينةٍ صارفةٍ من خارج ، وهو الدليل الناقل ، فلا يكون الانتقال تحكما بلا دَلِيلٍ يَنْقِلُ ، بل ثم دعوى يُخَالِفُ صاحبُها عن الأصل ، فهي مما لا يقبل حال إطلاقه ، بل لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ مِنَ القرينةِ ما يرجح ، فَتِلْكَ الْبَيِّنَةُ التي تَشْهَدُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، فيكون من الدعوى ما يَتَحَكَّمُ صَاحِبُهُ إذ يطلقها بِلَا دَلِيلٍ ، بل وَيُصَيِّرُهَا هي الدليل ، فيكون الفساد في الاستدلال أن جعل الدليل هو صورة الخلاف ، وهي محِلُّ الخصومة فكيف تكون هي دليل الحكومة ؟! ، فَيُسْتَدَلُّ على الشيء بِنَفْسِهِ ، ويكون الدليل إطلاقا يجزئ في رَدِّهِ آخر يضاهيه دون تَكَلُّفٍ دليلٍ يزيد ، فإن من أطلق الدعوى بلا دليل فلا يَلْزَمُ الخصم أن يقيم دليلا ينقضها ، بل يجزئه أن يقيم أخرى على ضِدٍّ ، ولو لم يكن ثم دليل هو في مَحِلِّ النِّزَاعِ النَّصُّ ، فذلك إنما يلزم الخصم إذا كان صاحب الدعوى قَدْ شَفَعَهَا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ ، فإن لم يكن ثَمَّ بَيِّنَةٌ ، فَيُجْزِئُ في رَدِّهَا أخرى على ضد وهي تضاهيها في القدر ، فَثَمَّ أصل يستصحب وهو الإباحة ، وذلك كَثِيرٌ غالب حَتَّى يَرِدَ الدليل الناقل .
فَعَظُمَتِ المنة الربانية أَنْ كَانَ الأصل في الأشياء الإباحة حتى يَرِدَ الدليل الناقل ، وَقُدِّمَتِ الطيبات في قوله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، فهي ، كما تقدم ، الأصل ، إلا ما اسْتُثْنِيَ من أعيان قد عَظُمَتِ الْبَلْوَى بحرمتِها ، كما الذبائح والفروج ، فالأصل فيها التحريم حتى يكون ثم دليل يبيح من الكلمة التي يستباح بها اللحم ، وأخرى يستحل بها الفرج ، فَثَمَّ أصل هو الإباحة والطهارة ، طهارة الأعيان وإباحة الأشياء ، وذلك أَعَمُّ إذ يَتَنَاوَلُ الأعيان وما يقوم بها من الأعراض ، فالإباحة تَتَنَاوَلُ الشيءَ ، وهو ما له ذات في الخارج تُدْرَكُ بالحسِّ ، وَتَتَنَاوَلُ آخر وهو الأقوال والأفعال ، فالأصل فيها أنها عادات وأعراف تعتبر حتى يكون ثم دليل ناقل فهو يصف العرف أنه فاسد ، فكل مَا فَسَدَ من العرف والعادة فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ إذ خالف عن محكم الوحي ، فالأصل في الأقوال والأفعال أنها المباحة ، إلا أن يكون من ذلك ما فَسَدَ من فاحشِ قولٍ أو فعلٍ ، أو آخر مداره التَّوْقِيفُ ، كما العبادات ، فالأصل فيها التحريم ، فَلَا تُشْرَعُ عبادة إلا بدليل من الوحي ، إذ الأصل في الشرعة : بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، حتى تُشْغَلَ بتكليف من قول أو عمل ، ولا تُشْغَلُ بشيء من ذلك إلا بدليل من الشرع النَّازِلِ ، فالأصل في الأشياء الإباحة ، والأصل في الأعيان الطهارة ، وهو ، أيضا ، ما استوجب تَخْصِيصًا يَلْطُفُ ، إذ ليس كل طاهر مباحا ، ولا عكس ، فالمباح أَبَدًا طَاهِرٌ ، والطاهر قد يحرم ، كما الأم والبنت والأخت ، فأعيانها طاهرة ونكاحها يحرم ، فالتحريم يَتَنَاوَلُ فِعْلًا أَخَصَّ ، لا الذات أو العين ، فلا تحرم عَيْنُ الْأُمِّ أَنْ يُبَاشِرَهَا الابن بِيَدِهِ سَلَامًا أَوْ تَرَفُّقًا أَوْ مُنَاوَلَةً ...... إلخ ، وإنما حَرُمَ فِعْلٌ أخص وهو النكاح أو ما يُضَاهِي من مباشرَةٍ أو لمسٍ بشهوة أو نَظَرٍ إلى ما يحرم ..... إلخ ، وكذا من الطاهر ما تحرم مباشرته كما الحشيشة ، فهي ، كما يقول أهل الشأن ، طاهرة بالإجماع وتعاطيها مما يحرم إذ تُسْكِرُ العقل وَتُذْهِبُ ، فكان من ذلك ما يصدق فيه شطر ثان من القسمة في الآية : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، وهو تحريم الخبائث ، وإن كان منها بعضٌ أعيانه تطهر ، وهي ، مع ذلك ، تحرم ، إذ الحكم يُنَاطُ بِوَجْهٍ من وجوهِ الفعلِ والمباشرةِ .
فَثَمَّ قسمة قد استغرقت أجزائها في الخارج ، التحليل والتحريم ، وهو ما استوفى وجوهَ الاحتمال على حد المقابلة بَيْنَ شَطْرَيْنِ ، وكلٌّ : "يُحِلُّ" و "يُحَرِّمُ" ، كُلٌّ قَدْ حُدَّ مضارعةً بها استحضار الصورة ، من وجه ، وديمومة واتصال في الحكم ، من آخر ، وهو ما أُسْنِدَ إلى ضمير الغائب ، ومرجعه صاحب الشرع الحاكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو الذي يُحِلُّ وَيُحَرِّمُ ، لا أنه يستقل بالتشريع المحكَّم ، وإنما هو الذي يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ ، فَصَحَّ كلا الإسنادين : الإسناد إلى الله ، جل وعلا ، وهو صاحب الشريعة إنشاءً ، إذ عنه تصدر صدور الوصف عن الموصوف ، أو الفعل عن الفاعل ، فالشرع من كلامه ، وكلامه من وصف فِعْلِهِ الذي قَدُمَ نوعُه في الأزل ، وكان من آحاد منه في الخارج ما حَدَثَ ، وهو ما يُرَدُّ إلى علم أول في الأزل ، فذلك التقدير الذي استغرق ، التكوين والتشريع كَافَّةً ، وثم آخر من الإسناد ، وهو الإسناد إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المبلِّغ والمبيِّن ، فلا تعارض إذ الجهة قَدِ انْفَكَّتْ ، وكذا يُقَالُ فِي نِسْبَةِ القولِ إلى الله ، جل وعلا ، فالكتابُ العزيزُ كلامُه ، والوحي المشرِّع من علمه المحيط المستغرِق .
ونسبته ، من وجه آخر ، إلى روح القدس ، عليه السلام ، كما في آي من الذكر المحكم : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ، تلك النسبة : نسبةُ بلاغٍ وَبَيَانٍ أول ، بلاغِ الرسولِ الملَكِيِّ الذي تحمله عن الرَّبِّ العليِّ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَنَزَلَ به عَلَى قَلْبِ الرَّسُولِ البشري صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ونسبته ، من وجه ثالث ، إلى الرسول البشري فهو صاحب الشرع المحكم الذي يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ لجمعٍ من البشر يكثر ، قد خوطب في مواضع من التنزيل المحكم خطابا ذات مستويات في الدلالة ، كما خطاب الجمع الأول الذي خوطب مواجهة في آي من قبيل قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، فدلالة الضمير في "لَكُمْ" ، تلك الدلالة بالنظر في وضع اللسان الأول ، تلك الدلالة : دلالة الجمع المخاطب ، وهو ما انصرف ، بادي النظر ، إلى جمع أخص ، وهو الجمع المواجَه بالخطاب الأول ، فذلك الجمع الشاهد الذي حضر التَّنَزُّلَ عصرَ الرسالة الأول ، وذلك طباق أول في إسناد الراوية الدينية المحكمة ، وثم تال يجاوز ، فهو يجري ، من وجه آخر ، مجرى الخطاب لجمع غير معين ، وهو ما يجاوز الجمع الأول إذ يصدق في كل جمع تال ، فيكون من ذلك طباق إسناد أول ، وهو أصل في باب الرِّوَايَةِ ، وعنه نَقْلُ الوحيِ كله ، آيِه وخبرِه ، فكان من ذلك متواتر من آي الذكر المعجِز ، وآخر من الخبَرِ ، وَمُتَوَاتِرُهُ أَقَلُّ ، وكان من آحاده ، في المقابل ، جمهرةٌ عظمى من نصوص الوحي ، إِنْ خَبَرًا أو إِنْشَاءً ، وهو الحجة إذا صَحَّ ، فذلك الظاهر المستصحب حتى يكون من الدليل ما يُرَجِّحُ ضِدًّا من المؤَوَّلِ ، فَاسْتُصْحِبَ أول في باب الرواية ، وهو الاحتياط لأمر الديانة ، أَنْ يَتَوَقَّفَ الناظر لدى كلِّ خبرٍ حتى يَسْبُرَ ويَسْتَقْرِئَ شروط الصحة التي تَنَاوَلَهَا الحدُّ ، حَدُّ الصحيحِ عند أهل الرواية ، وهم العمدة في الباب إذ تِلْكَ صِنَاعَتُهُمْ ، فَيَتَوَقَّفُ الناظر ثم يَشْرَعُ فِي السَّبْرِ حَتَّى يميز الصحيح من ضِدٍّ ، فإذا استوفى الخبرُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا ، إذا استوفى شروط الصحة فهو يجزئ في الاحتجاج ، إِنْ في العلمِ أو فِي العمل ، وإن لم يكن من الجزم ما يقطع ، بل ثم ظن يَرْجُحُ ، فهو يحتمل ضِدًّا ، وإن المرجوحَ الذي لا يظهر ، بادي النظر ، حتى يكون ثم دليل يُرَجِّحُ ضدا من الخطإ ، فيكون ثم من الانقطاع في الإسناد ما يخفى ، أو من عدالة الراوي ما يُسْتَدْرَكُ ، فَقَدْ طرأ عليها ما يَقْدَحُ ، وإن كان الْعَدْلَ لَدَى المبدإِ ، أو كان ثم اختلاط أو تَغَيُّرٌ ، فذلك مما يقدح في الضبط ، وإن كان صاحبه الْعَدْلُ ، أو كان ثم شذوذ يَثْبُتُ بما يكون من جَمْعِ طرقٍ بها يستبين الخطأ ، أو آخر من النَّكَارَةِ وهو قسيم الشذوذ في الاصطلاح المتأخر ، خلافا لأول قد سَوَّى بَيْنَهُمَا فَفِي كُلٍّ من المخالفة ما لا يُغْتَفَرُ ، وإن كانت مخالفة الضعيف أشد ، لا جرم اختصت بوصف المنكر ، خلاف أخرى تكون من الثقة لجمع هو الأوثق ، فاختصت بوصف الشذوذ ، وهو ما البحث فيه أدق ، إذ قد يكون ثِقَةٌ واحد يخالف ، وهو الحافظ المتقن الذي طالت رحلته في الجمع وكثرت بضاعته من الإسناد والمتن ، فيعدل في الضبط جمعا من الثقات قد خالفوا ، فزيادته عليهم تُقْبَلُ ، وإن واحدا في مقابل جمع ، والجمع الكثير ، كما يقول أهل الشأن ، أولى بالضبط ، فذلك أصل عام يستصحب في المخالفة ، ولكنه لا يخلو من استثناء ، ولو القليلَ أو النادرَ ، فقد يكون من حال المخالفِ قرينة أخص ترجح روايته على رواية الجمع ، فتقبل زيادته ، ولو خالف ، وذلك ، كما تقدم ، مما خالف عن الأصل المستصحب في باب الترجيح ، فلا ينفك يطلب الدليل الناقل ، كما القرينة الصارفة من حال المخالفِ أنه الحافظ المتقن الذي جمع فأوعى من الرواية ما يكثر ، فعدل بذلك جمعا من الثقات يكثر ، وهو مما استوجب نظرا أدق ، لا يُسَارِعُ ، بادي الرأي ، بِرَدِّ زيادة المخالف لجمع أكثر ، وإن كان ذلك الظاهر المستصحب في هذا الباب ، فهو الراجح ، مبدأ الترجيح ، حتى يكون ثم من القرينة ما يصرف إلى آخر هو المؤول الذي يَخْفَى فَلَا يَظْهَرُ مبدأ الاستدلال ، فإذا كان ثم قرينة معتبرة فهي توجب العدول عن الظاهر إلى المؤول ، فذلك أصل عام في باب التأويل المعتبر ، فلا يقبل إلا بدليل معتبر ، وله في هذا الباب مثال أخص ، بما تقدم من ظاهر يستصحب وهو الأصل ، أن تَرْجُحَ روايةُ جمع من الثقات رواية ثقة واحد ، فلا تقبل مخالفته لهم ، فذلك الأصل الذي لا يعدل الناظر عنه إلا أن يكون ثم من القرينة المعتبرة ما يَصْرِفُ ، فهو يُرَجِّحُ المرجوح الذي لا يَرْجُحُ ، بادي النظر ، فترجح رواية المخالِف ، وإن واحدا في مقابل جمع يكثر ، فهو لهم يعدل بما تقدم من حفظه وكفايته وطول رحلته وكثرة بضاعته ، وذلك قليل لا يقاس عليه ، فهو الاستثناء الذي يجري مجرى الضرورة التي تقدر بِقَدَرِهَا ، فالأصل أن يَرْجُحَ الجمعُ الفردَ ، فهم أولى بالصواب والحفظ ، والوهم إِلَيْهِ أَقْرَبُ ، وَإِنْ بَلَغَ من الحفظ والإتقان ما بَلَغَ ، وإن كانت كل رواية بَحْثًا يَسْتَقِلُّ ، فَلَهُ من القرائن ما به قد اختص ، لا جرم كان من نقد الأخبار : عام بما استقر من القواعد والضوابط التي يجردها الذهن بما كان من سبر وتقسيم لِنُصُوصٍ قد تناولت نقل الأخبار وما يجب فيه من التحري والاحتياط ، لا سيما أخبار الديانة التي تعم بها البلوى ، مع آخر من قواعد العقل ، فهي مقدمات ضرورية في باب القبول والرَّدِّ لما يَرِدُ من الأخبار ، فذلك النقد الأعم ، إذ يجرد القواعد والأصول ، وثم آخر أخص بما يكون حال المعالجة والتأويل ، تأويل القواعد بإخراجها من قوة النظر المجرد إلى فعل في الخارج يصدق حال المعالجة لخبر بِعَيْنِهِ ، وبه يَتَرَاجَحُ النُّقَّادُ ، فَكُلٌّ يصدر عن أصل أول في التجريد ، ولو في الجملة ، فَثَمَّ اختلاف ، ولو دَقَّ ، في معايير النقد وشروط القبول أو الرد ، فَثَمَّ اختلاف في أصل الاشتراط ، وهو ما يجري مجرى الاختلاف في تحرير المناطِ ، وثم آخر وبه النقاد يمتازون حال التحقيق في الخارج ، تحقيق المناط الذي اشترطوه في التصحيح أو التصنيف .
فَاسْتُصْحِبَ أصلُ الصحةِ حتى يكون مِنَ القرينة ما يَعْدِلُ عن ظاهر أول في خبر قد اسْتَوْفَى شروط الصحة في الاصطلاح ، ومنه ما تَقَدَّمَ من انقطاع لطيفٍ يخفى ، فظاهر الإسناد السلامة منه ، أو طارئ قد بَدَّلَ حال الراوي من عدالة إلى قدح بِخَارِمٍ من خوارم المروءة أو زيادة بها الفسق أو الابتداع في الدين يَثْبُتُ فلا يكون منه دعوى تُطْلَقُ ، بل لا ينفك يطلب من الدليل ما يزيد ، فَمِنَ الطارئ ما بَدَّلَ حال الراوي ، من عدالة إلى ضد من خَارِمٍ أو قَادِحٍ ، من ضبطٍ إلى ضِدٍّ بما كان من تغير أو اختلاط ، أو شذوذ أو نكارة ، أو كان ثم من العلة ما يَقْدَحُ ، وهو ما تفاوت ، أيضا ، في الحد ، فَثَمَّ من عَمَّ في إطلاقه فهو يَتَنَاوَلُ كُلَّ سَبَبٍ به الخطأ يَثْبُتُ ، وثم من قَصَرَهُ على آخر أخص ، وهو ما خَفِيَ مِنْ سَبَبٍ يَقْدَحُ ، إن في الإسناد أو في المتن ، فإذا سَلِمَ الخبر من كل أولئك ، فهو الحجة ، وإن لم يقطع الناظر أنه يفيد العلم الضروري ، كما المتواتر ، فَلَيْسَ من شرط الاستدلال أن يَتَوَاتَرَ الدليل فيفيد اليقين الجازم إذن لتعطلت الجمهرة العظمى من أدلة الأحكام ، بل وتعطلت أخرى في أحوال الناس ، فالمبنى في أكثرها على الظن الراجح لا اليقين الجازم ، فيستصحب الظاهر وهو الأصل الذي ثَبَتَ بِمَا تَقَدَّمَ من سَبْرٍ وَتَقْسِيمٍ قد عالج شروط الصحة ، فلم يكن الحكم بها تحكما يجازف صاحبه ويسارع بلا دليل ناصح ، بل قد عالج من الدرس ما جاوز ظاهر الإسناد والمتن ، فَسَبَرَ مَا لَطُفَ من الوجوهِ ، حتى حصل له من الظن ما يَرْجُحُ ، وهو المعتبر في مسائل الدين كافة ، الأصول والفروع ، العلم والعمل ، فلا وجه يُفَرِّقُ ، إذ الظن في كُلٍّ يجزئ ، وليس ذلك الظن المتبادر في لسان العرب ، وهو ما يعدل التخرص والتحكم بلا دليل من خارجٍ يُرَجِّحُ ، فيكون من ذلك دعوى يطلقها صاحبها ، ولا يحسن يستدل إلا بها ، وذلك ، من وجه ، دور يبطل في الحد ، إذ استدل بالدعوى على صحتها ، وعلى صحتها بها ، فتوقف الشيء على نفسه ، ولم يكن ثم دليل من خارج يثبت ، فهو يُرَجِّحُ وَجْهًا دون آخر ، كما الترجيح في جائز قد استوى طرفاه في الحد ، فصورة الخلاف التي تَتَرَاوَحُ بَيْنَ وَجْهَيْنِ ، الإثبات والنفي ، الصحة والخطإ ....... إلخ ، تلك الصورة لا تنفك تطلب من الدليل ما يُرَجِّحُ ، وهو ما يجاوز صورة الخلاف ، فلا يكون الاستدلال بها ، فذلك من الظن الذي يُذَمُّ ، فليس الظن المجزِئ في الاستدلال ، وهو ما حَدَّهُ الاصطلاح المتأخر أنه الراجح في مقابل آخر هو المرجوح ، فظاهر في مقابل خفي ، أو هو الظاهر الذي يَرْجُحُ في مقابل آخر هو المؤول الذي يخفى ، فالظاهر أبدا يُسْتَصْحَبُ ، إما بما استقر مبدأ النظر في دلالات المعجم المفرد ، ولا تخلو من بحث فلم يكن التحكم في وضع مدلول أول ، بل كان ثم استقراء قد تَنَاوَلَ المأثورَ الأوَّلَ ، من المنثور والمنظوم ، فذلك جهد الباحث في دَرْسِ المعجم الذي اجتهد في التجريد ، فلا بد من أول هو التمثيل ، فتلك شخوص دلالة في الخارج بما تَدَاوَلَ الجمع من الْعُرْفِ في النطق والحد ، فيجتهد الناظر في التقسيم والسبر أَنْ يُجَرِّدَ مِنْهَا مثالًا هو الجنس العام الذي يتناوله المعجم ، فتلك المادة التي تَدُورُ عَلَى معنى كلي جامع وله في الخارج آحادٌ تُصَدِّقُ ، فهي المثل المقيِّدة لمعنى في الذهن قد أُطْلِقَ ، فلا تخصص الْمُثُلُ العامَّ الذي يتناولها ، بل هي تُبِينُ عنه وَتُفْصِحُ ، إذ بالمثال يتضح المقال ، كما يذكر أهل النظر والاستدلال ، فَثَمَّ من الأصل ما ثَبَتَ بما كان من استقراء ونظر ، فلم يكن الظن والتخرص ، وإنما البحث المتقن الذي جهد في تَصَفُّحِ المادة المأثورة حتى استخرج منها أجناسا دلالية مجردة ، فَمُثُلُهَا في الخارج هي المقيَّدة ، فهي تُبِينُ عن جنسها الدلالي ، من وجه ، إبانةَ المثال عن جنسه العام الذي يستغرق ، وهي ، من آخر ، مادة تَنَاثَرَتْ في كلام العرب ، فكان من آحاد النطق ما كَثُرَ ، وإن جمعها عام من المعنى قد اقتصر ، فهو معدن أول ، ومنه يَقْبِسُ كُلُّ ناطقٍ شعبة ، فذلك ظاهر المعجم الذي لم يثبت تحكما في الوضع ، وإنما استقرأ لأجله أهل الشأن إِرْثَ الكلامِ الذي كَثُرَ وَاتَّسَعَ ، وهو ما استوجب ، كما يقول بعض من حقق ، معالجة السياق ، فالكلمة وإن دلت على معنى معلوم ، فهو المطلق الذي يختلف مدلوله بما يَرِدُ من القيد ، إن الوصفَ أو الإضافة أو العهد ، أو آخر يجاوز بما كان من سياقٍ مُرَكَّبٍ في النطق أو الكتب ، إن المذكورَ أو المقدَّرَ ، إن المسموعَ أو آخر من بساط الحال يُسْتَنْبَطُ ، لا جرم قُدِّمَ صاحب القصة في الاستدلال فَقَدْ عَايَنَ من مادتها ما لم يُعَايِنِ السامعُ ، وإن ضَبَطَ الحفظَ وأحسنَ الفهمَ ، ومن المسموع تَنْغِيمٌ أخص ، وهو درجات من الصوت قد اقْتَرَنَ بها من الدلالة ما يميز المعاني ، وإن لم يكن ثم زيادة في المباني ، فالكلمة الواحدة قد يُكْسِبُهَا التَّنْغِيمُ معنى لا تكتسبه بآخر ، كما الإنكار أو التعظيم أو التحقير أو المدح أو الذم أو التمليح أو القدح ....... إلخ ، فتجري ، من هذا الوجه ، مجرى المجمل الذي ازدحمت فيه المعاني ، وإن كان واحدا في الحد ، بل وله من المدلول الأول ما استقر في دلالة المعجم المفرد ، فَدَرْسُ التَّنْغِيمِ يجاوزه إلى آخر يزيد في الدلالة إذ يقيد الجنس الدلالي المجرد ، كما السياق يُقَيِّدُ ، وإن كان من قيد التنغيم ما هو ألطف فهو مما ينطق ولا يكتب ، خلاف السياق الذي يقصه القائل ويسطره الكاتب .
فالظاهر ، من هذا الوجه ، مما اختلفت مسالكه ، فَثَمَّ ظاهر اللفظ المجرد بما يكون من مادة أولى في المعجم ، وثم ظاهر يدرك بالتَّنْغِيمِ فلا يُجَاوِزُ اللَّفْظَ المفردَ ، وثم آخر هو المركب بما احتف بالمفرد من قرينة السياق ، إن المذكورَ أو المقدَّرَ ، وهو في كُلٍّ يُفِيدُ ظَنًّا يَرْجُحُ ، فَلَيْسَ الظَّنَّ أو التَّخَرُّصَ ، بل قد ثَبَتَ بدليلٍ معتبَرٍ ، إِنْ من الاستقراءِ أو من الاستنباطِ ، فذلك ما ثَبَتَ بدليل أَخَصَّ وَنَظَرٍ أَدَقَّ ، فلم يكن ثم تخرص ولا تحكم ، بادي الرأي ، بل قد عالج الناظر ما به حصل الظن الغالب ، وهو ما يجزئ في الاستدلال وإن لم يبلغ حد اليقين الجازم ، فليس الأخير بِشَرْطٍ وإلا تَعَطَّلَتْ أدلة الأحكام وَسَائِرُ الكلامِ ، فالظن الراجح يجزئ في الاستدلال ، فهو الظاهر الذي يتبادر ، فاستصحب في الاستدلال حتى يكون ثَمَّ من الدليل ما يُرَجِّحُ ضِدًّا وهو المؤول الذي لا يظهر ، بادي الرأي ، فذلك الخفي الذي يفتقر إلى دليل أخص يظهره ، وإلا أجزأ الظاهر الأول في الاستدلال ، فهو مِمَّا ثَبَتَ بالاستقراء ، فَلَمْ يَثْبُتْ تَخَرُّصًا أو تَحَكُّمًا ، وإنما له من الدليل ما يرفد ، والنفس إليه تسكن ، وإن لم تجزم وتقطع ، فالظن الراجح ، كما تقدم ، يجزئ في الاستدلال ، فذلك الظاهر الذي لا يعدل الناظر عنه إلى آخر هو المؤول ، فلا يعدل عنه إلى المؤول إلا أن يكون ثم من الدليل ما يرجح ، وإلا وجب استصحاب الأصل الأول ، فلا يتحكم الناظر في حده ، بادي الرأي ، فيقول : إنه هو الظاهر ولو لم يُقِمِ الدليلَ الشاهد ، إلا الدعوى المطلقة التي لا بَيِّنَةَ لها تشهد ، فهي ، كما تقدم في موضع ، مما يُرَدُّ بأخرى على ضد ، فَاسْتَوَيَا في القدر واختلفا في الوصف ، فلا تجزئ في الاستدلال الأخص أن يَصِيرَ منها ظاهر يستصحب ، وإنما الظاهر المعتبر في الاستدلال المحكم هو ما سَبَقَهُ نَظَرٌ أخص قد سَبَرَ وَقَسَّمَ حتى حصل له من الظن ما يرجح ، فكان من ذلك أول قد استصحب فلا يعدل عنه الناظر إلى مُؤَوَّلٍ يخفى ، فهو له يَرُدُّ وَيُبْطِلُ ، وإن لم يظهر ، بادي الرأي ، كما الأول ، لا جرم افْتَقَرَ إلى دليل ، لا كما المستصحِب لأصل أول يظهر ، فليس عليه من الدليل ما على الناقل ، فالناقل عن الأصل الثابت هو المخاطَب أن يقيم الدليل الشاهد ، وإلا كانت دعواه دعوى المتحكِّم الذي يُرَجِّحُ بِلَا مُرَجِّحٍ ، فَمَنْ أَرَادَ الانتقالَ عن الأصل الثابت ، إِنِ النَّصَّ أو الظاهرَ ، فلا بد من دليل هو الناقل ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، وهو ما يصدق في أصول الرواية نَقْلًا ، كما أصول الدراية عَقْلًا ، فالمبدأ في الرواية : الاحتياط ، وهو ما استوجب التوقف حتى يكون التَّثَبُّتُ ، كما في آي من الذكر المحكم ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) ، فيتوقف المستدِلُّ في قبول الخبر ، إذ الأصل فيه الخطأ ، احتياطًا في حكومات الديانة ، فاستصحب ذلك التوقف حتى كان من النظر ما يحقق إذ عالج من شروط الصحة ما له أصل في الشرع أدلَّةً تأمر بالتحري والضبط ، وآخر في العقل بما اقترح النظار من معيار صريح في التحقق ، وهو ما يواطئ النقل الصحيح ، فإذا عالج أهل الشأن تلك الشروط ، فتحققت في الخبر ، فذلك ما يجزئ في الانتقال عن الأصل الأول ، وهو ما كان مبدأ النظر من التوقف ، فَيَنْتَقِلُ الناظر إلى آخر وهو الظاهر ، ظاهرُ الصحة الذي يجزئ في الاستدلال إذ به ظن راجح يثبت ، وهو ما زاد على الاحتمال المجرد أن رَجَّحَ طرفا على آخر ، فَرَجَّحَ القبول على الرد ، وإن لم يبلغ حد اليقين والجزم ، فكان من ذلك ظن يرجح ، وهو ما أجزأ في الاحتجاج ، إن في العلم أو في العمل ، مع آخر به احتراز تال ، أن يكون من احتمال الخطإ ما يستصحب ، ولو المرجوح الذي لا يظهر ، فلا يصار إليه بعد ثبوت الظاهر ، لا يصار إليه إلا بدليل يُرَجِّحُ من خارج ، فالناقل في هذه الحال ليس الأول الذي نَقَلَ عن أصل أول مبدأ النظر وهو التوقف في قبول الخبر ، وإنما الناقل في هذه الحال ناقل عن أصل تال قد ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ، وَإِنِ الرَّاجِحَ لا القاطع ، فكان منه ظاهر يَتَبَادَرُ ، ظاهرُ الصحة الذي يستصحب حتى يكون من القرينة ما يرجح ضِدًّا لا يَظْهَرُ ، فليس يجزئ في ذلك محض التحكم ، دعوى تُخَطِّئُ وَتُضَعِّفُ ، وليس لها من الدليل ما يثبت إلا عين الدعوى ، وهو ، كما تقدم مرارا ، مما يجزئ في رَدِّهِ أخرى تعدل في القدر وتضاد في الوصف .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 2 ( الجلساء 0 والعابرون 2)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

BB code is متاحة
رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
هل نشر القاموس المحيط مضبوطا و مشكولا ؟ أحمد عبد اللـه أخبار الكتب وطبعاتها 0 19-10-2012 05:40 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 01:25 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ