|
#16
|
|||
|
|||
![]() فَاخْتُزِلَ الأمرُ في مدارك الحس على قاعدة أثرة وشح ، وهو ما به فساد الأرض وهلاك الحرث والنسل ، مع أول من فساد التصور الذي عنه المكلف يصدر ، فلا أول في الخلق يُقَدِّرُ وَيُدَبِّرُ ، ولا أول في الشرع يصدق ويعدل إذ سَلِمَ من بواعث النفوس المحدثة ، فلا شح ولا أثرة ، ولا جهل ولا فقر ...... إلخ ، فذلك الأول الذي نفت المذاهب المحدثة ، فاتخذت في الخلق قاعدة العشواء والخبط ، واتخذت في الشرع قاعدة الهوى والذوق ! ، وهو ما به فسدت الأرض ، إذ كثر الهرج ، وله من التأويل قتل يسفك به الدم ، وفواحش ينتهك بها العرض ، وهو ما يخالف عن عموم أول قد استغرق القبيل العاقل كله ، جِنًّا وَإِنْسًا ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فذلك العموم المستغرق بما حكت "أل" في كُلِّ قَبِيلٍ ، الجنِّ والإنسِ ، من عموم قد تناول الآحاد كافة ، فأولئك القبيل المبتلى بالتكليف إذ كان من العقل مَنَاطٌ أول مع تال به الاختيار فلم يكن من الجبلة ما يسلك جادة الطاعة فلا يَعْصِي أَبَدًا ، كما قَبِيلُ الْمَلَكِ ، إذ وصف آحاده في الكتاب المنزل أنهم : (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ، فلهم من خاصة العقل ما به يفهم الخطاب ويمتثل الأمر ، كما امتثلوا أولا من التكليف أَنِ : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، وكما امْتَثَلُوا بَعْدًا مِنْ أَمْرِ التَّنَزُّلِ ، إن بِكَلِمِ تكوين يدبر ، أو آخر من التشريع يحكم ، وتلك خاصة واحد من الجنس وهو روح القدس ، عليه السلام ، فذلك معدنُ الطهرِ بما كان من اصطفاء أخص في الخلق ، فاصطفى في آخر من الوظيفة والحد أن يَتَنَزَّلَ بألفاظ الرسالات على قلوب حملتها من الأنبياء ، عليهم السلام ، ومنها مادة خبرية تصدق ، وأخرى من الإنشاء تعدل ، إن في أمر أو في نهي ، فثم تكليف أعم ، قد استغرق الملك والجن والإنس ، وثم آخر أخص قد استقل به الملك ، وهو تكليف الامتثال ، وقسيمه في الباب : تكليف الجن والإنس ، وهو تكليف الابتلاء ، إن بالخبر أن يصدق ، ومنه خبر الخلق الأول ، إذ قص من ذلك ما يجوزه العقل الصريح ، وزاد تاليا به الترجيح من حقيقة أخص لا تُنَالُ إلا بالخبر المصدق ، وبها تأويل يلطف ، كما يقول بعض من حقق ، تأويل أصل أول قد استوى فيه البشر كافة ، فأبطل خاصة النبوة والمحبة تحكما في الدعوى إذ : (قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، وهو ما يحكي ما انْقَضَى من جيل أول ، وتلك دلالة الماضوية نصا فهي تحكي ما انقضى من الحدثَ ، ولا زال ، لو تدبر الناظر مما اطَّرَدَ في الجيل المتأخر ، فَتِلْكَ الفكرة التي لا تَنْقَضِي بانقضاءِ جِيلِهَا إذ يُوَرِّثُهَا الخلفَ ، فالماضوية ، من هذا الوجه ، مَئِنَّةُ ثُبُوتٍ واستمرارٍ ، وذلك آكد في تسجيل الجناية ، وثم من ذكر اليهود والنصارى ما يجري ، من وجه ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فأولئك في الباب مثال ، باب التعصب على قاعدة عرق أو عنصر أو دين قد صار بَعْدًا الْعَلَمَ عَلَى أقوام لا يجاوزهم ، كما دين اليهود المبدل إذ صار عَلَمًا على قَوْمٍ ذوي عرق مخصوص ، صح أو كذب في نِسْبَتِهِ إلى الجيل الأول الذي اشترط في التَّفْضِيلِ : نَقَاءَ الْعِرْقِ والعنصرِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلى إسرائيل ، عليه السلام ، وهو ما لا يصدق في أكثرهم ، فيصدق فيه قول القائل : أَحَشَفًا وَسُوءَ كَيْلَةٍ ! ، فمقالة لا تصح وَنَسَبٌ لا يصح ، وهو سبب التفضيل الذي انْتَحَلُوهُ .
فَكَانَ مِنْ ذِكْرِ أولئك ما يجري مجرى المثال لعام ، وهو ، كما تقدم ، يَسْتَغْرِقُ كُلَّ دعوى تَفْضِيلٍ تستند إلى معيار لا ينصح من عرق أو لون أو قَبِيلٍ ...... إلخ ، فقد قالها اليهود والنصارى ، وقالها غَيْرٌ في كل جيل ، إذ طبائع النفوس واحدة في الطغيان والتعصب ومجاوزة الحد ، فقال أولئك من اليهود والنصار نَصًّا هو الأصل الذي يقاس عليه غيره ، أو ذكرهم مثال لعام فيدخل غيرهم بدلالة العموم الأولى ، وهي دلالة اللفظ لا بأخرى من القياس على أصل ، فقالوا خاصة ، وقال غيرهم عامة ، فهم يدخلون في العموم ، كما المنصوص من اليهود والنصارى ، أو قال اليهود والنصارى ، وقال غيرهم قياسا عليهم ، فتلك بلوى قد عَمَّتِ الأديان كافة ، إِنِ المبدَّلَةَ المحرَّفة فَلَهَا أصل أول ، أو المحدَثة بَعْدًا ، فَكُلٌّ يَصْدُرُ عَنْ مادَّةِ طغيانٍ ومجاوزةٍ للحدِّ ، إن في العرق أو في القبيل أو في اللَّوْنِ ، بل ذلك مما تَنَاوَلَ مذاهب من السياسة والاجتماع تَأْرِزُ إِلَى نَقَاءٍ وَتَفَوُّقٍ يستند إلى معيار أرضي محدث ، كما القوة والثروة ، فمن احتكرها فهو السيد الذي يحكم بما يهوى ويجد ، وليس ثَمَّ مِنَ المخالِف إلا تَابِعٌ يخدم أو آخر يحرس ، ومن خالف فمآله التنكيل والقمع ، ولو أَفْضَى إلى القتل والهتك والسَّجْنِ ..... إلخ ، فتلك حكاية طغيان آخر يجاوز به الحاكم الحد ، بما يكون مِنْ تَوَهُّمِ كمالٍ في الذات ، أو مرض عضال قد نَالَ من عقله ، فحشفا وسوء كيلة ، أن فسد القصد أولا فهو في الطغيان والعلو في الأرض يرغب ، وفسد العقل تاليا إذ يظن الكمال المطلق في محل ناقص بل هو المريض الفاسد ! ، فكان من ذلك تعاظم الذات التي يظن صاحبها فيها عصمة ، بل وتأثيرا في الكون فَلَهَا ولاية تجاوز الحكم إلى التأثير في الخلق بِالضر والنفع ، فَثَمَّ غلو في الفكرة والشرعة يظن صاحبه في نفسه عصمة ، بل له سبب إلى النبوة يَتَّصِلُ ، فهو من نسلها حَقِيقًةً أو مجازًا ! ، فيكون من الغلو في تقدير الذات ما به يستدرج الطاغوت ، مع ما يكون من تمهيد في الأرض ، ولو بغير الحق ، حتى يظن الاستغناء والكمال ، فيكون الأخذ بَغْتَةً بلا إنذار ، ويكون من ذلك مادة اعتبار لكل ذي عقل ينصح ، فتلك خاصة كِبْرٍ وعلو في الأرض تضاهي دعوى البنوة والمحبة في الآية ، فَثَمَّ الاصطفاء الأخص الذي يعدل بصاحبه حد النبي المرسل أو المكلَّم المحدَّثِ ، وإن لم يكن له من الفضيلة حظ يُؤْبَهُ ، بل له من ضِدٍّ ما يَنْفِي الآية أو الكرامة ، فليس بالنبي الصادق ولا هو بالولي الصالح ، وإنما هو الفاسد المفسِد الذي به قد عَظُمَتِ البلوى في الدين والدنيا معا ، وإن ظن أنه المصلِح بل المبعوث بعناية من الإله تُنْقِذُ ، وهي للأرض بعدا تُهَيِّئُ لما يكون من سعادة وخلاص ! . وثم من إسناد الفعل إلى مؤنث ، وتلك دلالة التاء في "قَالَتِ" ، ثم منه ما يحكي المحذوف الذي يُقَدَّرُ ، فهو المضاف الذي حُذِفَ وناب عنه المضاف إليه في الموضع ، على تقدير : وقالت جماعة اليهود والنصارى ، فتلك دلالة نظام محكم بما كان من هيئات دِينِيَّةٍ تَتَدَرَّجُ ، لا سيما في مثال الأحبار والرهبان وقد صار لهم الأمر بما أَحْدَثُوا من الديانة والشرع ، فتلك هيئة من بَشَرٍ قد طَغَى وَجَاوَزَ الحد في الباب ، باب التشريع والحكم ، وكان من الأتباع ما دخل في حكومة أولئك ، طوعا أو كَرْهًا ، قصدا أو جهلا ، فصار منهم جسد مركب وله من الأحبار والرهبان رَأْسٌ له من الصدارة ما غَشَّ الجمع فَلَمْ يَنْصَحْ ، فدلالة التاء : تاء التأنيث في "قَالِتِ" ، دلالة على المحذوف ، وهو الجماعة ذات المثال المحكم من رَأْسٍ يَقُودُ وجسد يَتْبَعُ ، وله في التَّنْزِيلِ مثال آخر في موضع من الحجرات ، فـ : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا) ، فتقدير الكلام : قالت جماعة الأعراب ، فإن لهم من نظام القبيلة ما قد أُحْكِمَ ، فهو يَنْتَظِمُ أَفْرَادَهَا من الرأس إلى الجسد ، فيكون من رياسة هي الرأس ، ويكون من التابع جمع يكثر ، فلا يستقيم أمره إلا أن يكون ثم سراة يَتَرَأَّسُونَ فهم سلك يَنْتَظِمُ الخلق فلا يكون منهم فَوْضَى ، ولا يستقيم الأمر ، في المقابل ، إِذَا سَادَ الجاهل ، فرياسته مما تعظم به البلوى ، وإن كانت خَيْرًا من عدم ، وتلك الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فلا يكون منها حال مثلى ، وإنما تدرء بها مفسدة أعظم ، وإن كان من مفسدتها في تَعْطِيلِ المصالح كافة ، الدينية والدنيوية ، وإن كان مِنْ ذلك ما هو عَظِيمٌ فلا يُدْرَءُ بأعظم ، ولا يَرْضَى عنه العاقل ، مع ذلك ، بل ويمدح ! أن من ذلك ولاية أمر تَنْصَحُ وَتَعدِلُ في السياسة والحكم ، فهي الفاسد الذي يحتمل لا رِضًى به ، وإنما دَرْءًا لما هو أعظم ، مع تال يعمل ، ولو على مكث ، أن يكون المثال الناصح الذي به المصلحة المعتبرة في الدين والدنيا تحصل ، فتلك وظيفة الرياسة في الوحي أن يكون منها خلافة في الأرض تحكم بالعدل ، لا أن يكون منها الحكم الجائر أن يصير هو الأصل الثابت ، وإنما غايته ، كما تقدم ، أن يكون مَيْتَةً يضطر إليها الجائع في المخمصة فإذا زالت الضرورة بَطَلَتِ الرخصةُ ورجع المكلَّف أْخْرَى إلى العزيمة فهي الأصل الذي يُسْتَصْحَبُ ، فلا يُعْدَلُ عنه إلى استثناءٍ هو العارض الطارئ ، فيكون منه ما يرضى به الناظر دَنِيَّةً يُعْطِيهَا في الدين والحكم ، فَلَا يَرْضَى بذلك إلا من ذَلَّتْ نفسه ، ولا يأبى إلا من له بَقِيَّةُ عِزَّةٍ ، وإن كان من رسم الذل ما قد عَمَّتْ به البلوى فلم تسلم منه نَفْسٌ بما كان من وهن وقعود ، فابتلى الجمع بمن لهم خطة الخسف يسوم ، فلا يرضى العاقل ، مع ذلك ، إلا أن يمتاز ، ولو في دَرَكَاتٍ فَلَا يَرْضَى بالأدنى وإن نَالَهُ الدَّنِيُّ ، فلعله يوما أن يجد ذريعةً إلى عَلِيٍّ ، فيكون من المحل ما يقبل بما حَفِظَ من مادة العزة ، ولو قوةً في النفس لا تظهر آثارها في الخارج ، فهي تطلب ما يُصَدِّقُهَا فَيُخْرِجُهَا من القوة إلى الفعل المصدِّق في الخارج ، فلا يكون ذلك إلا أن يكون من المحل ما يقبل الآثار ، وإن لم يكن على حد الكمال المطلق ، بل قد ناله من النقص ما تَالَ بما سِيمَ الجمع كله من خطة الذل التي تضعف النفس وتوهن العزم إلا من رحم الرب ، جل وعلا ، فكان له الحظ الأوفر من وصف الإيمان المجزئ أَنْ : (لَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) . وثم من تقدير محذوف فِي مَوْضِعٍ آخر من التنزيل أَنْ : (قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) ، فَثَمَّ من المحذوف ما يُقَدَّرُ بالجمعِ ، فقال جمع من النسوة ، لا جَرَمَ خَلَا مِنْ تاء التأنيث ، وإن تَنَاوَلَ إِنَاثًا في الخارج ، فهو الجمع لا الجماعة ، فَيَغْلُبُ على الجمعِ الفوضَى بما اطَّرَدَ في جموع النساء لا سيما المترفات ، فيكون من قولهم ما تغلب عليه التفاهة والسذاجة ، وأولئك مئنة من عدم الانتظام في سلك جامع إذ الثرثرة حكاية فَوْضَى في الفكرة والمنطق ، فلا يدري الناظر مَنْ يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَسْتَمِعُ ، وتلك ، كما يقول بعض من بحث ، خاصة في عقل الأنثى إذ يطيق الاشتغال بأكثر من جزء في الخارج ، فيحيط بِدَقَائِقَ تَتَعَدَّدُ ووظائف في الخارج تختلف ، وإن في آن واحد ، وهو ما يحسن في جبلة النساء بما هُيِّئْنَ له من أمور الرعاية والتربية ، وهو ما استوجب لسانا يكثر من الكلام ، فتلك خاصة تعالج بها الأنثى ما تَعَدَّدَ من الوظائف ، مع تَعْلِيمِ الصغير أَنْ يَنْطِقُ ، بما يحاكي وَيُقَلِّدُ ، فافتقر إلى كثير من الكلام يَتَرَدَّدُ ، وبه يعظم مسموعه ومعقوله بما يختزن من الألفاظ والمعاني التي يَتَحَمَّلُهَا عن أمه . فكان من السذاجةِ وَضَعْفِ العقل ما غلب على جمع النسوة ، وإن كان ثم من جموع النساء ما يَنْفَعُ ، إِنْ زَكَتِ النُّفُوسُ وَنَصَحَتِ العقول ، وإن لم تخل من جِبِلَّةٍ وَطَبْعٍ به الكلام يَكْثُرُ ، فقد يكون منه ما يَنْفَعُ ، وإن كان من وصف الجمع ما يَغْلُبُ ، فَلَيْسَ يَعُمُّ فَيَسْتَغْرِقُ مَجَالِسَ النساء كافة ، بل منها ما يصدق فيه حد الجماعة بما يكون من نِظَامٍ يُمْدَحُ في كُلِّ مثالٍ ، إِنْ فِي فِكْرٍ أو في سياسةٍ أو في حربٍ ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، فَثَمَّ رَصُّ صفوفٍ يَحْسُنُ فِي الصلاة والذكر ، والقتال والحرب ، وبه امتازت حال العرب في الإسلام من أُولَى تَسْبِقُ ، كَمَا رأى رُسْتُمُ من جيش القادسية ما يُعْجِبُ ، فَنَطَقَ بداهةً : "هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل" ، وفي رواية : "أكل عُمَر كبِدي، يعلِّم الكلاب الآداب" ، وما عَلِمَ أن الوحي هو الذي علم عُمَرَ والجمع كُلَّهُ ، فقد صاروا أمة بعد أن كانوا همجا ، وصار لهم من الْبُنْيَانِ ما أُحْكِمَ ، فَانْتَظَمَهُمْ سلك الوحي الجامع بما نصح من علومه وآدابه التي تجاوزت حد النظر المجرد إلى آخر من العمل يُصَدِّقُ ، فكان من ذلك فتح يعظم قد حمل الخير إلى الخلق كافة ، من وَافَقَ ومن خالفَ ، وذلك ما شهد به من أنصف من خصوم الدين الخاتم إذ يقص من التاريخ شاهدَ عدلٍ لا يكذب . فَثَمَّ من تقدير المحذوف في كُلٍّ ما يُوَاطِئُ ، إِنِ الجماعةَ أو الجمعَ ، وهو ، والشيء بالشيء يذكر ، مما به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ المجازَ في الوحي واللسان ، فذلك مِنْ مَجَازِ الحذفِ ، إذ حُذِفَ المضاف وَأُقِيمَ المضاف إليه مقامه ، ومن ينكر المجاز فهو على أصل يطرد في الباب ، أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اشْتُهِرَ في العرف فَتَدَاوَلَهُ أهل اللسان فِي النُّطْقِ ، فَصَارَ حقيقةً ، من هذا الوجه ، وإن الحقيقة العرفية الأخص فَهِيَ تَقْضِي في أخرى لِسَانِيَّةٍ أَعَمَّ . فكان من قول اليهود والنصارى : (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ، دَعْوَى قَدْ أُطْلِقَتْ ، وهو ما حُدَّ حَدَّ القصر بِتَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ : "نَحْنُ" فهو من الضمائر وهي أولى في المعارف فلا يَسْبِقُهَا إلا الاسم الأعظم ، اسم الله ، جل وعلا ، فهو ، كما يقول صاحب الكتاب ![]() فكان من الإضافة في "أَبْنَاءُ اللهِ" ما زَادَ في الحد ، وإلا فأصل النسبة يصح ، نسبة المخلوق إلى الخالق ، جل وعلا ، إن بُنُوَّةً أعم بما يكون من الرعاية والمدد ، كما في الخبر : "الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالهِ" ، على كلام في إسناده ، أو أخرى أخص تحكي الطاعة بامتثال الأمر والنهي ، فلم يكن من أولئك إلا التحكم في الدعوى التي حُدَّتْ ، كما تقدم ، حَدَّ القصر بتعريف الجزأين "نَحْنُ" و "أَبْنَاءُ اللهِ" ، وبه زيادة توكيد في الدلالة وتقرير ، وثم من ذكر المحبة بعد البنوة في قوله ![]() ![]() ![]() فَثَمَّ من وصف الصاحبة والولد ما يَحْكِي الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وذلك وصف المخلوق المحدَث ، فهو يطلب الصاحبة لِيَقْضِيَ الوطر الذي به يهدأ الخاطر وتستجم النفس ، ويطلب الولد منها وبه بَقَاءُ الذِّكْرِ وحصول النفع ، فهو له عون إذا كبر ، وارث إذا هلك ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يُتَصَوَّرُ في حَقِّ الرَّبِّ ، جل وعلا ، فهو الأول والآخر ، وهو الغني الغنى المطلق فلا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج ، بل كل مخلوق محدَث ، إِنِ المحِلَّ الذي يُعَالِجُ أو السببَ الذي يُبَاشِرُ ، كل أولئك إليه يفتقر ، أن يوجد على مثال إتقان ، ويجري على مثال إحكام ، فيكون من ذلك تأويل المقدور الأول بتال في الخارج يُصَدِّقُ ، وهو ما يصدر عن مشيئة تنفذ ، وبها خروج المقدور من القوة إلى الفعل . وثم عموم أَعَمُّ من المذكور ، الصاحبة والولد ، فما اتَّخَذَ صاحبة ولا ولدا ، وتلك وجوهُ نَقْصٍ أَخَصَّ ، وما جاز في حقه النقص أبدا ، وذلك نَفْيٌ أعم ، فَيَجْرِي ذكر الصاحبة والولد ، من هذا الوجه ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فَوَرَدَ في السياق تمثيلا يُبِينُ عن معنى العام الذي استغرق المذكور وما سِوَاهُ من وجوهِ النَّقْصِ التي تَنَزَّهَ عنها الخالق المهيمن جل وعلا . وَكُلُّ أولئِكَ مما يَنْفِي الزوجية والبنوة عن الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فإذا كان منها في الآية ما يثبت ، في قوله ![]() وهو يبطن من تعظيم الذات واحتقار غير ما بلغ حد الحلول والاتحاد ، وإن العام ، فالإله قد حَلَّ فِي الشَّعْبِ المختار ، فهو حكاية للإله في الأرض ، إذ تَجَسَّدَ فِي الخلق ، أو ثم من روح التشريع والحكم ما حَلَّ في الأحبار والرهبان ، فهو أخص ، وكل أولئك فَرْعٌ عن أول من غُلُوٍّ في المسيح ، عليه السلام ، بما كان من دعوى البنوة أو التجسد ، تجسد الكلمة في أقنوم الابن ، بل قد زَادَ بَعْضٌ فالإله قد اتحد لاهوته في ناسوت الإنسان المحدث ، وتلك مادة قد اقْتَبَسَتْ منها الحداثة شعبة قد احتملت اسم الإنسانية ، وبها رَامَ المذهب المحدَث نَقْلَ المركز في السيادة والحكم من السماء إلى الأرض ، من الخالق الأعلى إلى الإنسان الأدنى الذي غلت فيه الحداثة ، فَصَارَ صورةً إلهيَّةً في الأرض ، صَرَّحَتْ أَوْ كَنَّتْ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، أصلٌ لِكُلِّ فَسَادٍ في هذا العالم ، أَنْ يُشَبَّهَ المخلوقُ الحادث بالخالق ، جل وعلا ، غُلُوًّا في الأول وجفاءً في الثاني ، فهما مما يتلازمان في النظر ، فيكون من المخلوق مثال يُجَسِّدُ الخالِقَ أو بَعْضَ وصفه ، فهو مرجع التشريع والحكم في الأرض ، فَلَيْسَ ثم مرجع من خارج يجاوز ، إذ روح التشريع ، كما تقدم ، قد حلت في حَبْرٍ أو راهب فهو مرجع من الأرض يحدث ، وإن كان ثم من النص ما له نِسْبَةٌ أولى في التَّنَزُّلِ ، فَثَمَّ نص أصله سماوي مُنَزَّلٌ قَبْلَ التبديلِ والتحريفِ المحدَث ، وثم تأويل باطن يصدر عن روحِ غُلُوٍّ ، تُعَظِّمُ القبيل أو الشعب ، إذ حَلَّ فيه الحلول العام ، فالشعب حكاية الإله الذي يحكم ، أو آخر أخص قد احتكره الحبر والراهب ، فهو ينطق بالشريعة إذ حلت فيه الحقيقة ، حقيقة الإله الأعلى ، فحلت روح التشريع في الحبر أو الراهب ، فتأويلاتهم مرجع من الأرض يَحْدُثُ ، وإن كان له أصل من الوحي المنزل ، وثم آخر في الباب قد عَمَّتْ بِهِ البلوى في الجيل المتأخر ، بما كان مِنْ حَدَاثَةٍ قَدْ بَتَّتِ الصلة بالوحي ، فهي ، كما يقول بعض من بحث ، تحكي تراجع الآلهة في السماء ، إذ أفسحت لآلهة الأرض المجال أن تحكم بالهوى والذوق وإن كَسَتْ ذلك لحاءَ المصلحةِ ، فكان من آلهة الأرض عُقُولٌ تَكْثُرُ ، منها المفرد وآخر يجمع ، فيكون منه الموضوع من خارج ، وهو ، مع ذلك ، لا يسلم من النقص والخطإ مع ما يُزَيَّنُ له من الهوى والحظ ، فكان من تلك الآلهة ما يصدر عن مرجع أرضي خالص ، إن النص الأول أو ما يكون بَعْدًا من تأويل يحدث . فَثَمَّ ، كما تقدم ، غلو في المخلوق المحدَث لا ينفك يقرنه جفاء في الخالق الأول ، جل وعلا ، وتلك حكاية تطرد في المذاهب المحدثة كافة ، سواء أكانت ذات نسبة إلى الوحي أم خلصت نِسْبَتُهَا إلى الأرض ، مبنى ومعنى ، فكان من ذلك ما اطرد في كل عرقٍ أو قَبِيلٍ يَنْتَحِلُ من الوصف أنه الشعب العظيم ، وأنه محل العناية الإلهية التي اقترحها بعض الرُّهْبَانِ نظرية بها يُفَسِّرُ التاريخ ، فهو حكاية صراع يَتَّصِلُ بين مدينة الله ومدينة الشيطان ، فَنُورٌ وظلام ، كما تقدم في موضع ، وَهُوَ ما اطرد في مقالاتِ سياسةٍ محدَثَةٍ تَحْتَكِرُ اسْمَ الخيرِ فِي مقابلِ الشرِّ ، وهو ما يُبِيحُ لَهَا القتلَ والسَّفْكَ ، فَهِيَ تُطَهِّرُ الأرضَ مِنَ الرِّجْسِ ، فكان من التحكم في التفاضل لا عن معيارٍ يَنْصَحُ ، كما تقوى تَقَدَّمَتْ فِي الذِّكْرِ مِنْ خُطْبَةِ الْوَدَاعِ ، فـ : "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - : إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمَ ، وآدمُ من ترابٍ" ، فَرَدَّهُمْ إلى أبٍ واحدٍ ، وهو آدم ، وَأَصْلٍ واحد وهو التراب ، فذلك مما يجري في المنطق حَدَّ التَّرَاكُبِ بَيْنَ مقدمتين ، وهو يُفْضِي إلى النتيجة ، فالناس من آدم ، وتلك مقدمة أولى ، وآدم من تراب ، وتلك ثانية في الحد ، فكان من النَّتِيجَةِ مَا يُسْتَنْبَطُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُم مِنْ تُرَابٍ ، فلا يكون تَفَاضُلٌ بَيْنَهُمْ فِي أصلِ خِلْقَةٍ فهو واحد ، فكان من أولئك تَحَكُّمٌ بَاطِلٌ يخالف في الباب عن المعيار الناصح ، معيار التقوى ، فَاسْتُبْدِلَ بِهِ الْعِرْقُ وَالْعُنْصُرُ ، وَإِنِ اتَّخَذَ الدِّينَ ذريعةً في موضع ، فَثَمَّ شعب مختار هو مدينة الله التي يَنْتَهِي نَسَبُهَا إلى إِسْرَائِيلَ ، عليه السلام ، صَحَّتِ النِّسْبَةُ أو كَذَبَتْ ، وثم شَعْبٌ أَبْيَضٌ لَوْنُهُ ، رُومِيٌّ عِرْقُهُ ، وإن أخص فهو مادة عالم جديد قد تأول مقال الشعب المختار كما القبيل الإسرائيلي ، فَأَبَادَ أمة من البشر هي الدِّنْيَا في الماهية والخلق ! ، فكان من تحقيرها في الْفِكْرَةِ ما تَقَدَّمَ تاليا من الحركة ، حَرَكَةِ الاسْتِئْصَالِ بالقتل والعزل ، فلا يكون لَهَا من وصفِ البشرِ إلا المجاز لا الحقيقة ، إذ الحقيقة من الحيوان ، وإن كانت الصورة من الإنسان ، فكان من ذلك وُفُودٌ تهاجر من الشاطئ الآخر ، فَاحْتِلَالٌ يُنَاجِزُ صاحبَ الأرض فَيُفْنِي وَيُبِيدُ الخلق ، فهو يستأصل ثم يستوطن ، ثم هو بَعْدًا يستعبد ويستخدم أمما قَدِ اسْتَجْلَبَهَا فِي القيد ، فلا يكون ذلك إلا عَنْ قَاعِدَةٍ تَغْلُو فِي العرقِ والعنصرِ ، فهو الابن والحبيب الذي أعطاه الأب حق الملك المطلق ، وإن خالف عن العدل ، فَلَا يَلْتَزِمُ منه إلا ما يُصْلِحُ دنياه خاصة ، وإن أفسد غَيْرًا ، فَأَضَرَّهُ فِي الدِّينِ والدنيا كَافَّةً ! ، فهو تابع لم يَسْتَكْمِلْ بَعْدُ وَصْفَ الإنسانِ ، فَلَمَّا يَرْقَ بَعْدُ في سُلَّمِ الأنواعِ ، فَلَيْسَ له من اسم الإنسان ما به يثبت الحق ، فَلَيْسَ ذلك إلا لمن كَمُلَ في الخلقة والفكرة ، فَبَلَغَ غاية في التطور فهو الإنسان الأخير الذي خُتِمَ به التاريخ ، فَصَارَ له من ذلك سيادةٌ تُطْلَقُ ، فلا تنفك تطلب من الدِّينِ ما يُسَوِّغُ ، فكان من ذلك مذهب إصلاحٍ محدَث في دين النصارى المبدَّل ، الدين الملكاني الذي تَنَاوَلَهُ المثال الإصلاحي فاستنبط منه المذهب الحاكم ، المذهبَ الأبيضَ الذي يَأْرِزُ إلى تَعَصُّبٍ فِي العرقِ واللونِ ، فلا ينفك يطلب من الدِّينِ ما به يُسَوِّغُ ، مع حكاية أخرى لفطرة لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، فطرة التدين ، فلا أمة بلا دين ، سماويا مُنَزَّلًا أو أرضيا محدَثًا ، ولا مثالَ في السياسة والحكم إلا وله من الدين حظ ، قَلَّ أو كَثُرَ ، ولو جذرا باهتا يحكي مقالا قد انْدَثَرَ ، فهو يُبْعَثُ من المرقَدِ إن كان ثم مدافعة تحدث ، فهي تطلب من المعنى الباعث ما يَشْرُفُ ، ولو رياءً لا يجاوز حَدَّ الفكرة ، فالحكم أبدا للهوى والحظ المحدَث الذي غلا في المخلوق فَجَاوَزَ به الحد ، كما مذاهب في الدين والفكر قد غلت في المخلوق ، فَصَيَّرَتْهُ جزءا من الإله ، وصيرت إرادة المخلوق جُزْءًا من إرادة الخالق ، لا تابعة لها فَعَنْهَا تصدر كما المحل المريد ، فالله ، جل وعلا ، خالق المخلوقات وخالق ما يقوم بها من الأوصاف والإرادات والأفعال ، إن الاضطرارية أو الاختيارية ، إن الجبلية أو التكليفية ، فَثَمَّ جهة قد انفكت ، جهة الخلق ، فذلك فعل الفاعل الخالق ، جل وعلا ، وجهة الفعل ، فذلك فعل الفاعل المخلوق ، ولكلٍّ إرادةٌ تُغَايِرُ ، فَلَيْسَتْ إرادةُ المخلوق عين إرادة الخالق ، فَذَلِكَ اتحادٌ في الفعل ، يُفْضِي إلى التسوية بين الخالق ، جل وعلا ، والخلق ، فالمبدأ : تسوية في الفعل ، إِنِ الفعلَ الكونِيَّ الذي يخلق ويرزق ويدبر ، أو الفعلَ الشرعيَّ الذي يَسُنُّ ويحكم ، فَثَمَّ روح تشريع سماوية قد حَلَّتْ فِي الحبرِ أو الكاهنِ الأرضي ، وهو ما يحل في فَرْدٍ أو في جَمْعٍ ، كما هيئة الكهنة في دِينِ المثلِّثة ، فهي تَنْطِقُ بالشرع ، فما عَقَدَتْ في الأرض فَلَا يُحَلُّ في السماء ، وما حَلَّتْ فِي الأرضِ فَنَسَخَتْ فَلَا يُعْقَدُ فِي السماءِ ، فَثَمَّ روحُ تشريعٍ أَرْضِيَّةٍ تُضَاهِي الشريعة السماوية ، بل تجاوزها في الحدِّ ، فَهِيَ تَنْقُضُ ما عَقَدَتِ الأولى ، وتعقد ما نَقَضَتْ ، فَقُدِّمَتْ روحُ التشريعِ الأرضية المحدثة على شَرِيعَةِ السماء المنزلة ، وَانْتَقَلَ الأمر من السماء إلى الأرض ، سواء أكان في واحد ، كما ناسوت المسيح الذي حَلَّ فيه اللاهوت الأعلى ، أو هو حكاية الصورة التي تُظْهِرُ الحقيقة الإلهية فَتَصِيرُ مشهودةً تُدْرَكُ بِالْحِسِّ ، فَتَظْهَرُ في صورةِ المسيحِ ، أو صورةِ جلالٍ كما ظهرت قَبْلًا في فرعون ، أو صورةِ جمالٍ ، أو هي قد حلت في هذا العالم كُلِّهِ ، فَحَلَّتْ في الطبيعة التي صارت هي الأول الذي قَدُمَتْ مادته ، فَلَيْسَ ما يحدث في الخارج إلا أَعْرَاضًا تَظْهَرُ ، فهي تختلف وَتَتَعَاقَبُ ، والجوهر قديم واحد ، وهو ما يضاهي في الأولية : العلة الفاعلة التي جُرِّدَتْ مِنَ الوصفِ ، فلا تجاوز إطلاق المعنى في الذهن ، فَلَيْسَ إلا مادة هذا العالم ، فَوَحْدَهَا من له وجود في الخارج يصدق ، وهي بعدا تتحرك بلا محرك ، فَتَدُبُّ فِيهَا الحياة بلا أول هو المحيِي ، فترجيح بلا مرجِّح ، وهو ما يخالف عن قياس العقل المحكم ، أَنْ لَا فِعْلَ بِلَا فَاعِلٍ يَفْعَلُ ، كما لا مخلوق بلا خالق يخلق ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، له من ذلك أولية الذات وما يقوم بها من الفعل والخلق ، وما يسبق من علم تقدير أول قد استغرق المقدورات كَافَّةً ، الكونيةَ والشرعيةَ ، فَثَمَّ تمانع قد عَمَّ التكوين والتشريع جَمِيعًا ، وبه انتظام أمر هذا العالم ، الأديان والأبدان ، وبه التمايز ضرورة في الذهن ، إذ امتاز الخالق ، جل وعلا ، وهو الأول القديم ، من المخلوق ، وهو المحدَث من العدم ، إذ له تقدير أول في العلم المحيط المستغرق ، فيكون من الترجيح في المقدور أن يكون الوجود بعد العدم ، وذلك ، بداهة ، ما افْتَقَرَ إلى مرجِّح من خارج ، فَثَمَّ من فعل الخالق ما قَدُمَ نوعُه في الأزل ، وله في الخارج آحاد تحدث ، فلا يكون ذلك إلا بالمرجِّح ، وهو المشيئة الربانية التي تَنْفُذُ ، وعنها كلمات التكوين تَصْدُرُ ، فهي السبب المكوِّن الذي عنه المسبَّب يكون ، فالعلة الأولى هي الكلمة ، وبها كانت الكائنات المخلوقة في الخارج ، فالمخلوق يكون بالكلمة ، لا أنه عين الكلمة ، كما قَدْ غَلَتِ النَّصَارَى في المسيح ، عليه السلام ، فقالت إنه الكلمة ، والصحيح أنه بها قد خُلِقَ ، فَوُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ ، وكان من وجوده بَعْدًا في هذا العالم المحدَث ما يُصَدِّقُ عِلْمًا أولا يقدر ، فكان من الإجمال والتشابه في قوله ![]() إِذَا نَزَلَ السَّمَاءَ بأَرْضِ قَوْمٍ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() أي رَعَيْنَا الكلأَ الذي يُنْبِتُهُ الماء الذي يَنْزِلُ من السماء ، فأطلق المحل وَأَرَادَ الحال فيه وهو السحاب الذي يحمل الماء ، وَأَرْجَعَ الضمير الذي اتصل بالعامل "رَعَيْنَاهُ" ، أَرْجَعَهُ إِلَى المطر الذي يَنْزِلُ من السماء ، كما في الخبر : "صلَّى لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبحِ بالحُديبيَةِ في إِثْرِ سماءٍ كانت مِن اللَّيلِ ......." ، فأطلق المحل وهو السماء وَأَرَادَ الحَالَّ فيه وهو السحاب الذي يحمل الماء الذي يَنْزِلُ ، وكذا في الطعام الذي : "أصابَتْهُ السَّماءُ" ، في الخبر أَنْ : "مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي" ، فَيَجْرِي ذلك ، أيضا ، مجرى المحل الذي يُرَادُ به الحالُّ فِيهِ ، وَقَدْ يُقَالُ ، من وجه آخر ، إِنَّ ذَلِكَ من مجازِ الحذفِ ، عند من يُجَوِّزُ المجازَ في الوحي واللسان ، على تقدير : أَصَابَهُ مَاءُ السماء ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، فكل أولئك : السببية ، والمحلية ، والحذف ، كل أولئك مما به يَسْتَأْنِسُ من يُجَوِّزُ المجاز في الوحيِ واللِّسَانِ ، ومن ينكر فهو على أصل يَطَّرِدُ فِي مَقَالِهِ أَنَّ كُلَّ أولئك مما اسْتَعْمَلَتْهُ العربُ في كلامها ، فجرى مجرى العرف المتداول المشتهر ، فَتِلْكَ الحقيقة العرفية الأخص التي تُقَدِّمُ على الحقيقة اللسانية الأعم ، إذ تَقْضِي فِيهَا قَضَاءَ الخاص في العام ، فَلَا تَعَارُضَ ، إذ ثم من زيادةٍ في الخاص ما استوجب له الترجيح ، فذلك الترجيح المعتبر ، فليس التعارض بين عام ظني وآخر مثله ، فيستويان في الحد ، وَيُطْلَبُ لهما المرجِّح من خارج إِذِ اسْتَوَيَا في المدلول الظني ، فيطلب من وجه آخر ينصرف إلى الثبوت ، فما كان أصح فهو يَرْجُحُ ، أو يكون من ذلك نَسْخٌ إن عُلِمَ التاريخ ، فالمتأخر يَنْسَخُ المتقدم أو يخصصه ، كما يقول أهل الشأن ، وذلك باب في الترجيح قَدِ اتَّسَعَ ، وإنما يُصَارُ إِلَيْهِ إذا تعذر الجمع ، فإن لم يتعذر فهو الأولى ، كما في هذا الموضع ، فثم حقيقة أخص ودلالتها دلالة القطع ، وثم حقيقة أعم ودلالتها دلالة الظن ، فالخاص القطعي قاض في العام الظني ، فَزَالَ التَّعَارُضُ وَسَاغَ الجمعُ ، والعرف مُعْتَبَرٌ في التفسير ، وله من القيد أن يواطئ زَمَنَ النص أو يسبق ، فَيَكُوُن مِنْ عُرْفِ اللسان ما استقر ، لا آخر يحدث بعدا ، فلا يفسر النص بعرف من الاصطلاح قد حدث بعده ، فالعرف ، كما تقدم ، معتبر في التفسير ، وَفِي آخر مِنَ الدليل ، فهو من أدلة الأحكام الكلية ، وله مثال من القول ، وآخر من العمل ، وشرطه أبدا ألا يخالف عن الشرع المنزل ، وإلا فهو الْمُحَكَّمُ في مواضع الخلاف الحادث . فكان من الإجمال في قوله ![]() والشاهد أن ثَمَّ من عَمَّ في مقال الوحدة ، فقد حَلَّ الخالق ، جل وعلا ، في هذا العالم المخلوق كله ، ومن الحلول الأخص في باب الأعيان ما كان من غلو بَعْضٍ في شخوص سوى المسيح ، عليه السلام ، كما غلت فئام من يَهُود في العزير ، عليه السلام ، وكما غلت فئام في آحاد من الأحبار والكهنة ، وهو ما ذاع من مذاهب في التأويل الباطن ، ومنها القديم ومنها المحدث ، فَثَمَّ روح من التشريع قد حَلَّتْ في الحبرِ أو في الراهب ، وهو إلى المعنى أقرب منه إلى الحس ، فقد حلت الروح التشريعية لا الذات الإلهية ، وتلك ذريعة اتخذتها المذاهب الباطنية أَنْ تَتَلَاعَبَ بالنصوص ، وإن كانت ذات دلالات نصية قاطعة أو ظاهرة راجحة ، فكان من التأويل ما صرفها إلى أخرى بعيدة أو مهجورة ، بل ومنها ما لا يُعْقَلُ ، فَيَصْدُقُ فِي صاحبها أنه يَلْعَبُ ، إِذْ يَتَأَوَّلُ النصوص بما لا دليل له يَشْهَدُ ، ولو بعيدا ، فليس إلا الباطن الذي لا معيار له يَنْضَبِطُ ، إذ يصدر عن روح التأويلِ الَّتِي حَلَّتْ فِي الحبرِ أو في الراهبِ ، ولكلٍّ من الهوى والذوق ما يُغَايِرُ ، فتلك المتشابهات في التأويل فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ أولا في الترجيح ، فهو المحكم الذي يَقْضِي فيها باعتبار أو بإلغاء ، وذلك مما يجاوز العقول كافة ، وَإِنِ العقولَ المجموعة التي تجاوز الأفراد ، فَلَئِنْ صَدَقَ في العقل المجموع أنه الموضوعي المجاوز من خارج ، فليس ، كما العقل المفرد ، ليس يَسْلَمُ مِنَ الْعَوَارِضِ التي تَطْرَأُ ، فَكُلٌّ لَا يَسْلَمُ منها ، إِنِ الذَّاتِيَّةَ بما جبلت عليه من النقص والحاجة والفقر ، أو المجاوِزَةَ من خارجٍ بما يكون من الوسواس الذي يُزَيِّنُ والخطاب الذي يُزَخْرِفُ ، فَيُحَسِّنُ القبيحَ ، ولو عُلِمَ قُبْحُهُ ضرورةً قد استقرت في الوجدانِ والفطرةِ ، ولا يكون ذلك دَفْعَةً بما جُبِلَتْ عليه العقول والنفوس من دفع ما لا تألف ، ثم يكون من الدعوى الجديدة ما يطرأ ، ولا بد لها من دليل محكم إن كانت من الحق الناصح ، فَهِيَ مِمَّا يَفْجَأُ نُفُوسًا قد اعتادت الباطل ، فَلَا تَنْفَكُّ تُنَاجِزُ المعتقَدَ القديم ، وليس من دليل سوى التقليد ، كما أبان عنه محكم التَّنْزِيلُ ، فـ : (كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، فيكون من دليل الدعوى الجديدة ما يخاطب العقول الصريحة والنفوس السليمة التي تَتَجَرَّدُ من الأهواء والحظوظ طلبا لحق به تسعد في الحال والمآل ، فذلك مطلب ضرورةٍ لدى العقلاء كَافَّةً ، فلا يجحدها إلا من استمسك بدين الآباء ، دين التقليد والعادة ، سواء أكان شبهة تستوجب البيان أم المكابرة والعناد ، أم مَزِيجًا منهما قد اختلط ، فلا تحسن تَمِيزُ أحدهما من الآخر ، وذلك الغالب على المقالات المحدَثة ، فهي تزين بشبهة لا تخلو من حق ، وإن مرجوحا ، فتخاطب في النفوس الهوى والحظ ، وَتُسَكِّنُ الضمائرَ بما تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَادَّةِ حَقٍّ ، ولو مجملةً تَفْتَقِرُ إلى بَيَانٍ يَنْصَحُ ، فلا تنفك تعالج من ذلك كليات مجملة لا وجود لها في الخارج ، ولو عند صاحبها الذي يَزْعُمُ ، كما الحرية ذريعة في جيل محدث لما عمت به البلوى من إفساد الأديان والأخلاق وَأَعْرَافِ الاجتماع ..... إلخ من العقود المعتبرة في الشرائع كافة ، محفوظةً أو مبدَّلَةً ، فكان من الحرية المطلقة ما خرج عن قانون الشرع والعقل والفطرة ، فلم يجد إلا الإلحاد والجحود ، والانحلال والمجون ، لم يجد إلا أولئك مثالا يَصْدُقُ فِي الخارج لِمَا أُطْلِقَ من دعوى الحرية التي قَيَّدَتِ المخالف ، فلم تمنحه بعضا مما تَزْعُمُ أن يكون له من الرأي ما يُغَايِرُ ، ولو لم يُفْرَضْ بشريعةٍ أو قانون صارم ، بل قد سُنَّتِ الشرائع لتأخذ على يديه فلا يُنْكِرَ ، ولو باللسانِ ، فليس إلا إنكار الجنان ، وذلك أضعف الإيمان ، فَقُيِّدَتْ حريته ، ولو أن يَنْطِقَ بما يعتقد وينهج ، وكان ذلك من دعوى تَزْعُمُ من الحرية ما أُطْلِقَ ، فَأَتَتِ الدعوى على أصلها بالإبطال ، وهو ما يَنْفِي هذا المعنى المجرد ، معنى الحرية المطلقة ، فلا حقيقة له في الخارج تصدق ، وإنما يجري مجرى الفرض المحض ، فلا يستقيم أمر ، ولو بَلَغَ الخلق ما بَلَغُوا من الانحلال من كلِّ قَيْدٍ ، لا يستقيم إلا أن يكون ثم قيد ، ولو ضعيفا واهيا ، وإلا استبيحت الأشياء كافة ، وهو ما يفسد أي جمع من البشر ، آمنوا أو كفروا ! ، فلا بد من شرعة ومنهاج يقيد ، وهو ما يوجب الرد إلى الدليل ، فكل يزعم أن مذهبه في الاعتقاد والتشريع والأخلاق هو الحق المحكم ، وما سواه ، وإن وافقه في بعض ، فوصفه الأعم أنه الباطل ، وليس يَلْزَمُ منه أنه باطل محض ، بل منه حق ، ولو المجمل أو القليل أو النادر ، فكلٌّ يُصَيِّرُ مرجعَه هو المحكم الذي يَقْضِي في غير ، فهو يميز حقه من باطله ، فلا بد من واحد عنه يصدر في الحكم ، صَحَّ أَوْ فَسَدَ ، وهو ما يُبْطِلُ دعاوى زعمت وحدة أخرى ، وحدة الأديان والمذاهب ، أَنَّ كُلًّا على حق ، إذ تصدر جَمِيعًا عن مِشْكَاةٍ واحدة ، وهو ما تَذَرَّعَ بمذاهبِ تأويلٍ باطنٍ ، كما الهرمسية مثالا فهي ترد الأديان كافة إلى لاهوت واحد عنه انْبَثَقَتِ الأديان ، كما هذا العالم قد انْبَثَقَ عن الرب الأعلى في الغنوصية ، فَثَمَّ تأويل باطن في الأعيان ، وثم آخر في الأديان ، الغنوصية والهرمسية على التَّرْتِيبِ ، وذلك ما احتمل ، في مذاهب وحركات ، أسماء ذات دلالة دينية ، وإن كان المسمى لا دينيا باطنا يتذرع بالتأويل أن يُبْطِلَ الدين ، الصليب الْوَرْدِيُّ مِثَالًا محدَثًا من الجيل المتأخر . فَثَمَّ مسلمة ضرورية في العقل الصريح أن الحق واحد لا يتعدد ، لا كما زعمت مذاهب باطنية محدثة تروم التسوية بين الأديان والمقالات ، وتلك وحدة في الأديان تضاهي أخرى في الأعيان ، وبها ، لو تدبر الناظر ، إبطال التشريع الذي يُحِلُّ وَيَحْظُرُ ، فَثَمَّ من الحرية ما أطلق في مباشرة الأعيان والأسباب كافة ، إذ العين واحدة لا تَتَمَايَزُ في الخارج ، فلا يمتاز طاهر من نجس ، مباح من محرم ، فَاسْتُبِيحَتِ المحارم كافة ، وكانت الحرية المطلقة هي الذَّرِيعَةُ ، وهي ، كما تقدم ، المجرد الذهني الذي لا يتصور في الخارج ، ولو لدى أصحابها ! ، إذ يَسُنُّونَ من الشرائع والمراسيم ما يأطرون به الخصم ، فلا يجهر بما يَنْتَحِلُ من الدين والفكر أَنْ خَالَفَ عن معيارهم المطلق الذي يقيد بالدين والمذهب ، صَحَّ أو فَسَدَ ، فالحرية المطلقة تُقَيِّدُ الخصم إذ تُنْكِرُ وَتُرْهِبُ بما يحفظ لها في الخلق سيادة ، فلا تقبل الشركة ، فالتمانع فِيهَا يثبت ، ولو على وِزَانِ : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فذلك التَّنَزُّلُ فِي الجدالِ مع الخصم استدراجا ، وكذا كلُّ دينٍ فلا بد من قيد ، وهو ما يَرُدُّ الأمر ، كما تقدم ، إلى مُسَلَّمَةِ الضرورة العقلية التي تبطل الوحدة الباطنية في الفكرة والشرعة ، مُسَلَّمَةِ : الحقِّ الواحدِ فَلَا يَتَعَدَّدُ ، فما سواه فَبَاطِلٌ لا يتصور ، وذلك محل الإجماع لدى العقلاء كافة ، فلا عاقل يَنْتَحِلُ دِينًا أو شِرْعَةً أو مَذْهَبًا في الفكرة والحركة ، وهو يظن الخصم على حق مثله ، بل يعتقد أنه وحده من أصاب ، صَحَّ ذلك في نفس الأمر أو لم يصح ، فيكون من ذلك حِجَاجٌ يطلب الحق المحكم ، فلا بد من معيار في هذه الأقوال يحكم ، وكلٌّ قد ادعى الحق ، وَكَفَى بِهِ شَرَفًا أن يَدَّعِيَهُ كُلُّ أحدٍ ، ولو كان على باطل محض قد خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فَافْتَقَرَ أولئك ضرورةً إلى مرجع من خارج يجاوز ، فهو يجاوز العقول جميعا ، المفردة والمجموعة ، وإن كان من المجموعة ، كما تقدم ، موضوعي يجاوز من خارج الأفراد ، فلا يجاوز مطلقا إذ لا ينفك يحكي عقولا مفردة لا تسلم من الهوى والحظ ، فهو مجموع أهوائها وحظوظها إذ تصدر عن مرجعية ذاتية لا تجاوز أعيانها ، فليس إجماعها بالذي يعصم إذ لم يستند إلى مرجع من خارج يجاوز ، لا جرم كان من شرط الإجماع المعتبر في درس الأصول الديني ، أن يستند إلى دليل نَصِّيٍ يجاوز العقل والحس ، فلا يسلم العقل الجمعي ، وإن جاوز الأفراد ، لا يسلم من الحظوظ والأهواء ، مع اختلافه من مِصْرٍ إلى آخر ، ومن جيلٍ إلى تال ، فيكون من ذلك تعارض وتدافع يحكيه المثال الشاهد ، فكلُّ أُمَّةٍ لها عقل جامع يحكي مصالحها الذاتية التي لا تجاوز ، وهي ما يحكي الافتقار إلى الأسباب ، وتلك مادة بها الاتهام يَتَوَجَّهُ إِنْ إلى العقل المفرد أو آخر يجمع ، فكلٌّ قد افتقر الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا ينفك يطلب أولا هو الغني الذي غناه ، في المقابل ، الغنى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا بد من أول قَدْ كَمُلَ فِي الذات والوصف ، وله من العلم مَا أَحَاطَ ، ومن الغنى ما أُطْلِقَ ، فَهُوَ يَقْضِي في العقول المحدَثة من خارج ، قَضَاءَ المحكَمِ في المتشابه إذ سَلِمَ مِمَّا لم تسلم منه ، فَبَرِئَ من تهمةِ الهوى والحظ المحدَث ، ولكلِّ جِيلٍ من القيم والمبادئ ما يحكي ما يَجِدُ من الأهواء والرَّغَائِبِ ، وإن خالفت عن معيار الضرورة في العقل والفطرة ، فَثَمَّ من العقل الجامع ما اختلف إذ ليس ثَمَّ معيارٌ من خارجٍ يَأْطِرُ ، مع ما يكون من زُخْرُفٍ يُزَيِّنُ الجديد الذي يَرُومُ صاحبه الترويج ، وإن كان ظَاهِرَ الْقُبْحِ ، فيدفعه الوجدان أولا بما استقر من المعيار الناصح ، فتلك فطرة الخلق الأول ، ثم يكون من الإلحاح بدعاية تُوَسْوِسُ ! ما به الحكم يَتَبَدَّلُ ، بل وإلى ضِدٍّ يَنْتَقِلُ ، ولو على مكثٍ ، فلا ينفك يطلب المعيار المحكم من خارج ، فَلَيْسَ يَتَبَدَّلُ ولا يَضطَّرِبُ ، وهو ما دل ضرورةً أولى في باب النبوات ، أَنَّ ثَمَّ حَاجَةً إِلَيْهَا تُلْجِئُ ، فَهِيَ تَحْكُمُ من خارج فيما اختلفت فيه الأهواء والأذواق ، المفردة أو المجموعة ، فذلك أول في الباب يَحْكِي افْتِقَارَ العقولِ كَافَّةً إلى مرجِعٍ من خارج يجاوز ، وذلك الوحيُ النَّازِلُ ، ثُمَّ يكون تَالٍ في الباب ، وهو إثباتُ عَيْنِ نُبُوَّةٍ مخصوصة ، إن بمسلَكِ النَّوْعِ أو آخر يَتَنَاوَلُ الشَّخْصَ ، كما يَحْكِي بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ إذ يستدل بحديث هرقل ، وقد سأل عن وصف عام يَتَنَاوَلُ النبوة : مَادَّتَهَا وَأَتْبَاعَهَا وما يكون من أمرها أيزيد أم ينقص ..... إلخ ، وذلك مسلك النوع ، وثم آخر أخص ، فهو يَتَنَاوَلُ صاحبَها وذلك مسلَكُ الشَّخْصِ ، فحاجة الخلق إلى النبوة حَاجَةٌ تَعْظُمُ ، فلا تعدلها حاجة في هذا العالم ، وقد جاءت تَمِيزُ الخالقَ ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فأبطلت وحدة الأعيان ، إذ مَازَتِ الأول من تال هو المحدَث الذي لم يكن أولا يُوجَدُ ، وإن كان له أولية في باب ، فليست الأولية المطلقة ، كما العرش مثالا تَقَدَّمَ في موضع ، فهو أول المخلوقات ، فلا يطلق في حقه لقب الأولية إذ ليس ذلك إلا لرب البرية ، جل وعلا ، فَمَازَتِ القديم من المحدَث ، وكان من ذلك أول في التصور ، وهو ما يواطئ فطرة أولى في الوجدان تثبت ، إذ تميز ضرورة الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق المحدَث ، فيكون من ذلك توحيد في التصور ، وإن المجمَلَ فلا ينفك يطلب دليلا يُبَيِّنُ ، فكان من الوحي ما قَرَّرَ الأصل الأول الذي ثبت في الوجدان ضرورةً ، أصل التوحيد ، وكان من تال ما يُفَصِّلُ ، إذ جاء الخبر الذي يَصْدُقُ في وَصْفِ الخالق ، جل وعلا ، فَلَهُ من ذلك الكمال المطلق الذي لا يَشْرَكُهُ فيه أحد ، وإن كان ثم شَرِكَةٌ في أجناس من الدلالة يجردها الذهن ، أجناس الكمال المطلق ، كما العلم والحكمة ، والمشيئة والرحمة ....... إلخ ، فلا يلزم من الاشتراكِ فِيهَا حصول وحدةٍ أو اتحادٍ في الخارج لا يمتاز فيه خالق من مخلوق حادث ، وهو ، أيضا ، مما عمت به البلوى في مَاضٍ تَقَدَّمَ ذِي أصلٍ إلى دين الوثن ينسب ، فلا نسبة له تَتَّصِلُ إلى دين النبوات الواحد ، دين التوحيد الناصح ، وإنما سرى ذلك إلى دين النبوات بما كان من غلو في المخلوق المحدَث ، وإن جليلا يشرف ، كما أعيان من الأنبياء ، عليهم السلام ، قد غلا فيهم الأتباع ، وهو ما لم تسلم منه الأئمة والأولياء ، بل وأصحاب مذاهب محدَثة لا تقر بديانة منزلة ، فهي تجاوز الحد في الْمُطَاعِ المتَّبَعِ ، فيكون من شرعته المحدَثة طاغوت يحكم ، كما من ذاته طاغوت يعبد ، وإن لم يركع الجمع ويسجد في الظاهر ، فقد تأول ذلك في الباطن ، بما كان من تعظيم قد جاوز الحد ، فكان من عموم البلوى ، بلوى الوحدة والاتحاد ، كان من ذلك ما عَمَّ الماضي والمحدَث ، فكان من ذلك ما سرى فيه المطلق الأعلى في جسد محسوس أو آخر معقول ، كما جسد المثال الحاكم ، مثال الدولة المحدَثة ، وقد صارت الإله الذي استجمع الأسباب كافة فهو يُشَرِّعُ ويقضي ويدبر وينفذ الأمر بما احتكر من أسباب القوة وقد صارت أصلا في حكومته ، بل هي الحق المحكم ، فثم إله السياسة والحكم ، الدولة المحدثة التي لا تأرز إلى الشرعة المنزلة ، لا في التصور ولا في الحكم ، وإن واطأتها في بعض فنافلة بعد فرض ، إذ الأصل في الأرض يحدث ، فليس من السماء يَنْزِلُ ، فذلك ، كما اصطلح بعض من بحث ، ذلك الإله الدنيوي الذي يناجز آلهة السماء فهي تدبر وتفر إذ غلبها الإله الدنيوي في الأرض . وكل أولئك من شؤم الوحدة والاتحاد ، لازما لا يَلْزَمُ ، فلا يلزم من الاشتراكِ فِي المعاني المجردة في الذهن ، لا يلزم منها حصول وحدةٍ أو اتحادٍ في الخارج لا يمتاز فيه خالق من مخلوق حادث ، إذ الشركة في المعاني المجردة لا تحصل إلا في الذهن ، فلا يكون منها شيء في الخارج ، وهي ، أي شركة المعاني المطلقة ، هي حتم لازم في إثبات المعنى ، وإلا بطلت دلالة الكلام عليه ، وصار صوتا يُزْعِجُ ، فلا يفيد من الدلالة ما يَنْصَحُ ، فجاءت النبواتُ تَمِيزُ الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فأبطلت وحدة الأعيان ، وجاءت تميز الوحي المنزَل من الوضع المحدَث ، فأبطلت وحدة الأديان التي عمت بها البلوى أن اكتست زورا لحاء التجديد والإصلاح على قاعدة قِيَاسٍ باطل ، فهو القياس مع الفارق ، قياس ما كان من حركة الإصلاح في عصر وسيط في دين قد ناله التبديل الذي قدح في أصول التوحيد بما ابْتَدَعَ من مَقَالَةِ التَّلْفِيقِ ، فكان من الإصلاح ما رَامَ التخلص من قيد الكهنة إذ احتكروا أسرارَ الملة ، وتأويل ما ظهر من نصها بجمل من الباطن تُفْسِدُ النقل والعقل كافة ، إذ تخالف عن المعلوم الضروري ، الفطري والخبري . فكان من ذلك القياس الفاسد ما قاس الدين الخاتم المحفوظ على الدين السابق المبدَّل ، فالخاتم ، أيضا ، يستوجب الإصلاح كما الأول المبدَّل ، وإن كان الخاتمُ هو المحفوظَ المحكَمَ ، الحاكم المهيمن في كتابٍ تَقَدَّمَ ، بما شهد له ضرورة من صحة النَّقْلِ وصراحة العقل إذ يواطئ معيار الكلام المفصِح . فكان من القياس مع الفارق ما خالف عن البدائه إذ تَقْضِي ضرورة بالتفريق بين المختلفات ، لا قياسَ مختلِف على آخر ، وأي اختلاف أعظم من الاختلاف بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ؟! ، وآخر بين الوحي المنزَل والوضع المحدَث . ولم يخل الباب من سوء القصد ، أن يكون ثم سعي في إبطال الدين إذ يخالف عن الهوى والحظ ، وما يَغُرُّ من جاهٍ ورياسة ، وما أفسد التصور والحكم من شبهات وشهوات قد نالت من القوى كَافَّةً ، العلمية والعملية ، فَلِأَجْلِهَا كان التأويل الباطن ، وكان القياس مع الفارق الذي توسل إلى ذلك بدعوى التجديد الذي يحل إشكال الأديان ، فَيَرُدُّهَا جميعا إلى محكم أول ، ليس من السماء يَنْزِلُ ، وإنما هو دين الإنسان الذي صار المركز ، فجاوز الحد في التصور والحكم ، فهو الأصل الذي يصدر عنه الوحي مع ما نَالَ الجبلة من الحاجة والنقص والأثرة والشح ، فلم يُجْدِ دين الإنسانية في الباب شَيْئًا ، بل قد زاد الصراع ، فكلٌّ يروم حظا من اللذة ، ولأجلها يسعى في اكتساب القوة التي صارت الحق المحكم ، فَمَنْ مَلَكَهَا فهو يفوز باللذات جميعا ، ظَلَمَ أو عَدَلَ ، فمعيار الحق ليس العدل ، وإنما الكسب المعجَّل الذي لا يجاوز مدارك الحس التي عنها يصدر الإنسان في تصوره وحكمه ، فذلك ما جاءت النبوات لتأطره على جادة تنصح مرجعها من خارج يجاوز ، فهو يميز في الأديان ، كما الأبدان ، فيميز الوحي المنزل وهو واحد ، من الوضع المحدَث وهو المتعدد الذي يضطرب إذ يصدر عن عقول كثيرة تَتَدَافَعُ ، وَلَا يَسْلَمُ كُلٌّ من الأعراض والآفات ، فلا يسلم كُلٌّ إلا أن يُرَدُّوا جميعا إلى واحد في الدين والحكم ، فيكون من ذلك توحيد يبطل الوحدة ، وحدة الأعيان في التصور ، ووحدة الأديان في الحكم ، فينصح الباطن بعلم يَنْفَعُ ، وينصح الظاهر بعمل يَصْلُحُ . وأصل كل بَلْوَى في هذا الباب هي : التسوية بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، فيكون الغلو في المخلوق والجفاء في الخالق ، وذلك مما يجري مجرى التلازم ، فَلَا يَنْفَكُّ الأول يُفْضِي إلى الثاني ، كما حلول اللاهوت في الناسوت ، فذلك مما يجفو في اللاهوت الأعلى إذ يحل في ناسوت أدنى ، فَيَنَالُهُ من نقصه ما هو ذَاتِيٌّ لا يُعَلَّلُ ، لا جرم كان الاستدلال بالأكل في قوله ![]() فكان من ذلك ما يجري ، من وجه ، مجرى التلازم ، فالأكل لا ينفك يطلب الشراب فهما يَقْتَرِنَانِ في المحل الذي يَتَنَاوَلُ وهو الفم ، والمعي الذي يُعَالِجُ بما رُكِزَ فيه من القوى الهاضمة ، ويجري مجرى آخر من السَّبَبِيَّةِ ، إِذْ أَطْلَقَ السببَ وهو الأكل وأراد المسبَّب مما يكون بعد الأكل والشرب من ثقل البدن وما يصيبه من كسل وخمول ، بل قد يَعْتَلُّ بعدا بما يتراكم من أخلاط ضارة تُفْسِدُ مِزَاجَ العقلِ والبدنِ ، فَيُصِيبُهُ المرض بما يتناول من المحرم أو يفرط من المباح ، فيكون من فضوله ما يضر ، وكذا ما يكون من الحدث ، وهو أظهر في حكاية النقص ، نَقْصِ الجبلة البشرية ، فَأَطْلَقَ سَبَبًا وهو الأكل وأراد المسبَّب وهو ما يكون من فَضْلَةِ بَدَنٍ تخرج ، فيجري ذلك ، من وجه ، مجرى المجاز ، مجاز السببية ، ومن ينكر المجاز ، فهو على أصل يطرده في مَحَالِّ الخلافِ كافة ، فَيُجْرِي ذلك مجرى الحقيقة ، فهو مما تداوله أهل اللسان في عرف أَخَصَّ يُقَدُّم على الأعم من حقائق اللغة ، فثم خاص وهو حقيقةُ العرفِ ، فَيَقْضِي في عام وهو حقيقة النطق ، وذلك قياس الأصول المحكم أَنْ يَقْضِي الخاص في العام فلا تعارض ، إذ القطعي يقضي في الظني ، فالأول في الدلالة أرجح كما تعارض النص والظاهر ، فالخاص نص في الدلالة لا يحتمل ، والعام ظاهر يحتمل ، وإن كان من معناه الأول راجح يتبادر وهو ما يُسْتَصْحَبُ فَيُجْزِئُ في الدلالة حتى يكون ثم دليل من خارج هو الناقل . وكل أولئك ، الأكل ولوازمه من الشرب وَمُسَبَّبَاتُهُ من الحدث .... إلخ ، كل أولئك ، بداهة ، من النَّقْصِ المطلق الذي تَنَزَّهَ عنه الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فوجب ضرورةً الامتيازُ : امتيازُ الخالقِ الأعلى من المخلوق الأدنى ، واجب الوجود لذاته من آخر هو الجائز المحدَث فلا ينفك يطلب أولا عنه يصدر ، له من وصف الوجوب الوصف الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الإيجاب الوصف الفعلي الذي يُؤَثِّرُ ، فهو يُرَجِّحُ في الجائز فيصيره الواجب لغير ، فلا يستقل بالوجود أو البقاء ، فلا بد من موجِد أول يوجد ، وَمُبْقٍ له يُبْقِي بما يُجْرِي مِنْ سَبَبٍ به حِفْظُ العينِ أن تَتْلَفَ ، وكل أولئك مما يبطل مقال الوحدة الذي عمت به البلوى في كل جيل ، فمنه ، كما تقدم ، وحدة الأعيان ، إن خاصة كما المسيح ، عليه السلام ، على تفاوت في المقال ، إِنْ حلولَ اللاهوت في الناسوت ، أو حلولَ الوصف أو الأقنوم وهو الكلمة في الذات المحدَثة في الخارج ، وثم من وحدة الأعيان الخاصة آخر قد تَنَاوَلَ شخوصا في الخارج سوى المسيح ، عليه السلام ، فكان الغلو في الحبر والراهب ، سواء أكان الحلول حلول اللاهوت أم حلول روح من التشريع بها الحبر أو الراهب يطغى إذ يُتَّخَذُ رَبًّا يحل ويحرم ، كما في حديث عدي بن حاتم ![]() ومن الأعم في الباب ما يجاوز فهو يستغرق الشعب كله ، إن الشعب المختار المقدس في مُثُلٍ تأرز إلى عصبية العرق والعنصر واللون ، أو البشر كافة ، بل منه عام لا أعم منه قد استغرق العالم المحدَث كله ، فلا يمتاز من الخالق الأول الذي حَلَّ في أعيان هذا العالم المحدَث كلها ، عَلَتْ أو سَفُلَتْ ، طَهُرَتْ أو نَجُسَتْ ، وثم من الحلول ما جاوز الأعيان إلى البقع والمواضع ، فَثَمَّ أرضٌ قد حَلَّ فيها الخالق ، فهي جسده أو رأسه ! ، ومنها الحكم يصدر ، كما يقول بعض من بحث في مذاهب محدثة تُسِرُّ ما لا تعلن ، فتأويلها ، كما تقدم ، الباطني المحدث ، وثم من مثل الحلول ما ضاهى أولا من الحلول الخاص ، فكان الغلو في الولي في المثال الصوفي ، فَثَمَّ من الحلول فيه ، إن الذات الإلهية أو الوصف تدبيرا وتأثيرا ، فله تأثير في الكون وله تقدير في الشرع ، فثم شرك في وصف الربوبية التي تخلق وتدبر ، وثم آخر في وصف الألوهية التي تحكم وتشرع ، وكان الغلو في الإمام في المثال الشيعي ، وله ولاية تشريع تُعْصَمُ ، بل وأخرى من تكوين فهي تُؤَثِّرُ في الخلق والتدبير ، وثم من مثل سياسة محدثة ما لا يخلو من مادة حلول ، فقد حلت روح التشريع في الشعب ، فَلَهُ من الوصف سيادةً مطلقة لا تخضع لمرجع من خارج يجاوز ، سواء أكانت السيادة : سِيَادَةَ الأمةِ ، أم سِيَادَةَ الأفرادِ فَهِيَ عَلَيْهِمْ تَتَوَزَّعُ ، وثم منها ما استبد في الحكم الفردي الذي يمنح الحاكم المطلق وصف الإله الذي يُشَرِّعُ ، وإن لم يُصَرِّحُ ، فَلِسَانُ الحال يحكي ما لا يحكي لسان المقال ، وثم الحلول في مثال السياسة المحدثِ ذي الهيئات المجموعة التي يَنْتَظِمُهَا هرم يتدرج ، فذلك محل قد حل فيه المطلق الأعلى ، فَصَارَ من المثال الأرضي ما اصْطُلِحَ أنه الإله الدنيوي الذي يحكي تراجع الآلهة في السماء ، فلا تحكم الأرض ، وإن كان لها من فعل ، فَفِعْلُ التكوينِ الذي انْقَضَى ، دون آخر من التدبير والتشريع الذي يَتَجَدَّدُ . فَكُلُّ أولئك من مادة طغيان في التصور والحكم ، فيصدق فيها جميعا أنها طاغوت قد جاوز الحد في المعبود أو المتبوع أو المطاع ، كما حده بعض من حقق ، ولا ينفك يجفو في الخالق الأعلى ، على ما تقدم من تلازم بين الغلو والجفاء في هذا الباب ، الغلو في المخلوق الحادث والجفاء في الخالق ، جل وعلا ، والمبدأ منه دعوى الحلول آنفة الذكر ، فلا ينفك يصدر عنها كُلُّ فسادٍ في التصور والحكم ، فهي أصل في ذلك ، إذ تخالف عن الضروري من القياس المحكم إذ يَقْضِي بَدَاهَةً بالتفريق بين المختلِفات ، وأي اختلاف أعظم من الاختلاف بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق المحدَث ؟! ، فقياس الأول على الثاني : قياس مع الفارق ، فهو قياس الغائب الكامل على الشاهد الناقص ، وهو ، مع ذلك ، فاسد الاعتبار إذ خالف عن النص المحكم الذي يَنْفِي ، فـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فكان من النفي ما عَمَّ ، وتلك دلالة النكرة "شَيْءٌ" في سياقِ النَّفْيِ ، فذلك نص قد اطرد في العموم ، وهو شطر أول في الباب ، ولا ينفك يطلب تاليا وهو الإثبات ، فالنفي يُرَادُ لغيره إذ به تخلية المحل من وصف النقص ، فَحَسُنَ فيه الإجمال ، من هذا الوجه ، كما شطر أول من شهادة التوحيد ، شطر النفي في "لَا إِلَهَ" ، والإثباتُ ، في المقابل ، يُرَادُ لِذَاتِهِ إذ به تحلية المحل بوصف الكمال ، وهو ما يحسن فيه الإثبات ، كما شطر ثان من شهادة التوحيد ، شطر الإثبات في "إِلَّا اللهُ" ، على تقدير : لا معبود بحق إلا الله ، فالله ، وجل وعلا ، وحده ، هو المعبود بحق ، فكل معبود سواه فباطل ، وهو ما يضاهي في الحد ما كان من الكفر والإيمان في الآي المحكم ، فـ : (مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ، فكان من شرط الإيمان المجزئ كُفْرٌ أول به المحل يَبْرَأُ من طاغوتٍ قَدْ جَاوَزَ الحدَّ ، إن في التصور أو في الحكم ، فإذا بَرِئَ المحل من الباطل ، وهو ما أُجْمِلَ ، أيضا ، بما اطرد من دلالة "أل" في "الطاغوت" ، فهي أولا تحكي الْبَيَانَ لجنس المدخول ، وَتَالِيًا من استغراق لوجوه المعنى وآحاده ، فكان الإجمال في النفي ، وكان الإيمان بالإله الحق ، فالمحل قد بَرِئَ من الباطل ، فصار أهلا لحق ناصح ، وذلك ما يجري في الْبَيَانِ مجرى المقابلة التي اسْتَوْفَتْ شَطْرَيِ القسمة ، الكفر والإيمان في الآية : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ، والنفي والإثبات في شهادة التوحيد ، وكذا النفي والإثبات في الإلهيات ، كما الآي المتقدم أَنْ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، فَكَانَ النَّفْيُ الَّذِي أُجْمِلَ فِي البابِ ، وذلك الأصل في التخلية من وصف النقص ، إلا في مواضع تَقِلُّ ، فهي الاستثناء من أصلٍ محكم ، أصلِ النَّفْيِ المجمل ، فَثَمَّ منه ما فُصِّلَ فِي مَوَاضِعَ دَرْءًا لِشُبْهَةٍ قد عمت بها البلوى ، كما بَلْوَى المثلِّثة في دعوى الميلاد ، أو رَدًّا لدعوى تَبْطُلُ ، كما زعم يهود في مواضع من الفقر وغل اليد ولغوبٍ بعد الخلق ، وتلك ، أيضا ، مادة تشبيه فاسد ، أن قِيسَ الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق الحادث ، وهو ، كما تقدم ، القياس مع الفارق ، قياس الكامل الغائب على الناقص الشاهد ، ولا يخلو من مادة حلول واتحاد قد اطردت في مقال باطني محدَث قد تَنَاوَلَ نص الكتاب الأول بما يأتي على أصل التوحيد والنبوة بالإبطال ، بل قد جاء بضد من وَثَنِيَّةٍ تُقَدِّسُ الإنسان فَتُصَيِّرُهُ المركز ، مركز التصور والحكم الذي احتكره الكاهن والحبر ، فكل أولئك مما استوجب النَّفْيَ المفصَّل فِي مَوَاضِعَ ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ المحكَمُ فِي الباب : النفي المجمل ، كما في الآي آنف الذكر أَنْ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وهو ما به المحل قد بَرِئَ فَتَهَيَّأَ بَعْدًا إلى إثباتٍ مُفَصَّلٍ ، فالمبدأ : نَفْيٌ قد أُجْمِلَ ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، كما النكرة "شَيْءٌ" في سِيَاقِ نَفْيٍ تَقَدَّمَ ، وذلك ما استوجب ، من وجه آخر ، قَيْدًا به الناظر يحترز من التعطيل ، فلا يكون الغلو في التنزيه الذي يجاوز الحد فِي النَّفْيِ ، فَيَنْفِي الأصل العام الذي يجرده الذهن من المعنى ، فلا كلام يستدل به إلا أَنْ يَثْبُتَ أول من المعنى ، ولو المجرَّدَ في الذهن ، فلا يلزم من إثباته تمثيل أو تشبيه في الخارج ، إذ لا يوجد المطلق في الخارج بشرط الإطلاق ، لا يوجد إلا مقيدا بذات يقوم بها ، قيام الوصف بالموصوف ، فيكون من ذلك قَدْرٌ فَارِقٌ فِي الخارجِ ، من نَفَاهُ ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، فَهُوَ يَقَعُ في التَّشْبِيهِ ، كما أن نَفْيَ القدر المشترك في الذهن يوقع الناظر في ضِدٍّ من التعطيل ، فلا تَرْسَخُ القدم في هذا الباب الجليل ، إلا بإثبات بلا تمثيل ، وتنزيه بلا تعطيل ، وهو ما يعدل في الحد : إثبات القدر المشترك في الذهن ، وإثبات القدر الفارق في الخارج ، مع إجمال في النفي ، وتفصيل في الإثبات ، وبه امتاز الواجب من الجائز ، واجب الوجود الأول ، فَوُجُودُهُ الذَّاتِيُّ الذي لا يُعَلَّلُ فلا يفتقر إلى سبب أول يَقْدُمُ ، وله من الوصف ما زَادَ فِي الفعلِ ، إيجابًا يَتَعَدَّى إلى غَيْرٍ ، كما له وجوب ذاتي لا يجاوز ، فَلَهُ من وصف الفعل ما به يُرَجِّحُ في الجائز فَيُصَيِّرُهُ الواجب ، وإن لغير ، فيكون من وجوده في الخارج ما يُصَدِّقُ تَقْدِيرًا أول في العلم المحيط المستغرِق ، فامتاز الوجود إلى خالق أول هو الواجب ، وما سواه فهو المخلوق الحادث ، فالخلق جميعا ، الأعيان والأحوال والأوصاف والإرادات ، الخلق جميعا يصدرون عَنْ خَالِقٍ عليمٍ حكيمٍ قديرٍ ، له من التقدير الأول ما أحاط فاستغرق ، وله من الإرادات في الكون ما يَنْفُذُ ، فَثَمَّ إرادة الخلق التي تَنْفُذُ ، وثم إرادة الفعل التي تُؤَثِّرُ ، وهي ، مع ذلك ، لا تستقل بالتأثير بل لَا تَنْفَكُّ تطلب شَرْطًا من خارج فهو يُسْتَوْفَى ، وَمَانِعًا فهو يُنْفَى ، وَسَبَبًا أول يَتَقَدَّمُ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى سبب أول لا سبب له يَسْبِقُ ، فَلَهُ من ذلك أولية تُطْلَقُ ، وهي أولية العلم الذي يُقَدِّرُ على حَدِّ الإتقان والإحكام ، فَلَيْسَ الخبط والعشواء الذي يَزْعُمُ مقالُ التطورِ الذي أهدر تكريم الإنسان وَتَفْضِيلَهُ في الظاهر وفي الباطن ، في الروح وفي الجسد ، فَأَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ المادةِ ، فالهيولى ، أو المادة القديمة واحدة ، وإنما تَتَنَاوَلُهَا الأعراض ، فهذا إنسان في صورة ، وهذا حيوان في أخرى ...... إلخ ، وليس ثم امتياز في أصلِ الخلقِ يمنح الإنسان منصب الخلافة في الأرض أَنْ يَحْكُمَ بالعدل ، فقد يحكم القط أو الفأر ! ، كما قال بعض من يَنْتَحِلُ مقالَ التطور ، فإن تَوَلِّي الإنسان الأمرَ لم يكن عن اخْتِيَارٍ ولا تَفْضِيلٍ ، وإنما عن خبط وفوضى ، وليس ثَمَّ حقيقة إلا المادة التي تدرك بالحس ، فالروح لا تمتاز بخاصة تلطف ، وهي محل التكليف المنزل ، فَثَمَّ إهدار لها وإنكار ، فليس ثم إلا حركة الجسد بما له من أدوات تُبَاشِرُ الحس ، وَقَدْ أوجزتها الحداثة في اللذة غايةً ، وفي القوة ذريعةً أو وسيلةً ، فَثَمَّ عالم يبدأ من الحس ، من أدنى إلى أعلى ، لا عن فطرة أولى تنصح ، فطرة التوحيد ، وإنما ثم صفحة بَيْضَاءُ ، فذلك إنسان بلا رِكْزٍ أول من فِطْرَةٍ تَنْصَحُ ، إن في الروح أو في الجسد ، ولو في نوع أول يميز الذكر من الأنثى ! ، فَثَمَّ هوية ونوع أخص ، وهو ما يختارُ الإنسان ، وإن خالف عن أصل الخلق الأول ، فالنوع الظاهر يُكْتَسَبُ ، والاعتقاد الباطن يُكْتَسَبُ ، وليس ثم ركز فطرة أولى من التوحيد الذي أُجْمِلَتْ مادته في النفس ، وهي ما يقرن آخر من مقدمات العقل الضرورية ، وبها يستدل الناظر على الفاعل الأول ، إذ المحدَث لا بد له من محدِث وهو ما يتسلسل حتى ينتهي ضرورة إلى أول لا أول قبله ، فهو واجب الوجود الأول الذي لا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل الأسباب كافة إليه تفتقر ، فوحده من يُوصَفُ بِالْغِنَى الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وكل ما سواه فهو على ضِدٍّ من الوصف ، وصف الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا يوجد وهو ابتداء الجائز إلا أَنْ يُرَدَّ إلى أول هو الواجب ، فوجوبه ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما أُجْمِلَ في الوجدان ضرورةً ، كما النوع ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَثَمَّ فطرة أولى قد تناولت الحس والمعنى كافة ، ولا ينفك كُلٌّ يَطْلُبُ من البيان ما يُفَصِّلُ ، فالنوع مما يولد به الإنسان فهو من فطرة الضرورة ، ثم هو بَعْدًا يُعَلَّمُ ما يواطئ نوعه من الأخلاق والسلوك ، فلا يُعَلَّمُ نوعَه ، فذلك مما لا يكتسب بالتعلم ، وإنما يعلم ما يواطئ نَوْعَهُ من الأخلاق والسلوك ، فيكون من ذلك تفصيل لما أجمل من فطرة أولى في الأبدان تثبت ، فلا يعلم ضدا من نوعه فيكون الاضطراب في الهوية والسلوك ، وذلك ما نَشَأَ عن قول ينكر الفطرة الأولى ، وهو ما يُلْزَمُ القائل به بِلَازِمِ قوله : ألا خالق أول يتقدم ، فليس ثم علم تقدير أول مع إرادة ترجح في خلق الذكر ذكرا ، والأنثى أنثى ، بل كان الخبط والعشواء الذي أخرج كُلًّا على هَيْئَةٍ محسوسة لم يخترها ، فهو يختار بعدا الهيئة النفسانية والاجتماعية ولو خالفت عن الهيئة المحسوسة ، ومبدأ الأمر ، كما تقدم ، إنكار الفطرة الأولى ، إن فطرة الأبدان أو أخرى من الأديان ، فلم يكن ثم فطرة توحيد أولى تنصح ، وإنما ولد الإنسان بلا اعتقاد يسبق ، ولو المجملَ الذي يفتقر إلى البيان ، فهو ، كما قالت النبوات ، هو الموحِّد بالقوة التي تَفْتَقِرُ بَعْدًا إلى بَيَانٍ يُخْرِجُهَا إِلَى الفعلِ ، لا أنه لا يعرف التوحيد إلا أن يُعَلَّمَهُ ، وإنما يدركه ضرورةً في النفس فهو يَفْتَقِرُ إلى من يُبَيِّنُهُ ، وَبِذَا جاءت النبوات التي تصدق فطرة التوحيد الأولى ، وتبين عما أُجْمِلَ منها ، وهي بَعْدًا تُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ مِنْهَا ، فلا يستفيد الناظر من مقدمات الفطرة الأولى ومن مقدمات العقل الضرورية ، لا يستفيد إلا العلم المجمل ، وهو المبدأ الذي يَنْتَهِي إلى تفصيلٍ يُبِينُ ، فهو يجيب عن سؤالات في الإلهيات وسائر الغيبيات ، وتلك سؤالاتُ ضرورةٍ بما استقر في الوجدان من الفطرة ، فلا بد من تال من الوحي يُفَصِّلُ ، فجاءت النبوات بما يجزئ في التكليف من الخبر الصادق الذي يصحح القوة العلمية ، والحكم العادل الذي يصحح القوة العملية . والله أعلى وأعلم . |
#17
|
|||
|
|||
![]() فَلَئِنْ كان من الحس دليل معتبر في الباب ، باب الخلق بما يكون من معالجة آحاد من المخلوقات لا يخلو أمرها من إتقان في الخلقة وإحكام في السنة ، فالحس يعالج من الخلق الظاهر ما يُوَاطِئُ مقدمات ضرورة أولى من العقل والفطرة أَنَّ هذا الخلق لا بد له بداهة من خالق أول ، مع آخر أخص إذ الإتقان والإحكام دليل العلم والحكمة جمالا ، والمشيئة والقدرة جمالا ، فلئن كان من الحس دليل في هذا الباب ، فَإِنَّهُ لَا يجزئ إِلَّا فِي استدلالٍ مُجْمَلٍ على أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَا يُجْزِئُ فِي بَيَانٍ تَالٍ يُفَصِّلُ ، وَلَيْسَ ، من باب أولى ، ذريعة الغلو في التجريب والبحث ، أن يكون الحس وحده هو مصدر المعرفة ، كما اقترحت الحداثة ، إذ حَجَّرَتِ الواسعَ ، فَقَصَرَتِ العلمَ على المدرَك بالحس من تجريبٍ وبحثٍ ، فَلَيْسَ مَا يجاوز العقل والحس بِعِلْمٍ ، فذلك الغيب الذي لا يثبت ، وذلك تحكم آخر في التسوية بين الغيب والعدم ، والصحيح أن الغيب شطر من الوجود ، فمن الوجود ما يُشْهَدُ ، ومنه آخر يَغِيبُ ، وليس عدم وجدانه بالحس دليلا على عدم وجوده في نفس الأمر ، بل قد يوجد ، ولا يدركه الحس الظاهر ، سواء أَكَانَ الغيب المطلق أم آخر هو النسبي ، فَلَيْسَ عدم العلم به إذ هُوَ المغيَّب أو هو ما يجهل الإنسان فلا يعلم ، ليس عدم العلم به عِلْمًا بالعدم في نفس الأمر ، بل قد يوجد ، ولا يعلمه الناظر إذ لم يَثْبُتْ عنده من طريقٍ معتبرة ، سواء أكان من المغيب أم من المشهود ، فإن من المشهود ما يجهله كثير من الخلق ، لا سيما ما دَقَّ من علوم التجريب وأبحاثه ، فَهُوَ يَفْتَقِرُ إلى آلة أخص ، لا يملكها ولا يحسن يستعملها كُلُّ أحدٍ ، فلم يكن جهل الجاهل بها حُجَّةً على مَنْ عَلِمَ ، بل من علم فهو حجة على من لم يَعْلَمْ ، فليس الحس وحده مصدرَ المعرفةِ المعتبرة ، بل ثم مقدمات الضرورة في العقل ، وثم من الفطرة آخر قد رُكِزَ فِي الوجدانِ ضرورةً ، وثم من الحس ما يعالج المشهودات ، فيكون الجسد مبدأً في الاستدلال ، لا غاية في الإدراك ، كما اقترحت الحداثة ، فالحواس تعالج آي الأنفس والآفاق ، وهي بذلك تُثْبِتُ ضرورةً عِلَّةً أولى تَسْبِقُ ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فاستدلت الحواس بالأثر على المؤثِّر ، بالمفعول على الفاعل ، بالمحدَث على المحدِث ، بالجائز على الواجب الأول الذي يَتَقَدَّمُ فَهُوَ في الجائز يُرَجِّحُ ، فكان الاستدلال من أدنى إلى أعلى ، الاستدلال بالمخلوق على الخالق ، جل وعلا ، لا العروج الروحاني من الأول إلى الثاني بما يكون من انخلاعٍ من الطبيعة الأرضية الكثيفة بما يمارس الناظر أو السالك من رِيَاضَاتٍ بها النفس تَلْطُفُ ، فَتَصِيرُ أهلًا أَنْ تَدْخُلَ الحضرةَ العليا ، فيكون الاتصال إذ تَفْنَى بوجود الحقيقة الواجبة عن حقيقتها الجائزة ، وَيُكْشَفُ لَهَا من حُجُبِ العلمِ ما به تَسْتَغْنِي عن الوحي والنبوة ، بل هي تجاوزها فتخوض بحارا قد وَقَفَتِ النبواتُ بِسَوَاحِلِهَا ، وَتَبْلُغُ في الباب حَدَّ التفصيل لما دق من الغيوب إذ حصل لها من الكشوف ما حصل ، وهو ما يجاوز العلم المجمل الذي يحصل بمعالجة الحس لَعَالَمِ الشهادة في الخارج ، فلا يستفيد الحس من ذلك إلا ما تَقَدَّمَ من إثبات أول لا أول قبله ، وهو الخالق الأعلى ، وله من وصف العلم والحكمة ، والمشيئة والقدرة ، له من ذلك ما يدركه العقل ، فَثَمَّ قَدْرٌ من العلم الواجب يدركه العقل بما ركز فيه من مقدمات الضرورة في الاستدلال الناصح ، ولكن العقل ، مع ذلك ، لا يحيط بالمغيبات المفصلة دَرَكًا ، فقد أثبت ضرورة الخالقَ الأول ، وأثبت أن ثم خَلْقًا قد حدث ، وبه المنة تَثْبُتُ ، فتلك المنة العظمى في بابِ الخلقِ ، وهي عامة تستغرق البشر جميعا ، وتلك دلالة اللام في "لكم" في قوله
![]() ![]() وذلك ما عم ، من وجه آخر ، فجاوز المتبادر من دلالة العمل ، وَهُوَ مَا يَنْصَرِفُ إلى أعمالِ الظاهرِ ، فَثَمَّ من العمل ما جاوز المحال الظاهرة من أركان البدن إلى المحال كافة ، ما ظهر منها وما بطن ، فَاعْتَقِدُوا وَقُولُوا في مواضع يحسن فيها النطق ، ولا تقولوا في مواضع يحسن فيها الصمت ، وَافْعَلُوا في مواضع الْحُسْنِ وَاتْرُكُوا في مواضع القبح ، فكل أولئك مما يدخل في عموم المعنى ، معنى العمل في "اعْمَلُوا" ، وثم آخر يستغرق آحاد الجمع كافة ، فتلك دلالة الضمير ، ضميرِ الجمعِ المذكَّرِ ، وله من التغليب ما يجاوز ، فهو يَسْتَغْرِقُ كُلَّ مَحِلٍّ قد صَحَّ تكليفه في الخارجِ ، ذكرا أو أنثى ، مخاطبًا فهو الحاضر في المجلس الذي قِيلَ فيه الكلام لدى المبدإ ، أو غائبا لم يحضر ، موجودا زَمَنَ الخطاب أو معدوما لما يوجد بعد ، مؤمنا بِرِسَالَةِ القائلِ ، صاحبِ الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَهُوَ يُسَارِعُ في التصديق والامتثال ، فخطابه خطاب الفعل إذ استوفى الشرط الأول الذي يصح به الاعتقاد والقول والعمل ، أو كافرا فهو المخاطب بالقوة بما ركز فيه من مجملِ الفطرة الأولى التي يولد عليها الخلق كافة ، فهي ما يجزئ حتى يكون من البلوغ تكليفٌ أخص ، فإن نشأ على الإيمان فهو لهذا العقد يستصحب فلا يلزمه نظر تال يجدد ، فليس تكليفه الأول وقد بَلَغَ ، ليس تكليفه الأول أن يشك أو ينظر أو يقصد إلى النظر ، بل تكليفه توحيد ينصح في الباطن ودليله شهادة في النطق الظاهر ، وامتثال في حركات الجوارح ، وإن نشأ على ضد من الكفر الذي بُدِّلَتْ به الفطرة الأولى بما كان من مؤثِّر من خارج يفسد ويحرف ، إن نشأ على ذلك ، فتكليفه أن يوحد ، كما تقدم ، وذلك العام الذي يستغرق المحال كافَّةً ، الباطن بما يعتقد ، والظاهر بما ينطق ويمتثل . فالكافر يخاطب بالشريعة بما ركز فيه من فطرة أولى هي التوحيد ، وبما رُكِزَ فيه من قوى العقل التي تعالج الحجج والبراهين ، فذلك ، أيضا ، من الفطرة الأولى ، وهي أداة بها النظر المصرَّح في آي من التكوين والتشريع تنصح ، إذ يستدل بها على الخالق المدبر ، جل وعلا ، وهو الملزوم في دلالة القياس المحكم ، فتلك ربوبية لازمها تَالٍ يَقْرِنُ ضرورة ، فيستدل بها على ألوهية الحاكم المشرِّع ، ويكون من ذلك ربوبية بها التصور يَصْرُحُ ، وألوهية بها الحكم يصح ، وذلك المعنى الديني المجزئ الذي بعثت به النبوات كَافَّةً ، وإن اختصت الخاتمة أن خطابها يتناول العالمين كافة . فكان من الأمر في "اعْمَلُوا" ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ مِنْ هَذِهِ الوجوه ، وثم من العطف بالفاء في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، ثم من ذلك مَا يجري مجرى التعقيبِ والفورِ ، وذلك آكد في تقرير المعنى وتوكيده أَنْ يُرْفَدَ الحكم بالعلة ، فلا تخلو الفاء ، أيضا ، من دلالة السببية ، إذ لا تخلو فاء منها ، وإن لم تكن نَصًّا فِي التَّعْلِيلِ ، وهو ما يَجْرِي مجرى الجواب عن سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، على تقدير : وما علة ما تقدم من الأمر بالعمل ؟! ، فكان الجواب : فكلٌّ ميسر لما خلق له ، وتلك ، كما تقدم ، حكاية الحكمة أن هُيِّئَ كُلٌّ لما له قد خُلِقَ ، ومنه خلق الذكر والأنثى ، فَخُلِقَ كُلٌّ عَلَى ماهية مخصوصة تحكي الحكمة في التقدير ، والقدرة في التكوين ، فالماهية المتقنة المحكمة : حكاية الكمال المطلق ، إِنْ جمالَ العلم والحكمة في التقدير ، أو جلالَ المشيئة والقدرة في التكوين ، وَثَمَّ من دلالة التَّنْوِينِ في "كُلٌّ" ، ثم منها حكاية الإيجاز بالحذف ، فذلك تَنْوِينُ العوضِ عن المفرد ، على تقدير : كُلُّ أحد ، أو كلُّ إنسان ، أو كلُّ مكلَّف ..... إلخ ، فذلك ، من وجه ، مما به قد يستأنس من يجوز المجاز في الوحيِ واللِّسَانِ ، فذلك من مَجَازِ الحذفِ الذي يَفْتَقِرُ إلى دليل على المحذوف ، إذ لا حَذْفَ إلا بِدَلِيلٍ ، فكان من التَّنْوِينِ دَلِيلٌ ، من وجه ، وعوض من آخر ، ومن يجحد المجاز في الوحي واللسان فَلَهُ في هذا الموضع رَدٌّ عام يَتَنَاوَلُ مَوَاضِعَ الخلاف كافة ، إذ يُجْرِي ذلك مجرى العرف المتداول في النطق ، فاشتهر منه حذفُ المضافِ إليه ، واستبدال التنوين به عوضا يَنُوبُ عنه ، ودليلا يشهد ، فَثَمَّ من القرينة ما يدخل في حد النطق ، فليس خارجا عنه ، فذلك ظاهر مركب من لَفْظٍ وَقَرِينَةٍ بما كان من عُرْفِ نُطْقٍ قَدِ اشْتُهِرَ ، فالمجموع ظاهر في اللفظ يَرْجُحُ ، فليس من ذلك تأويل بحذف ، بل الحذف مما يدخل في حد الحقيقة ، بادي الرأي ، ولمنكر المجاز رَدٌّ خاص في هذا الموضع ، إذ الباب ليس حذفا وإنما عوض قد نَابَ فيه التَّنْوِينُ عن المضاف إليه ، وهو ما وَاطَأَ قانون اللسان في الباب ، باب التنوين ، فليس ثم مجاز ، وإنما الباب على حقيقة من اللسان قد اشتهرت فَتَنَاوَلَهَا الجمع الناطق وصارت من العرفِ الثابت . وَثَمَّ من دلالة "مَا" الموصولة في "لِمَا خُلِقَ لَهُ" ما يَنْصَرِفُ إِلَى غيرِ العاقلِ ، إِنْ بالنظرِ فِي أصلِ الوضعِ الأولِ ، أو تالٍ من السياق الذي يحكي من الأعمال والأحوال الميسَّرَةِ ، وتلك أعراضٌ أو أوصافٌ ، وهي ما لا يقوم بالخارج وحده ، فلا يوجد إلا قَائِمًا بِغَيْرٍ قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، وبهما جميعا تحصل الحقيقة في الخارج ، فلا يوجد في الخارج ذات مجردة من الوصف ، مطلقة مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فهي المطلقة بشرط الإطلاق ! ، وذلك ما لا يكون إلا مجرَّدا في الذهن الذي يَتَصَوَّرُ المعاني بعد تجريدها من القيود ، فلا يكون ذلك في الخارج ، إذ ليس ثَمَّ إلا الحقائق المقيدة ، فالإطلاق عمل في الذهن يُقَدَّرُ ، ولا وجود له في الخارج يُصَدِّقُ ، إذ ليس في الخارج إلا القيد ، قَيْدُ الذات التي يقوم بها الوصف أو الفعل ، فإذا جَرَّدَ الذهن الذات في حَدٍّ ، والوصف في آخر ، فذلك ما لا وجود له في الخارج إلا مُقَيَّدًا ، فَيُقَيَّدُ المعنى بالذات التي يقوم بها ، ويكون من الفصل بالإضافة ما يميز آحادا تندرج في جنس واحد ، فالعلم : جنس عام يَسْتَغْرِقُ ، وتحته من آحادٍ ما يَثْبُتُ بالإضافةِ ، فَيُقَالُ : علمُ زيدٍ وعلمُ عمرٍو ، ويقال ، من وجه آخر ، علم الخالق ، جل وعلا ، وهو العلم الأول المحيط الذي استغرق المقدورات كافة ، بل والمعدومات الممتنعات ، فالعلم يدرك منها الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فذلك علم الخالق ، جل وعلا ، الذي أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، وثم آخر يُشَاطِرُ الأول جنسَ المعنى الأعم الذي يجرِّده الذهن ، معنى العلم ، فعلم الخالق ، جل وعلا ، في حَدٍّ ، وعلم المخلوق الحادث في آخر ، فالذهن يجرد جنسَ المعنى المطلق ، وهو ما تدخل تحته آحاد في الخارج تُقَيَّدُ بالذوات التي تقوم بها ، وذلك القدر الفارق الذي يميز ، فلكلِّ موجودٍ من الوصف ما يُوَاطِئُ ذاته ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، والذهن في هذا الموضع ، أيضا ، يجرد الذات في حد ، والوصف في آخر ، وذلك ما لا يكون في الخارج ، فلا يكون إلا الحقيقة الحاصلة من ذات يقوم بها من الوصف ما يواطئ ، وليس من ذلك ما يستوجب التعطيل أو التأويل في الإلهيات فِرَارًا من لازم لا يَلْزَمُ ، لازمِ التركيب من أجزاء ، فإن ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما أجمل في إطلاقه أو في نَفْيِهِ ، فَوَجَبَ الاسْتِفْصَالُ قَبْلَ القبولِ أو الرَّدِّ ، وإن كان الْأَوْلَى في هذا الباب : الاقتصارُ على ألفاظ الوحي المنزل ، فَمَدَارُهُ على السمع تَوْقِيفًا ، وليس يَسْتَقِلُّ بِهِ العقل إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا ، وَإِنْ دَلَّ على جُمَلِ ضرورةٍ منه ، فالعمدة فيه ، وهو من أخبار الغيب ، العمدة فِيهِ السمع ، فَمَا صَحَّ منه فهو ضرورةً يُوَاطِئُ العقل المصرح ، فلا يطلق القول في التركيب إلا بعد الاستفصال إذ اتُّخِذَ ذريعةً للتعطيلِ إِرَادَةَ التَّنْزِيهِ ، أَنَّ الذات لا يقوم بها الوصف إلا أن يكون من ذلك مثال المركَّب الذي يَفْتَقِرُ إلى أجزائه وأبعاضه ، كما الحال من المخلوق المحدَث في الخارج الذي يدرك بأدوات الحس الظاهر ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، من القياس مع الفارق ، قياس الغائب على الشاهد ، الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق الحادث ، فَلَا يَلْزَمُ من قيام الوصف بالذات العليا أنها كأخرى بالحس تُدْرَكُ من ذاتِ المخلوق المحدَثِ ، فيكون من ذلك ذَاتٌ ذَاتُ أبعاضٍ وأجزاء يفتقر المجموع فيها إلى أفراده وأعضائه ! ، وإن كان ثم وجه آخر ، كما يذكر بعض من حقق ، فإن المركب منه معنى يصح في الدلالة ، وهو ما امتاز منه شيء من شيء ، فإن الموصوف بالعلم والقدرة والحكمة ... إلخ ، مما يمتاز منه العلم من الحكمة من القدرة ..... إلخ ، فهي أغيار في المعنى ، وهي ، مع ذلك ، تقوم بذات واحدة على حد التمايز ، ولا يَلْزَمُ من ذلك تَرَاكُبٌ لِأَبْعَاضٍ أو أجزاءٍ يَفْتَقِرُ فيها المجموع إلى أفراده ، فالعلم غير الحكمة ، والحكمة غير القدرة ..... إلخ ، ولا يلزم من ذلك تعدد القدماء في الخارج ، ولا حصول مُرَكَّبٍ من أجزاءٍ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا ، كما المركَّب المخلوق المحدَث ، فالواحد يمتاز منه العلم من القدرة من الحكمة ..... إلخ ، وهو مع ذلك واحد في الحقيقة في الخارج ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، وقد أخبر ، بادي الأمر ، أن ثم أوصاف كمال مطلق ، إِنِ الجلالَ أو الجمالَ المثبَت ، سواء أدل عليه العقل ، بادي الرأي ، أم كان مما لا يَثْبُتُ إِلَّا بالسمعِ ، فكان من ذلك الإخبارِ مَا امْتَازَتْ مَعَانِيهِ ، فَلَيْسَتْ واحدة في الدلالة ، وإن كان ثم وجه تَرَادُفٍ فهو بالنظر في دلالتها الْعَلَمِيَّةِ على الحقيقة الإلهية ، لا بالنظر في الدلالة الْوَصْفِيَّةِ ، فإن الأوصاف التي تَضمَّنَتْهَا النصوص الخبرية تَتَمَايَزُ ، فالعلم يمتاز من الحكمة ...... إلخ ، فَثَمَّ جهة قد انْفَكَّتْ ، وهو ما اصْطُلِحَ لَدَى بَعْضِ مَنْ حَقَّقَ أنه دلالة التكافؤ ، إذ التَّرَادُفُ يَثْبُتُ من جهةِ الْعَلَمِيَّةِ ، فالعليم هو القدير ..... إلخ ، بالنظر في الدلالة على ذات تقوم بها صفات العلم والقدرة ..... إلخ ، والتغاير يثبت من جهة الوصفية ، فالعلم غير القدرة ...... إلخ ، والحقيقة في الخارج فِي كلٍّ : حقيقةٌ واحدةٌ ، حقيقةُ الموصوفِ الواحد الذي يقوم به من الوصف ما يَتَعَدَّدُ ، فالمسمَّى في الخارج : ذات يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم كَثِيرٌ يَتَعَدَّدُ ، وهو ما امْتَازَ بعضُه من بعضٍ ، فامتازت الأوصاف ، فمنها جلال ومنها جمال ، وتحت كلٍّ من الآحاد ما يَتَعَدَّدُ ، والحقيقة مع ذلك واحدة لا تَتَعَدَّدُ ، الحقيقة الحاصلة من الموصوف وما يقوم به من الوصف ، فَلَا يُطْلَقُ القولُ ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، لا يُطْلَقُ القولُ بأن الموصوف غير الوصف ، أو الموصوف هو الموصوف ، فذلك ، أيضا ، مما احتمل لفظه ، فإن أَرَادَ القائلُ من لفظ "غير" حكايةَ ما جاز عدمه ووجود الأول ، كما لو قيل زيد غير عمرو ، فاحتمل وجود الأول وعدم الثاني أو غيابه ، فذلك ، بداهة ، ما يمنع القول إن الموصوف غير الوصف ، وإن أراد أنه يجوز العلم بأحدهما أو حصول صورته في الذهن دون الآخر ، فذلك مما يُجَوِّزُ القولَ إِنَّ الموصوف غير الوصف ، وكذا يقال ، من وجه أخص ، إن كانت المقابلة بين الذات والوصف ، فالوصف غير الذات ، وبهما جميعا تحصل حقيقة الموصوف في الخارج ، فلا يُقَالُ ، من هذا الوجه ، إِنَّ الموصوف غير الوصف ، فالموصوف في الخارج واحد ، وهو الحقيقة التي تحصل من الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم . ومحل الشاهد من ذلك ، أَنَّ الأوصاف والأحوال والأقوال والأعمال ، أَنَّ كل أولئك مما يقوم بالذات فلا وجود له في الخارج يستقل ، فَتِلْكَ مَعَانٍ لا توجد في الخارج مطلقة بشرط الإطلاق ، بل لا يكون منها في المبدإ جنس في الحد تشترك فيه الآحاد ، ثم يكون من الفصل ما يميز ، بل الحقائق ، بادي الوجود ، تمتاز في الخارج ، فوجود الخالق ، جل وعلا ، يمتاز من وجود المخلوق الحادث في الخارج ، وإن كان ثم اشتراك في مسمى الوجود المطلق ، فذلك ما لا يثبت إلا في الذهن المجرد . فَثَمَّ من الحكمة في التقدير في الخبر آنف الذكر : "«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»" ، ثَمَّ من الحكمةِ أَنْ كَانَ التَّيْسِيرُ ، تَيْسِيرُ كُلِّ مخلوقٍ لما له قَدْ خُلِقَ ، فدلالة "مَا" : دلالة الموصول الاسمي المشترك ، وهو نَصٌّ فِيمَا لا يَعْقِلُ ، فَتَنَاوَلَ الصفات والأقوال والأعمال وسائر الأحوال ، وكلها ، بداهة ، ما لا يستقل بالوجدان في الخارج ، بل لا توجد إلا مقيدة بذاتِ الموصوفِ أو الفاعلِ ، فَاقْتَضَتِ الحكمة ، فَضْلًا في الهداية أو عَدْلًا في الغواية ، اقْتَضَتْ أَنْ يُمَدَّ كُلٌّ بما يواطئ المحل من الأسباب ، كمالا أو نقصا ، وذلك ما عم الحس والمعنى ، فَخُلِقَ بَعْضلإ للسعادة وَيُسِّرَتْ له أسبابها ، وخلق بَعْضٌ للشقاوة وَيُسِّرَتْ له أسبابها ، والمحل ابتداء قد أُلْهِمَ كُلًّا ، ولو قوى في الوجدان قد رُكِزَتْ ، فكلٌّ يَتَأَوَّلُهَا بما يواطئ حالا أخص تحكي القدر السابق الذي يدور بَيْنَ الفضل هدايةً ، والعدل غواية ، فكان من ذلك إلهام أول يحكي من الهداية : هدايةَ التكوين ، بما ركز في المحال من القوى الناظرة وأخرى تصدق فهي الفاعلة ، فقد : (أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ، وهو ما حُدَّ مَاضِيًا يحكي التوكيد ، فذلك مما ثبت وَاسْتَقَرَّ ، ولا يخلو العامل من دلالة التعدي الذي جاوز المفعول الأول ، فَثَمَّ ملهَم وثم ملهَم به ، وهما المفعولان اللَّذَانِ تناولهما العامل "أَلْهَمَ" ، وثم من الطباق ، طباق الإيجاب ، ثم مِنْهُ ما عم فاستغرق أجزاء القسمة فلا تخلو النفس من فجور وتقوى ، وإن كان ثم من القسمة ثالث ، وهو ما أُلْهِمَتِ النَّفْسُ من المباحات بما رُكِزَ فِيهَا من قوى البدن الذي يطلب من الأسباب ما يصلح الفرد ويحفظ النوع ، وإن كان من المباح بالنظر في الغاية ما يَؤُولُ إلى أحد طرفي القسمة : الفجور والتقوى ، فَيَجْرِي ، من هذا الوجه ، مجرى الوسائل ولها أحكام المقاصد . فالقسمة القياسية في الباب : فجور يَحْرُمُ وتقوى تَجِبُ ، وبينهما ما به استكمال القسمة في الخارج من المباح ، وإن آلَ إلى هذا أو ذاك بالنظر في المقاصد التي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الوسائل ، فالقسمة ، من هذا الوجه ، على ثلاثة أنحاء ، فَثَمَّ : الفجور ، وهو ما يحرم وإن تَفَاوَتَ في الحكم بل قد يجاوز المحرَّم تحريمَ الجزم إلى آخر دونه فتحريمه تحريمُ الظن إِنْ بِالنَّظَرِ في ظنية الثبوت فهو من الآحاد ، أو ظنية الدلالة فهو من الظاهر وكلاهما ، لو تدبر الناظر ، يجزئ في الاستدلال حتى يَرِدَ الدليل الناقل الذي يُرَجِّحُ الخطأ في الإسناد أو المرجوحَ من المدلول فيكون ظاهر النص التحريمَ وذلك ظن راجح يستصحب فيجزئ في الاستدلال حتى يكون ثم دليل يَنْقِلُ إلى آخر هو المؤول ، فذلك مبدأ النظر : شكٌّ قد استوى طرفاه في الحد ، فافتقر إلى مرجح من خارج ، إذ يعدل في الدلالة : الجائِزَ الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وإلا اسْتُصْحِبَ عدم أول ، فالذمة تبرأ به حتى يكون من الدليل ما يشغل إذ يُرَجِّحُ في المشكوك الذي استوى طرفاه في الحد ، فيكون من ذلك راجح في مقابل مرجوح ، فلا يكون ذلك تحكما يُرَجِّحُ بلا مرجِّح ، بل ثم من المرجِّح المعتبر من خارجِ المشكوكِ ، فهو يجاوزه إذ ليس من ذاته عامل ترجيح ، فهو في نَفْسِهِ الطالبُ لِلْمُرَجِّحِ ، فلا يكون الترجيح ذَاتِيًّا لا يجاوز ، بل لا ينفك يطلب من ذلك عامل الترجيح من خارج ، وَكَذَا يُقَالُ في الوهمِ المرجوحِ ، فهو يقابل الظنَّ الراجحَ ، فلا يُصَارُ إلى المتوهَّم من باب أولى إلا أن يكون ثم عامل ترجيح من خارج ، فالمتوهَّم يطلبه ما لا يطلبه المشكوك ، إذ المتوهَّم مما قابل أولا ظَنًّا يَرْجُحُ ، والأخير هو ما اسْتُصْحِبَ مبدأَ النظرِ ، فلم يكن من المبدإ عدمٌ أو تَوَقُّفٌ ، بل الذمة به قد شُغِلَتْ ، بَادِيَ أمرِها ، فلا يَعْدِلُ عَنْهَا الناظر من باب أولى ، وهي الأقوى ، لَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلى أضعف إلا أن يكون من الدليل ما يُرَجِّحُ المرجوحَ الَّذِي لا يَتَبَادَرُ مَبْدَأَ النَّظَرِ ، فَثَمَّ من القرينة ما يَصْرِفُ عن راجحٍ وهو الظاهر أو الظن الغالب المعتبر ، ثم من القرينة ما يصرف عن ذلك الراجح إلى آخر هو المرجوح ، فَهُوَ الخفيُّ في مقابلِ الظاهرِ ، أو المتوهَّم في مقابل المظنونِ ، فلا ينفك النظر يطلب في هذا الموضع : دَليلَ الترجيحِ ، فهو يطلبه في الجائز الذي استوى طَرَفَاهُ فِي الحدِّ فكيف بالمرجوح ، بادي أمره ؟! ، فَطَلَبُهُ للقرينَةِ المرجِّحة يَثْبُتُ من باب أولى ، وترجيحه في مقابل المظنون بلا دليل يُرَجِّحُ ، ذلك أشد تحكما وفسادا في الاستدلال من ترجيح أحد طرفي الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال . فَاسْتُصْحِبَ ظاهرٌ راجح في لفظ التحريم نهيا ، أو نَصًّا أَنَّ القول أو الفعل يحرم ..... إلخ من صيغ التحريم في اللسان المفصِح ، اسْتُصْحِبَ هذا الظاهر من التحريم حَتَّى يكون ثَمَّ دليل من خارج به العدول إلى ضِدٍّ دَائِرٍ ، وأولاه بالاعتبار ما كان من الكراهة ، فالقسمة في باب النهي بين : التحريم والكراهة ، وثم من القسمة ما دق ، وهو اصطلاحُ بَعْضٍ في مذهب من الأصول يُفَرِّقُ بين مدلولِ القطعِيِّ في حَدٍّ ، والظني في آخر ، فالدليل المحرِّم إن كان قطعي الثبوت فذلك المحرم ، وإن كان ظني الثبوت فهو المكروه تحريما ، فَلَحِقَهُ التحريم الذي يُوجِبُ الكفَّ ، من وجه ، ولا يقطع الناظر بالتحريم ، من وجه آخر ، كما به قد قَطَعَ في الأول الذي ثَبَتَ بدليلٍ يَقْطَعُ ، فمناط الترجيح هو الثبوت لا الدلالة ، فكلاهما : المحروم والمكروه تحريما ، كلاهما مما رَجَحَ في مدلولِه التحريمُ الذي يُوجِبُ الْكَفَّ ، وإنما اخْتَلَفَا بالنظر في الثبوت ، وذلك أصل عند الحنفية رحمهم الله ، إذ اشترطوا في الآحاد شروطًا ، فقد عَمَّتْ به البلوى عندهم لما فَشَا في العراق من الكذب والوضع ، فَتَوَقَّفُوا في صحيح يكثر قد ثَبَتَ عند أهل الحجاز فهم في الجملة أصدق وأثبت ، وهم معدن الرسالة في نزولها وفي لسانها الذي يُفْصِحُ فقد نَزَلَ على لسانِ قريش وهو من لسان الحجاز ، فَلَهُمْ في دَرَكِ نصوصها ومعانيها ما ليس لِغَيْرٍ ، فلم يكن لأهل العراق من ذلك ما يَعْدِلُ ، فَتَحَرَّجُوا في الآحادِ ، إِنْ إثباتًا أو دلالةً ، فَمَا خَالَفَ عن القياس فهو عندهم رَدٌّ ، وما زاد على المتواتر فهو منسوخ ، وليس الآحاد مما يخصص العام المتواتر إلا أن يخصص الأخير بدليل متواتر يضاهيه في الثبوت ، فذلك ما يضعفه فيقبل التخصيص بآحاد هو الأدنى ، فلا يخصص به ، بادي النظر . فكل أولئك من آثار مذهبهم في الآحاد ، ومنها محل الشاهد من التفريق بين المحرم والمكروه كراهة التحريم ، وإن كانا جميعا على حد الوعيد بإثمٍ وعقابٍ يَنَالُ الفاعلَ ، وَإِنْ تَفَاوَتَ ، فَإِثْمُ مَنْ يُقَارِفُ المحرَّم أعظم ، وثم آخر في الاعتقاد يَثْبُتُ ، فَإِنَّ إنكارَ القطعي المتواتر مما يَقْدَحُ فِي أصلِ الدينِ الجامع ، ما لم يكن ثم من عذر الجهل أو النسيان أو التأويل ..... إلخ ، إلا أن يكون من ذلك ما اعْتُبِرَ وأما إنكار المكروه تحريما ، وَإِنْ أُلْحِقَ بالمحرم في دلالة الكف الجازم ، فإنكاره ، مع ذلك ، لا يقدح في أصل الدين الجامع إذ لا يكفر من أنكر آحادا ظَنِّيًّا ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ ليس مما يستوي فيه الناس كَافَّةً ، فيكون منه علمُ ضرورةٍ لا يفتقر إلى نظر ولا استدلال ، فلا حجة لمن جحد إن كان المجحود ضروريا قد استوى فيه الخلق كافة فلا يفتقر إلى نظر ولا استدلال ، لا النظري الذي يفتقر إلى استدلال أخص لا يحسنه كل أحد ، ولا يخلو هذا التقسيم من اعتبار بالنظر في تفاوت الأدلة ، لا سيما إِنْ تَعَارَضَتْ وَتَعَذَّرَ الجمع ، فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ، فالمتواتر في الثبوت يَرْجُحُ الآحادَ ، والقطعي في المدلول يَرْجُحُ الظنيَّ ، ولكنه ، من وجه آخر ، قد يَفْتَحُ ذريعة تخفى وبها يجترئ الناظر أن يَرُدَّ الاحتجاج بالآحاد ، فإن قطعية الدليل أو ظَنِّيَّتَهُ في الثبوت ، ذلك مما لا يقدح في أهلية الدليل أن يدل على مَعْنًى يَنْصَحُ في الاستدلال ، فدلالة اللفظ على المعنى قد تكون قطعيةً تُجْزِئُ في الاستدلال الجازم ، أو ظَنِّيَّةً تجزئ في الاستدلال الغالب ، وكلٌّ يصح الاستدلال به ، إِنْ في العلم أو في العمل ، فمتى ثبتت الصحة التي استوفت حدها في الاصطلاح ، متى ثبتت فهي تجزئ في الاستدلال إِنْ فِي الخبر أو فِي الحكم ، فالباب واحد إذ كلٌّ من التكليف النَّازِلِ ، فيستصحب الظاهر الراجح الذي يحكي ظَنًّا يغلب أَنَّ الخبر يصح في الإسناد ، وذلك أول في الاستدلال أَنْ يَصِحَّ الدليل ، وثم تال وهو أن يصرح المدلول ، فدليل صحيح ، وإن لم يكن المتواتر ، ودليل صريح وإن لم يكن النص الجازم ، بل يجزئ في الإسناد صحة تَغْلِبُ على الظن فلا تفيد العلم الضروري الذي يفيده المتواتر ، وإن احتفت بها القرينة فالعلم المستفاد منها العلم النظري الذي يَغْلُبُ لا العلم الضروري الذي يجزم ، والمبدأ ، لو تدبر الناظر ، خبر يَرِدُ ، والأصل فيه التوقف احتياطا حَتَّى يرد دليل يرجح القبول وإن لم يبلغ حَدَّ القطعِ الذي يجزم ، فذلك أول به الخبر يصير أهلا للاحتجاج فيكون من الظن ما يغلب ، فإذا انضاف إليه ظن آخر ينصح من طريق تخالف عن الأولى ، فالمخرَج قد افْتَرَقَ ، فلا يكون من ذلك تَعَجُّلٌ لدى الناظر أن يَسْتَدِلَّ بِطُرُقٍ تَرْجِعُ إلى مخرَج واحد ، فيظن أنها تَتَعَدَّدُ في المخارج ، فَيُقَوِّي كُلًّا بالآخر ، وهم في العدد واحد ، وإن كان ظاهره التعدد ، فهو كثير يَؤُولُ إلى واحد ، فَلَيْسَ ثَمَّ في الخارج إلا واحد في المخرَج ، فلا يَتَقَوَّى بَدَاهَةً بِفَرْعٍ يصدر عنه ، فالفروع الكثيرة قد آلت إلى واحد في الحقيقة ، فإذا اطْمَأَنَّ الناظر أن المخارجَ تَتَعَدَّدُ ، فَكُلٌّ بالآخر يَتَقَوَّى ، ويكون من الظن ما يَعْضِدُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، فالظن إلى الظن يزيد في الاستدلال حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى العلم ، إِنِ القاطعَ الذي يجزم أو النظري الذي يفيد علما دون الأول ، فكل أولئك مما يجزئ في الاستدلال ، وإن على تَفَاوُتٍ ، فالحسن أدنى ما يُحْتَجُّ به ، إِنِ الحسنَ لذاته أو لِغَيْرٍ ، والأخير ضعيف لم يشتد ضعفه ، قَدِ اقْتَرَنَ بما يعضد ، فكان من ضعيف محتمل ، كما المرسل أو المدلس .... إلخ ، فالأصل فيه الرَّدُّ مع احتمالِ ضِدٍّ ، فيكون الظاهر المستصحب فيه هو الرَّدُّ ، فلا يجزئ في الاستدلال حتى يكون من الدليل ما يعضد ، فالضعيف المحتمل مردود حتى يكون من القرينة ما يُرَجِّحُ ضِدًّا وهو القبول ، فذلك ما يجري مجرى التأويل إذ الظاهر الذي يَرْجُحُ في الضعيف ، وهو ما لم يستوف شروط الصحة أو الحسن ، فالظاهر الذي يَرْجُحُ في الضعيف هو الرَّدُّ ، إلا أن يكون ثم من القرينة ما يُرَجِّحُ الضِّدَّ ، فَيُقْبَلُ الضعيفُ ، وشرطُه ، لدى المبدإِ ، ألا يكون من الضعيف الذي اشْتَدَّ ضعفُه ، فذلك ما لا يَتَقَوَّى ولا يُتَقَوَّى به ، فهو كَلَا روايةٍ ، فلا اعتبار به إلا الحكاية التي تبين عن درجته ، كما يقال : هذا خبر مكذوب أو موضوع أو متروك ، أو مُنْكَرٌ قد خالف فيه مَنْ لَا يُحْتَمَلُ تَفَرُّدُهُ ، فكيف وقد خالف جَمْعًا من الثقات أَرْجَحَ ، فيقبل الضعيف الذي لم يشتد ضعفه إذا وَرَدَ من طُرُقٍ تَتَعَاضَدُ ، فَيَصِيرُ الحسنَ ، وإن لغيره ، وهو أدنى ما يحتج به ، وفوقه : الحسن لذاته ، فلا يشترط فيه تَعَدُّدُ الطرقِ ، بل تَعَدُّدُهَا يُصَيِّرُ الحسنَ صَحِيحًا ، وَإِنْ لِغَيْرٍ ، وهو فَوْقَ الحسنِ ، وفوقهما جميعا : الصحيح لذاته فلا يَفْتَقِرُ إِلَى قرينةٍ من خارج ، فلا يَلْزَمُ له تَعَدُّدُ الطُّرُقِ ، وإنما يُقْبَلُ منه الفرد المطلق ، أو الغريب ، فمنه الصحيح ، بل منه ما قَدْ بَلَغَ أعلى درجات الصحة ، وإن لم يجاوز حد الظن الغالب ، فلم يبلغ حد الجزم القاطع ، وهو ، مع ذلك ، يجزئ في الاستدلال ، إذ هو ظاهر يَرْجُحُ ، فَيُفِيدُ ظَنًّا يَغْلُبُ ، قد رَجَّحَ في الخبر طَرَفَ القبولِ على طَرَفِ الرَّدِّ ، فلم يكن التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، بل كان من ذلك ترجيح معتبر بقرينة من خارج تجاوز دعوى الصحة والقبول ، فإنها ، في نفسها ، لا تجزئ في قبول ولا في رَدٍّ ، فالدعوى المطلقة لا تَصِحُّ في الباب دليلا ، إذ تَفْتَقِرُ إلى دليلٍ من خارج يُرَجِّحُ ، فكيف تصير هي الدليل ، وهي ، في نَفْسِهَا ، تطلب الدليل من خارج ؟! ، فكان من دعوى الصحة ما يَطْلُبُ الدليل المرجِّح ، وإلا أجزأ في رَدِّهَا دعوى أخرى تُقَابِلُ فهي على ضد ، فيكون من ذلك التَّسَاوِي وَالتَّسَاقُطُ ، فالدعوى تَطْلُبُ الدليل ، وإلا اسْتُصْحِبَ العدم الأصلي ، فلا يفتقر إلى دليل ، إذ سلك صاحبه جادة الاستصحاب لما كان أولا ، ولو العدمَ ، حتى يكون ثم دليل ناقل ، فتلك زيادة علم توجب الانتقال عن الأصل ، فيقبل الخبر إذ ثم دليل يرجح القبول ، وهو النص في محل النِّزَاعِ ، فذلك ما كان من استيفاءٍ لشروطِ الصحَّةِ ، فتلك القرينة الناقلة عن الأصل العدمي الأول ، فَثَمَّ صحة تزيد ، وهي ما تجزئ في الاستدلال بألفاظ الخبر ، فلا يعدل عَنْهَا الناظر وقد ثَبَتَتْ إلا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ من القرينة مَا يُرَجِّحُ ضِدًّا ، فَيُقِيمُ المعارض دليلا أن الحكم بالصحة لا يَسْلَمُ ، فَثَمَّ من القرينة ما يَقْدَحُ ، ظهرت أو خفيت ، وذلك المعنى الأعم لاصطلاح العلة ، وإن قَصَرَهَا الاصطلاح المتأخر على السبب الخفي لا آخر يظهر ، وهو ما صَيَّرَ هذا الباب من الاصطلاح : بَابَ النقاد المحققين ، إذ لهم ما ليس لغيرٍ من طول الرحلة وجمع الطرق ونصاعة الفكرة وصدق الحدس الذي يحصل بالدربة والاعتياد وطول المعالجة للأسانيد والمتون ، فالعلة تحصل في كلٍّ ، فيحصل من ذلك مَلَكَةٌ ذَاتِيَّةٌ في النَّفْسِ لا يطيق صاحبها لها حدا لا أنه يظن ويتخرص ، وإنما يشبه ذلك ما يحصل لِلطَّبِيبِ من الخبرة والدربة بطول ما يعالج من شأن الطب والعلاج ، فلا يكاد يَرَى المريضَ إلا ويعلم ما به ، فيصف له من الدواء ما ينصح ، وإن لم يكن ، بداهةً ، المعصومَ فهو يخطئ ، ولو قليلا أو نادرا ، فلا يكون الحدس الأول في نفسه دليلا يجزئ ، بل هو أول به يَسْتَأْنِسُ الناظر بما استقر في وجدانه من مَلَكَةٍ معتبرةٍ ، فليست ، كما تقدم ، التخرص والظن ، بل هي حكاية أخص بما تراكم من الدربة والخبرة وما عالج صاحبها من آحاد مسائل تُشَابِهُ حَتَّى صار له من القوة النظرية المعتبرة ما تظهر آثاره في فعل في الخارج يُصَدِّقُ ، وهو ، أبدا ، ما افْتَقَرَ إلى تال يحقق من نظر معتبر يسلك جادة بحث تجاوز ما يحصل أولا من الحدس . فإن لم يُقِمِ المعارضُ الدليلَ ، وكان التضعيف بالهوى والذوق ، فذلك ، بداهة ، ما لا يقبل ، بل رَدُّهُ ، بادي الرأي ، يجزئ ، ولو لم يُقِمِ القائل دليلا يَنْصَحُ ، فإذا ثَبَتَتِ الصحة أو الحسن ، إن لِذَاتِ الخبر أو لِغَيْرٍ ، على التفصيل آنف الذكر ، فذلك مما يجزئ في الاستدلال ، إِنْ فِي العلمِ أو في العمل ، وليس ثم ما يُوقِعُ الناظر في الحرج ، إذ لم يجزم المستدل أَنَّ الخبرَ قاطع يجزم ، بل تَرَكَ من الاحتمال ما يُفْسِحُ لأيِّ ناظرٍ يَفْقَهُ أَنْ يُرَجِّحَ ضِدًّا ، فَيُقِيمَ من الدليل ما يُضَعِّفُ الصحيحَ ، فلا يكون التضعيف ، كما تقدم ، بالهوى والذوق ، بل لا يَنْفَكُّ يطلب دليلا يخالف ، فإن النافي للصحة في هذه الحال : ناقل عن الأصل ، فَلَا يُقْبَلُ قولُه إلا أَنْ يُقِيمَ من الدليل ما يشهد ، فإن أَقَامَهُ فَمَعَهُ زيادةُ علمٍ تُرَجِّحُ ، وذلك ما يجزئ في تضعيفِ الصحيحِ ، فلا يُضَعَّفُ إلا بدليلٍ معتَبَرٍ يجاوز الدعوى المحضة ، وإلا أَجْزَأَ فِي رَدِّهَا أخرى ، فلا حَرَجَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بما صَحَّ من الآحاد ، إن في العلم أو في العمل ، وإن لم يُفِدِ القطعَ الذي يجزم ، فالظن الراجح يجزئ ، مع احتمالِ ضِدٍّ ، فلا يقطع المستدِلُّ بالصحة جزما ، فالخبر آحاد لا متواتر ، فخرج المستدل من العهدة ، فإنه ، كما تقدم ، لم يَزْعُمِ الجزمَ ، وهو مع ذلك ، لم يطلق الدعوى بلا دليل ، بل كان من بحثه ما اجتهد في تحقيق المناط ، مناط الصحيح في الاصطلاح ، فَاجْتَهَدَ أَنْ يُحَقِّقَهُ في الخبر محلِّ البحثِ ، وكان من ذلك سبر وتقسيم يجمع طرق الباب ويختبرها ، فَبَعْضُهَا يُبِينُ عَنْ بَعْضٍ ، إِنْ بالصِّحَّةِ أو بِضِدٍّ ، فمنها شاهد لك ، فهو يؤكد أن الخبر صحيح ، وذلك ، من وجه آخر ، مما يزيده في الدرجة ، فالصحيح دَرَجَاتٌ كما الضعيفُ دَرَكَاتٌ ، فمن الصحيح ما هو أدنى ، وهو ما يصدق في الحسن ، من وجه ، إذا حُدَّ الصحيح أنه المحتج به مطلقا ، إذ الحسن مما يُحْتَجُّ به ، ولو كان في أدنى درجات الباب ، باب الاحتجاج ، إلا أن تَتَّسِعَ الدائرة فيدخل فيها الاستئناس في فضائل الأعمال فالضعيف الذي لم يشتد ضعفه يجزئ في هذا الباب ، باب الفضائل . ومن الصحيح ما يجاوز الحسن ، فَهُوَ ما اسْتَوْفَى حَدَّ الصحيح في الاصطلاح المستقر ، والصحيح في نَفْسِهِ دَرَجَاتٌ ، فَثَمَّ صحيح فَرْدٌ قَدْ وَرَدَ من طريقٍ واحدة ، وثم آخر قد عَزَّ بطريق أخرى تشهد ، وثم ثالث قد اشتهر وهو ما جاوز اثنين من طرق الرواية ، وإن لم يبلغ حد المتواتر ، وقد يفيد العلم بما احتف به من القرائن ، ولكنه العلم النظري فلا يضاهي العلم الضروري الذي يفيده المتواتر الذي يَسْتَوِي فيه الخلق كَافَّةً ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى نَظَرٍ أَخَصَّ ، كما العلم النظري الذي يَقْتَصِرُ عَلَى أهلِ الشأن ، كما المتواتر ، أيضا ، فَمِنْهُ الخاصُّ الذي لا يجاوز أهل الشأن فِي عِلْمٍ أو فِي فَنٍّ ، ومنه العام الذي يستوي فيه الخلق كَافَّةً . فَثَمَّ من المتواتر مَا جَاوَزَ الآحادَ ، وهو ما عَلَا فِي الدرجة ، إذ يُفِيدُ العلم ضرورةً ، فكل أولئك من شَوَاهِدَ تَشْهَدُ لإسناد واحد لَدَى المبدإِ ، قد تَوَقَّفَ فيه الناظر فلم يُرَجِّحْ طَرَفًا على آخر ، وإن كان استصحابه للعدم في هذا الموضع هُوَ إلى الرَّدِّ أَقْرَبُ ، فالدلالة العدمية في كلٍّ واحدة ، وهو الأليق بِبَابِ الرواية احتياطا في نقل الأخبار الدينية ، الخبرية والحكمية التي تعم بها البلوى ، فكان التوقف أولا ، ثم الترجيح تاليا بما كان من قرينة في باب التصحيح تثبت ، فَهِيَ تُرَجِّحُ الصحة والقبول ، إذ استوفى الخبر شروط الصحة في الاصطلاح المعتبر لدى أهل الشأن وهم أهل الصنعة والفن ، فَقَوْلُهُمْ يُقَدَّمُ ، كما قولُ كلِّ ذِي فن في فَنِّهِ ، فكان من ذلك صحيح يجزئ في الاستدلال إذ استوفى شروطه المقررة في الاصطلاح ، وكان من ذلك أصل جديد يُسْتَصْحَبُ ، فَمَعَ صاحبِه علمٌ يَزِيدُ ، فهو يرجح القبول ، ويوجب الانتقال عن الأصل الأول ، الأصل العدمي المستصحب ، فكان من العلم ما يَزِيدُ بما استوفى الناظر من شروط الصحة ، فذلك الأصل الجديد الذي يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يكون من القرينة ما يُرَجِّحُ ضِدًّا ، كما الشذوذ أو العلة التي تَقْدَحُ ، ظَهَرَتْ أو خَفِيَتْ ، وإلا اسْتُصْحِبَ أصلُ الصحةِ الذي ثَبَتَ بدليل ، فَلَا يَنْتَقِلُ عنه الناظر إلا بدليلٍ ، فلا يجزئ الانْتِقَالُ عنه بالدعوى المحضة التي تَفْتَقِرُ إلى دليلٍ من خارجها ، فلا تجزئ في نَفْسِهَا أَنْ تَكُونَ هِيَ الدليل ، وإلا كان التحكم مصادرةً عَلَى المطلوب ، فَاسْتُصْحِبَ أصلُ الصحةِ ، وهو ، في نفسه ، مما يجزئ في الاستدلال ، وَإِنْ أَفَادَ الظنَّ الراجح ، فلا يشترط في الاستدلال يقين جازم ، بل الظن الراجح يجزئ ، وإن احتمل ضِدًّا فهو المرجوح ، فلا يصار إليه إلا بدليل أخص ، وَهُوَ الزيادةُ فِي العلمِ ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ بالتحكُّمِ المحضِ ، فإذا لم يُقِمْ صاحب الدعوى المضعِّفة الدليلَ ، فلا اعتبار بدعواه ، فَيُسْتَصْحَبُ أصلُ الصحَّةِ الذي ثَبَتَ بالدليل المجزِئ إذ استوفى شُرُوطَهَا في الاصطلاح المقرَّر ، وهو ما يجزئ ، كما تقدم ، في العلم والعمل ، في الخبر والإنشاء ، فإذا انْضَافَتْ إليه طريق أخرى ، فَهِيَ لَهُ تَعْضِدُ ، فتلك شهادتها له إذ تُوَافِقُ ، فيكون من ذلك صحيح أصح بما زِيدَ فيه من القرينة ، وهو ما يحصل بجمع الطرق إذ تفيد باجتماعها ما لا تفيد بِافْتِرَاقِهَا ، فيكون من ذلك ما يزيد في الصحة حتى تَبْلَغُ اليقين الجازم : يَقِينَ التَّوَاتُرِ الذي يقطع ، فذلك شاهد لَكَ من الطرق التي تجمع ، وقد يكون منه آخر عليك فهو ينقض حكم الصحة الذي استقر بتحقيق المناط ، مناط الصحة ، في الطريق الأولى ، فإذا ثانية تُبِينُ عن معنى أدق يفيد ضدا ، فهو يُضَعِّفُ مَا صَحَّ لدى المبدإِ ، فلم يكن من التضعيفِ تَحَكُّمٌ يَرُدُّ الخبرَ بالهوى والذوق المحض تَذَرُّعًا أنه يخالف عن العقل الصريح ، وإنما خالف عن عَقْلِهِ ، وهو واحد من عقول تكثر ، فإن لم يستحسنه ، واستحسنه آخر ، وَتَوَقَّفَ ثالث ..... إلخ ، وليس لكلٍّ من الدليل إلا ما يَرَى وَيَجِدُ بالهوى والذوق المحض ، فمن يحسم هذا الخلاف الذي يَنْتَشِرُ إذ العقول تَكْثُرُ ؟! ، ولكلٍّ عقل بِرَأْيِهِ يُعْجَبُ ، فَيُصَيِّرُهُ هو المرجع ، فلا يستبين حَقٌّ به تقام حجة في علم أو في عمل ، لا جرم وَجَبَ رَدُّ هذه العقول المتخالفة إلى مرجع من خارج يجاوزها ، فهو يقضي في متشابهاتها بمعيار محكم ، كما حَدُّ الصحيح في الاصطلاح ، فهو معيار حاكم قد اجتهد النظار في تحريره ، فصار المعيار الذي إليه تُرَدُّ الأخبار في الحكم بِصِحَّةٍ أو بِضَعْفٍ ، فلا يكون القبول والرد بالهوى والذوق المحض ، إذ تلك دعاوى لا تَنْفَكُّ تطلب من الدليل ما يَثْبُتُ ، وإلا فَهِيَ مما يَتَسَاوَى في الاحتمال وَيَتَعَارَضُ ، فيكون من ذلك تَسَاقُطٌ ، وهو ما يُوِجبُ الرَّدَّ إلى مرجع من خارج يجاوز . وهو ما يَصْدُقُ فِي المتن كما الإسناد ، إذ يجزئ في المتن ، أيضا ، ظاهرٌ يَرْجُحُ ، فهو مما يستصحب حتى يكون ثم من الدليل ما يُرَجِّحُ ضدا من المؤول الذي يخفى فلا يظهر ، بادي الرأي ، وهو ما استوجب نظرا أخص ، فهو يجتهد في استقراء المادة في كلام الجيل الأول الذي يُحْتَجُّ بمنطوقه ، إن منثورِه أو منظومِه ، فذلك المأثور الذي تحمله الخلف عن السلف بإسناد يَنْصَحُ ، وهو ما سُطِرَ فِي الكتب وَدُوِّنَ ، فكان من ذلك مصدر محكم ، وذلك ما إليه الناظر يَرْجِعُ في بحث يَتَنَاوَلُ نَصًّا من جيل تَقَدَّمَ ، فلا يُفَسَّرُ إلا باصطلاحِ جِيلِه ، ولا يكون التحكم أَنْ يُحْمَلَ على اصطلاحٍ تَالٍ يحدث ، فذلك ما لم يكن زَمَنَ الأول ، فلم يكن آنذاك ثَابِتًا لِيَصِيرَ دليلا في التفسير ، فهو المعدوم زَمَنَ الجيل الأول ، فكيف يستدل بالمعدوم ؟! ، بل الاستدلال يكون بالموجود زَمَنَ النطق الأول ، فلا يكون التعسف بحملان الأول على الثاني أَنْ كان ثم اشتراك في اللفظ ، فذلك مما يجري مجرى الاشتراك اللفظي ، فَثَمَّ منطوق واحد ، والمفهوم ، مع ذلك ، يَتَغَايَرُ ، بل قد يَتَنَاقَضُ ، فَيَصِيرُ اللفظ واحدا في نُطْقِهِ وَكَتْبِهِ ، وهو ، مع ذلك ، مما اخْتَلَفَ في الدلالة ، فَلَهُ فِي كُلِّ جيلٍ معنى يُغَايِرٌ ، فذلك مبنى واحد ، وله من المعنى ما يَتَعَدَّدُ ، فدخله الإجمال ، من هذا الوجه ، فمنه الإجمال بالاشتراك ، إذ كان من المبنى واحد في الحد ، وثم من المعاني ما تكاثر وَتَزَاحَمَ ، فوجب الفصل بَيْنَهَا ، إذ لكلٍّ دعوى ، فَقَائِلٌ يَقُولُ : دلالةُ اللَّفْظِ تَثْبُتُ على معنى بِعَيْنِهِ وهو ما رَجَّحَ القائل بهواه أو بِذَوْقِهِ ، وآخر يقول مِثْلَ مَا قَالَ الأول ، بل دلالة اللفظ تحكي معنى آخر قد حَدَثَ بَعْدًا ، وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ ....... إلخ ، وذلك مما يضطرب به النظر فلا ينفك يطلب الحكم من خارج ، وهو ما ثَبَتَ أولا في عرف الجيل الذي جاء النص بلسانه ، فَاسْتَوْجَبَ ذلك استقراءً لمدلولاتِ اللفظِ ، محلِّ البحث ، فيجتهد الناظر في جمع طرق المعنى ، كما أول في الإسناد قد اجْتَهَدَ فِي جمعِ طُرُقِ الرواية ، فذلك نهج عام يَتَنَاوَلُ الرواية والدراية جميعا . فجمع لطرق الباب في الرواية بما يكون من معالجة أولى لإسناد الخبر مَحِلِّ البحثِ مع تال يَتَنَاوَلُ الطرق التي تُسْتَقْرَأُ وَتُسْبَرُ ، فيكون منها إما دليل يَعْضِدُ أو آخر يَنْقُضُ ، وآخر لطرق المعنى في الدراية بما يكون من بحث أول في دلالات المعجم المفرد الذي يجتهد في تَحْرِيرِ المعاني المجردة ، وذلك أول في الاستدلال ، فَهُوَ لَبِنَاتٌ بِهَا يَأْتَلِفُ الْبِنَاءُ بما يكون من نَظْمٍ أخص ، فذلك سلك النحو الذي يَنْتَظِمُ المفرَدَاتِ عَلَى معيار محكم قد استقر فهو عُرْفُ النُّطْقِ المتداوَلِ ، ومنه أعم يَتَنَاوَلُ الدلالات الأولية التي تَظْهَرُ ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، فَهِيَ الحقائق التي تَثْبُتُ أَوَّلًا ، فَيَحْصُلُ مِنْهَا المعنى المتبادر إلى ذهنِ المخاطَبِ ، وثم آخر أخص وهو ما يكون من المعنى الألطف الذي يعالجه الناظر بما كان من عُرْفِ الْبَيَانِ الْأَخَصِّ ، فَهُوَ تَالٍ في الدلالة بعد أول من نَحْوِ الكلامِ المركَّب ، فَثَمَّ لطائف من معان لا تظهر ، بادي الاستدلال ، بالنظر في دلالة المعجم المطلق إذ تَقْتَصِرُ على المعنى الأول ، وهو ما يغلب من عُرْفِ النُّطْقِ المتدَاوَلِ ، فَزِيدَ في الدلالة إذ كان من السياق قرينة من خارج اللفظ ، وكان من بساط الحال ونغمة الصوت ...... إلخ ، فكان من كُلِّ أولئِكَ مَا يَصْرِفُ اللفظ عن الظاهر المعجمي المفرد الذي يَتَبَادَرُ مبدأَ النطق ، ما يصرفه عن الظاهر إلى آخر يخفى فهو المؤول ، فلا يصار إليه ، بَادِيَ النَّظَرِ ، بل لا يكون ذلك إلا بقرينة من خارج هي الدليل الشاهد ، فَثَمَّ قرينة السياق الذي يَأْتَلِفُ من مُفْرَدَاتٍ يَنْتَظِمُهَا فِي سِلْكِهِ ، فيكون من ذلك معنى أول يُوَاطِئُ معيارَ النحو المحكم ، ويكون بَعْدًا معنى ثان يُوَاطِئُ من معيار البيان ما يَلْطُفُ ، وثم بساط الحال ، وثم نغمة النطق ...... إلخ ، فكل أولئك مما يحتف بالظاهر المفرد الذي يحكيه معجم الدلالات المطلق ، فيكون من ذلك تَرْجِيحٌ معتبر ، فهو بِدَلِيلٍ في الباب معتبر ، فليس التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، بل كان ثم ظاهر أول من مدلول المعجم المفرد ، وهو ما استصحبه الناظر مبدأَ الاستدلال حتى يكون ثم قرينة تُرَجِّحُ ضِدًّا من المؤول الخفي فلا يصير إليه الناظر مبدأ البحث ، فذلك الترجيح بلا مرجِّح الذي يخالف عما استقر من ظاهر يَرْجُحُ ، فلا يصار إلى المؤول إلا بالدليل ، إذ هو ، أيضا ، من الدعوى التي تخالف عن ظاهر أول يُسْتَصْحَبُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليلَ المرجِّح ، وإلا كان من ذلك التَّحَكُّمُ المحض ، ترجيحا بلا مرجِّح ، فإذا لم يُقِمْ صاحبُ الدعوى الدليلَ ، فَلَا يُقْبَلُ قولُه وقد خالف عن الأصل ، بل الأصل هو ما يستصحب ، ولو احْتَمَلَ ، بادي الرأي ، ضِدًّا هو المرجوح ، فَيُسْتَصْحَبُ الأصل ظاهرا هو الراجح ، فذلك الأصل الذي ثَبَتَ بِدَرْسٍ أَخَصَّ ، درسِ المعجمِ الذي اجتهد في تحرير المعنى ، فَثَبَتَ منه أصل أول لا تَحَكُّمًا في الاستدلال ، وإنما ثَبَتَ بدليلِ الاستقراءِ ، استقراءِ المأثور من المنظومِ والمنثورِ ، وبه إحكام المعاني فلا تضطرب ولا تَبْطُلُ بما يكون من هوى الناظر أو ذوقه ، وهو ما رَدَّ العدو الصائل من مِنْهَاجِ نَظَرٍ حَادِثٍ ، منهاجِ الحداثة التي تروم بَتَّ الصلة بالأصول المحكمة ، وتقترح من التأويل الباطل أو الباطن ما يُوَاطِئُ هوى الناظر وذوقه ، ولو أَتَى عَلَى الأصلِ الأول بالإبطال ، فَيُفْرِغُ المادة المعجمية المفردة ، يُفْرِغُهَا من مدلولِها الأول إذ لم يواطئ ما يَهْوَى ويجد ، فيصير الكلام ألفاظا بلا معان ، أصواتا بلا دلالاتٍ ، وهو ما يَفْتَحُ ذرائعَ التأويلِ بما يضاهِي في بحث الإلهيات التفويضَ ، فليس إلا تجريد الألفاظ من المعاني ، فَيَبْطُلُ حَدُّ الكلام الذي ائْتَلَفَ من اللَّفْظِ والمعنى ، فقد أَفْرَغَهُ الناظر من المعنى ، وَصَيَّرَهُ الوعاء الشاغر الذي يَقْبَلُ من الشاغل أَيَّ معنى ، فَيَقْتَرِحُ كُلٌّ من المعنى ما يُوَاطِئُ استدلالَه ، ولو بعيدا أو باطنا ، وهو ما يفضي إلى إبطال الأدلة ، فلا تصير الألفاظ دليلا على المعاني ، ولو المطلقات المجردة في بحث المعجم المفرد ، بل تكون جميعا من المشتركات اللفظية التي تَزْدَحِمُ فيها المعاني ، فهي المجملات التي تَفْتَقِرُ إلى دليل من خارج يُرَجِّحُ ، فيكون من هوى كلِّ ناظرٍ وذوقِه ! ، يكون منه دليل الترجيح الذي يواطئ عقله ، فهو المرجع الذاتي الذي لا يجاوز ، ولكلٍّ مرجعُه الذاتيُّ ، فلا يَنْفَكُّ كلٌّ يطلب آخر من خارج هو الموضوعي الذي يحسم الخلاف بين العقول إذا تعارضت ، فلا ينفك البحث الناصح يطلب من المرجِع أولا هو الثابت ، إن من النقل المصحَّح أو من العقل المصرِّح بما كان من دلالات المعجم الأولى التي ثَبَتَتْ بِدَرْسِ استقراءٍ يَنْصَحُ ، ولو ظاهرا يغلب ، فيحصل من ذلك ظن يرجح ، فهو يفيد من المعنى ما يستصحب ، بادي النظر ، حتى يكون ثم من الدليل ما يرجح ضدا من المؤول الذي لا يظهر مبدأ البحث ، فلا يصار إليه أولا ، فذلك ، كما تقدم ، تَحَكُّمٌ لَا يَخْفَى ، أن كان الترجيح بلا مرجِّح معتبر من خارج اللفظ ، فاستصحب الظاهر من دلالة المعجم المفرد ، وهو في نفسه لا يجزئ في حصولِ معنى يُفْهَمُ فَيَحْسُنُ السكوتُ عليه وَالتَّوَقُّفُ ، بل لا ينفك يطلب من القرينة ما يَرْفِدُ المفرد ، فَيَزِيدُ في دلالته ، ويصير منه كلام مركب يحسن السكوت عليه إذ يفيد من المعنى ما يجاوز الدلالة المعجمية المجرَّدة ، فيكون من القرينة ما زَادَ في دلالة المفرد ، فذلك السياق الذي يَنْظِمُ الكلمات في سِلْكِهِ ، إِنِ المذكورَ أو المقدَّرَ ، مع آخر تقدم من بساط الحال أو نغمة الصوت ، فكل أولئك مما يحتف بالمفرد ، وقد يُرَجِّحُ الظاهر المستصحب من دلالة المعجم المفرد ، وقد يخالف عنه إلى آخر مؤول ، فذلك العدول عن الظاهر إلى آخر يخفى ، فلا يظهر ، بادي النظر ، بما استقر من مدلولِ المعجَمِ المفرد ، وهو ما حَدَّهُ أهل الاصطلاح المتأخر أنه التأويل إذ صُرِفَ اللفظ عن ظاهره الذي يَتَبَادَرُ إلى آخر هو المؤَوَّل الذي يخفى لِقَرِينَةٍ صارفةٍ تُرَجِّحُ ، وهو ، أيضا ، مما به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، ومن ينكر فهو ، أبدا ، على أصلٍ يَسْتَصْحِبُهُ في باب القرائن ، فإن السياق ، وإن كان قَرِينَةً تُرَجِّحُ في اللفظ المفرد حال الاشتراك في الدلالة ، إلا أنه جزء من ماهية الكلام المنطوق ، وذلك ما يَتَنَاوَلُ قَرَائِنَ الْحَالِ ، فهي تفيد الشاهد ما لا يحصل لغائب لم يشهد ، وإن بَلَغَهُ النص صحيحَ النقلِ ، صريحَ العقل ، وله ، أيضا ، من رُوحٍ أَلْطَفَ ، وهي مادة الحضارةِ وَالثَّقَافَةِ التي عنها الناظر يصدر في تصوراته وأحكامه ، فلا تنفك آثارها تظهر في استدلاله وتفسيره ، فَثَمَّ من معجم المستدل ما يحكي ثَقَافَةً وَرُوحًا في الفكرةِ والحركةِ ، وغاياتِ عظمى ، ومراجع الحسن والقبح ، ومصادر الأخلاق والأحكام ..... إلخ ، فكل أولئك مما يرفد معجم المستدل بَبَوَاعِثَ في الفهم تخفى فهو يمارسها لدى النظر وهو لا يشعر ، فلا يحسن يُفَسِّرُ الخبر إِلَّا بما تَشَبَّعَ به من روح الحضارة والثَّقَافَةِ ، فَمَنْ نَشَأَ فِي مِثَالٍ يُعَظِّمُ المادة والحس ، ولا يجاوزهما إلى ما لطف من الغيب والوحي الذي يجاوز المرجع الأرضي المحدث ، من العقل والحس ، مَنْ نَشَأَ في مثال كهذا ، فإنه لا يقيم وَزْنًا لما جاوز المدارك المحسوسة من الغيوب التي تَنْصَحُ العقل بما لا يخالف عن مقدماته الضرورية ، فخبر الغيب يجاوز العقل من خارج ، لا أنه يأتي بالمحال الممتنع لذاته ، بل يَأْتِي بِمَا يُجَوِّزُهُ العقل ، فلا يخالف عن مقدمات الضرورة التي رُكِزَتْ فيه ، ولكنه يجاوز مداركه ، فيرفده بما لا يطيق إثباته ، باديَ الرأيِ ، فَهُوَ الجائزُ الذي اسْتَوَى طَرَفَاهُ فِي الاحتمال ، بل ومنه الواجب المركوز لدى المبدإ في الوجدان ، كما المعاد ، فإنه يَثْبُتُ بداهةً في العقل الناصح والوجدان الناصع الذي يُثْبِتُ ضرورةً دَارًا تجاوز هذه الدار ، فإنها دَارُ نَقْصٍ ، وأهلها يطلبون الكمال فلا يجدونه فيها ، وإن اجتهدوا ما اجتهدوا في جمع أسبابه ، فيطلبون الخلود ، وليس ثم شيء منه في هذه الدار ، ويطلبون الراحة ، وَلَنْ تكون إلا بُرْهَةً تَقْصُرُ ، فالأصل فيها نَصَبٌ في طلب المعايش ، وآخر في امتثال الشرائع ، فالمشقة لازم لا تنفك عنه وَقَائِعُ هذه الدار ، وإن لم يكن المراد لِذَاتِهِ في التكليف ، فَلَمْ يَتَعَبَّدِ الشارع الحكيم ، وهو ، جل وعلا ، الغني الحميد ، لم يَتَعَبَّدِ الخلق بما يشق ويجهد ، فليس له غَرَضٌ أن ينصب العباد ، فلا الطاعة تَنْفَعُهُ ، ولا المعصية تَضُرُّهُ ، بل : (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) ، وذلك مما يجري مجرى المقابلة إذ استوفى السياق شَطْرَيِ القسمة ، فكان من ذلك أول قد حُدَّ حَدَّ الشرط "مَنْ" ، وهو نص في العموم ، كما قرر أهل البيان والأصول ، وإن كانت دلالته بالنظر في أصل الوضع الأول : دلالة المفرد المذكر بالنظر في المبنى المنطوق والمكتوب ، فدلالة المعنى قد جاوزت أولا من وضع المبنى ، وضع المفرد المذكر ، فَثَمَّ العموم المجاوز ، فهو قي قوة الدلالة المستغرقة للمؤنث والمثنى والجمع ، إن جمع الذكور ، أو آخر هو المؤنث ، فَثَمَّ مِنْ قَرِينَةِ العمومِ في خطاب التكليف ما تَنَاوَلَ المحال كافة ، فلا يخرج أحد إلا بقرينة صارفة ، فالدلالة مبدأ النظر في الوضع المعجمي المجرد ، الدلالة مبدأ النظر : دلالة المفرد المذكر ، فمن نظر فيه أولا فهو يستصحب منه الأصل الدلالي المطلق ، فلا يجاوز أولا قَدْ ثَبَتَ في المعجم ، بما كان من دَرْسِ التجريدِ ، فَلَيْسَ له في الخارج وجود ، إذ المطلق بشرط الإطلاق لا وجود له يجاوز الذهن ، فَلَيْسَ خَارِجَه إلا المقيد ، كما قَيْدُ السياقِ الذي يَأْطِرُ المطلقات الدلالية على جادة من المعنى أخص بما يكون من القيدِ ، قَيْدِ السياقِ الذي يَزِيدُ في دلالة المفرد أو يُنْقِصُ ، وكذا الاصطلاح ، فإنه ، أيضا ، مما يقيد المطلقَ المعجمِيَّ ، وله المثل يضرب بأسماء من الشريعة أخص ، قد تناولت المطلقات المعجمية الأولى ، كما الصلاة ، وهي في اللسان المطلق مَئِنَّةُ الدعاءِ المجرَّدِ ، فَتَصْدُقُ فِي أَيِّ دعاءٍ وَتَوَجُّهٍ ، فَقَيَّدَهَا اصطلاح الوحي بالصلاة المعهودة ، فلا تخلو من الدعاء ، وإن قُيِّدَ بماهية في الاصطلاح أخص ، ماهية العبادة المفتتحة بالتكبير ، المختتمة بالتسليم ، وَبَيْنَهُمَا جُمَلٌ مِنْ أَرْكَانِ القولِ والفعلِ وَوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنِهِ وَهِيَ مِمَّا يُطْلَبُ وجودُه ، ومكروهات ومبطِلات ، وَهِيَ مِمَّا يُطْلَبُ عدمه ، ومباحات قد استوى طرفاها في الحكم فلا يطلب وجودها ولا عدمها لِذَاتِها ، فكل أولئك من قَيْدٍ في الاصطلاح يَزِيدُ ، قَدْ تَنَاوَلَ الدلالة المعجمية المطلقة فَزَادَ فِيهَا القيد ، قيدَ الماهية الشرعية المعهودة ، وهو ، من وجه آخر ، مما تَنْقَسِمُ مَوَارِدُهُ في الخارج ، فَثَمَّ من الصلاة جنس عام يستغرق ، وتحته من الأنواع والآحاد ما يَكْثُرُ ، فَثَمَّ فَرْضٌ أَخَصُّ ، وتلك المكتوبات الخمس ، وثم واجب أعم ، إذ قد تجب الصلاة بالنذر ، وهي ، مبدأ الأمر ، غير واجبة ، فوجبت بالنذر ، وكذا بعضٌ آخر من صلوات قد اخْتُلِفَ في إيجابها ، فَثَمَّ خَلَافٌ قد حَصَلَ أهي من الواجب أم من السنن المؤكَّد ، كما الخسوف والكسوف والعيدان ، وثم آخر هو النفل ، وهو ، أيضا ، مما انْقَسَمَ في الخارج ، فمنه المؤكد ، كما المتقدِّم من الخسوف والكسوف والعيدين والوتر ، على القول بأنها من السَّنَنِ المؤكَّدِ ، ومنه الراتب ، كَمَا السنن الرواتب التي تَسْبِقُ الفرائضَ وَتَلْحَقُ ، ومنه المطلق ، ومنه آخر يجري مجرى الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ ، كما الجنائز . فكل أولئك مما يدخل في حد الصلاة ، الجنس العام المستغرق لأنواعه وآحاده في الخارج ، فاسم الصلاة المطلق يصدق في كُلٍّ ، وهو الدعاء المجرد ، فلا تخلو صلاة من دعاء ، إِنِ الواجبَ أو المستحبَّ ، إِنِ المقيَّدَ بِأَذْكَارٍ وَتَسَابِيحَ ، أو المطلقَ بما يكون من دعاءٍ يَطْلُبُ خيرا من دينٍ أو دُنْيَا ، واسم الصلاة المقيَّد يصدق فيها تَبَعًا ، فالصلوات ذاتُ الماهية الشرعية المخصوصة هي أدعيةٌ مُقَدَّرَةٌ ، فيصدق فيها جنس الدعاء المطلق ، ويصدق فيها آخر هو المقيَّد بما يكون من ماهيات مقدَّرة في المواقيت والعدد والهيئة والأذكار ...... إلخ . وكذا يُقَالُ في الزَّكَاةِ ، فإن مَدْلُولَهَا الأول في معجم الألفاظ المجرد هو الطهر والنماء ، فَالزَّكَاةُ تُطَهِّرُ المال وَتُنَمِّيهِ ، فما نَقَصَ مالٌ من صدقةٍ ، كما في الخبر ، فتناول الاصطلاح طَرَفًا من الحقيقة اللِّسَانِيَّةِ المطلقة ، وَزَادَهَا قَيْدًا أخص من تكليفِ الشرعِ ، فهي شطر من المال يُخْرَجُ من أجناس مخصوصة هي الأموال الزكوية ، وهو ، أيضا ، جنس عام تحته أنواع وآحاد ، فمنها الواجب ، كما الزكاة المخصوصة في أموال بِعَيْنِهَا ، أو صدقة الفطر وهي أعم إذ تجب على كل من مَلَكَ فَضْلًا من طعامٍ ليلةَ الفطرِ ، فَيُخْرِجُ منه صاعا ، ومنها النفل ، ومناطه أعم ، فصدقة النفل تجوز مطلقًا ، ولو على كافر ، وبها القلب يُؤَلَّفُ ، وإن كان من ذلك سَهْمٌ مُقَدَّرٌ في الزكوات الواجبة فهو يجاوز صدقة النافلة ، فَجَازَ في النافلة ما لا يجوز في الواجبة ، كما الصدقة على الكافر ، لا كما الزكاة الواجبة فلا تُدْفَعُ إلا إِلَى مؤمن ، وذلك ، والشيء بالشيء يُذْكَرُ ، ذلك أصل آخر في باب الواجب والنفل ، فيجوز في الناقلة ما لا يجوز في الفريضة ، وإ كان الأصل أن يستويا في الحد ، فالنافلة من الصلاة مثالا آخر يجوز فيها ما لا يجوز في الفريضة ، كما الصلاة جالسا ، ولو بلا عذر ، فتصح في النافلة وإن كانت على النصف من الأجر ، لا كما الفريضة فلا تُصَلَّى من جلوس إلا حال الاضطرار . وَكَذَا يُقَالُ فِي الصومِ ، فَثَمَّ من حَقِيقَةِ اللِّسَانِ مَا جُرِّدَ فَأَفَادَ فِي المدلولِ : مطلق الإمساك ، فيصدق فيمن أمسك عن الكلام ، كما في شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ إذ نَذَرَتِ البتولُ ، عليها السلام ، صوما ، فـ : (إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، وهو ما أُطْلِقَ في المدلول ، فتلك النكرة "صَوْمًا" في سياق الإثبات الذي صدر بالناسخ المؤكد "إِنَّ" الذي تَنَاوَلَهُ القول ، فهو المقول المنصوب في قوله ![]() وَثَمَّ أول من الشرط الذي عَمَّ في الدلالة ، إِنْ فِي تَنَاوُلِ الشرطِ المصدرَ الكامنَ فِي فعلِ الشَّرْطِ "تَرَيِنَّ" ، أو في آخر أظهر ، فهو نص في الباب ، إذ تسلط الشرط على النكرة "أَحَدًا" ، ومن ثم كان الجواب الذي صدر بالفاء في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والصوم عن الكلام ، من وجه آخر ، مِمَّا جاز في شِرْعَتِهَا ، عليها السلام ، وقد تَقَدَّمَتْ ، فهي شرع من قبلنا فحكاه شرعنا ولم يعقب ، كما حكى من حال زكريا آية تعجز ، فـ : (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) ، وإن كان من آيته أن كان ذلك رَغْمًا لا طوعا ، فكان لسانه يمسك فلا ينطق إذا كان في الجمع ، فإذا غَادَرَهُمْ وَانْفَرَدَ أُطْلِقَ بالتسبيحِ والذِّكْرِ ، فكل أولئك مما حُكِيَ من حَالِ من تقدم ، إن اختيارا أو اضطرارا ، فكان منه الإمساك اختيارا كما مريم ، عليها السلام ، وذلك مما جاز في شِرْعَتِهَا فهو من أعمالِ الْقُرَبِ المشروعةِ ، فاستصحب ذلك في شريعتنا إذ لم يكن ثم تعقيب ، فقد ذكره شرعنا ولم يزد في هذا الموضع ، وأجيب عنه بما كان من قول الصديق ، ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
![]() |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
![]() |
||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
من خواطر معلم لغة عربية | فريد البيدق | مُضطجَع أهل اللغة | 8 | 05-07-2019 10:30 AM |
خواطر | كريم امصنصف | مُضطجَع أهل اللغة | 9 | 13-10-2017 03:16 AM |
خواطر مرسلة بين ماض وحاضر | خالد العاشري | حلقة الأدب والأخبار | 0 | 13-05-2015 08:05 PM |
خواطر من فيض الذاكرة | شجرة الزيتون | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 18-09-2013 12:02 AM |
خواطر | سهل بن المبارك | مُضطجَع أهل اللغة | 0 | 27-12-2008 07:24 PM |