|
#1
|
|||
|
|||
![]() ومن قوله
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فكان من الإطناب باسم العزة جمالا والرحمة جمالا ، في قوله ![]() فَثَمَّ من ذلك ما قُرِنَ فيه الغيب بالشهادة ، كما في الموضع آنف الذكر : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وهو ما يَجْرِي فِي الْحَدِّ ، كَمَا ذَكَرَ أهلُ الشأنِ ، مَجْرَى الاسم المقيد بالإضافة ، الإضافة إلى الغيب والشهادة ، وهو ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، مِمَّا يَجْرِي ، أيضا ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن العام في الباب يجاوز الغيب والشهادة ، فَثَمَّ العلم بالمعدوم والموجود ، فليس الغيب يضاهي المعدوم ، كما يظهر بادي الرأي ، بل المغيب ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته آحاد فَمِنْهُ الموجود بالفعل في الخارج ، ومنه الموجود بالقوة في التقدير الأول ، ومنه المعدوم الممتَنِعُ ، سواء أكان الممتَنِع لذاته فَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فَرْضًا مجرَّدا في الذهن إذ لَا يَتَصَوَّرُهُ الناظر مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، أم كان الممتنع لِغَيْرِهِ فَثَمَّ من التقدير الأول ألا يكون فلا وجود له في الخارج إذ رجحت القدرة امتناعه ، وإن جاز بادي الرأي ، فالقدرة قد ترجح الإيجاب فَيُوجَدُ ، وقد ترجح السَّلْبَ فَيُعْدَمُ ويمتنع ، وإن كان ابتداء من الجائز المحتمل ، فكل أولئك مما يَدْخُلُ في العلمِ فهو من العام الذي لا أَعَمَّ منه ، فَيُجَاوِزُ المذكور من الغيب والشهادة إلى كل معلوم وإن كان من المعدوم فليس له وجود ، فكان من الاسم ما قُيِّدَ في هذا الموضِعِ ، فليس من الأسماء الحسنى وإن كان حسنا في المعنى والدلالة ، فشرط الأسماء الحسنى : الإطلاق ، كما الاسم المطلق في مواضع أخرى من الذكر المحكم ، فكان إطلاق اسم "العليم" في مواضع ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
![]() ونظيره ما تقدم مبدأ الكلام في قوله
![]() فكان من الغيب في الخلق وهو محل الشاهد ، كان منه خلق من تراب فذلك مما أثبته الآي المتواتر قطعا ، فَأَفَادَ علم يقين يجزم ، فلا يُدْرَكُ ذلك ، بداهة ، بالنظر والاستنباط ، فهو محل توقيف لم يشهده أحد ، فلم يكن من الدليل ما ينصح إلا خبر في الباب يصدق ، فكان من ذلك خبر النبوات مرجعا من خارج يجاوز ، وهو ما عَمَّ فاستغرق الأخبار والأحكام كافة ، فلا تصلح الحال من علم أو عمل إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز في الأديان والأخلاق كافة ، كما قال بعض من حقق من الفلاسفة المحدثين في هذا الجيل ، وقد اشتكى ما آلت إليه حالُ الأخلاق في المركز إذ لم يعد ثم وحي ديني أو مرجع من خارج هو الموضوعي الذي يحكم ، فَرُدَّ كُلٌّ إلى ذاتٍ تَحُدُّ له من معيار الحسن والقبح ما يواطئ الهوى والذوق ، فلا تسلم جميعا إلا أن تُرَدَّ إلى مرجع من خارج يجاوز الأرض ، وقد رَامَ بَعْضٌ أَنْ يَبْتَكِرَ من فكرته ما هو موضوعي يجاوز الأفراد ، فَاقْتَرَحَ في حكاية الأخلاق جَبْرًا هو الموضوع من خارج الأفراد فهو عقل الجمع الذي يسبق وما الأفراد إلا عناصر تُقْهَرُ ، فالجمع يصنعها على مثال يسبقها ، فلا يطيق الفرد الخروج عنه ، وهو ما يُصَيِّرُ الجمع مِثَالَ التقليد المطلق وذلك مما يذم في مواضع تَكْثُرُ ، فالغالب على الخلق الغفلة ، وما أكثر الناس ، ولو حرصت ، بمؤمن ، فإذا رُدَّ الأمر إلى الجمع ، فذلك ، بادي الرأي ، مما لا يمدح ولا يذم لذاته ، وإن غَلَبَ على الجمع ، كما تقدم ، ضلال عن الحق بما تطاول من العهد ، فَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحدةً على الحق ، توحيدا هو الأصل المحكم ، ولم يَزَلِ الشيطان يوسوس ، ولم يَزَلِ الخلق يغفل ، فَيُنْسَخُ من الحق في كلِّ جيلٍ بعضٌ ، حتى يَنَالَ النسخُ الأصلَ ، فيستبدل ضدٌّ به ، ويكون من الشرك عوض ، وذلك ما يصير بعد حين عُرْفًا يجري ويطرد ! ، فَيَصِيرُ هو الحق المطلق ، ويكون له مِنَ الحسن والقبح مِعْيَارٌ هو المحكم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات من الأقوال والأعمال كافة ! ، وإن كان في نفسه المتشابه بل والباطل الذي يخالف عن الحق الأول ، فلم يكن في صدور العقل الجامع عنه ، لم يكن فيه عصمة تمدح ، بل كان على ضد ، وإن كان مَوْضُوعًا من خارج الفرد ، فلا يسلم الاثنان : الذاتي والموضوعي إلا أن يكون ثم مرجع من خارج هو المحكم الذي يقضي في كلٍّ ، فإن أصابه الفرد والجمع فَهُمَا على الحق ، وإن لم يُصِيبَاهُ فهما على باطل ، فلم يكن منهما حق أو باطل مطلق ، بل لا ينفك حكمهما يُرَدُّ إلى حكم الوحي مرجعا من أعلى يجاوز ، لا يَنْفَكُّ حكمها يُرَدُّ إليه فإن وافقاه فهما حق يمدح ، وإن خالفاه فذلك باطل يمحق ، فكان من المرجع المحكم من خارج ، كان منه : وحي السماء فوحده ما عُصِمَ من الخطإ وَسَلِمَ من الهوى والحظ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ محلُّ شاهدٍ ، وهو خبر الغيب إذ يحكي ما كان أولا من الخلق ، وعليه يُقَاسُ خلق المسيح قياس الأولى ، فمن قَدَرَ على الأعلى قَدَرَ على الأدنى من باب أولى ، فخلق المسيح أهون ، وكلٌّ على الخالق الأول ، جل وعلا ، هَيِّنٌ ، وهو ما حَسُنَ فيه تصدير بالتوكيد ، التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، وهو أم بابه ، كان منه ما يَزِيدُ في الدلالة ويرفد ، مع اسمية تحكي الديمومة والثبوت ، فلا يدخل الناسخ إلا على الاسمية ، وثم من التشبيه ما فُصِّلِ ، فاستوفى أركانه كافة في قوله ![]() فكان من الأصل واحد ، كلمة تكوين تصدر عن الخالق ، جل وعلا ، صدور الوصف عن الموصوف ، الفعل عن الفاعل ، فإن الكلام من وصف الفعل ذي الآحاد المحدَثة إذ تُنَاطُ بالمشيئة ، وإن قَدُمَ نَوْعُهُ ، فهو من العلم الأول الذي استغرق الكلمات كافة ، فَذَكَرَ من أمثلتها في الخارج ما لا يخصص العموم المستغرق الجامع ، فذكرها يُبَيِّنُ من وجه ، وهو ، من آخر ، تعظيم إذ يُنَوِّهُ بآحاد من المحدثات لها من الوصف ما شَرُفَ ، كما آدم أبو البشر ، عليه السلام ، فذلك من غيب مطلق لم يشهده أحد من الخلق ، ولم يكن له مثال في الخارج يشهد ، إلا ما يكون من خلق الأجنة في الأرحام ، وهو من غيب لا يطلق ، وإن صح فيه أنه مما جُنَّ وَاسْتَتَرَ في البطنِ ، فذلك الغيب النسبي الذي ذَكَرَ الوحي منه طَرَفًا بل قد أبان عن أَطْوَارٍ منه لَمْ يَبْلُغْهَا البحث الأول ، وجاء بحث تال لها يصدق ، فهي من آي الأنفس التي تعجز ، بل قد جاء الوحي بما يخالف ما اسْتَقَرَّ في جيلٍ تَقَدَّمَ من علوم هي ، لو تدبر الناظر ، الفروض ، فجاء الوحي بما ينقض ، وهو مرجع من خارج يجاوز قد جاء بجنس من العلم قد انفرد به الرب ، جل وعلا ، وهو علم غيب ، غيب السماوات والأرض الذي خُصَّ به الله ، عَزَّ وَجَلَّ ، كما تقدم من الآي أَنْ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
![]() فكان من الاختصاص إذ قُدِّمَ ما حقه التأخير في قول الرب الحميد المجيد تبارك و
![]() فكل أولئك مما دل عليه اسم "الرُّوحِ" وهو واحد ، وهي تختلف في الماهيات والحقائق ، فَصَدَقَ في "الرُّوحِ" من هذا الوجه أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ فِي اللَّفْظِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ اشتراك المعنى ، من آخر ، بالنظر في أصل اللَّفْظِ في معجم النطق المفرد ، فَثَمَّ أصل تدور عليه المادة ، وهو : السعة مع خَفَاءٍ وَلُطْفٍ ، وسياق القول مَعَ سبب نُزُولٍ تقدم ، قد حَكَيَا من المدلول عهدا أخص ، فتلك دلالة "أل" في هذا الموضع ، فمدلولها الروحُ التي تسكن البدن وتشاطره حَدَّ الإنسان المكلَّف ، ومن ثم كان من الجواب ما أفَصْحَ ، فـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، وذلك مما أُظْهِرَ فِي موضعِ الإضمار ، فقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الروح في السؤال صدرَ الآية , والقياس في الجواب أن يُقَالَ : قل هي من أمر ربي ، فأظهرها تَالِيًا في موضع الإضمار مَئِنَّةَ عِنَايَةٍ واهتمامٍ ، فَتَوَجَّهَ الأمر إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ : (قُلْ) ، وذلك مما أُفْرِدَ فِي نُطْقِهِ إذ تَوَجَّهَ الأمر إلى واحد في المعنى ، فَذَلِكَ حَدُّ العاملِ ، عاملِ الأمرِ أَنْ "قُلْ" إذ اسْتَتَرَ فِيهِ الفاعلُ ، ضمير المخاطَبِ المفرد ، وتقديره في الإعراب "أَنْتَ" ، وله من المدلول في الخارج عهد أخص بالنظر في المخاطب الأول ، صاحب الشرع المحكم : النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَهُوَ أول من خُوطِبَ بالوحي إِنْ فِي الخبرِ أو في الإنشاء ، فذلك خطاب المواجهة الأول ، وليس يقصر الدلالة على المخاطب الأول ، وإنما خوطب به لدى المبدإ ، فدخل فيه دخول قطع يجزم ، ولم يقصر الدلالة عليه فِي خِطَابِ تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ ، إذ ثم من القرينة ما رَفَدَ الدلالة فَعَمَّتْ الآحاد كافة ، وتلك قرينة العموم في خطاب التشريع ، وهو الأصل في نصوص الوحي خَبَرًا أَوْ حُكْمًا حتى يَرِدَ دَلِيلٌ يقصر ، فهو يخالف عن ظاهر أول من الوحي يُسْتَصْحَبُ ، وإن خالف عن أول من اللسان يَثْبُتُ ، فالأصل في خطابِ المفردِ أَلَّا يُجَاوِزَ المخاطَبَ الواحد الذي به يُوَاجَهُ لدى المبدإ ، فجاء الوحي فَأَثْبَتَ أَوَّلًا من اللسان ، وَأَقَرَّ خطاب المواجهة ، فالمواجَه الأول ، وهو صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، المواجَه الأول هُوَ أَوَّلُ مَنْ يُكَلَّفُ بالتصديقِ الخبري والامتثال الحكمي ، والقرينة بَعْدًا تجاوزه فَتَسْتَغْرِقُ كُلَّ أحدٍ بَعْدًا من أمة الدعوة الأعم ، فخطاب الوحي قد تَنَاوَلَ العالمين كَافَّةً ، إن بالفعلِ لِمَنْ آمَنَ ، أو بالقوة لِمَنْ كَفَرَ ، فخطاب التشريع أعم من خطابٍ أول في النطق ، فكان من الْقَرِينَةِ مَا اسْتُصْحِبَ ، قَرِينَةِ العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فهي لأولى في النُّطْقِ تَنْسَخُ ، فالظاهر الأخص في تكليف الخبر والحكم ، ومنه الأمر آنف الذكر أن : (قُلْ) ، الظاهر الأخص هو عموم يجاوز المخاطب الأول ، وإن كان المواجَه في المبدإ ، ودخوله في عموم المعنى دخول جزم يقطع فلا يخرج بالتخصيصِ ، وَلَوِ احتمالَا ، خلاف من تلا فهو يحتمل الخروج بالتخصيص ، ولو احتمالا في النظر المجرد ، فكان من ظَاهِرٍ أخص ما استغرق الآحاد كافة ، فذلك الأصل في خطاب الوحي المنزل إلا أن تَرِدَ قرينةُ تأويلٍ يَرُدُّ الخطاب إلى أول في المعجم ، فلا يجاوز المخاطَب الأول ، كما المثل يضرب بالخصائص فلا عموم لها يجاوز ، وكذا وقائع الأعيان ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما به قَدْ تَذَرَّعَ مَنْ رَامَ نَقْضَ الوحي أن يقصره على آحاد فيهم قد نَزَلَ ، أو وقائع أعيان لا عموم لها يجاوز مواضعِهَا التي عليها قد نَزَلَتْ ، فلا يجاوز جيله الأول ، فَإِذِ انْقَرَضَ فالوحي قَدْ نُسِخَ ! ، وصار من لفظِه ما يُتْلَى أَمَانِيَّ بلا عمل ، إذ لكلِّ جيل من معجم الدلالة ما يخالف عن أول بِهِ الوحي قد نَزَلَ ، فَسَاغَ لِمَنْ تَلَا أَنْ يَتَأَوَّلَ ألفاظَ الوحي بما يواطئ عرف الجيل ، وإن خالف عن أول من التنزيل بل وَنَقَضَ أصله الأول ، فَاقْتَرَحَ من المعنى ما جاوز اللفظ إِنْ في دلالة الوحي الأخص أو أخرى من اللِّسَانِ أعم ، فكان من تأويلٍ باطن ما اقْتَرَحَ من بِنْيَةِ الكلام جَدِيدًا ، فَرَامَ درس لسان مجرَّد ، وَلَهُ من سياقِ التاريخِ يَسْتَقْطِعُ ، فلا يجاوز في تأويله جِيلَ المتأوِّل الذي يحكي ، لو تدبر الناظر ، ما يهوى ويجد ، ولو خالف عن الأصل الأول ، فلكلِّ جِيلٍ من المعجَم ما يحدث ، وليس ثم قانون مطلق في اللسان ، بل قد صار النسبي المحتمل ، وهو ما به الاستدلال يضطرب ، ولو في بَدَائِه من المدلول الأول في معجم اللسان المفرد ، وبه يزعم المتأوِّل أنه لكتابٍ ماض يَقْرَأُ القراءة الجديدة التي تَنْصَحُ ، ولأبواب من الدلالة تَفْتَحُ ، وإن خالفَ عن أصل أول ، فهي لِبَابِهِ تَكْسِرُ ، فكان من عَمَلِ التأويل الباطن عَامَّةً ، ومن الْبُنْيَوِيَّةٍ خاصةً ، كان من ذلك : تاريخٌ في الدرس لا يجاوز جيل النطق ، فَلِكُلٍّ من الْعُرْفِ مَا يَأْطِرُ المعنى ، ولو في أصول من العلم والعمل لا تَتَبَدَّلُ ، فَإِنَّ الْعُرْفَ إِنَّمَا سَاغَ في مواضع من النظر كما المصالح وإن لم تسلم ، أيضا ، أَنِ اتُّخِذَتْ ذَرِيعَةً إلى القدح في الأدلة ، فَعُطِّلَتْ لِأَجْلِ مصلحةٍ تُتَوَهَّمُ ، لَا جَرَمَ كَانَ مِنْ حَدِّ المصلحةِ مَا يَنْصَحُ إذ احْتَرَزَ ألا تخالف عَنِ النَّصِّ المنزل مع جملة أخرى من الشروط بها سلمت من الأهواء والحظوظ فلا تكون خاصة تُكْسَى لحاء عام يستغرق . فَتَذَرَّعَ مَنْ تَذَرَّعَ بالمنفعة العامة وقد أَطَرَهَا على أخرى خاصة بما مَكَرَ إذ استجمع أسبابَ الْقُوَّةِ والتأثيرِ ، فَحَمَلَ الجمع ، طَوْعًا أو كَرْهًا ، أن يختاروا ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه ، فالظاهر الأخص من خطاب الوحي قد جاوز المخاطَب الأول فَعَمَّ في الدلالة واستغرق لقرينة عموم في خطاب تَكْلِيفٍ يَنْزِلُ إِنْ خَبَرًا أو حكما ، إن نهيا أو أمرا كما الأمرُ آنف الذكر أَنْ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فَثَمَّ خطاب المعنى المجاوز أَنْ : "قُولُوا" ، وتلك زيادة في المدلول قد خالفت عن ظاهر أول من المنطوق ، منطوق الخطاب المفرد الذي يقتصر على المخاطب الأول خطابَ المواجهةِ ، فكان من الزيادة ما خالف عن هذا الظاهر فجاوز ، فذلك الانتقال من الظاهر الرَّاجِحِ إلى آخر هو المؤول المرجوحِ لقرينة ما تَقَدَّمَ من العمومِ في خطاب التكليف المنزل ، فذلك مما يجري ، من وجه ، مجرى التأويل ، وبه استقر ظاهر جديد وهو ما قد صَارَ بَعْدًا الأصلَ الذي يظهر ، بادي الرأي ، فَهُو يُسْتَصْحَبُ عمومًا يستغرق كلَّ مكلَّف ، إلا أَنْ يَرِدَ دليلُ تخصيصٍ مُعْتَبَرٍ ، فتلك دعوى التأويل فلا تُقْبَلُ إلا بدليلٍ يقصر الخطاب على واحد بالعين أو آخر بالنوع ، فيكون من ذلك مُؤَوَّلٌ مرجوحٌ ، فلا يصار إليه إلا بدليل أخص هو في الباب النَّصُّ ، فلا يكون ذلك تحكما بالهوى أو الحظ ، كما تقدم من معيارِ التأويلِ في مِنْهَاجٍ محدَث قد اتُّخِذَ مِعْيَارَ الْبِنْيَةِ الذاتية التي لا تجاوز الواحد أو الجيل ، فَلَيْسَ ثم معيار موضوع من خارج يجاوز . فكان من الخطاب ما تَنَاوَلَ أولا هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو المسئول الأول وعليه النجم قد تَنَزَّلَ ، سببَ نُزُولٍ هو الأول فلا يخرج بالتخصيص ولو احتمالا ، وتناول بَعْدًا كُلَّ أحدٍ من أمة الدعوة يُكَلَّفُ ، وإن قُوَّةً بِمَا رُكِزَ فيه من محل التكليف عَقْلًا يَنْصَحُ ، وَثَمَّ من دلالة الخبر "مِنْ أَمْرِ رَبِّي" ما احتمل ، أيضا ، فدلالة "مِنْ" حكاية الاشتراك في الدلالة ، فهي تحكي ابتداء الغاية ، غاية الخلق ، خلق الروح فمن الله ، جل وعلا ، قد ابْتُدِئَتْ ، وهي الخلق اللطيف الذي لا يدرك بالحس ، خلافا لمنهاح محدث لم يَتَناَوَلْ من الإنسان إلا الْأَدْنَى مِنْ مَاهِيَّتِهِ ، الجسد الطيني الكثيف ، فَتَحَوَّلَ الإنسان إلى مادة ذَاتِ قوانين صارمة يرصدها البحث والتجريب ، فليس ثم روح لطيف تجاوز هذا الجسد المادي الكثيف ، وليس ثم عقل يجاوز إفرازات الدماغ وَنَبَضَاتِهِ ، فالعقل هو الدماغ الذي يرصد بالحس ، وما يكون من نوبات روحية لدى بعض البشر ليس إلا نَوْعًا من أنواع الصرع بما يكون من زيادة في نشاط المخ الكهربائي ، فهو يدخل الإنسان في تجربة ذاتية كتجارب الرهبان والزهاد بما يكون من طول صوم وسهر وتأمل ..... إلخ ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما يشبه أطروحة الفلاسفة التي جعلوا النبي شخصا ذا مَلَكَاتٍ خاصة ، فَلَهُ من قوة الذكاء وحدة الذهن ، مع قوة التخييل التي تخرج هذه التجارب الذاتية من القوة إلى الفعل فَتَتَشَكَّلُ في صُوَرٍ في الخارج تُخَاطِبُ النَّبِيَّ بما صدر عن عقله أولا ، فهو مرجع هذه التجربة الذاتية التي لا تجاوز من خارج ، والملك أو الصورة التي تكلمه هي أخرى مرجعها ذاتي من خياله ، فَلَهُ من قوة التخييل ما به تخرج التجربة الروحية من قوة الفكرة إلى فعل الصورة التي تكلمه بما صدر عن عقله ، وله من قوة التأثير بما له من خصائص نَفْسَانِيِّةٍ ، له من ذلك ما يَعْظُمُ أَثَرُهُ فِي الجمعِ ، وذلك ما اقْتَبَسَهُ بَعْضُ الغلاةِ من المتصوفة والمتزهدة الذين قالوا بالإشراق والفيض ، فالتجربة الرياضية التي تجاوز حد الاعتدال بما يكون من هَجْرِ اللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، بل والحاجات الضرورية من طعام وشراب ونوم ، هذه التجربة الرياضية تفسد كيمياء المخ ، وهو الآلة التي تحكي المشاعر والبواعث ، فلا يصنعها هذا الجسم المحسوس المكون من تَلَافِيفَ وتجاويف ، وإنما هو الآلة التي تُتَرْجِمُ هذه المشاعر ، فَثَمَّ مرجعٌ من خارجِ الدماغِ وهو العقل ومحله القلب ، فهو قلب المعنى لا قلب الحس الموجود في الصدر ، فالدماغ يترجم عن هذا العقل ، فإذا فسدت آلة الترجمة بما يكون من مسكِر أو مخدِّر ، أو إقلال من الطعام والشَّرَابِ ، فَيَقِلُّ الغذاء الذي يصل إلى المخ ، أو طول سهر يجهد الذهن ، فكل أولئك يفسد الآلة ، مع ما يكون من مرض يَطْرَأُ ، وَبِهِ تَزِيدُ النبضات ، فيصاب صاحبه بالصرع أو التشنج ، وتلك ، بداهة ، حَالُ نَقْصٍ لا يمكن تأويل معنى شريف كالنبوة به ، فالنبي يصدر عن حال الوحي وقد أُوتِيَ من الأخبار والأحكام ما بَلَغَ غَايَةً فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ مَعَ مَعْنًى محكم في الخبر والإنشاء كَافَّةً ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، لِمَرَضٍ يُصْرَعُ صاحبُه فلا يدري ما يقول إلا على مذهب الجذب ! ، وهو ما يقدح في وصف النبي أو الولي أنه المجذوب المصروع فلا يَدْرِي ما يقول ، فقد غاب عن الوعي بما كان من فسادٍ فِي الدماغ ، فآلة الترجمة قد فَسَدَتْ ، فلا تصدق في حكاية معنى ينصح ، فالنبوة طور يجاوز العقل ، فَلَيْسَ يَصْدُرُ عَنْهُ ، ولو العقلَ التَّامَ الذي أوتي صاحبُه فكرةً تَنْصَحُ وَلَفْظَةً تُفْصِحُ ، فالنبوة تجاوز العقل وتجاوز الدماغ من باب أولى ، كما الروح تجاوز البدن ، ولكلٍّ مِنْهُمَا ، الروح والبدن ، لكلٍّ مِنْهُمَا مادة بِهَا يَغْتَذِي فَهُوَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ مَصْدَرٍ من خارج يجاوز ، فالبدن يَتَنَاوَلُ مَادَّتَهُ مِنَ الأرضِ ، إذ تُوَاطِئُ مَاهِيَّتَهُ الطينية الكثيفة ، والروح تَتَنَاوَلُ مادتها من السماء ، بما كان من وحي قد نَزَلَ ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، وقد عمت البلوى في المدارس الفكرية المحدثة التي تَنَاوَلَت قواعد الأخلاق والنفس والاجتماع على قاعدة أرضية لا تجاوز ، فكان مِنْ دَرْسِهَا ما اقتصر على التجريب والبحث واستقراء النَّتَائِجِ ، وهو جزء معتبر في الباب ، ولكنه لا يجزئ في تفسير الظاهرة الأخلاقية والنفسانية والاجتماعية إذ لا يتناول من الظاهرة إلا آثارها في الخارج دون بحث أدق في بواعث الفرد والجمع ، وهي معان تَلْطُفُ لا بد لها من مرجع يجاوز الحس ، فالعقل بمعناه الغيبي المجاوز للدماغ مما يَعْسُرُ تَفْسِيرُهُ تَفْسِيرًا ماديا لا يجاوز الحس ، كما الروح لا تدرك ماهيتها في الخارج ، وإنما يَتَنَاوَلُ البحث المادي آثارها في البدن سكونا أو حركة ، فلا يجاوز النظر المحدث ما يدرك بالحس ، وليست الروح من ذلك في شيء ، فَهِيَ مِنَ الغيبِ المجاوز من خارج البحثِ والتجريبِ الذي تُدْرَكُ نَتَائِجُهُ بمعيارِ الحسِّ ، فهي من أمر الله ، جل وعلا ، فتدخل من هذا الوجه في عموم قوله ![]() فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تَنْفُذُ ، وتأويلها ما يكون من الأعيان والأحوال في الخارج تصديقا لما كان أولا من علم تقدير محكم ، قد تَنَاوَلَ كُلَّ شيء ، الاضطرار من حركاتِ الكونِ الَّتِي لا يُطِيقُهَا خَلْقٌ فَهِيَ من فعلِ الخالق ، جل وعلا ، فِعْلِ الإعجازِ في آيِ تكوينٍ يَنْفُذُ ، فتلك آياتُ آفاق وثم أخرى في الأنفس ، ومنها الاضطرار ، وَلَوْ فِي حَرَكَةِ أحشاءٍ تَدقُّ فَهِيَ تجاوز ما يرصد بالحس إلى أخرى من دقائق وَجُزَيْئَاتٍ تَسْلُكُ من السنن المحكم جَادَّةً تَنْصَحُ ، في نَبْضٍ وإفرازٍ عَادِلٍ فَلَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ ، وإلا كان الفساد إِنْ زيادةً أو نقصًا ، فَثَمَّ من اسم العدل ما تَنَاوَلَ الحس والمعنى كَافَّةً ، وثم من الاختيار : حركاتٌ في الخارج تُنَاطُ بالإرادة ، إِنْ فِي أفعالِ الْجِبِلَّةِ وهي أعم ، أو أخرى من الشِّرْعَةِ وهي أخص فَهِيَ مناطُ تكليفٍ لِمَنْ يَعْقِلُ ، إِنْ قَوْلًا أو عَمَلًا ، إِنْ فِعْلًا أو تَرْكًا ، فكل أولئك تأويل يحدث وهو لعلم أول قد أحاط يُصَدِّقُ ، فتصديقه تأويله في الخارج كما أول في علمٍ محيط جامع ، فذلك وصف الذات الذي لا يناط بالمشيئة ، وإن كان من آحادٍ في الخارج ما يُصَدِّقُ وبها تأويله ، تأويل العلم الأول المحيط ، فَتَأْوِيلُهُ آحاد في الخارج تُنَاطُ بالمشيئة النافذة ، فَيَكُونُ من تأويلِ المقدور : الموجودُ بَعْدًا ، والكلمة في ذلك وَسِيطٌ يَنْفُذُ ، كلمةَ تكوينٍ تَحْدُثُ ، وإن كانت تأويلا لِعِلْمٍ أَوَّلَ يَقْدُمُ ، فَانْفَكَّتِ الجهة من هذا الوجه أيضا ، جِهَةُ العلم الأول فهو وصف ذات لا يناط بالمشيئة ، وجهة آحاد منه تصدر فهي تُنَاطُ بمشيئة تَنْفُذُ ، وذلك تأويل يحدث ، وَإِنْ لِنَوْعٍ أول يقدم ، فالكلمات كافة ، إن الكونيةَ أو الشرعيةَ ، الكلمات كَافَّةً مِمَّا قَدُمَ نَوْعُهُ إِذْ رُدَّ إِلَى علمٍ أول يحيط ، وآحاده في الخارج تحدث ، فالأول لا يُنَاطُ بالمشيئة ، والثاني يُنَاطُ بِهَا ، وهو أصل يَتَنَاوَلُ أوصافَ الفعلِ كَافَّةً ، فهي قديمة ، من وجه ، محدَثة ، من آخر ، فلا تَعَارُضَ إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، فهي قديمة من جهة نوعها ، محدَثة من جهة آحادها ، فالعلم قد تَنَاوَلَ الكلماتِ كَافَّةً ، الكونية النافذة والشرعية الحاكمة ، فمن الأوامر ، كما تقدم ، أوامر تكوين تنفذ ، وتأويلها ما يكون في الخارج من إيجاد الأعيان وتدبير الأحوال ، إن الاضطرارَ أو الاختيارَ ، ومنها أوامر تشريع يحكم ، وتأويلها في الخارج ما يكون من الفعل الاختياري ، إِنِ التصديقَ والامتثال أو ضِدًّا من التكذيب والعصيان ، فكان من ذلك ما تَقَدَّمَ مِنْ قسمةِ الأوامر والأمور ، فدلالة "أل" في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#4
|
|||
|
|||
![]() ودلالة الفطرة الأولى إذ تَنْصَحُ مما تَلَا من كَدَرٍ يَشُوبُ ، دلالتها على الفاطر الأول ، الخالق المهيمن ، جل وعلا ، تلك ، لو تدبر الناظر ، من المعلوم الضروري في أي استدلال نظري فلا بد من كلمة سواء هي قاعدة الجدال ، فلا استدلال في النظر ينصح إن لم يكن ثم مقدمات ضرورة في الوجدان تَثْبُتُ ، فهي محل الإجماع إلا عند جاحد أو مُسَفْسِطٍ ، فالفطرة الأولى جملة من العلوم الضرورية التي يجدها الإنسان من نفسه دون حاجة إلى استدلال ، وهي دليل على الفاطر الأول ، فكل محدَث لا بد له من محدِث ، وذلك قانون عام يستغرق الأعيان والأحوال كافة ، وذلك ما استوجب الأول فلا أول قبله ، وبه حسم التسلسل في الأزل ، فالأول الذي جاوز هذا العالم المحدَث ليس ، بداهة ، من جِنْسِهِ ، وإلا كان محدَثًا مِثْلَهُ فَافْتَقَرَ ، أيضا ، إلى محدِث قَبْلَهُ ، وهو ما يَفْتَحُ ذَرَائِعَ التَّسَلْسُلِ ، فلا تُسَدُّ إلا إذا انتهت إلى أول هو المحدِث فليس المحدَثَ من العدم ، بل قد ثبت في الأزل ، فما الخلق كله إلا مقدورات في علم أول محيط ، وما حصولها في الخارج إلا تأويل لمعلوم أول ، فكان من آحاد الكلمات مَا يحكي العلم ، وبها كان الخلق كله ، فهو مِنْهُ كما الآي المحكم قد ذَكَرَ ، فـ : (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وذلك من آي الربوبية ، الآي الآفاقية ، فكان من فعل التسخير ما يصدق فيه ، أيضا ، أصل أول في الباب يستصحب ، فالفعل مما قَدُمَ نَوْعُهُ وكان من آحاده في الخارج ما يَحْدُثُ ، فهي مما يناط بالمشيئة ، وحكاية الماضوية في "سَخَّرَ" : حكاية التقدير الأول ، فإن آحاد المسخَّرَاتِ لا زالت تحدث في الخارج شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بما يكون من آحاد الكلمات ، وهي من العلم المصدِّق الذي تَحَمَّلَهُ الملَك المنزَّل ، فكان من العلم : أول يقدر في الأزل ، وثان يُصَدِّقُ بَعْدًا فهو تأويل يخرج المقدور من العدم إلى الوجود ، فتلك كلمات بها التقدير ثم التكوين ثم التدبير ، ومنه التسخير ، فتلك ربوبية عناية بعد أولى هي الاختراع لا على مثال سابق بما كان من تقدير أول في العلم المحيط الجامع الذي استغرق الأعيان كلها ، فكان من التسخير والعناية بَعْدًا ما به اكتمال الحد : حد الربوبية الجامع ، فمنها اختراع أول لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فذلك الخلق ، ومنه خلق السماوات والأرض ، فكان من ذلك آيٌ قَدْ تَوَاتَرَ ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، وذلك إِطْلَاقٌ في المبنى قَدِ اسْتَغْرَقَ ، كما تقدم في مواضع ، فَأُطْلِقَ العامل ، عامل الخلق ، فاستغرق ، من هذا الوجه ، خلق التقدير في العلم الأول ، وخلق الإيجاد المصدِّق في الخارج ، وثم من معنى التقدير ما يجاوز الإيجاد ، فالخلق منه تكوين يَنْفُذُ ، ومنه تدبير يُحْكِمُ ، وإن كان من إطلاق الخلق ما يَنْصَرِفُ ، بادي الرأي ، إلى الإيجاد ، فَهُوَ شَطْرُ الاختراعِ والبدعِ ، فكان من وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، أنه : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وذلك من المبالغة في الحد ، "فَعِيل" من "فَاعِل" ، فهو الْبَادِعُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَابِقٍ ، وذلك الاسم المقيد بما كان مِنْ إضافةٍ إلى السماوات والأرض ، وإن كان ذلك ، من وجه ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فهو الذي أبدع المحدَثات كَافَّةً ، ومنها السماوات والأرض ، فهو البديع في الفعل إذ هو العليم في الوصف ، وكلاهما مما حُدَّ مبالَغَةً ، وهو آكد في الثناء والمدح ، وكلاهما مما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، وإن كان من اسم البدع ما قُيِّدَ ، فهو ، كما تقدم ، المثال الذي يدل على عام قد استغرق ، فكان من اسم العليم ما عم المعلومات كافة ، ومنها المقدورات في الأزل وما كان من سطر في لوح تقدير يصدق ، فَفِيهِ قد كتبت المقادير كافة ، إِنِ الكلمات الكونية التي تَنْفُذُ أو أخرى من الشرعية فهي تخبر وتحكم ، وكان من اسم البديع ما يُصَدِّقُ هذا العلم الأول المحيط ، فالبدع إيجاد له في الخارج يواطئ ما كان من التقدير الأول في الأزل ، وهو إيجاد مخصوص يحكي الحكمة والقدرة أَنْ كَانَ لَا عَلَى مثالٍ سَابِقٍ ، فالبدع خلق مخصوص إذ الخلق : تَقْدِيرٌ وَإِيجَادٌ وإبداعٌ وتدبير ، فكل أولئك مِمَّا يَدْخُلُ فِي حَدِّ العلمِ الأوَّلِ ، العلم المحيط الجامع ، فكلماته في الأزل أول عنه أخرى في الخارج تحدث إذ تُنَاطُ بَعْدًا بمشيئَةِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، فمنها كلماتُ إيجادٍ أَعَمَّ ، ومنها أخرى في الإبداع أَخَصُّ ، فهو إيجاد يُقَيَّدُ إِذْ يَكُونُ لا على مِثَالٍ أول قَدْ تَقَدَّمَ ، ومنها ثالثة في التدبير ومنه التسخير آنف الذكر ، فالتسخير تال بعد التكوين ، فكان من ذلك تسخير السماوات والأرض ، وفيه يجري قياس الأولى كما يجري في التقدير والخلق ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وذلك مما صُدِّرَ بِلَامِ ابْتِدَاءٍ تحكي التوكيد في "لَخَلْقُ" ، فزيادتها في المبنى تحكي أخرى في المعنى ، وذلك أصل عام يستغرق ، وهو يَتَنَاوَلُ كل زيادة ، وثم من لام الابتداء زِيَادَةٌ أَخَصُّ ، فَهِيَ نَصٌّ فِي البابِ ، باب التوكيد ، وثم من خلق السماوات والأرض : أصل في القياس آنف الذكر ، قياس الأولى ، وهو العام المستغرق على التفصيل آنف الذكر ، فالخلق يحكي في دلالة المعجم الْمُفْرَدِ : مادة التَّقْدِيرِ ، وهي جنس في الدلالة يستغرق ، فَمِنْهُ تقدير في العلم قَبْلَ الإيجاد المصدِّق وهو الأول في الإثبات ، ومنه تقدير في الإيجاد والتكوين فهو يصدق ما كان أولا من تقديرِ لَطِيفٍ خبير ، قد عَلِمَ ما جَلَّ وما دَقَّ من الكائنات ، فكان من اسم الخبير : عَلِيمٌ وَزِيَادَةٌ ، وفيه ، أيضا ، يجري قياس الأولى ، فالخبير بما دَقَّ : عَلِيمٌ بكل شيء يَزِيدُ ، فعلمه يستغرق الدقيق ، والجليلَ من باب أولى ، ومن الخلق إبداع تقدم لا على مثال تقدم ، ومنه التدبير ، فكل أولئك مما استغرقه الإطلاق : إطلاق العامل في قوله
![]() ![]() فكان من قياس الْأَوْلَى مَا تَقَدَّمَ ، فـ : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وهو ما تَكَرَّرَ في موضع آخر من التنزيل المحكم : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فكان من ذلك استفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، وكان من دخول الاستفهام على النفي ما يضاهي الإثبات ، فهو يضاهي دخول النفي على مِثْلِهِ ، فكان من الجواب : (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، فَمَنْ خلق الأعلى فهو يخلق الأدنى من باب أولى ، وثم من الختام ما يجري مجرى التعليل لِمَا تَقَدَّمَ من الخلق المحكم ، فهو ، من وجه ، جواب سؤال قد دل عليه السياق اقْتِضَاءً ، فما علة ما تقدم من قياس الأولى الذي استغرق خلق الأعلى وخلق الأدنى من باب أولى ؟ ، فكان الجواب أنه : (هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، وذلك ما زَادَ في الدلالة على اسم الخالق ، فكان من "فَعَّالٍ" ما يحكي المبالغة في الدلالة وذلك آكد في الثناء والمدح ، وهو ما استغرق تكثير المعنى بما يكون من إحكامٍ في الخلقة ، وتكثير الآحاد من الأجرام والأعيان وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، ولا يكون ذلك إلا بعلم محيط يستغرق ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الإطناب في الخبر ، فَعُطِفَ العليم على الخلاق ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التعاطف بين المسبَّب وهو الخلق إيجادا وإبداعا وتدبيرا ، والسبب وهو ما يكون من أول من العلم المحيط المستغرق ، فَحُدَّ ، أيضا ، حَدَّ "فعيل" من "فَاعِل" ، "عليم" من "عالم" ، وبه الثناء على الرب الخالق ، جل وعلا ، الثناء التام المستغرق مع عموم آخر قد تناول المعلومات كافة إذ أُطْلِقَ الاسم ، ولا يخلوانِ : الخلاق والعليم ، لا يخلوان ، من هذا الوجه ، أَنْ يَجْرِيَا على جادة العهد ، العهد الأخص إذ تحكي "أل" : استغراقا لوجوه المعنى من الخلق والعلم ، ولا يكون ذلك إلا لواحد في الأزل ، لا شريك له في ذات ولا اسم ولا وصف ولا فعل ولا حكم ، فذلك أصل عام يستغرق ، فيدخل فيه الخلق والعلم ، فَاكْتَسَبَتْ "أل" من هذا الوجه : دلالة العهد الخاص ، وإن كان ثم اشتراك في الجنس العام ، جنس المعنى المطلق الذي يجرده الذهن ، فالاشتراك في الجنس العام الذي يجرده الذهن لا يستوجب آخر في الخارج ، بل لكلِّ ذاتٍ تُوصَفُ بالمعنى فَيَقُومُ بِهَا قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، لكلِّ ذاتٍ من ذلك المعنى ما يُوَاطِئُ حَقِيقَتَهَا في الخارج إِنْ كَمَالًا أو نَقْصًا ، فكان للخالق ، جل وعلا ، من ذلك كمال مطلق به قد انْفَرَدَ فلا يشركه فيه غيره ، وإن شركه في المعنى المجرد في الذهن . فحصل في الباب : خلق أعم ، وهو ما قُيِّدَ بالحق في مواضع من التنزيل المحكم ، فـ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، فذلك قَيْدُ الحالِ "بِالْحَقِّ" وهي في هذا السياق : عمدة لا فضلة ، إذ تحكي ما لا يَتِمُّ الثناء إلا به ، أنه الحق الثابت في نفس الأمر ، فالباء في "بِالْحَقِّ" تحكي المصاحبة من هذا الوجه ، وأنه ما كان بالحق بما تَقَدَّمَ من كلمات كون تُصَدِّقُ ما كان أولا من تقدير الخلق ، فالباء تحكي السببية من هذا الوجه ، وكلا الوجهين يصح ، وبه يستأنس من يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، وبه المعنى يَثْرَى بوجوه من الدلالة تَنْصَحُ ، فكان من الخلق أول ، خلق السماوات والأرض ، وكان تَالٍ من تصوير الناس ، فَاسْتَغْرَقَ السياق : الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض ، والآيات النفسانية من تصوير الخلق ، وثم ختام يجري مجرى الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والشاهد أَنَّ ثَمَّ من القرينة العقلية ما لا يُجَاوِزُ في الاستدلال : الأحكامَ معقولة المعنى مِمَّا يُدْرِكُ النَّاظِرُ فِيهِ العلة ، إِنِ المنصوصَ عليه أو المستنبطَ بِمَا يكون من تَنْقِيحٍ أو تخريجٍ ، وهي المعتبرة في باب التأويل إذا تَنَاوَلَ الأحكامَ معقولة المعنى ، وباب التأويل فيها أوسع ، والخلاف فيه أهون إذ النَّاظِرُ يدرك في معقول المعنى ما به يُنَاطُ الحكم من العلة ، فيجاوز بها الأصلَ الأول إلى فرعٍ تال في الخارجِ يحدث ، فهو يُرَدُّ إلى الأصل المنصوص إذ ثم من القرينة جامع معقول ، وَإِنِ احْتُرِزَ ، كما تقدم ، أَلَّا يَخْرُجَ البابُ من المطلَقِ المنضبط إلى نِسْبِيٍّ يَتَفَاوَتُ ، فيكون من ذلك ما لا يَنْضَبِطُ ، وهو ذريعةٌ إلى تَوَسُّعٍ لا يحمد ، إذ يضطرب به النظر وليس ثم معنى ينضبط ، فهو المحكَم الذي تُرَدُّ إليه المتشابهات في الباب ، وما احُتُرِزَ به من النسبية المضطربة ، ما احترز به في معقول المعنى مما يُشْهَدُ بالحس وَيُدْرَكُ بالعقل ، يُحْتَرَزُ به في أَخْبَارِ الْغَيْبِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، فالقرينة لا تكون إلا خبرية ، إذ لم يشهد الخبر أحد ، وليس له من المثال ما يَتَكَرَّرُ ، وليس ثم شاهد قد شهد فيخبر بما لم يشهد غيره ، فمن ذَا شَهِدَ خَلْقَ العالَمِ الأول ، فَوَجَبَ في الباب : رَدٌّ إلى خبر من خارج يصدق فهو يخبر بما غاب فلا يدرك بالعقل أو الحس المحدَث ، والعبرة فيه أَنْ يَصْدُقَ المخبِرُ ، فَحَسُنَ في هذا الباب : الاشتغال بدليل الصحة والصدق ، صدقِ المخبِر ، لا النظر في ماهية الخبر فليست بالعقل تدرك ، وإنما الغاية أن تَجُوزَ في العقل : الجواز العقلي المحضَ ، وذلك مما استوى طرفاه في الاستدلال ، فافتقر إلى مرجح من خارج ، فلا يكون الترجيح بإثبات أو نفي في باب خبري يَتَنَاوَلُ من الغيب ما لا يدرك بالحس ، لا يكون الترجيح بلا مرجِّح معتبر ، وليس في باب الغيب إلا الخبر ، فإذا صَحَّ فهو المذهب في الغيب خاصة ، وفي الشرع عامة ، إن الخبر أو الحكم ، فالخبر مرجع من خارج يُرَجِّحُ ، ومعه زيادة في العلم تثبت ، وهي مما يوجب العدول عن أول يستصحب من العدم الأصلي إِلَى إِثْبَاتٍ يَزِيدُ ، وله من الدليل ما اعْتُبِرَ ، وَهُوَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، مَا افْتَرَقَ عَلَى أَنْحَاء ، فمعقول المعنى لَهُ مِنْ قَرِينَةِ العقلِ مَا لا يكون في غَيْبٍ لا قرينة فيه تجزئ إلا الخبر ، وذلك مقتضى الحكمة أن يكون لكلٍّ من القرينة ما يلائم ، ومرد الأمر أن يكون ثم مرجع من خارج يجاوز ، فمرجع الشرع يجاوز مَرْجِعَ اللسان بما يزيد من القيد ، فحقائق الشرع ، كما تقدم ، حقائق في اللسان قد زِيدَ فِيهَا الْقَيْدُ ، كما الإيمان آنف الذكر ، فالإيمان : تصديق مخصوص ، قد تَنَاوَلَ من اللسان الجنسَ الدلالي المجرد وزاده من الدلالة ما يُرَجِّحُ ، وذلك ما استغرق تصديقَ الجنانِ إذ يُرَجِّحُ القبول والرضى ، مع آخر قَدْ تَنَاوَلَ اللِّسَانَ إذ يشهد ، وثالث من أعمال الجوارح يزيد ، فذلك الإيمان في حَدِّ الشرع إذ زَادَ في اللسان القيد ، فَتَنَاوَلَ المحال كافة لا ما يتبادر من التصديق المجرد في الحقيقة اللسانية المجردة . والله أعلى وأعلم . |
#5
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط الجامع قد تَنَاوَلَ النبوة تَنَاوُلَ الحكمةِ البالغة ، فـ : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وذلك مما حُدَّ حَدَّ الخبر ، وهو دليل الثبوت والاستمرار ، وَثَمَّ من دلالة التفضيل في "أَعْلَمُ" ما نُزِعَتْ دلالته ، فالتفاضل والتفاوت في هذا الموضع لَا يُتَصَوَّرُ ، إذ لَيْسَ ثَمَّ أَحَدٌ يُشَاطِرُ الله ، جل وعلا ، العلم بالمحل الذي تُجْعَلُ فِيهِ النُّبُوَّةُ ، فيكون الله ، جل وعلا ، أعلم منه ، فالتفاضل القياسي في اللسان بَيْنَ : أَعْلَمَ وَعَالِم ، فَيَشْتَرِكَانِ في أصل الوصف وإن حصل التفاوت في القدر ، كما يقال في المشترك المعنوي فإنه مما لا يتماثل في الخارج ، وله المثل يضرب بَوَصْفِ الْبَيَاضِ ، فمنه العاج ومنه الثلج ومع اشتراكهما في الجنس الأعم إل أَنَّ ثَمَّ اختلاافا في الماهيات الأخص في الخارج ، فاصطلح أنه المشكَّك ، فَثَمَّ اشتراك من وجه واختلاف من آخر إن في الماهيات التي تستقل في الخارج أو في قدر الوصف في كل كائن .
وليس ثم في هذا الباب ، باب العلم بالمحال التي تقبل آثار الرسالة ، وهو الخبري ، ليس ثم عَالِمٌ بما قُدِّرَ أَوَّلًا من محل يقبل النبوة جزما ، وإن كان من الدلائل على ذلك ما يظهر في الخارج من أَثَرٍ أول يُبَشِّرُ وحال صاحب الدعوى وصف الْخَلْقِ أو الْخُلُقِ ، فَيَعْلَمُهَا من له عناية بالكتاب الأول وما بَشَّرَ به من نُبُوَّةِ الختمِ ، ويعملها من يَقْدُرُ الرجال حق قدرها ، كما كان من خديجة ، ![]() وما مِن يدٍ إِلا يدُ اللهِ فوقها ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ولا يخلو ذلك ، أيضا ، من استدراك ، فَإِنَّ صَلَاحَ الرَّأْسِ ذي الكتاب الناصح والسيف الناصر ، فَلَهُ من ذلك حق وقوة ، فلا يَنْفَكُّ أَثَرُهُ في الجمع يظهر ، وإن كانوا على حالِ نَقْصٍ وغفلةٍ ، فَثَمَّ من الاقتداء ما طُبِعَ عليه الخلق ، إن في الخير أو في الشر ، وهو ما به يُسْتَدْرَكُ عَلَى مُثُلٍ من الاجتماع المحدَث قد أهملت الفرد واعتبرت الجمع ، فكان له من العقل ما يسبق وليس للفرد إلا أن يخضع ! ، وَمُثُلُ الرِّيَادَةِ في تَغْيِيرٍ يُحْسِنُ أو يُسِيءُ ، مُثُلُ الرِّيَادَةِ فِي كُلٍّ : آحادٌ قد خَالَفُوا عن جَادَّةِ العرفِ والعادةِ ، وهي دين الجمع في الفعل والترك ، فَمِنْ مُثُلِ الرِّيَادَةِ فَرْدٌ أو أَفْرَادٌ ، فلا يكون عقل الجمع لهم قَيْدًا يأطر بل قد كسروه وجاوزوا ، إِنْ خَيْرًا أو شَرًّا ، فذلك ، كما تقدم ، أصل عام يستغرق ، لا جرم لم يكن وحده يجزئ في درك الحق المحكم ، فَعَقْلُ الجمع بما استقر من العرف والعادة ، وعقل الفرد إذ يُوَافِقُ أو يُخَالِفُ ، كُلُّ أولئك محدَث في الخلق لا يسلم من النقص ، الجهل والهوى والحظ .... إلخ من أعراضٍ تَطْرَأُ ، فلا ينفك كُلٌّ يطلب مرجِعًا من خارج يجاوز ، قد يشهد للجمع إن كان عرفه الناصح المعتبر ، وقد يشهد للفرد إن خالف عن عادة تفسد قد خالفت عن الحق المحكم ، كما كان من نبوات جاء بها آحاد قد خالفوا عن دين الآباء وطريقتهم ، فلا الجمع يُمْدَحُ أو يُذَمُّ مطلقا ، ولا الفرد يمدح أو يذم مطلقا ، فكلاهما ذاتي لا يجاوز ، فافتقر كُلٌّ إلى معيار موضوعي من خارج ، وذلك الوحي النازل بمعيار حُسْنِ وَقُبْحٍ يُوَاطِئُ ما أُجْمِلَ فِي النفس فهو له يُصَدِّقُ أولا وَيُبَيِّنُ ثانيا ، ولما اعوج منه يقوم ثَالِثًا ، فكان من اصطفاء العرب ما لا يُجْحَدُ ، كما كان من شُعُوبِيَّةٍ ذَمَّتِ الجنسَ العربيَّ حَسَدًا أَنِ اخْتُصَّ بالرسالة الخاتمة وكان له منها قوة دافعة بها فُتِحَتْ أَمْصَارُ العجمِ لا على قاعدة عصبية تجهل ، وإنما دينية تَنْصَحُ ، فَلَمْ تُطِقْ نُفُوسٌ ذلك وقد كان لها قَبْلًا سيادة في العجم والعرب كافة ، وكان آحاد من العرب يَفْخَرُوَن أنهم وَفَدُوا عليهم ودخلوا مجلسهم ولو تأخروا في الذيل ، فكان من ازْدِرَاءِ أولئك الجنسَ العربي حسدا ، وإن لم يخل العربي من آخر قد تَعَصَّبَ إن فِي جَاهِلِيَّةٍ أولى أو كان بَعْدًا في جيل قد تأخر لَمَّا طَالَ العهد بآداب النبوة والوحي ، إذ كان النقص بعد الكمال ، من : نُبُوَّةٍ قَدْ حَدَّتِ المعيار الناصح في تفاضل الخلق ، فـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، إلى خلافةِ رُشْدٍ قد سلكت الجادة إِلَى نَقْصٍ تال في ملك لم يخل من عدل ورحمة ثم عَاضٍّ قد قام أولا على عصبة العرب ثم انْقَلَبَ تَالِيًا إلى عصبة العجم من الفرسِ ثُمَّ التُّرْكِ ، فلم يخل في كلٍّ من عصبية تُذَمُّ ، إِنْ عَرَبِيَّةً أو عَجَمِيَّةً ، ثم كان جَبْرٌ تأخر ، وهو ما عظمت به البلوى في هذا الجيل ، فقد بلغ غاية في النقص ، وبه كُسِرَ بَأْسُ الخلق بما كان من سلطانٍ صائل قد خرج على الجمع ، فأفسد الدين وسفك الدم ، ولم يسلم منه فَرْدٌ ولا جمع بما احْتَكَرَ من بواعث الشر وأسباب الظلم حِسًّا وَمَعْنًى ، مع عصبية أضيق لم تجاوز حَدَّ الأرض ، بل قد صارت ذريعة إلى استبداد الملك فَبِهَا يَظْلِمُ الخلق ويستحل منهم المال والدم ، فَصَارَ هو معقد الولاء والبراء لدى عصبة الحكم ، وإن تذرعت أنها تحمي الأرض والمصر ، وَلَيْتَهَا تصدق وإن عصبية تَقْبُحُ بل : حَشَفًا وسوءَ كَيْلَةٍ ، فَدَعْوَى تَبْطُلُ وهي مع ذلك تَكْذِبُ فَلَا تَصْدُقُ ، وكل أولئك من نَقْصٍ عن عُصْبَةِ النبوة الأولى التي تحملت الوحي في المبدإِ ثم كان منها باعثُ فَتْحٍ يَنْصَحُ وبه نَالَتِ الخيريةَ المطلقة ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ فَجَاوَزَ العرب ، فكان من عصبة النبوة : سَابِقُ الفرس وسابق الروم وسابق الحبش ، فذلك معيار يجاوز إذ به التفاضل تَقْوَى تجاوز العرق والعنصر ، وإن كان للعرب فضل لا يُجْحَدُ ، ولو لسانَ الوحي فهم أهله وخاصته ، فلسانهم قد صار من الدين بمنزلٍ يَعْظُمُ ، ولو الوسيلةَ التي لا يَبْلُغُ الناظر مقصده إلا أن يُتْقِنَهَا ، فَيَعْلَمَ مواضع النطق وأخرى في الخارج تصدق بما كان من فِعْلٍ وَتَرْكٍ ، فلا يكون أمره أماني تُتْلَى كما قد ذُمَّ الْأُمِّيُّونَ مِنْ جِيلٍ تَقَدَّمَ قَدْ تَحَمَّلَ الكتاب حفظا لا فقها ، لفظا لا معنى ، مع ما كان من تَبْدِيلٍ وتحريفٍ وإن احتمل اسم التأويل فقد خرجوا به عن جادة التنزيل ، فَحَصَلَ للعربِ فَضِيلَةٌ أولى بما كان من اصطفاء أعم ، فدخل من هذا الوجه في عموم ما تقدم من آي الذكر المحكم : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وكانت أخرى في لِسَانٍ يَنْصَحُ قد نَزَلَ به الوحي ، وذلك لسان يجاوز العرق والعنصر ، فالعربية لسان وَإِنْ نَطَقَ به الأعجمي ، وذلك تفضيل الجنس ، جنس القبيل العربي ، فلا يَلْزَمُ منه آخر يستغرق ، فَلَوْ قِيلَ : العرب خير من العجم ، فهو يضاهي في المعنى : الرجل خير من المرأة ، فهو تَفْضِيلُ جنسٍ على آخر ، تفضيلُ مجموع على مثله ، لا جميعٍ يستغرق ، فدلالة "أل" من هذا الوجه : دلالةُ بَيَانٍ لجنس المدخول دون آخر يجاوز فهو يستغرق الآحاد كافة ، فلا يستقيم ذلك وشاهد الخبر والحس بذا يشهد ، فكم من نساء قد عَدَلْنَ في الفضل جَمْعًا من الرجال يكثر ، وإن كان للرجال عليهن درجة ، فذلك نظر الجملة ، إذ اخْتُصُّوا بِفَضَائِلِ في التكوين وقوامة في التشريع قد أوجبت زيادة في التكليف بها حصلت لهم رياسة ، فلا تكون إلا فيهم ، وأشرفها رياسة النبوة فلا تكون في أنثى ، فكان للرجال من ذلك خاصة لا تدرك ، وبها صح القول إن الرجل خير من المرأة ، فجنسه الذي دلت عليه "أل" يَفْضُلُ آخر من النساء ، وإن كان من آحاد النساء ما يفضل آحادا من الرجال بل وَجَمْعًا ، ولكنها لا تفضل الرجال مطلقا ، وإلا لزم القائل أنها تفضل الأنبياء وهم رجال ، فلا يقول ذلك من له من الإيمان حظ . فكذا تفضيل العرب على العجم ، فهو تفضيل مجموع على آخر ، لا جميع على مثله ، فالعرب جَنْسًا خير من العجم إذ اختصهم الله ، جل وعلا ، بالوحي والنبوة ، فدخلوا من هذا الوجه في عموم قوله ![]() فدلالة "أل" : دلالة بيان لجنس دون استغراق آحاده ، فليس كل عربي خيرا من كل أعجمي ، بل من آحاد الأعاجم من هو أفضل من آحاد من العرب ، بل وجمع يكثر ، وإن كان الفضل الأعم للعرب بما تقدم من رحمة النبوة الخاتمة التي خرجت منهم ونزلت بلسانهم ، فليس تفضيل العرب بمطلق ، بل مَنْ قَسَّمَ العالم إلى نطاق أعلى وأدنى وَبَيْنَهُمُ الأوسط ، لم يُسَلِّمْ للعربِ بِفَضِيلَةٍ تُطْلَقُ حتى نُبِزَ لدى بَعْضٍ أنه شعوبيٌّ يُبْغِضُ العربَ إذ كان من الْبَرْبَرِ مَوْلِدًا وَنَشْأَةً ، وإن أثبت له بَعْضٌ نَسَبًا عَرَبِيًّا ينتهي إلى حمير ، فكان من قيده : قيد النبوة ، فلا يُصْلِحُ العربَ إلا هي ، فإن غابت فلم تظهر فيهم ، وكان من حكومتها في العلم والعمل ما عُطِّلَ ، فهم همج رعاع ، وَكَلَأٌ مُسْتَبَاحٌ ، ولو من أذل الخلق ممن لم يعصم إلا بحبل من الله ، جل وعلا ، ومن الناس ، كما الحال في هذا العصر ، فلو تدبر الناظر في حال العرب خاصة وأتباع الوحي الخاتم عامة ، وقد عطلت فيهم النبوة فدرست أعلامها إلا آثَارًا تبهت ، لو تدبر الناظر في ذلك لَشَكَّ أن الوحي قد نَزَلَ في أسلاف أولئك ، لولا ما كان من خبر الوحي الصادق ، فهو عاصم من التكذيب ، وإن عَظُمَ من حال العرب التَّنْفِيرُ من الحق بما سلكوا من جادة النقص والشَرِّ ، فَلَوْلَا الوحي لشك المتيقِّنُ ، وهو ينظر في حال كَثِيرٍ لا ينفع ، ولا أَثَرَ له في دين أو دنيا يَنْصَحُ فهو عن صناعة الفكرة بمعزل ، وهو من فعل الحركة مُعَطَّلٌ ، فلا منصب له في سياسة أو حرب ، ولا مهابة له في قلوب الخلق ، كما قد أخبر صاحب الوحي المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "لينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" . فمعيار التفاضل منه الكوني الذي لا تكليف به إذ لا اختيار ، فلا يمدح الرجل أنه قد خلق رجلا وإن فُضِّلَ بأصل الخلقة فذلك مما لم يسع فيه وَيَجْهَدْ لِيُقَالَ إنه قد اكتسب مِنْ فَضِيلَةٍ ما يُحْمَدُ ، وكذا العربي فلا اختيار له في ذلك وإن فُضِّلَ بما كان من اختيار الرب العليم الحكيم ، جل وعلا ، فذلك ، كما تقدم ، تأويلُ علمٍ أول قد أحاط ، فكان منه في الخارج خَلْقٌ يُصَدِّقُ ، فكان من ذلك اختيار النبوة الخاتمة ، فذلك من حكمة أولى في التكوين ، أَنِ اخْتِيرَ المحل وَهُيِّئَ بما كان من صناعة على عين الرب المدبر ، جل وعلا ، ثم كان الإمداد بأسباب الوحي ، فذلك الوهب المحض فلا ينال برياضة ولا كسب ، وإنما هو اختيار أول من عليم عِلْمُهُ قد أحاط واستغرق ، فلم يكن من معيار التفاضل في التكوين ما يطلق ، وإن كان له حظ يعتبر في تفضيل الأجناس لا الآحاد ، وإنما أطلق آخر من معيار التشريع بما كان من تقوى بها تُنَالُ الدرجة ، سواء أكانت لعربي يُفْصِحُ أم أعجمي لا يُفْصِحُ ، كما قد فَصَّلَ يومَ الموقف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - : إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمُ ، وآدمُ من تُرَابٍ" . فدلالة "أعلم" في قوله ![]() والله أعلى وأعلم . |
#6
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط الجامع قد حكى من الوحي قصة الخلق ، وحكى عداوة إبليس لجنس البشر من آدم وَبَنِيهِ ، فكان من ذلك المحكم الذي لا يُنْسَخُ إذ به الشيطان قد تَوَعَّدَ ، فـ : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، والإله قد حَذَّرَ ، فـ : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وهو ما يحكي التدرج في الانحراف ، فالشيطان يوسوس على مكث ، فَلَوْ أمر بالشرك المصرح لنفر الإنسان لدى المبدإ ، فيكون من تَزْيِينِ الباطل ما استوجب التَّمَهُّلَ ، وله المثل يُضْرَبُ بِمَا ذَاعَ فِي هذا الجيل من فواحش تفجع ، وإن لم يكن مِنَ النبوة حَكَمٌ يُهَيْمِنُ ، فَثَمَّ أَثَرٌ ، ولو الباهِتَ ، بل ثم من الفطرة ما يَسْتَنْكِفُ فَوَاحِشَ محدَثَةً قد ذاعت في الخلق ، بل وصارت في مواضع هي الأصل ، فمن أنكر فهو المحدِث في دين الجمع ما يُرَدُّ ، وذلك ما اسْتَلْزَمَ بحثا يجاوز الحاضر فهو يُفَتِّشُ فِي مَاضٍ قد تَقَدَّمَ ، فيرصد الانحراف لدى المبدإ ، وهو ما يكون يسيرا ثم لا يزال يَزْدَادُ وَيَتَرَاكَمُ في وجدان الفرد والجمع ، حتى يصير هو الأصل ، فقد نسخ الأصل الأول ، ولو لم يكن ثم دليل يَنْصَحُ في النسخ إلا تقليد الأب والجد ، وما كان من نسخ العلم بعد هلاك الجيل الأول ، فَثَمَّ الانحراف عن الجادة ، وهو ما يُسْتَأْنَفُ يَسِيرًا ولا يَزَالُ يَزِيدُ حتى يَصِيرَ هو الأصل ، وهو ما استوجب في الدَّرْسِ مَا يُجَاوِزُ بِنْيَةَ الجمعِ في الحال ، فإنها وإن رصدت الظاهر وأحسنت تحكيه وأشارت ، ولو من طرف خفي ، إلى هوية الفرد والجمع وما يكون من بواعث الإرادة والفعل ، فهي تبين عن تَصَوُّرٍ أول يَسْبِقُ الحكمَ ، وهو ما اسْتَقَرَّ لدى هذا الجيل فَصَارَ العرف المتداول ، ولا بد له من روافد من خارج الحال ، فالبنية الحالية تَقُصُّ ما هو كائن ، ولا تشتغل بما كان أولا من القيم والمبادئ التي تَرَاكَمَتْ في الوجدان ، فهي قليل إلى آخر ، فيكون منه بَعْدَ حِينٍ كَثِيرٌ يَتَرَاكَمُ ، وإنما السيل اجتماع النقط ، فَمَنْ نَظَرَ فِي السَّيْلِ وهو يجرف فإنه يَعْجَبُ إذ لم يكن ثم نظر أول في اجتماع مادته لدى المبدإ وما يكون من تَرَاكُمِ حَبَّاتِهِ ، فَتُؤَثِّرُ بالجمعِ ما لا تُؤَثِّرُ بالفرد ، وهو ، من وجه ، مِمَّا يضاهي في الحد : الخبر الضعيف بالنظر في حاله إذا انْفَرَدَ ، فإذا اجتمع له من الطرق كثير ، فهو يستفيد بها قوة لا تكون في المبدإ ، فاجتماع الطرق كاجتماعِ النُّقَطِ ، وهو كاجتماع الفكرة في الوجدان بما يكون من تَرَاكُمِ المعرفة في الذهن ، وإن خالفت عن الدين والفطرة والعرف ، فيكون من الاستنكار لدى المبدإ ما يظهر ، فالجمع لا زَالَ على أول من المرجع ، فهو حديث عهد بما كان أولا ، ثم لم يَزَلِ الجديد يَزِيدُ ، ولو كان القبيحَ المستنكَرَ فلا دليل له من نَقْلٍ أو عَقْلٍ أو فطرةٍ تَنْصَحُ ، وإنما الولع بالجديد الذي يُذَمُّ فَلَا دَلِيلَ يشهد ، فليس الانتقال عن أول من الفكرة إلى جديد ، ليس ذلك مما يُمْدَحُ أو يُذَمُّ لِذَاتِهِ ، وإنما العبرة بما يكون من ماهية هذا الجديد ، وما يُقِيمُ صاحبه عليه من الدليل ، فلا يكون الدليل هو الولع المطلق ، وهو ما به العقل يَغِيبُ وَيَذْهَلُ ، فإن من خفة الجديد ، وَلَوْ وَبِيئًا ، ما له يستحسن الناظر ، بادي الرأي ، إذا حضرت سكرة وغابت فكرة ، فلم يكن ثم من العقل ما يمحص ، فهو ناقد يُدَقِّقُ ، لا ذَاهِلٌ يُقَلِّدُ الجديدَ بلا نظر ، لا سيما إن كان المغلوب فهو أبدا يُولَعُ بِتَقْلِيدِ مَنْ غَلَبَ ، كما قال ابن خلدون
![]() فالعقل ، كما تقدم ، يجوز في الباب ما انْشَعَبَ من الاحتمال أن الإنسان قد خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ الخلقَ المباشر ، أو كان من ذلك تطور من كائن بسيط إلى آخر مركب ، أو أنه قد خُلِقَ من ماء أو نار ...... إلخ ، فكل أولئك من الجائز المحتمل مبدأ النظر ، فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، وذلك الغيب المطلق فلم يشهده أحد ، والعقل لا يدرك فيه إلا التجويز المحض ، فلا يجزم بواحد من احتمالات تجوز حتى يكون ثم دليل من المنقول فهو ما يجاوز العقول في أمر لا تحيله مبدأ النظر ، فهي تُجَوِّزُهُ فَلَا تَزِيدُ في ذلك إيجابا أو امتناعا حتى يكون ثم دليل من خارج يوجب أو يمنع ، فلا يجزم العقل بواحد مما تقدم ، لا جرم افتقر إلى مرجح من خارج ، فهو يُرَجِّحُ في الباب واحد : أَخُلِقَ من تُرَابٍ أم نار ..... إلخ ، أَخُلِقَ الخلقَ المباشر أم عبر وسائط ...... إلخ ، وذلك ما لا يطيقه العقل منفردا ، ولا يرصده الحس إذ قد جاوز مداركه ، فهو ، كما تقدم ، الغيب المطلق ، فَوَجَبَ ضرورةً الرجوع إلى أول من خارج العقل يَصْدُقُهُ فِي الخبر ، فذلك الوحي الذي جحده العقل في جيل قد تأخر إذ اغتر بما كان من أسبابِ بحثٍ يُجَرِّبُ ، فَظَنَّ إليها المنتهى في الإثبات والنفي ، فالوحي ، لو تدبر الناظر ، ضرورة في العقل المصرح ، إذ به ترجيح في جائز من الخبر وكذا الإنشاء ، فإن في العقل قوة تحسين وتقبيح لَا تُنْكَرُ ، ولكنها ، أيضا ، مما أُجْمِلَ ، فَافْتَقَرَ إلى مرجع من خارج يفصل ، فذلك الوحي الذي يرفد العقل بالشرع المحكم كما أول من الخبر المصدق ، فهو رائده الذي ينصح إن في الخلق أو في الشرع حكايةَ وصف عام قد استغرق : رُبُوبِيَّةً تخلق وتدبر وألوهية تخبر وتشرع . فحكى الوحي من انحراف الخلق عن الجادة ، فكان من التوحيد أصل أول ، فـ : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وكان من قصص النبوات ما حكى انحراف الجيل بما كان من الإغواء والتزيين الذي تَلَطَّفَ أولا فلم يفصح عما به يوسوس ، فَنَصَحَ وَإِنْ كذب فَلَيْسَ رَائِدًا يَصْدُقُ في الهداية ، فَزَيَّنَ لجمعٍ أول أَنْ ينصبوا التمثال لصالحٍ هو الأسوة في الورع والنسك ، فإذا هلك جيل أول ، وكان مِنْ تال مَنْ يجهل إذ نُسِخَ العلم وَنُسِيَ ، فكان الانتقال عن أصل أول من التوحيد إلى تال من التشريك ، فهو الطارئ بما كان من وسواس ناقض ، فَعَصَى الجمع وخالف عن النهي أن : (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، فهي مما تَرَاكَمَ في الوجدان وحصل منه محدَث قد عمت به البلوى فصار الأصل الذي يهرم فيه الكبير وينشأ عليه الصغير ، فقد حاد عقل الفرد والجمع عن الجادة ، وليس يُعْصَمُ إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يَعْصِمُ إذ سلم من النقص والهوى والحظ . والله أعلى وأعلم . |
#7
|
|||
|
|||
![]() فالعلم المحيط قد تَنَاوَلَ التَّكْلِيفَ كَمَا التَّكْوِينُ ، فإن النبوات المنزلة من علم أول قد استغرق ، فكلماتها الخبرية والإنشائية مما تقدم في الأزل ، وهو قياس يَنْصَحُ ، فإن مَنْ عَنْهُ كلمات التكوين تصدر وبها الإيجاد والتدبير المحكم ، فَعَنْهُ أخرى تحكي لُطْفًا وَخِبْرَةً : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من الاستفهام ما يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، ولا يخلو من دلالةِ تَقْرِيرٍ ، إذ يجاب عنه بِالنَّفْيِ ، فَيُقَالُ : بَلَى ، ويكون من ذلك إثبات يُصَدِّقُ ، فهو ، جل وعلا ، يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ، ودلالة "مَنْ" : دلالة الوصل الذي دَلَّ بأصل الوضع الأول في معجم اللسان المفرَدِ عَلَى الجنس العاقل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما جاوز العلم المحيط ، فَثَمَّ من العلم ما أحاط بالجنس العاقلِ وَغَيْرٍ مِمَّا لَا يَعْقِلُ ، بَلْ وَمَيِّتٍ لا حياة فيه ، وَلَوْ حَيَاةَ الحيوانِ بل والنبات الأدنى ، فَثَمَّ خلق الأجرام والأرض وما عليها من جبال وحجر ، وما عُدِنَ فِيهَا مِنْ مَعْدنٍ وجوهر وما كان من أجساد قد بليت فنالها الكائن الدقيق بما يفرز من مادة تهضم وَتُحَلِّلُ ، وكان من تعاقب الدهور وزيادة الضغوط ما به خلق جديد في الأرض قد صُنِعَ على مكثٍ بما كان من سنن محكم في التحويل ، فحصل منه كَنْزٌ قد اقْتَتَلَ عليه الخلق وكان لأجله الغزو والفتح ! ، ولو المحدَث الذي يقتل الإنسان ويهدم البنيان ويفسد العمران كافة ، إذ يصدر عن مرجع من الذات هو المحدَث فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى سبب لدى غَيْرٍ إن على ظاهر الأرض أو هو مما عُدِنَ في بَطْنِهَا أحقابا تطول حتى كان منه ما يُهَيِّجُ النفوس أن تطلبه عدلا أو ظلما ، فكان من ذلك ما نَالَهُ الخلق بأسباب من الكائن تَدقُّ ، على التفصيل آنف الذكر ، فَهُوَ من جنسِ الخلق ، إذ منه الإيجاد من العدم ، ومنه آخر من موجودٍ حَادِثٍ أن يتحول إلى آخر ، ولا يخلو من إعجازٍ لِمَنْ تَدَبَّرَ السننَ المحكَم ، فَتِلْكَ آيةُ ربوبيةٍ تَنْصَحُ ، إن ربوبيةَ الخلق أو أخرى بها العناية بما رُكِزَ في الأرض من ذخائر قد تحولت عن أخرى ، فكان مِنْ أُولَئِكَ جَمِيعًا ما جاوز الخلق العاقل ، فدلالة "مَنْ" ، من هذا الوجه ، خاص يُرَادُ به عام ، إذ تُجَاوِزُ العاقلَ إلى غيره ، وهو مِمَّا به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، إذ ثم مجاز الخصوصية فَقَدْ أطلق الخاص وهو الموصول الدال على العاقل "مَنْ" ، وَأَرَادَ عاما يجاوز فهو يستغرق العاقل وغيره ، وله من ذلك شاهد عموم قد استغرق من آي التنزيل المحكم ، فـ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، ومن ينكر المجاز فقد حَدَّ من الاستثناء الذي يشهد له اللسان بأصل وضع أول ، فقد حد من هذا الاستثناء مواضع هي الحقيقة وبها استعمال "مَنْ" في دلالة عامة تستغرق العاقل وغيره الاستغراق التام الذي يَتَنَاوَلُهُمَا جميعا على حد شمول أول ، فذلك العموم لدى المبدإ دون حاجة تلجئ أَنْ يَتَكَلَّفَ الناظر من المجاز ما به خروج عن الأصل ، فَمَا يُخْرِجُ المستدِلَّ عن الأصل وهو ما يثبت أولا دون تكلف لدليل ، بل ثم من الآي المحكم حكاية نص يرفع احتمال المجاز إن في الخلق كما تقدم من قوله
![]() فالاستثناء ، ومنه المجاز آنف الذكر ، الاستثناء لا يُصَارُ إليه إلا ضرورةً تُقَدَّرُ بالقدرِ ، ومتى جاز الأصل فَلَا يُصَارُ إِلَى الاستثناء ، فالأصل في الكلام الحقيقةُ فلا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر حملان الكلام على الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، إذ ما خالف عن الأصل الأول فعنه يسأل بِلِمَ ؟ ، وما يستصحب لدى المبدإ ، فلا يفتقر إلى دليل ، فهو يستصحب الأصل فلا يلزمه دليل ، كما أن الفقيه يستصحب العدم الأصلي في باب التكليف الشرعي ، فالأصل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تُشْغَلُ إلا بِدَلِيلٍ أَخَصَّ ، هُوَ في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فإذا كان الدليل الناقل عن الأصل من بَرَاءَةٍ إلى اشتغال ، فهو زيادة علمٍ بَيِّنَةً من خارج الدعوى ، دعوى اشتغال الذمة بِتَكْلِيفٍ يَزِيدُ ، فتلك دعوى تزيد فلا تُقْبَلُ إلا بدليل من خارجها ، فلا يكون الدليل هو عين الدعوى ، إذ هي صورة الخلاف ، والاستدلال بها فَاسِدٌ ، ولو كانت جائزة فِي نَفْسِ الأمرِ ، فَالتَّجْوِيزُ العقلي المحض لا يَصِحُّ دليلا في إِثْبَاتِ ولا نَفْيٍ ، إذ لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وَبِهِ يَصِيرُ الواجبَ الثابتَ ، فلا يكون الجائز دليلا ، وهو ، باديَ الرأيِ ، يَطْلُبُ دَلِيلًا ، فلا يصح مقدمة في الاستدلال تَسْلَمُ مِنَ اعْتِرَاضِ الخصمِ ، ولو رُدَّ جَائِزٌ إِلَى مِثْلِهِ لَكَانَ التَّسَلْسُلُ فَلَا يَحْسِمُ مَادَّتَهُ إلا أول إليه تَنْتَهِي الأدلة كَافَّةً ، فهو الواجب الثابت لدى المبدإ ، وذلك القانون العام الذي استغرق الخلق والشرع كافة ، فلا يستقيم الأمر إلا أن يكون ثم أول هو المطلق فلا أول قَبْلَهُ لا في الكون فهو الرب الخالق ، ولا في الشرع فهو الإله الحاكم ، ومرد كل أولئك إلى العلم الأول المحيط ، العلم الجامع الذي استغرق التقدير والتشريع كافة ، كما تقدم من قوله ![]() ![]() وكذا العلم يجاوز فَيَسْتَغْرِقُ ما كان من تأويل في القول والفعل يَكْشِفُ ، فَثَمَّ علم تال هو ظهور وانكشاف لما ثبت أولا في الأزل ، وله دليل يشهد بما كان من علم إحصاءٍ يَجْمَعُ ، وله أخير في كتاب ينطق بالحق المحكم ، فذلك العلم الذي تناول المعلومات كافة ، وثم منها : علم التكوين وآخر من التشريع إذ يُنْزِلُ من الخبرِ والحكمِ ما يُصْلِحُ الفرد والجمع كَافَّةً ، فهو ، جل وعلا ، الأعلم بالخلق ، فمن قدر ماهياتهم في الأزل وعلم من دَقَائِقِهَا ما يستغرق ، فهو ضرورة من يعلم ما يصلح هذه المحال إِنْ مِنْ أسبابِ الكون بما أَنْزَلَ لها من الرزق ، فالطيب يُصْلِحُهَا وَيُقَوِّيهَا والخبيث يفسدها وَيُضْعِفُهَا ، أو من أسباب الشرع بما أنزل من الوحي ، الخبر والحكم ، وبهما تنصح القوة العلمية تصورا في الجنان هو المبدأ ، والقوة العملية حكما في الأركان هو الشاهد المصدِّق . فكان من الاستفهام آنف الذكر في قوله ![]() ![]() ![]() فَثَمَّ ضمير هو من جملةِ عوائِدَ تَرْجِعُ إِلَى مبتدإٍ هو الأول في المنطِق ، فالأمر ، لو تدبر الناظر ، يجري مجرى القسمة في العقل ، فَثَمَّ جنس عام لا أعم منه ، وهو جِنْسُ الرَّابِطِ مُطْلَقًا ، الرَّابِطِ بَيْنَ المبتدإ والخبر ، وتحته أنواع ، فَثَمَّ إعادة المبتدإ لفظا أو معنى ، وثم الضمير محل الشاهد ، وهو في نَفْسِهِ جِنْسٌ لِمَا دونه من أخبارٍ تَتَفَاوَتُ فِي تَحَمُّلِهَا الضَّمَائِرَ ، فَثَمَّ الفعل وهو أقواها في التحمل ، ودونه اسم الفاعل ، فهو يعمل عمل المضارع خاصة ، وإن فَرْعًا عنه ، والفرع بداهة أضعف من أصله ، ودونه مِثَالُ المبالغة ، وهو مما اشترط في حَدِّهِ أَنْ يُشْتَقَّ من مُتَعَدٍّ كما اسم الفاعل ، وإن كان من كليهما في الحد ما يواطئ في جنس الاشتقاق : الوصف المشبه ، فمن الوصف المشبه ، وهو دونهما في العمل وَتَحَمُّلُهُ للضميرِ أَضْعَفُ ، من الوصفِ المشبَّه ما يضاهيهما في الميزان ، ميزان الاشتقاق ، كما "طاهر" من "طَهُرَ" ، وبصير من بَصُرَ ، فالأول يضاهي اسم الفاعل في مِيزَانِ "فاعل" من الثلاثي ، ولكنه من اللازم إذ حده في المعنى أنه من أفعال السجايا وهي مما يلازم صاحبها ، وكذا بصر فهو مما لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد اشتق منه في الحد ما يُضَاهِي مثال المبالغة "فعيل" ، وكذا في شريف من شَرُفَ ، ونظيف من نَظُفَ ، وجميل من جَمُلَ ، وقبيح من قَبُحَ ، وكريم من كَرُمَ ، فكل أولئك من وصفٍ مُشَبَّهٍ لَا يَتَعَدَّى بنفسه ، وإنما يتعدى بِغَيْرٍ ، وإن حُدَّ حَدَّ "فعيل" وهو مثال المبالغة ، فكان من تَحَمُّلِ الوصفِ المشبَّهِ الضميرَ ما هو دون الفعلِ واسمِ الفاعلِ ومثالِ المبالغةِ ، فاسم اللطيف والخبير في الآية : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ذلك مما تَحَمَّلَ الضمير الذي يرجع إلى مبتدإ هو الأول ، الضمير "هُوَ" ، وهو واحد ، وَإِنْ أُخْبِرَ عنه بِأَكْثَرَ مِنْ وصفٍ ، كما اللطف والخبرة ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما يجري مجرى التكافُؤِ ، وحده في الدلالات أنه الجامع بين الترادف من وجه ، والتغاير من آخر ، وليس ثم تعارض في هذا الجمع ، إذ انفكت الجهة وافترق الحد ، فجهة الترادف بالنظر في الدلالة الْعَلَمِيَّةِ ، دلالة الاسم على المسمَّى في الخارج ، فاسم اللطيف والخبير والعليم والكريم ..... إلخ ، مما يدل على مسمى واحد في الخارج ، وهو الذات القدسية وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فكان من ذلك الاسمِ الْعَلَمِ تَوْحِيدًا في الباب ، فالذات واحدة وإن تَعَدَّدَتْ صِفَاتُهَا ، بل ذلك مما يحسن في الثناء على المخلوق المحدَث ، أن يكون له من وصف الكمال ما يَكْثُرُ ، فكيف بالرب الأعلى ؟! ، هو بكلِّ ثَنَاءٍ أولى ، وذلك ما يجري مجرى قياس الأولى ، وهو وحده ما ينصح في الإلهيات الخبرية وَإِنِ اشْتُرِطَ لَهُ قَيْدٌ عام في نصوص الشرع عامة ، والخبريات المغيَّبَةِ خاصة ، وهو قيد الثبوت أولا بَدَلِيلٍ يَنْصَحُ إِنِ المتواترَ أو الآحاد ، فمعيار الباب : خبر صحيح هو الأول ، وهو ما قد يَتَعَدَّدُ في الوصف ، كما الآي آنف الذكر : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وليس ثَمَّ عاقل يَزْعُمُ بَدَاهَةً أن ذلك مما يُفْضِي إلى الشرك ، أن يكون ثم تَعَدُّدٌ لِقُدَمَاءَ فِي الأزلِ قَدِ اسْتَقَلَّ كُلٌّ بوجودٍ في الخارج يَنْفَصِلُ ، فذلك مما لا يتصور إلا في الذهن ، أن يكون ثم تجريد لذات لا وصف لها ، وآخر لأوصاف تُطْلَقُ في المبنى والمعنى كما العلم والحكمة ..... إلخ ، فَلَيْسَ ثَمَّ في الخارج منها ما يَسْتَقِلُّ بذاتٍ ، خلافا لفلاسفة قد أَمْعَنُوا في التجريد حتى جَوَّزُوا ما يخالف ، ضرورةً ، عن النقل والعقل والفطرة والحس وبدائه الاستدلال لدى كل نَاظِرٍ يَفْقَهُ ، فقد جَوَّزُوا حصول المطلقات بشرط الإطلاق إذ تُجَرَّدُ من كلِّ قيدٍ ، فَجَوَّزُوا حصولها في الخارج فَيُقَالُ : هذا العلم وهذه الحكمة إشارةً بالحس ، فذلك مما لا يكون في الخارج إلا مُقَيَّدًا بذاتٍ تُوصَفُ به فليس ثم في الخارج إلا العليم والحكيم إن الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وهو الواجب ، واجب الوجود لذاته ، أو المخلوق فمن آحاده من يَصْدُقُ فيه وصف العليم والحكيم ، وإن الجائز ، بادي أمره ، فهو يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، فَقُيِّدَ الوصفُ بذاتٍ ، فلا يستقل بوجود في الخارج ، وإنما يقوم بذات : قيام الوصف بالموصوف ، ويكون منه في باب الإلهيات خاصة : اشتقاق الاسم ، لا اشتقاق ما لم يكن قَبْلًا فهو المحدَث ، وإنما اشتقاقٌ في معيارِ اللِّسَانِ بِمَا تَوَاتَرَ من ميزانٍ قد اسْتُنْبِطَ من المأثور نَظْمًا أو نَثْرًا ، وهو العمدة في الباب ، باب النطق الذي يجاوز ما تَبَادَرَ من بَيْعٍ وشراءٍ .... إلخ من عقود وإجراءات في دنيا الخلق ، فلولا النطق ما كان الفهم ، وما كان في الدنيا عقد يَنْصَحُ ، فإنه لا ينفك يطلب من البيان ما يُفْصِحُ ، إِنْ نُطْقًا أو كَتْبًا ، أو جَمْعًا بينهما يَسْتَوْثِقُ لا سيما في أعصار تأخرت قد فَسَدَتْ فِيهَا الذِّمَمُ إلا ما رحم الله جل وعلا ، فَثَمَّ ما يجاوز ذلك من تَصَوُّرِ المعاني الجامعة ، وهي مما يميز كُلَّ أُمَّةٍ ، لا جرم كان لكلٍّ ما اخْتُصَّ بِهِ من شرعةٍ ومنهاجٍ ، وهو ، أيضا ، مِمَّا قد جَاوَزَ في الحد ، الأمر والنهي ، والخبر إِنْ بِإِثْبَاتٍ أَوْ بِنَفْيٍ ، فهو يحكي روحا أخص ، روح التشريع الباعث والمرجع الحاكم ، وذلك مما تظهر آثاره في الخارج ، أخلاقا وسلوكا بل وعوائد في الجبلة ، والقياس أنها مما اشترك فيه الخلق كافة ، فكان من دَقِيقٍ في تناولها يميز ، ولو في جنس المطعوم أو المشروب ، وما يكون مِنْ تَصَوُّرٍ له لِمَ كان في هذا الكون ؟! ، وهل ثم غاية تدرك فهي تجاوز وظيفة الحيوان إذ يمضع ويهضم لَذَّةً وَيُخْرِجُ بعدا الفضلَةَ ؟! ، أو أن ثم أخرى أَشْرَفُ تُوجِبُ نَظَرًا به امتاز الإنسان من الحيوان الأعجم ، فكل أولئك مما افْتَرَقَ فيه البشر ، ولو في عوائد الْجِبِلَّةِ مِنْ مطعَم ومشرَب ومنكَح ...... إلخ ، فَثَمَّ ، أيضا ، قَدْرٌ قد اشْتَرَكَ فيه البشر كافة ، بل وَبَعْضٌ من أنواع الحيوان الأعجم ، فتلك مَاهِيَّةُ الفعلِ إذ يُبَاشَرُ مجرَّدًا من البواعث والقرائن ، فالحيوان لا باعث له إلا هداية تكوين أولى بها يطلب سَبَبَ حياةٍ بِهِ يَبْقَى إذ يطعم ويشرب مع لذة لا يجاوزها عقله وقضاءِ وطرٍ لا يطلب منه ولدا يُرَبِّيهِ لينهض بوظائف تَشْرُفُ ، فغايته أن يَسْتَبْقِيَ النَّوْعَ ويحفظَ ، وهو ، مع ذلك ، لا يعقل ذلك العقل التام إلا ركز فطرة لا تجاوز ، كما تقدم ، هداية تكوين أولى قد اشترك فيها الخلق كافة ، وبها نطق الكليم إذ لفرعون يجيب أَنْ : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فكان من ذلك عنوان ربوبية جامع ، وذلك حد الإضافة في "رَبُّنَا" ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والبيان ، فَهِيَ نَصٌّ في العموم ، إذ الإضافة إلى الضمير تحكي التعريف في المبنى ، من وجه ، والتعميم في المعنى ، من آخر ، فتلك ربوبية قد عمت ، من وجوه ، فَثَمَّ عموم المعنى إذ استغرقت ربوبية الإيجاد والتدبير ، التكوين والتشريع ، فهي ، من هذا الوجه ، مَعْدنُ توحيدٍ عام قد اسْتَغْرَقَ الخلق والحكم كَافَّةً ، فالخلق بالتكوين والحكم بالتشريع ، ومن ذلك اسم ربوبية يَتَبَادَرُ في الخلق ، واسم ألوهية يَتَبَادَرُ في الشرع ، وهو ما افْتَقَرَ إلى معيار يُبِينُ من النطق ، وبه حد الخبر والحكم ، وذلك ما افْتَقَرَ ضرورةً إلى مرجع أول من نَظْمٍ أو نَثْرٍ يُؤْثَرُ عن سَلَفٍ أول ، بِلِسَانِ الوحي قد نَطَقَ بداهةً بلا تَكَلُّفٍ نحوٍ أو صرف أو معان ! ، وبه ، أي : النظم والنَّثْرُ الأول ، به دَرَكُ قانونِ اللسان الذي حُدَّ به الشرع ، مع أخرى أدق ، كما يقول أهل الشأن ، فاللسان ليس أداة تعامل في الخارج بما به عقود البيع والشراء .... إلخ تنعقد ، بل له من أخرى أَشْرَفُ إذ يميز كل أُمَّةٍ من غيرٍ ، لا امتياز اللسان مجردا ، وإن كان ذلك معتبرا في حكاية العقد الجامع ، عقد الفكرة أو الحركة ، بل ثم آخر يجاوز إلى روح حكمة وشرعة وآداب وأخلاق ، فاسم الشهامة والمروءة والقناعة ...... إلخ مثالًا ، ذلك مما يَعْسُرُ أن يجده ناظر في مقال لا نسبة له إلى السماء تَنْصَحُ ، ولو في الجملة ، فَتِلْكَ ألفاظ ذات دلالات أخص فهي تحكي أخلاقا وطبائع لا تستوي فيها الأمم ، بل لِبَعْضٍ فيها امتياز بما كان من عوائد وأعراف ، وإن كان ثَمَّ ما يَتَغَيَّرُ ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، كما يقول صاحب المقدمة ![]() ![]() ![]() فَكَانَ مِنْ سُلْطَانِ الجور الذي عَطَّلَ الدين والدنيا وَعَمَّ فسادُه كُلَّ أمرٍ ، دَقَّ أو جَلَّ ، كان منه ما استحل بِهِ الخلقِ : الدم والعرض وسائر الحرمات ، وأفسد منهم الأخلاق والعادات ، فلا يطيق لهم حكما إلا أَنْ يُفْسِدَهُمْ وَيُصَيِّرَهُمْ شِيَعًا ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا على واحد من الفكرة يَشْرُفُ ، وكان لهم من ذلك مرجع ينصح ، مرجع الوحي والعدل ، ولو العدل المحدَث في الأرض فكيف بآخر من السماء يَنْزِلُ ، فلو كانت تلك حالهم ما أطاق طاغوت أن يَتَرَأَّسَ ، إذن لوجد من قوة الجمع ما يدفع صائله على الدين والدنيا كافة ! ، فكان من مثال الحكم المحدث ، وله قانون في اللسان يجاوز ما تقدم من عادات يستوي فيها الخلق ، فَلَهُ لسانُ فكرةٍ وشرعةٍ تحكي روح سيادة محدَثة لا نسبة لها إلى الوحي تنصح ، وإن زخرفت القول أنها تَنُوبُ عَنِ الأمة والجمع ، إِنْ بِاسْمِ الأمة الجامع ، أو آخر هو الشعب آحادا قد اقْتَسَمُوا المادة ، مادة السيادة ، فلكلٍّ منها حظ ، وباجتماعهم يكون الأمر والنهي ، فلهم سيادة في ذلك تطلق ، وذلك ما زخرف الواضع ووسوس ! ، وإنما اتخذهم ذريعة أن يطغى ، فقد نَالَ منهم ولاية ونيابة ، صَدَقَ في دعواه أو كَذَبَ ، ولو صدق فالمصيبة أعظم فقد اختاروا الباطل طوعا بما بُدِّلَ من الفكرة وَحُرِّفَ ، إذ نَزَعَ سيادة الأمر والنهي من النبوات وَصَيَّرَهَا إلى عقلٍ محدَث لا تَنْفَكُّ الأهواء والأذواق تَتَنَازَعُهُ ، وَزَيَّنَ من ذلك ما به استخف الجمع أنه يصدر عن أمرهم ، وهو من أطرهم على جادة تواطئ ما يهوى بما احتكر من أداة القوة : فكرةً وثروةً وحركةً ، فهو من يضع القول الحاكم شرعةً ، وَيُوَزِّعُ العطاءَ الناجز رغبةً ، ويبطش بالسيف القاطع رَهْبَةً ، فمن ذا ينازعه المنصب ، وقد جاوز السياسة والحكم إلى الفكرة والشرع فصار هو المرجع الحاكم الذي يأمر وينهى ، وهو قَبْلًا مرجع التصور حسنا وقبحا إن في الأخلاق أو في الأفكار ، وذلك ما استوجب أداة من اللسان والبيان ، فهي تجاوز ، كما تقدم ، ما يكون من أمر الدنيا ، فاللسان دين الجمع ، دِينُ الْخُلُقِ وَالْحُكْمِ ، دينُ التَّصَوُّرِ الباعثِ والحكم الصادرِ عنه في الخارج ، فلكلِّ أُمَّةٍ من ذلك شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ يَمِيزُ ، ولو كان ثم أول من الاشتراك في أجناس المعاني الكلية ، فلا ينفك كلٌّ يصدر عن آخر أَخَصَّ ، فَلَهُ من الغايات العاجلة أو الآجلة ما حُدَّ له في المعجم ألفاظٌ ذات دلالات تجاوز الإجراء إلى آخر من المعيار ، معيار القيم والأخلاق ..... إلخ ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعالِ الجبلة ما لا امتياز به في شرعة أو فكرة إلا ما تقدم من آداب لا تنفك تحكي روحَ تَصَوُّرٍ وَحُكْمٍ يَحُدُّ معيارَ الحسن والقبح وما تلا من إباحة وحظر ، فالخلق جميعا يَتَنَاوَلُونَ من أفعال الجبلة ما استوى فيه جنس البشر كله ، بل وشاطرهم الحيوان الأعجم في بَعْضٍ هو الأدنى إذ يحكي شطر الحيوان الطيني وهو معدن شهوات في الحس قد اشترك فيها الإنسان الناطق والحيوان الأعجم ، فلا امتيازَ ، بِهِ يَشْرُفُ العاقلُ ، فإنه لا يمتاز بداهة أنه يأكل ويشرب وينكح ، بل ثم من جنس الحيوان ما هو في الباب أَعْرَقُ ! ، فهو يأكل ويشرب أكثر ، وحظه من المباضعة أعظم ، إذ قوته في ذلك أعظم ، فيمدح منه ما يأكل أكثر ، ويمدح منه الفحل الذي يَنْزُو ! ، فالعاقل لا يَرْضَى امتيازًا في هذا الشطر الذي يُوَاطِئُ فيه الحيوان الأعجم ، وإنما امتاز بآخر هو الفكرة والشرعة ، وهي ما حُدَّ في الخارج كلماتٍ بها التصور والحكم ، وتلك خاصة النطق التي شَرُفَ بِهَا الإنسانُ ، فَلَيْسَ يَقْتَصِرُ على كلماتِ البيعِ والشراءِ ، بل ثم أخرى أشرف من القيم والأخلاق ، وَأَنْصَحُهَا ما يكون من وحيٍ له في الخلق سيادةٌ تُطْلَقُ ، وحكومته فيهم تُرْضَى إذ قد سَلِمَ مِمَّا لم يَسْلَمُوا منه من الهوى والحظ وعوارض الجبلة إذ تفتقر إلى أسباب في الخارج ، ولأجلها يكون التدافع ، فإن لم يكن ثم ما يأطر من وحي يَتَنَزَّلُ فالأمر إلى فوضى تَسْتَغْرِقُ ، إذ ليس ثم مرجع يجاوز من خارج فلا يناله من وصف النقص ما نالهم ، ولو بأصل الخلق الأول ، فالكلام ، من هذا الوجه ، خاصة تجاوز الإفهام المجرد وإن امْتَازَ بِهَا الإنسان من الحيوان الأعجم ، بل ثم أخرى أشرف خاصة الدين والخلق ، فَلَهُمَا في معجمِ كُلِّ لسانٍ ما يحكي المرجع والمصدر ، ولو في أفعال الجبلة التي تناولها اسم الرب في جواب الكليم آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فالربوبية ، كما تقدم ، جنس أعلى يجاوز فهو العام الذي لا أعم منه ، إذ استغرق وجوه الدلالة كَافَّةً ، التقدير الأول في علم محيط يستغرق ، والإيجاد الذي يَتَأَوَّلُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلِ : تَأْوِيلَ التَّصْدِيقِ فِي الخارج بما يكون من وجود تال يخرج المقدور الأول من القوة إلى الفعل المصدِّق ، والتصوير لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ إِبْدَاعًا بِهِ امتاز الخالق ، جل وعلا ، من غَيْرٍ ، فمن يخلق سواه الخلق المطلق من غير شيء أول ؟! ، فليس يجاوز غيرُه في الوصف أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا كَانَ أَوَّلًا من عِلَّةٍ مادية أو هَيُولَى باصطلاح المناطقة ، فهي مادة أولى يَتَنَاوَلُهَا فلم يستحدِثْهَا من العدم ، وإنما أخذ منها ما وَجَدَ ، ثُمَّ صَيَّرَهَا إلى أخرى بما يكون من سنن في التحويل من صورة إلى أخرى ، فليس ذلك خلقا من العدم ، وليس إبداعا لما ليس له مثال في الخارج ، وإن كان منه اكتشاف في علم التجريب المحدَث ، فلم يُوجِدْ من السنن ما به التحويل يتم ، ولم يُوجِدِ المادَّةَ الأولى الذي صَدَرَ عَنْهَا في بحثه وتجريبه ، إِنْ بسيطةً أو مركَّبةً ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَنَالُهَا حتى يبلغ بها أولا لا أول قبله حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فذلك من يعلم ما خلق علم التقدير آنف الذكر ، وآخر من الإيجادِ المصدِّق ، وثالثا من التصوير المبدِع لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وَرَابِعًا من التدبير المحكم ، وهو ما عم فَتَنَاوَلَ سَنَنًا من الخلق قد اسْتَوَى فِيهَا كُلُّ شيءٍ محدَث في الخارج ، وآخر من الشرع ، فَالسَّنَنُ ، أَيْضًا ، ليسَ مِمَّا يخلق استقلالًا كما زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَهُ في علم التجريب حظ ! ، فلم يُرْزَقْ زَكَاءً يَشْفَعُ ذَكَاءً ، كما قال بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ قَبْلًا وهو يَصِفُ من أبناء جيله مَنْ ضَلَّ وأحدَث فجاء بما يخالف عن بدائه العقل والحس وإن زعم أنه فيهما ذو فقه نظر ، فكان مِنْ آخرَ تالٍ مَنْ خالف عن معيار الضرورة في القياس إذ صَيَّرَ السنن المحكم الذي به تدبير هذا الكون المتقن ، صيره هو الخالق الأول ، وهو في نفسه الجائز الذي يفتقر إلى أول يُوجِبُ ، فهو من يخلقه ويجريه على جادة محكمة وَيَركزُ فيه قُوَّةَ تَأْثِيرٍ إذا استجمعَ السببَ والمحلَّ الذي يُبَاشِرُهُ ، فيركز في السبب قوى تُؤَثِّرُ ، وفي المحل أخرى تَقْبَلُ ، ويكون من السنن المحكم ما عنه الأثر يظهر ، فكيف يكون ذلك عبثا بلا خالق أول لا أول قبله ؟! ، أو يكون مرد الأمر إلى السنن الذي عليه السبب يجري ؟! ، بل ثم تسلسل آخر في التأثير أزلا يوجب رَدَّ الأمر إلى خالق أول لا أول قبله ، فهو من خلق الأسباب والمحال ، وهو من أَجْرَاهَا عَلَى سنن محكم به تدبير هذا الكون المتقن أعيانا وأحوالا بها تقوم ، وكل أولئك مما استغرقه اسم الربوبية الأعم في الجواب آنف الذكر : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ، فتلك ربوبية العلم أولا ، علم التقدير في الأزل ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما عم فاستغرق الأشياء في الخارج كلها ، الأعيان والأحوال ، الاضطرار من أفعال الجبلة والاختيار ومنه محل شاهد في آي تقدم : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَكَانَ مِنْ سِبَاقٍ تَقَدَّمَهُ أَمْرٌ به التحدي أن : (أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ، فكان من ذلك طباق إيجاب بالنظر في الأجناس الدلالية المجردة وهي من مواد المعجم المفردة : السر والجهر ، أو هو من المقابلة بالنظر في الجمل : جملة "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وبهما استيفاء لأجزاء القسمة في الخارج إمعانا في التحدي والإعجاز وَبَيَانًا لإحاطةِ الجلالِ ، فالعلم في سياق الإحصاء لما كان من قول وفعل ، العلم في هذا السياق مَئِنَّةُ جلالٍ ، وهو ما حَسُنَ فِيهِ الإطناب آنف الذكر ، الإطناب بالطباق إيجابًا أو المقابلة ، مع عموم يجاوز من وجوه ، فَثَمَّ عموم يجاوز دلالة الواو أولا في "أَسِرُّوا" و "اجْهَرُوا" ، وهي تحكي جمع الذكور المستغرِق ، فَثَمَّ من التغليب ما يَتَنَاوَلُ كلَّ محلٍّ لقرينة تُسْتَصْحَبُ أَبَدًا في الباب : قرينة التغليب في خطاب التشريع ، وثم آخر قد استغرق الأقوال كافة إذ أُضِيفَتْ إلى الضمير في "قَوْلَكُمْ" ، فتلك إضافة رفدت المفرد من القول فصيرته نصا في الجمع على تقدير الأقوال أَنْ : أَسَرُّوا أَقْوَالَكُمْ ، مع آخر قد تَنَاوَلَ الأفراد ، فَثَمَّ ضمير الجمع الذي استغرقهم ، وثم ثالث من العموم يجاوز القول إلى الفعل ، فذكر القول ، من هذا الوجه ، يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهُ مع آخر من الفعل ، وقد يقال إن ذلك من باب الحذف ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#8
|
|||
|
|||
![]() والعلم المحيط ، كما تقدم ، قد اسْتَغْرَقَ التكوين والتشريع كافة ، ومن التكوين ما تَنَاوَلَ الميت من الأجرام والجبال وما عُدِنَ فيها من الكنز والمعدن ، فَتَنَاوَلَ الميت كما الحي من أعيانٍ تَتَفَاوَتُ فحياتها مما اختلف من نَبَاتِيَّةٍ دُنْيَا إلى حيوانية عُلْيَا ، والحيوانية في نَفْسِهَا تَتَفَاوَتُ ، وأكملها ، بداهة ، ما كان من حياة الإنسان العاقل المكلف الذي امتاز من الخلق كَافَّةً بما رُكِزَ فيه من قوة أخص بها التصور والحكم ، حكما يجاوز الاضطرار من حركة أحشاء ، أو آخر من اختيار الجبلة فلا يجاوز المطعم والمشرب والمنكح غَرِيزَةً ليس لها من العقل ما يَنْصَحُ ، فتلك خاصة الإنسان ذِي الْقَيْدِ الَّذِي به يميز الحسن من القبيح وإن في أفعال الجبلة الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جِنْسُ الحيوان كلُّه ، فتلك خاصة الإنسان إلا أن يخالف عن معيار الشرعة والفطرة فإذا به يَنْحَطُّ إلى دَرَكَةٍ دون الحيوان الأعجم ، وتلك مَذَمَّةُ الدهرِ كلِّه ، لو تدبر من له أدنى مسكة من فهم ، وإن لم يكن رائدُه في النَّظَرِ الوحيَ ، فكيف إن كان من الوحي رائد ينصح فهو يستنقذ العقل من هذا المأزق ، وَيَرْقَى به إلى درجة التكليف ، فلا يكون هو والحيوان في دركة الغريزة المطلقة ، بل الحيوان في تلك الحال أنصح ، فَلَهُ من تَسْبِيحِ الاضطرارِ ما فات العاقل المكلَّف إذ حاد عن جادة الوحي المحكم ! .
فكان من علم التكوين آنف الذكر : عِلْمُ حياةٍ قد عم فاستغرق النبات والحيوان والإنسان ، بل وما دونها من الخلق : دَقَائِقَ ذات ماهية تَلْطُفُ ، وهي كخلق الأجنة في الأرحام ، فَقَدْ خَفِيَ في الماهية أولا ، فصدق فيه أنه من الغيب ، وإن النسبي لا المطلق ، فكان من بَحْثٍ وتجريبٍ قد تَلَا ما أبان عن وجوه من هذا الموجود الدقيق ذي الخلق اللطيف ، وهو مما أعجز بِنَظَرٍ أخص إذ تَنَاوَلَ من السَّنَنِ المحكَمِ في التقدير والإيجاد وما يكون من الحركة والاغتذاء ..... إلخ ، تَنَاوَلَ مِنْهَا مَا لَا يَسْتَقِيمُ في أَيِّ عَقْلٍ يَنْصَحُ أنها قد وُجِدَتْ بلا موجِد أول ، فلم يكن إلا الخبط والعبث الذي قَرَّبَ كُلَّ قولٍ ، ولو الفرض المحض ، وَأَبْعَدَ ما قد دَلَّ عليه صريح العقل من مقدِّمَةِ ضرورةٍ أولى في العلم ، أن لهذا الإبداع في الخلق مبدِعًا ، وأن لهذا الإحكام في السنن محكِمًا ، ولا يكون ذلك إلا بعلم وحكمة بالغة مع آخر في الخارج يَتَأَوَّلُ من قدرةٍ نافذة ، بها خروج المعلوم المقدَّر من القوة إلى الفعل ، من الغيب إلى شهادة تصدق ، فهي ، أيضا ، لله ، جل وعلا ، وحده ، إذ لا يكون وجود تال يصدق إلا بكلم تكوينٍ يَنْفُذُ ، وهو العلة التامة التي تُرَدُّ إِلَيْهَا العلل كَافَّةً ، وذلك ما نَصَّ عليه الوحي في مواضع من التنزيل تَسْتَغْرِقُ ، فـ : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) ، فذكر الغيب في موضع كما تقدم من قوله ![]() وكذا يقال في الغيب والشهادة في المثال آنف الذكر ، فَثَمَّ من أجرى ذِكْرَ الغيب وحده ، مَنْ أجراه مجرى المجاز ، مجاز الخصوصية أو الجزئية ، إذ أطلق خاصا من الغيب وَأَرَادَ عَامًّا قد استغرق المعلوم كافة ، الغيب والشهادة ، أو هو قد أطلق جزءا من قسمة العقل : غَيْبًا وشهادة ، فأطلق جزءا وهو الغيب ، وَأَرَادَ كُلًّا قد تَنَاوَلَ أجزاءَ القسمة كَافَّةً ، أو هو ، من وجه ثالث ، مما يجري مجرى المجاز حذفا ، على تقدير : ولله غيب السماوات والأرض وشهادتُهما ، فَحَذَفَ الشهادة إذ دَلَّ المذكور من الغيب عليها دلالة الْقَسِيمِ عَلَى قَسِيمِهِ ، فهما ، كما تقدم ، قَسِيمَانِ لجنسٍ أعلى في الذهن يجرد ، وهو جنس العلم المطلق ، فكل أولئك من تَكَلُّفٍ لا يخفى ، فإن الغيب يدل على الشهادة من باب أولى ، فَمَنْ عَلِمَ الخفي فهو ، بداهة ، يَعْلَمُ الظاهر ، فلا يجد الناظر حاجة أَنْ يَتَكَلَّفَ من المجاز ما يدق ، وليس كل أحد يفقه منه الدلالة ، مع نص آخر في مواضع قد حسم الخلاف في الباب ، فنص على الغيب والشهادة كافة ، كما في قوله ![]() فالأول ، وهو الغيب ، مقدور ، والثاني ، وهو الشهادة ، موجود ، وثم من التأويل ما به المقدور المغيَّب يَصِيرُ تَالِيًا من الموجود الذي يشهد ، وهو ما انشعب ، كما تقدم ، فمنه ما يُشْهَدُ بالحسِّ الظاهرِ ، ومنه آخر قد استوجب بحثا يدق ، ومنه ثالث هو الموجود وإن لم يشهد ، فليس بالحس أو البحث يدرك ، وعدم وجدانه بالحس والبحث لا يَسْتَلْزِمُ عدم وجوده في نفس الأمر ، بل قد يوجد ولا يدركه الحس ، فليس علم التجريب إِلَّا مَسْلَكًا من جملةِ مسالك بها العلم يُنَالُ في الخارج ، فليس وحده ، بل وَلَيْسَ في الباب الأول ، إذ اقتصر على المشهودات ، بل لا يطيق منها بَعْضًا يَلْطُفُ ، فَمَا زَالَ منها ما لا يدرك ، والبحث في كلِّ جيلٍ يكشف من ذلك الغيب ما به ، لو تدبر الناظر ، الحجة تُقَامُ ، فتلك آيات الأنفس والآفاق ، وَهُوَ مَا صُدِّرَ في آي آخر قد أحكم ، أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، مَا صُدِّرَ بحرف في الدلالة يستقبل ، ولا يخلو من دلالة بها الفعل يُقَرَّبُ ، فَذَلِكَ مِمَّا اطَّرَدَ فِي كُلِّ جيلٍ ، فَبُذِلَ قَرِيبًا إذ به يستدل العاقل المسدَّد ، أَنَّ ثَمَّ أَوَّلًا يُرَدُّ إليه هذا الآي المحكم ، فلا بد من سَبَبٍ عنه الأسباب تَصْدُرُ ، وبه المحالُّ في الخارج تَنْصَحُ بما يكون من قوى فِيهَا تقبل آثار الأسباب ، فالحكمة ، كما تقدم في مواضع ، حِكْمَةٌ في تقدير أول : تقدير القوى الفاعلة في الأسباب ، والقوى القابلة في المحال ، وأخرى في إجراء الأسباب أَنْ تُبَاشِرَ من المحال مواضع تَقْبَلُ ، فيكون من الإعداد ما بِهِ كُلٌّ قَدْ هُيِّئَ ، ويكون من المباشرة ما به الْأَثَرُ يَظْهَرُ ، آي تكوين محكم إن في التقدير الأول ، وهو من الغيب المطلق ، كما تقدم من الآي المحكم : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، فذلك آي محكم من التنزيل لا تنفك آثار منه تظهر في آخر قد أُحْكِمَ مِنَ التكوين ، فَيُرِيهِ الخالق ، جل وعلا ، الخلقَ وبه قيام الحجة بآي من الكون ، إِنِ المذكورَ في الكتاب والأثر ، فيكون من ذلك الإعجاز في الخبر ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما لم يُرَدْ فِي بَابِهِ أولا ، وإن كان له من الباب حظ ، لا سيما في جيل قد تأخر في الزمن والرتبة ! ، فقد فسدت منه الفطرة ، فانحط إلى دركةٍ تُضَاهِي الحيوانَ الأعجم بل وتسفل في مواضع ، فلا يُثْبِتُ من العلم إلا ما يُدْرِكُ بالحس الظاهر ، وَيَجْحَدُ ، في المقابل ، ما جاوز من الغيوب ، وإن ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا ما يُصَدِّقُ خَبَرَ الرسالةِ الأول ، من غيب نسبي لم يكن من المعلوم مبدأَ الأمر ، ثم كان من بحث وتجريب ما كشف ، وله المثل ، كما تقدم ، بما كان من خلق الأجنة في الأرحام ، فذلك مما فُصِّلَ في آيٍ من الوحي ولم يخل الأثر المسند إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، لم يخل من إشارات في البابِ تلطف ، في تعيين نوع المولود وَشَبَهِهِ بِأَبٍ أو أُمٍّ ، وما يكون من عرق قديم يظهر كما وصف قد تَنَحَّى وَتَرَاجَعَ ، فلم يظهر في أجيال تعقب ، ثم ظهر بعدا في جيل تال ... إلخ ، فذلك من وجوه إعجاز أخص في الباب ، وإن لم يكن ذلك ، أيضا ، غاية أولى في الباب تُطْلَبُ ، فإنها مما يَرْفِدُ توحيدَ الخلق والتدبير ، وهو ، في نفسه ، ذريعة إلى أول ، وهو المراد من بعث الرسل عليهم السلام ، فذلك شطر تال من التوحيد ، توحيد الإله الحاكم بِمَا أَنْزَلَ من الوحي أن كان الرب الخالق بما قَدَّرَ من الكون ، فَرُبُوبِيَّةٌ هي أول من التوحيد يشهد لتال من الألوهية ، وبهما أول من شهادة تجزئ ، مع ثان من توحيد المرسَل الذي تَحَمَّلَ الوحيَ بَلَاغًا وَبَيَانًا يَنْصَحُ ، فَثَمَّ وقت حاجة بل وضرورة تُلْجِئُ أَنْ يُبِينَ للخلقِ عن أحكام دينهم المجزئ ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما يقول الأصوليون ، فتحمل الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصة أَنْ كَانَ من رسالته ما استجمع خلاصة المتقدم فَصَدَّقَهُ ، وهيمن في بعض بما نسخ ورفع من أحكام العمل ، فِعْلًا أو تَرْكًا ، وزاد عليه من البيان والتفصيل ما أَجْزَأَ ، فَتَحَمَّلَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الآي والخبر ما أعجز ، إعجاز بَيَانٍ هو الأول ، مع تال من التشريع المحكم ، فَثَمَّ توحيد في العلم : توحيد الرب الخالق الذي قَدَّرَ في الغيب الأول ما كان من هذا الخلق المحكم ، فذلك من الغيب المطلق الذي اخْتُصَّ به الله ، جل وعلا ، وهو حكاية ما تَقَدَّمَ من الاختصاص في آي الوحي المحكم ، فـ : (لِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، وثم توحيد في العمل بما يكون من التصديق والامتثال ، فالتصديق ، كما تقدم في مواضع ، عمل في الجنان يجاوز ما يكون أولا من العرفان المجرد ، فَثَمَّ من حركة الجنان ترجيحا يجاوز وبه الإقرار الجازم ، وما يكون من إذعان واستسلام وانقيادٍ يُصَدِّقُ ، فلا يكون إلا بطاعة تنصح التصديق بما يكون من حركة في الجنان مبدؤُها : حب وبغض ، وتأويلها أول يلطف في الوجدان : إِرَادَةَ الفعل وهي تأويل الحب ، وإرادة التَّرْكِ وهي تأويل البغض ، وثم من تال في الخارج : تَصْدِيقٌ بما يجري على اللِّسَانِ ويعمر الأركان فذلك التصديق جِنْسًا عَامًّا قد استغرق المحال والأحوال كافة ، فذلك توحيد يجزئ ، والمبدأ تصديق بغيب تقدم ، فتلك خاصة الإنسان ذي العقل الناصح الذي اخْتُصَّ بالتكليف النازل ، فَلَهُ من قوة في العقل ما به يؤمن بغيب ، وإن حَارَ في الحقيقة والكيف فلا يحيل الوجود ، بادي الرأي ، وهو مع ذلك ، يدرك المعنى ، ولو المجرد الذهني الأول ، فذلك مما يحصل في الوجدان مطلقا ، ولا يكون في الخارج إلا مقيدا ، والإيمان بالغيب قد تَنَاوَلَ الأول من المعنى المجرد في الذهن دون الثاني من الحقيقة والكيف ، فلا يخاطب العقل أن يدرك ماهية المغيَّب ، ولو النسبي الذي يدركه بَعْضٌ ، فغايته في علوم التجريب أَنْ يَكْشِفَ عما كان أولا من الغيب ، فلم يكن المعدوم ، وإنما هو الموجود الذي لم يَتَهَيَّأْ للناظر بَعْدُ سَبَبٌ به يُدْرِكُهُ في الشهادة فهي تُصَدِّقُ ما كان أولا من علم التقدير المغيَّب ، وما وُجِدَ بَعْدًا في الخارج يصدق ، وإن لم يدركه العقل والحس بادي الرأي ، فلم يكن جهله آنذاك دليل العدم : عدم الوجود بل كان موجودا وإنما عُدِمَ وجدانُه بالحس الظاهر ثم كان ، فَدَلَّ على ما كان أولا من إيجاد محكم . فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، فذلك مما لا يطيق ، وإنما خوطب بالتصديق ، تصديقٍ بِآيٍ وَخَبَرٍ قد أَثْبَتَتْ من المعنى ما يُطْلَقُ في الذهن دون خوض في ماهية أو كيف ، فكان الإثبات من وجه ، والتفويض من آخر ، وليس ثم تعارض ولا تناقض ، إذ الجهة ، كما تقدم في مواضع قد انْفَكَّتْ ، فَالْإِثْبَاتُ لما جُرِّدَ فِي الذهن مِنَ المعانِي وَلَهَا مرجع من اللسان يَتَنَاوَلُ المعجم المفرد وما يكون من اشتقاق أخص ، وَإِنْ تَنَاوَلَ بِنْيَةَ الكلمةِ المفردَةِ فلا يزيد عليها من خارج ، وَإِنَّمَا زِيَادَتُهُ تَتَنَاوَلُ الحد المفرد في النطق والكتب فلا تجاوزه إلى تَالٍ من سياق مركَّبٍ ، فَثَمَّ من مادتها ، مادة الْبِنْيَةِ المفردةِ ، ثم منها في المعجم ما أُطْلِقَ وهي المصدر الذي يُجَرَّدً من زوائد الحرف ذات الدلالة الأخص ، والمصدر ، على راجح لا يخلو من خلاف قَدْ تَنَاوَلَهُ أهل الشأن في مباحث النحو والصرف ، المصدرُ هو أصل المشتقات كَافَّةً ، وثم من بِنْيَةٍ تَتْبَعُ ما يكون من الاشتقاق الأخص في دلالته وإن تَنَاوَلَ من المصدر جِنْسًا هو الأعم ، فَزَادَ عليه من القيد ما خَصَّصَ ، كما زيادة في اسم "الخالق" ، وهو اسم الفاعل ، فَزِيدَ فيه ما اسْتَغْرَقَ مادة "خَلَقَ" لفظا ومعنى ، وزاد عليها معنى أخص وهو الدلالة على الفاعل الذي خلق ، وكذا الخلاف فِي مُثُلِ المبالغة ، فهي مِمَّا اسْتَغْرَقَ المادة نَفْسَهَا ، مادة "خَلَقَ" بالنظر في أصل الوضع الأول في المعجم ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مَمَّا عَمَّ وجوه المعنى : التقدير في الأزل وما يكون من إيجاد في الشهادة يصدق ، فهو يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، وما يكون من تصوير أخص لا على مثال تَقَدَّمَ وَلَوْ في آحادِ الجنس والنوع الواحد ، فكلُّ فَرْدٌ من أَفْرَادِهِ هو صورة لا نظير لها يُطَابِقُ وإن كان من أخرى ما يُشَابِهُ بل قد يماثل في صورة الظاهر كما التوأم بل لا ينفك كلٌّ يمتاز من الآخر ولو بدقيق لا يدرك بالحس المباشر ، وكذا الخلق يستغرق التدبير بما يَتَنَزَّلُ من أسباب تحفظ الأبدان والأنواع ، فذلك مما يصدق فيه ، أيضا ، أنه الخلق ، ولو بمعنى أعم يجاوز ، فهو المحدَث ، وإن كان منه جنس أعم ، فكل مخلوق محدَث ولا عكس ، إذ ثم من المحدَثات ما ليس بمخلوق فَنَوْعُهُ يَقْدُمُ ، كما كلمات التكوين والتشريع إذ تَتَنَزَّلُ ، فكان من مادة "خلق" عموم قد استغرق ، وكان من اسم "الْخَلَّاقِ" ما تَنَاوَلَهَا وزاد عليها مثال المبالغة الأخص بما اطرد في قياس اللسان في الباب ، باب المبالغة ، فَلَهُ من ميزانِ الصرف مُثُلٌ قِيَاسِيَّةٌ ، مِنْهَا "فَعَّال" ، وذلك معيار في الإثبات ، مع تَالٍ يَتَنَاوَلُ سياقا هو المركب بعد المعجم والاشتقاق الذي يقتصر على بِنْيَةِ اللفظ المفرد ، وثم رابع من بَيَانٍ وتداول أخص بما يحتف به من قرائن معتبرة ليست في الإلهيات إلا الخبر فهو من التوقيف الذي لا يثبت إلا بدليل خبري ، إن سياق الخبر الذي فيه قد ورد أو آخر من خارج يزيد في الدلالة ويرفد ، فكل أولئك جهة الإثبات في الإلهيات ، وثم أخرى من تَفْوِيضٍ لا يتناول المعاني فإنها مما يدرك بالعقل ، على التفصيل آنف الذكر ، بل التفويض فيها يَؤُولُ إلى التعطيل الباطل ، وإنما يتناول الحقائق في الخارج فذلك مما اسْتَأْثَرَ به الرب الخلاق العليم ، جل وعلا ، فَانْفَكَّتِ الجهة وزال التعارض وَاسْتَبَانَ وجه التكليف في خبر الإلهيات المحكم . فَلَا يُخَاطَبُ العقلُ المحدَث فِي بَابِ الإلهيات أن يُدْرِكَ الحقيقة والكيف ، بل التكليفُ في الباب أَنْ يُصَدِّقَ وَيُثْبِتَ من المعنى ما أُطْلِقَ في الذهن ، ولا يخاطب ، من وجه آخر ، أن يدرك ماهية غيوب سوى الإلهياتِ ، وإن كانت من الخلق المحدَث كما ماهية الملَك والجنِّ ، فذلك مما حَدَّهُ العقل مَبْدَأَ النظرِ : حَدَّ الجائز المحتمل ، فَلَا يُثْبِتُ وَلَا يَنْفِي ، إذ لا يكون ذلك إلا بمرجح من خارج العقل في باب لا يطيق فيه الإثبات أو النفي ، وإلا تَحَكَّمَ فِي الجائز أَنْ رَجَّحَ في الباب بلا مُرَجِّحٍ ، فلا يكون منه إثبات ولا نفي ، ولا يكون من تكليف بِتَصْدِيقٍ وإيمان بغيب ، لا يكون من ذلك شيء إلا أن يكون ثَمَّ مرجح معتبر من خارج ، وهو خبر الوحي النازل الذي رَجَّحَ بما صَدَقَ من الخبر المحكم ، فأخبر أن ثم خَلْقًا في الخارج لا يُدْرَكُ بالحسِّ الظاهرِ ، وليس عدم وجدانه بالحس ، كما تقدم ، دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل قد يوجد ولا يطيق العقل دَرَكَهُ ، فلا يَغْتَرُّ بما رُكِزَ فِيهِ من قوى فَلَهَا في الإدراك حد ، ولو في غيوبٍ نِسْبِيَّةٍ يَتَفَاوَتُ فِيهَا الخلق ، فيكون من عقل زَيْدٍ بِمَا حَصَلَ من المعارف وبما نَصَحَ من المدارك وبما تَوَافَرَ من أدوات البحث والتجريب ، يكون من عقله ما يدرك بعض المسائل مما دق من غيوب نِسْبِيَّةٍ في مسائلِ تَجْرِيبٍ ، فيحصل له فيها يقين وجزم وَتَوَاتُرٌ ، وهو الأخص ، إذ لا يستوي فيه عامة الخلق بل قد اقتصر علمه على آحادٍ من أهل الشأن ، فذلك التواتر الخاص في جُمَلٍ من المسائل تجري مجرى العرف ، فمنه الخاص الذي لا يجاوز أهله ، كما اصطلاح الفنون والمعارف ، فَحَصَلَ لِبَعْضٍ من العلم بالغيب النسبي ما لم يحصل لآخر لم يعالج المسائل والأدلة ولم يَتَوَافَرْ له من أدوات البحث ما تَوَافَرَ للأول ، ولم يكن جهل الأخير حُجَّةً عَلَى الأول إذ قد عَلِمَ ، بل من قد عَلِمَ فهو حجة على من لم يعلم ، فمع العالم زيادة علم توجب الانتقال عن أصل أول يُسْتَصْحَبُ وهو العدم ، لا عدم المحال الذاتي الذي يمتنع ، وإنما عدم الجائز الذي لا يَثْبُتُ بَعْدًا في الخارج ثبوتا أخص يجاوز إلا أن يكون ثم من المرجح ما يثبت ، فمن مَعَهُ الدليل فإن دعواه في الجائز تُقْبَلُ ، فقد رَجَّحَ بمرجِّح ، فلم يكن ترجيحه تحكما في الباب ، وإنما رَفَدَ دعواه بِدَلِيلٍ يَنْصَحُ ، فتلك زيادة العلم التي بها قُبِلَ قَوْلُ العالم ، فَلَيْسَ من الجهل ، كما تَقَدَّمَ ، حجة تُعَارِضُ ، فمن علم فهو حجة على الجاهل ، وكذا الوحي ، من باب أولى ، فقد أخبر بما لا يُدْرِكُ العقل ماهيته في الخارج ، وإن كان ابتداء من الجائز ، فكان منه الغيب النسبي الذي أَبَانَ عنه البحث بَعْدًا ، فكان من ذلك إعجاز الخبر ، كما خلق الأجنة في الأرحام ، فليس عدم وجدانها دليلا على عدم الوجود ، وليس لمن جهل علم الأجنة أن يحتج على العالم المحقق في الباب ، وكذا يقال من باب أولى في الخلق الأول ، خلق آدمَ أَبِي البشرِ ، عليه السلام ، فإنه من الغيب المطلق إذ لم يشهده أحد فلم يكن من الدليل المرجِّح إلا خبر الوحي المصدَّق ، وكلٌّ ، الغيب المطلقُ وَقَسِيمُهُ النسبيُ ، كلٌّ مما اختص به الرَّبُّ الْعَلِيُّ ، ![]() فَثَمَّ من صنم المعنى ، وقد عمت به البلوى في جيل قد تأخر ، ثم منه ما به تمثيل الوحي وهو من أفعال الخالق ، جل وعلا ، فكان من ذلك ما تمثيله بحكومات الخلق المحدثة ، فكان القياس مع الفارق في باب التحسين والتقبيح وما يكون بعدا من حكومات التشريع أَنْ قِيسَ الوحي المنزَل على العقل المحدَث ، وذلك من التشبيه المذموم وهو مما يخالف عن صحائح المنقول وصرائح المعقول كافة ، إذ تقضي كلها ضرورةً بالقدر الفارق بين المخلوق والخالق جل وعلا . والمعطِّلَةُ ، من وجه آخر ، قد قالوا بضد فَنَفَوا ذلك الاشتراك في الحقائق في الخارج ، وهو نفي يصح ، وإن لم يلزم بادي الرأي من إثبات الصفات فهو كما تقدم مما لا يجاوز المطلقات في الأذهان ، وكان من تال ما غلوا به في النفي تَنْزِيهًا حتى جاوزوا الحد تَعْطِيلًا ، فلا يلزم أيهما ، تمثيلا أو تعطيلا ، بل لكلِّ موجود في الخارج من الحقيقة والكيف ما لذاته يواطئ إِنْ في الكمال أو في النقص ، فيكون لله ، جل وعلا ، وهو الكامل في ذاته الكمال المطلق ، يكون له من الصفات ما يواطئ ، ويكون للمخلوق المحدَث وذاته مما لا يَسْلَمُ من النقص بالنظر في أصل الوجود والخلقة ، يكون له من الوصف ما يواطئها ، فكان من ذلك ما به الحقائق في الخارج تَتَمَايَزُ ، وذلك ما يَنْفِي التمثيل ، مع قدر في الذهن هو المشترك إذ يَتَنَاوَلُ أصول المعاني المجردة ، وذلك ما يَنْفِي التعطيل في الباب ، فجادة الحق فيه : إثبات بلا تمثيل وَتَنْزِيهٌ بلا تعطيل ، قد استجمع الحق من كل طرفٍ وسلك جادة وسطى هي الحق بين طرفين كلا قصدهما يُذَمُّ ، إن جفاءً في النفي أو غلوا في الإثبات فهو على ضِدٍّ . فكان من عموم "آيَاتِنَا" ما استغرق الآفاق والأنفس ، وكان من دلالة الجمع في الضمير ، ضمير الجمع المتكلم "نَا" في "آيَاتِنَا" ، كان من دلالته ما يُكَثِّرُ الوصف في سياق المدح ، على التفصيل آنف الذكر ، إذ الآيات مما كان وجوده بالقدرة وكان من سَنَنِهِ ما يحكي آخر من العلم والحكمة والرحمة ..... إلخ ، فكان من الظرف آفاق وأنفس في قوله ![]() ![]() فكان من العامل ما تَنَاوَلَ الاستقبال ، وتلك دلالة السين في "سَنُريِهِمْ" ، فذلك دَلِيلُ نُبُوَّةٍ قد اتصل إسناده بما يكون من أَدِلَّةِ رُبُوبِيَّةٍ تَنْصَحُ ، وبها آخر هو مَدْلُولُ تَلَازُمٍ في العقل يَثْبُتُ ، وهو ما كان من ألوهية تحكم ، فمن أدلة الربوبية اختراعا وعناية ، آفاقية أو نفسانية ، من ذلك ما يشهد وله غاية من التكليف تَنْصَحُ قَدْ أَبَانَ عَنْهَا تَالٍ يجري ، من وجه ، مجرى التخصيص بالغاية في قوله ![]() ![]() فكان من الاستفهام ، كما تقدم ، ما أنكر وَوَبَّخَ ، ولا يخلو من آخر يُثْبِتُ مَا وُبِّخَ المخاطبون أن جحدوه ، وهو شهادة الله ، جل وعلا ، على كل شيء ، شهادةَ إحاطةٍ تَسْتَغْرِقُ ، وتلك دلالة " كُلِّ شَيْءٍ" ، فذلك العموم المحفوظ الذي يَتَنَاوَلُ آحاده كافة ، ولو فَرْضَ المحالِ فالعلم يَتَنَاوَلُهُ ، وَلَوْ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وثم من اسم "شَهِيد" : وصف مشبه إذ اشتق من عامل لازم لا يتعدى ، وهو "شَهِدَ" ، فيقال : شهد على كذا ، أو شهد بكذا ، فَحُدَّ حَدَّ مِثَالِ المبالغة من "فَعِيل" ، وهو ما أكسبه معنى من المبالغة يؤكد ، فكان من القياس في المعنى ، وَلَوْ بَعْضًا ، أَنْ كَانَ ثَمَّ من العلة اشتراك في المبنى "فَعِيل" ، فاكتسب الْوَصْفُ المشبَّه "شهيد" معنى المبالغة ، وَلَوْ بَعْضًا ، وإن لم يكن فيه نَصًّ ا، إذ شرط النص في باب المبالغة أَنْ يُشْتَقَّ من عاملٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، وقد يُقَالُ ، من وجه آخر ، إِنَّ "شَهِدَ" مما يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ، فَيُقَالُ : شَهِدَ الأمرَ إذا حضره ، فكذا الرب ، جل وعلا ، فهو حاضر بعلمه المحيط المستغرق ، فيكون ذلك من المبالغة قياسا إذ اشتق من عاملٍ مُتَعَدٍّ ، فهو "فعيل" من "فاعل" ، "شهيد" من "شاهد" ، وذلك مَا حَسُنَ فِي إثباتِه جُمَلُ تَوْكِيدٍ تَنْصَحُ من ناسخ يؤكد وهو النَّصُّ في الباب "إِنَّ" ، واسمية الجملة على تأويل : هو على كلِّ شيءٍ شهيد ، مع تقديم الظرف " كُلِّ شَيْءٍ" ، وحقه التأخير مَئِنَّةَ الحصرِ والتوكيدِ ، كما يقول أهل الشأن ، فكان من ذلك سياق قد استجمع دلالة التوحيد في الخبر والحكم ، وذلك تكليف الخلق عامة ، وهو ما يرفد دلالة الضمير ، ضمير الغائب في "سَنُرِيهِمْ" ، إذ يجاوز جيل الوحي إلى كل آتٍ بَعْدًا ، وإن لم يوجد حَالَ التَّنَزُّلِ ، فَلَهُ من الآي في جيله ما يعجز بما قد بَلَغَ من آلة تجريب وبحث بها يظهر له من غيب الإتقان والإحكام ما لم يظهر لجيل تقدم ، فإسناد الآي ، كما تقدم ، قد اتصل فاستغرق الأجيال كافة ، آيةَ تَدَبُّرٍ في الكون ، ولها غاية من آخر ، تدبرا لآي الكتب المنزل ، فكان من ذلك مناط تعليل آخر قد نص عليه الوحي ، فَكِتَابُهُ : (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، فكان من حذف المسند إليه وهو المبتدأ ، كان من ذلك ما اطرد في لسان العرب على تقدير : هو كتاب ، فيكون الباب من تعدد الأخبار ، فكان أول وهو "كِتَابٌ" ، وذلك الخبر المفرد ، وكان تَالٍ وهو الجملة "أَنْزَلْنَاهُ" ، وهي مما أُسْنِدَ عامله إلى ضمير الجمع ، حكاية ما تقدم في موضع ، من تعظيم وثناء بِوَصْفِ كمالٍ يَكْثُرُ ، وإن كان الموصوف واحدا في الخارج لا يَتَعَدَّدُ ، فكان من تعدد الأخبار ما يبين ، وهو جار على المعهود في لسان العرب أَنْ يَتَقَدَّمَ الخبر المفرد إذا اجتمع مع آخر هو الجملة ، فهو كتاب قد جُمِعَتْ حروفُه وكلماتُه وجملُه ، أخبارُه وأحكامُه ، قَدْ أَنْزَلَهُ الله ، جل وعلا ، إِنْزَالَ الجملةِ ، من وجه ، وَتَنْزِيلَ الْبَيَانِ آحَادًا ، من آخر ، وثم من العلة ما نص عليه السياق ، فكان من لام التعليل ، وإن احتملت غيرا ، فالسياق في هذا الموضع قد رَفَدَ مِنْهَا دلالة التعليل ، وهو ما يُصَيِّرُهَا ، على قول ، ظاهرا في الدلالة ، دلالة التعليل لا نَصًّا ، إِذِ احْتَمَلَ غَيْرًا ، وإن كان من قرينة السياق ما رَفَدَ التعليل ، فذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى التأويل ، أو الترجيح في مشترك هو الجائز الذي يحتمل وجوها في الخارج ، فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج ، فكان من السياق ما رَجَّحَ التعليل ، فَرَفَدَهُ بِقَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ قد صَيَّرَتْهُ النَّصَّ في الباب ، وإن احتمل غَيْرًا في سياق آخر ، فكان من العلة : أَنْ يَتَدَبَّرَ الخلقُ آي التنزيل المحكم ، وهو ما قد عَمَّ فتلك دلالة الإضافة في "آياته" ، وهو ، بادي الرأي ، يحكي جمع القلة ، الجمع المزيد بالألف والتاء ، فكان من الإضافة إلى الضمير في "آيَاتِهِ" ما عَرَّفَ لفظه وَزَادَهُ العموم المستغرِقَ في مَعْنَاهُ ، وذلك تكثير يجاوز أصل الوضع من جمع القلة ، فآي الوحي ، بداهة ، تَكْثُرُ ، وهو ما جاوز الكتاب المتواتر ، وإن كان منه ظاهر يتبادر ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استغرق نصوص الوحي كافة ، آيا وَخَبَرًا ، وثم تال بعد التدبر وهو ما يكون من التذكر : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ، وعطفه ، من هذا الوجه ، عطف المسبَّب على سببه ، فإن التدبر سبب في حصول ذكرى تَنْفَعُ ، وهو ما اخْتُصَّ به أولو الألباب تعريضا بمن غفل فلم يتذكر فلا لُبَّ لَهُ يَنْفَعُ ، وإن كان منه ما به التكليف يثبت ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ به إلا إقامة الحجة على نفسه ، إِذًا لكان عدمه والحال تلك أفضل ! ، ولا يخلو السياق الخبري من آخر إنشائي يأمر أن يتدبر الناظر الآي ويتذكر ، كما في آي أول قد تقدم أن : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ، فذلك ما استوجب إنشاء أخص ، أن تدبروا آي التكوين ، واستدلوا بها على حق من التشريع ، وله من التكليف أخص ، أن آمنوا بالله ، جل وعلا ، وما أَنْزَلَ من الكتب ، وهو ما كان النص عليه في موضع آخر قد استغرق ، فـ : (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، وذلك من تكليف يَعُمُّ إذ تَوَجَّهَ إلى اعتقادٍ يستوي فيه الخلق كَافَّةً ، فكان من ذلك تكليف يُوجِبُ ، فالإيمان أصل الأصول الأول ، وهو يضاهي التوحيد ، أَوَّلَ واجبٍ على العبيد ، أن يكون الإيمان بالله ، جل وعلا ، وحده ، وهو مَا نَصَّ عليه السياق ، وإن لم يقصر ، فَاسْتُفِيدَ ذلك ضرورة إذ يُقَدِّرُ الذهنُ عَهْدًا أخص ، وهو الإيمان المعتبر فلا يكون إلا أن يُفْرَدَ به الرب المهيمن ، جل وعلا ، على تقدير : آمنوا بالله ، جل وعلا ، وحده ، فلا تشركوا به أحدا في إيمان أخص ، الإيمان بالرب الخالق والإله الحاكم ، فكان من اسم "الله" ، جل وعلا ، الاسم الجامع لأوصاف الكمال المطلق ، وهو المستغرق لوصف الرب الخالق ، وذلك توحيد الله ، جل وعلا ، بأفعاله ، ووصف الإله الحاكم ، وذلك توحيد آخر في النسك والعبادة ، وهو ما لا يكون إلا بشريعة تحكم ، ومن يُبَلِّغُهَا هو الملَك فالرسول الأرضي الذي خوطب بها أولا خطاب المواجهة ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم تال يَتَنَاوَلُ الجمعَ المكلَّف كلَّه ، وذلك خطاب الاستغراق الذي يعم بوضع أول ، وإن كان ثم استثناء فهو خلاف الأصل المطرد ، كما في خطاب يخصص العموم بصورة السبب ، فيكون واقعة العين فلا عموم لها يجاوز ، وذلك خروج عن الأصل الأول ، أصل العموم المستغرق في خطاب الشرع المنزل ، فلا يكون التخصيص تحكما بلا دليل يُرَجِّحُ فهو نَصٌّ يقصر العام الذي ورد عليه الخبر على عين السبب ، أو آخر أعم ، وإن خُصَّ من وجه آخر ، وهو ما اصْطُلِحَ أنه تخصيص العام بصورة السبب التي تَتَنَاوَلُ أَفْرَادًا في الخارج ، وكل أولئك مما لا يثبت إلا بدليل أخص ، إذ يخالف عن الأصل ، وإلا تَذَرَّعَ كُلُّ أحدٍ رَامَ تَعْطِيلَ حكمٍ بِعَيْنِهِ ، بل وحكومات الوحي عامة ! ، أنها وقائع أعيان تَتَنَاوَلُ آحادا ، أو أُخْرَى تَتَنَاوَلُ أجيالًا ، فَقَالَ مَنْ قَالَ بالتاريخانية أن النبوات لا تجاوز أجيالها التي انْقَرَضَتْ ، فكانت حكوماتها المنسوخة بَعْدًا ، إذ لكلِّ جيلٍ من العرف ما يخصص ، وذلك مما له أصل في الوحي يَنْصَحُ ، بل هو من أصول التشريع كما تناولها أهل الشأن ، فالعرف محكم ، ولكنه ، من وجه آخر ، المقيد ، فلا يخالف عن الوحي المنزل إذ له من ذلك وصف المرجع المجاوز من خارج العقول والأعراف ، ولو كانت مما اصطلح أنه المجموع ، فالعقل الجمعي ، من وجه ، عُرْفٌ عام يستغرق ، وهو معيار يجاوز الأفراد ، من وجه ، إِنْ صَحَّ أنه مما ينضبط فقد قَدَحَ بعضٌ من أهل الاجتماع في حصوله وضبطه إذ غَلَا فيه من أثبت ، فأهدر لأجله الفرد ، وصار الجمع هو من يصنع ، ولا امتياز لفرد بملكات بها يجاوز إطار الجمع فَهُوَ يُؤَثِّرُ فيه وَيُغَيِّرُ بما حاز من أسباب سواء أكانت وهبية كما النبوة فقد قام بها أفراد أَثَّرُوا في أممهم ، وإن كَذَّبُوا فَقَدْ أقاموا عليهم الحجة ، وما كان ذلك يحدث لو كان العقل الجمعي هو الصانع الذي يقهر الأفراد على طريقة من العادات والأعراف ، فسواء أكانت الأسباب التي بها امتاز الفرد ، سواء أكانت وَهْبِيَّةً أم كَسْبِيَّةً كما العلوم والمعارف التي يكتسبها فَرْدٌ فيكون من أَثَرِهِ في الجمع ما يظهر ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما قد يستغرق المفسِد كما المصلِح ، فقد خرج عن ناموس الجمع وأتاهم بما لا يعرف من طريقة تُذَمُّ ، إن في الأخلاق أو في السياسة ..... إلخ ، لا جرم كان المعيار الحاكم الذي يَنْضَبِطُ هو ما يجاوز الفرد والجمع كافة ، فيحكم فِي كُلٍّ الحكمَ السالم من الهوى والحظ . والشاهد أَنَّ بَعْضًا قَدْ قَدَحَ في حصولِ العقل الجمعي وَضَبْطِهِ ، وإن كان مما يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي مُثُلٍ من التحكم بها الاستبداد يمكر بالجمع إذ يَأْطِرُ العرفَ أَنْ يُوَاطِئَ رَغَائِبَ الملإ الغالب الذي استجمع أسباب الجاه والمال والسلطان ، مع نفوذ الأمر في سائر الجمع ، فَيَأْطِرُهُ على مثالٍ يَصْنَعُ العرفَ والعادةَ بما يكون مِنْ قَهْرِ السلطان ، وإن لم يَضْرِبْ وَيُعَنِّفْ ، فلا زال يوسوس بما يقول ويكتب ، وبما يصنع من مُثُلِ الاقتداءِ إِمَّا به أو بِغَيْرٍ يُصْنَعُ عَلَى عين الملإ ، فيكون من ذلك ما يُبَدِّلُ العادة والعرف المباح إلى آخر يحرم ، فمن فساده ما يعظم ، وإن حَجَبَتْهُ سكرةً تحدث ، فيكون من مكر القول ما يُبَدِّلُ العرف ، على مكث ، فيكون من عقل الجمع أو العرف العام ما لا يسلم من المؤثِّر من خارج ، فَلَيْسَ منه ما يُعْصَمُ ، وإن جَاوَزَ عقل الفرد ، فَثَمَّ معيارُ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، ولو أعم ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الجمعَ بما استقر من العرف ، فلا ينفك يَتَعَدَّدُ ، وهو ما يضطرب إذ كلُّ جَمْعٍ يَرَى عُرْفَهُ هو الأنصح ، وَلَهُ يَتَعَصَّبُ ، إِنْ صحيحًا أو فاسدًا ، فلا يُسَلِّمُ جَمْعٌ لآخر ، كما لا يُسَلِّمُ فَرْدٌ لآخر ، فكلٌّ قَدِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ ، فَلَا يحسم النِّزَاعَ إلا مَرْجِعٌ من خارج يجاوز الأفرادَ والجماعاتِ كَافَّةً ، فَثَمَّ من المرجع الأعلى ما يأطر العرف ، وإن كان المعتبر في مواضع ، لا في تشريع أول يَتَنَاوَلُ مناط الحكم ، وإنما في تحقيقه في الخارج ، كما آخر في مباحات قد سكت عنها الوحي ، أو مصالح قد أَرْسَلَهَا ، فكل أولئك مما سَاغَ الخلاف فيه ما لم يخالف عن منصوص صحيح صريح ، فلا يكون من العرف ما يَنْقُضُ أصلَ الحكمِ ، وَبِهِ قد جَاوَزَ الوحيُ جِيلَهُ في التكليف والاستدلال ، فَلَهُ من الإسناد ما اتَّصَلَ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى جيلٍ قد انقرض ، ويكون من تَالٍ ما يسعه الخروج عن حكم الوحي الذي وسع بالمنطوق والمفهوم كافة ، بالنص وبالقياس ، فَثَمَّ من العرف ما صار الحاكم لا المحكوم ، فخالف عن المنقول والمعقول كافة ، إذ العرف المحدَث لا يسلم من الهوى والحظ ، على التفصيل آنف الذكر ، فلا ينفك يطلب المرجع من خارج إذ يأطر غَيْرَ المعصومِ على جادة عصمة قد جاوزت العقل بما كان من الوحي ، وهو ما لا يُسَلِّمُ به ، بداهةً ، إلا من يُؤْمِنُ بالنبوات نَوْعًا ثم آحَادًا ، فجداله في الباب أيسر ، إذ آمن بالجنس المطلق ، وهو أول ما يُطْلَبُ في النبوات ، وبعده يكون آخر يَتَنَاوَلُ الآحاد ، وإذا طَرَدَ الناظر الأمر وَتَجَرَّدَ من الهوى والحظ لم يجد في النبوات السابقة ما يخالف عن أخرى هي الخاتمة ، وهو ما استوجب القيد ، قَيْدَ الدينِ لا الشَّرْعِ ، فالدين واحد ، وإن تعددت الشرائع ، والسابق قد شهد لِلَاحِقٍ ، وكان من حكمة الرب الشارع ، جل وعلا ، أَنْ أَبْقَى ذكر الخاتمة في نُسَخٍ من الكتب الأولى ، فكان من البشارة ما لم تَنَلْهُ يَدُ التَّبْدِيلِ والتحريف ، وإن نَالَتْ من أخرى قد بَدَّلَ الكهان فِيهَا وَحَرَّفُوا ، وهو مما يُلْجِئُ المخالفَ في الجدال فإن جحد البشارة أَنَّ نُسْخَتَهَا هي المحرَّفة ، فتلك دعوى لا دليل عليها ، فمن له بأصل محكم من الكتاب الأول قد سَلِمَ من التبديل والتحريف ، فَيُبِينَ عن تحريف في نُسْخَةِ الخصم الذي يحتج بما دُوِّنَ فيها من البشارة ، فلم يكن من ذلك إلا دعوى مجردة فيجزئ في رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي دون أَنْ يَتَكَلَّفَ صاحبها دليلا أخص ، بل له من الدعوى ضد ، فنسخة الأول هي ما بُدِّلَ فيه وَحُرِّفَ أَنْ تُحْذَفَ الْبِشَارَةُ ، وكلٌّ لا يملك دليلا أخص إلا الدعوى المجردة ، فكان من ذلك تَكَافُؤٌ فَتَسَاقُطٌ ، وهو ما استوجب آخر يجاوز كِلَيْهِمَا من خارج ، فَيَقْضِي فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ من الدَّعْوَى ، إذ كلٌّ لَا يَسْلَمُ من النَّقْدِ ، وإن احْتُجَّ بالبشارة من باب : وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها ، فإن لم تُرْضَ شهادته ، فلازم ذلك أفدح ، فلا ينفك المنكِر يُقِرُّ أن التبديل والتحريف قد وقع في نسخ من كتابه ، وإن لم يُقِرَّ بها ، فما بِيَدِهِ ليس بِأَسْلَمَ من القدح مما زعم فيه التحريف والدس ، إذ ليس ثم ، كما تقدم ، معيار من خارج يَسْلَمُ ، وهو ما شهد به علماء الكتاب الأول أن التبديل والتحريف قَدْ وَقَعَ وأن ليس ثم أصل واحد ، ولو بإسنادِ آحاد يَسْلَمُ ، لا أصل يُحْتَكَمُ إليه مما كتب بين يدي النبوة الأولى بِلِسَانِهَا الذي به قد نَطَقَتْ ، في مقابل ما أَقَرَّ به كل ذِي عقل ينصح ، وله مع ذلك إنصاف يحمد ، أن الكتاب الخاتم وحده هو السالم من دعوى القدح بالزيادةِ أو بِالنَّقْصِ ، بالتبديل أو بالتحريف ، وإن لم يُؤْمِنْ أنه الكتاب المنزل ، فَقَدْ ثَبَتَ عنده إسنادُه المتواتر إلى مخرج واحد ، وهو صاحب الدعوى الخاتمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في مسلكِ نَوْعٍ يتناول ما جاء به النبي من الوصايا والأحكام أَهِيَ مما علم حُسْنُهُ ضرورةً أم قد جاء بما يقبح وهو ما امتنع بداهة في دعوى النبي الصادق لا المتَنَبِّئِ الكذاب ، فالنبي الصادق لا يأمر بالشرك أو الفحش ، ولا يأتي بما هو كهانة أو سحر ، وثم آخر بَعْدَ نَوْعٍ ما جاء به ، فهو يَتَنَاوَلُ شخصه وما كان من سيرته في الخلق أكان من أهل العفة والصدق أم هو على ضد من الفحش والكذب وما نَسَبُهُ في قومه وهل ثم ذريعة أَنْ يَدَّعِيَ هذه الدعوى ليطلب بها ملك آباءٍ قد فاته ، كما سؤالات هرقل لأبي سفيان وهي نص في الباب قد نطق به عالم بالكتاب الأول وإن حال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإيمان ملك زَائِلٌ قد ضَنَّ به فأورده المهالك ، فكل أولئك من دَلَائِلَ لِلنُّبُوَّةِ تَعُتَبَرُ مع ما قد اشتهر من بشارة لدى علماء الكتاب الأول ، ومنهم من استفتح به واستنصر ، فَلَمَّا بُعِثَ جَحَدَ رسالته حسدا ، فَوَجَبَ نَظَرٌ تَالٍ في عين الدعوى الخاتمة بعد أول في الجنس ، جنس النبوات الأعم ، فَتَنَاوَلَ الناظر المدقِّقُ منها حاجة الناس إلى النبوات إذ تخبر بما لا يطيق العقل منفردا ، وإن أَثْبَتَ مُجْمَلًا أَنَّ ثم ضرورة في الوجدان تُلْجِئُ بما تقدم من الإيمان بالله ، جل وعلا ، خالقا هو الأول ، بما استوجبه دليل الاختراع والإتقان ، وآخر يمنع التسلسل في المؤثِّرِينَ أزلا ، فَوَجَبَ رَدُّ الكونِ ، وهو ، مَبْدَأَ النظرِ في قسمة الوجود في الخارج ، هو الجائز فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وذلك ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يطلب واجِبَ الوجودِ الأول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وليس إلى سبب من خارج يفتقر ، بل الأسباب كافة إليه تَفْتَقِرُ أَنْ يُوجَدَ عَلَى هَيْئَةٍ مخصوصةٍ مُحْكَمَةٍ ، وَأَنْ تُرْكَزَ فِيهِ قُوَّةُ تَأْثِيرٍ تَنْصَحُ ، وَيُهَيَّأَ لَهَا من المحل ما يقبل ، فكل أولئك مما يثبته العقل ضرورة ، وإن لم يَرِدْ به وحيٌ مُنَزَّلٌ ، فذلك من رِكْزٍ أول في الوجدان ، مع آخر من فطرةِ تَوْحِيدٍ تحكي الافتقار إلى الخالق الغني القدير الذي يدعوه الخلق كافة في شِدَّةٍ تَطْرَأُ ، فعندها تَزُولُ الحجب المانعة ، فَيُقِرُّ كلٌّ بأولَّ وحده من يغيث المضطر ، فكل أولئك من أدلة من المنقول والمفطور والمحسوس من أدلة في الخارج إن في الآفاق أو في الأنفس ، فوجودها المجرَّد أولا يدل على موجِد أول ، كما تقدم من امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، ووجودها تاليا على هذا المثال المحكَمِ ، ذلك مما يشهد بالإتقان أنها لم تكن خبطا ، فلا يكون من الخبط والعبث هذا الخلق المحكم ، ولو فُتِحَ باب الإحصاء تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فقد أَثْبَتَ البحث أن ذلك يعدل في الاحتمال الرياضي الرقم صفر ! ، فهو عدم يمتنع ، وهو المحال بالعقل والحساب ! ، فكل أولئك من المجمل الذي يفتقر إلى ما يشهد ، فكان من خبر الوحي ما صَدَّقَ فِطْرَةَ النَّفْسِ الأولى ، وكان من تَالٍ مَا فَصَّلَ المجمَلَ ، وكان من ثالث قد قَوَّمَ ما اعْوَجَّ من فطرةٍ أولى تشهد بالتوحيد ضرورة ، وكذا في إيمان بِيَوْمٍ آخر ، إذ العدل مما قد أَجْمَعَ العقلاءُ كَافَّةً أَنَّهُ الْحَسَنُ الْحُسْنَ المطلقَ ، وهو ما لا يُسْتَوْفَى جميعا في هذه الدار ، ولو في الظاهر ، وإلا فَثَمَّ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ثم من العقوبات القدرية ما يَنَالُ من الظالم إذا لم تَنَلْ منه العقوبات الشرعية ! ، ففي الظاهر سلامة وفي الباطن خسران وضنك هو أول ، والساعة تَالٍ وهي أَدْهَى وَأَمَرُّ ، فالإيمان باليوم الآخر ضرورة أخرى قد رُكِزَتْ في العقل والفطرة ، فجاء الوحي لها ينصح بما يُفَصِّلُ من أحوال تغيب فلا يدركها العقل بالتفصيل ، وإن أدرك منها المجمل ، كما الإلهيات في باب الإيمان بالله ، وَكَمَا رُكِزَ في الوجدان ضرورةً من حُسْنِ العدلٍ ، وهو ما به ينصح الحكم ، وذلك محل إجماع آخر لا ينفك يجمل ، فهو يطلب مرجعا من خارج يفصل ، فلا يحسمه عقل الفرد ولا الجمع ، على التفصيل آنف الذكر ، فكل أولئك من أدلة النبوات الأعم ، وثم أخص قد نالت منه الخاتمة حظا أوفر ، إذ كان منها ختام محكم ، فلا نبوة تَلِي بَعْدًا ، فكان من أدلتها الأخص : إعجازٌ في البيان ، وآخر في جُمَلٍ من أخبار الغيب ، وثالث من إعجاز في دقائق من الكون ، ورابع في دقائق من الشرع ...... إلخ ، فَكُلُّهَا تشهد للخاتمة ، وهي الجامعة المصدقة ، من وجه ، المهيمنة مَرْجِعًا من خارج الكتب الأولى يحكم ، إذ قد سَلِمَ من التبديل والتحريف المحدَث . فكان من ذلك نبوة تجاوز جيل التَّنْزِيلِ الأول ، فَثَمَّ من عموم لفظها ومعناها ما يجاوز ، وإن خوطب بها واحد في مقامِ التبليغ والتبيين الأول ، فخطابه ، من هذا الوجه ، عام يستغرق ، وَإِنِ انْفَرَدَ مِنْهُ بمعنى أخص ، معنى الصدارة إن فِي التَّكْلِيفِ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، أو في التبليغ والتبيين ، فهو أول من خوطب أن يقول ، والجمع له يَسْمَعُ ، وذلك ما قد عَمَّ فَجَاوَزَهُ إِذِ استغرق الجمع المكلَّف كله ، فَثَمَّ قَرِينَةُ العمومِ في خطاب التكليف ، وهو مَا جَاوَزَ الجمع المخاطَب مواجهةً ، وَإِنْ حَصَلَ له ، أيضا ، معنى أخص إذ له من شهود التنزيل ما به عَقْلُ مَعْنًى أخص ، فليس من شهد كمن سمع ، وليس من حضر كمن غاب ، وَثَمَّ من عَدَالَةٍ مَا ثَبَتَ ضرورةً بالنقل والعقل ، فَإِنَّ إثبات النبوة يستلزم تعديلهم إذ قد شهدت لهم بِذَا ضرورة تلجئ وإن لم يكن ثم عصمة في القول والعمل تُرْجَى فذلك مقام النبوة حصرا وقد قُبِضَتْ بِقَبْضِ النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَهُمْ من الهنات ما لا يَسْلَمُ منه بشر ، وإنما نَظَرُ المنصِف نَظَرُ الغالب الذي لا يَنْهَضُ له نادر ، فلا حكم له يَرُدُّ مَا غَلَبَ من الحال مع سلامة من الكذب في النقل وذلك معيار الصحة في بلاغ الوحي وبيانه ، ولهم مع ذلك سلامة اللسان المفصِح ، وبه قد نَزَلَ الكتاب المحكم ، فَسَلِمَ لسانهم من اللحن والعجمة ، فَهُمْ أَعْلَمُ الناس بِمُرَادِ الشِّرْعَةِ التي نَزَلَتْ بهذا اللسان العربي المبين ، لا كَمَا حَالُ جيلٍ قد تلا ، إذ فَسَدَ منه النطق الباطن في تصور المعاني ، والظاهر في لفظ المباني ، فكان من الفَسَادِ ما قَد نَالَ التَّصَوُّرَ والحكمَ جَمِيعًا ، تَصَوُّرَ المعاني وَحُكْمًا في الخارج يُصَدِّقُ ، وهو حكم النطق الذي يُظْهِرُ المعاني في مَبَانٍ مفردة ، وما رُكِبَّ مِنْهَا جُمَلًا ذات دلالات أخص إذ يكون من قَيْدِ السياق ما يزيد في المعنى بما اطَّرَدَ من قانون النحو المركب ، مع تلاؤم بين الصوت والمدلول ، فكان من مادة المعجم ما اسْتُقْرِئَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ أول ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جعله الخصم غَرَضًا أن يَنَالَهُ من شبهاته ما يقدح في النقل والتحقيق ، فَلَيْسَ إلا المنتحلَ الدخيلَ ، فلا أصل له يَنْصَحُ كما زعم رُوَاتُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا ، فإذا نال من ذلك غرضا ، انتقل إلى تال يَتَنَاوَلُ الشريعة لفظا ومعنى ، فإن فاته منها النقل المتواتر ، فهو يقدح في الآحاد مع ما حُرِّرَ من اصطلاح يُدَقِّقُ في التصحيح والتضعيف وما يكتنف كُلًّا من قَرَائِنَ قَدْ تَنَاوَلَهَا أهلُ الشأنِ ما لم يَتَنَاوَلْهَا آخر ، وَإِنْ في كتابِ تشريعٍ جامع ، كما الكتاب الأول فإنه لم يحظ من ذلك بشيء ، ولو نَقْلَ الأخبار الآحادية في الشريعة الخاتمة ، مع توافر الهمم أَنْ تَجْمَعَ وَتُحَرِّرَ الكتاب الأول ، فلم يكن من أهله حِفْظٌ بل كان منهم بَعْضٌ من كهنة قد عَظُمَتْ جنايتهم إذ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا ، وكتبوا من الكتاب ما كتبوا بخطهم ، فكان من ذلك ما يواطئ أهواءهم وحظوظهم ، وذلك مما استوجب دَفْعَ الصائل باسم الدين في جيل اصطلح بعدا أنه التنوير ، فكان من ذَلِكَ غال في آخر لم يسلم من الغرض ، وَإِنِ اتَّخَذَ حجة ناصحة من البحث والنظر ، فَنَقَدَ ما بُدِّلَ من الكتاب الأول ، وإن لم يكن ثم زيادة إنصاف أن يطلب الكتاب الحق ، بل قد رَامَ نَقْضَ الأصل ، أصلِ الوحي مَرْجِعًا من خارج يجاوز ، فَرَدَّ الأمر إلى العقل ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، ولا يَسْلَمَانِ ، كما تقدم في مواضع ، لا يَسْلَمَانِ من الهوى والحظ ، وهو ما انْتَقَلَ به القوم من غُلُوٍّ إلى آخر ! ، ولم يكن من الدليل ما يَنْصَحُ إلا المقال المحدَث ، إن مقالَ كَهَنَةِ دين مبدَّل ، أو قبيل آخر لم يسلم من وصف الكاهن تحكما واستبدادا وإن باسم التجريب والبحث إذ تحكم في الحد ، فَحَدَّ العلم أنه ما يدرك بالحس حصرا ، وذلك من التحكُّمِ بما لا يخفى ، وقانون النظر له يَنْقُضُ ، إذ عدم الوجدان بالحس الظاهر لا يستلزم عدم الوجود في الخارج ، بل قد يُوجَدُ الشيء ، ولو غَيْبًا نسبيا في هذا العالم المحدَث ، ولا يدركه بعض فهو عنده غيب ، وليس ذلك ، بداهة ، دليلَ العدم في نفس الأمر ، بل هو الموجود وإن لم يدركه القاصر إذ عجزت منه المدارك ، فليس عجزه دليلا على قادر ، وليس جهله دليلا على عالم ، بل القادر والعالم حجة على ضد من عاجز وجاهل ، فمن علم فهو حجة على من لم يعلم ، وثم من الغيب ما لا يدرك إلا بالخبر ، فكان النظر في أدلته أولى من معارضتها بالحس ، فالجهة تَنْفَكُّ ، إذ الغيب يجاوز مدارك الحس ، وإن لم يجاوز أخرى في العقل ، ولو التجويز العقلي المحض ، فهو أول في الاستدلال إذ لا يأتِي الوحي بالمحال الذاتي ، وإنما يأتي بمحار هو في المبدإِ : الجائزُ ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، إن في إيجاده أو في إثباته ، فيكون من خبر الغيب ما يرجح في العقل إذ قد تَوَقَّفَ ، بادي الرأي ، فلم يُثْبِتْ وَلَمْ يَنْفِ ، فالباب من الجائز المحتمل ، فهو يطلب من خَارِجٍ الدليلَ المرجِّحَ ، وليس في الغيب المطلق دليل ينصح إلا ما كان من خبر وحي يَنْزِلُ ، فهو مرجع من خارج يجاوز العقل والحس كافة ، فينصح لهما بإثبات أخص ، فكان من تحكم جِيلٍ يَنْهَضُ ، وإن تَدَرَّجَ في الدعوى ، فلم يَفْجَإِ الكهنة بخصومة تُعْلَنُ ، بل قد رَامَ من نصهم ما يشهد ، ولو لدعوى تُبْطِلُ أصلَ الوحي إذ تَنْزِلُ به من السماء إلى الأرض ، فيصير الإنسان فيها هو المركز ، ويصير العقل ، كما يقول أهل الشأن ، هو المعيار الحاكم فَإِلَيْهِ قد رُدَّتِ السلطة المطلقة ، ولو فيما جاوز مداركه ، فصار يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ في الوصف ، وصار بَعْدًا يحكم بإباحة أو بِحَظْرٍ مع ما تَقَدَّمَ مرارا من نَقْصٍ فِيهِ جِبِلَّةً ، وما يعتريه من الأهواء والأذواق ، إن الفرد أو المجموع ، فكان من ذلك ما اتخذ من العقل اسم شريعة ودين ، فهو دين الطبيعة الذي يَقْتَصِرُ على كُلِّيَّاتِ العقل المجملة ، وهو الدين الذي يواطئ حاجة الإنسان فهي باعث التشريع وليس للوحي إلا أن يستجيب ! ، وهو ما ضاهى مقالا في جِيلٍ قد تَأَخَّرَ قد نال من الوحي الخاتم أَنْ صَيَّرَهُ مثالا يستجيب لحاجة الجمع بما يكون من سبب عليه تَنْزِلُ الآي ، أو آخر عليه يَرِدُ الخبر ، فالإنسان هو الأصل والوحي فَرْعٌ لَهُ يَتْبَعُ ، فما كان وَحْيٌ إلا أن يحقق مآرب الخلق ، لا أن يكون محل ابتلاء بالخبر والحكم تأولا لغاية الخلق التي جاء بها الوحي نصا يجزم ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وهو ما اصطلح في مذاهب محدثة أنه المنفعة التي لم تجاوز في الحد ما يدرك بالحس ، فصنع الإنسانُ الدينَ الذي يواطئ حاجته ، كما صنعت الحكمة الأولى آلهتها ، وكان من تجسد اللاهوت في الناسوت ، وَصَلْبِهِ أَنْ يُحَرِّرَ الخلق فيدخلوا الملكوت ، كان من ذلك ما صَيَّرَ الإنسان هو الغاية والمقصد ، فليس الوحي إلا تاريخ الإنسان ، وقد اشْتُقَّ له من ذلك نسبةٌ إلى الإنسان ، فذلك وحي لم ينزل من السماء ، وإنما من الأرض قد خرج ! وإن تَذَرَّعَ بوحي ذي نسبة إلى السماء ، صَحَّتْ أو بَطَلَتْ ، فلا يكون من ذلك إلا انتقاء وتحكم ، أن يتخذ من الوحي دليلا يشهد لما انتحل من مذهب محدَث ، فالوحي يحكي احتياج الخلق إلى مثال كامل في الوصف ، فَعَجْزُ الإنسان قد ألجأه أن يصنع في الخارج إلها يَقْدِرُ ، فالوحي من العقل قد صدر ، وليس إلا حكاية حاجة تلجئ ، والإنسان ، كما تقدم ، هو المركز ، وهو ما قد رَفَدَ بَعْدًا جُمَلًا من المقالات قد غَلَتْ في الإنسان ، فَصَيَّرَتْهُ الخارق الذي لا يعجز ، فليس يحتاج إلا رب يقدر ، وذلك ما رام في مواضع ، ولو هدنة حتى يكون من القوة ما يدفع ، ما رام الاقتباس من الوحي أدلة تشهد لما أَحْدَثَ من القول ، صَحَّ النَّقْلُ أو بَطَلَ ، فإذا صح فهو يحتال بالتأويل الباطن إذ أَحْدَثَ من أدوات التفسير الباطل ما يخرج بالألفاظ عن دلالاتها الأولى ، ولا يَسْلَمُ له ذلك ، وَثَمَّ إرث من لسان ينصح ، فهو عمدة في الاستدلال المحكم الذي يقضي على تأويلاته بالبطلان إذ تخالف الضروري من اللسان : معجما واشتقاقا ونحوا وبيانا ، فهو يخالف عن معيار اللسان كَافَّةً ، فلا يسلم له هذا المذهب من التأويل الباطن إلا أن يقدح في الإرث المحكم من النَّثْرِ والنَّظْمِ ، وتلك ذريعة تأويل لا منتهى له ، وهو عوض من آخر قد جبن عنه ، ولو حتى حين ! ، أن يقدح في نقل الوحي ، وإن جعل من ذلك غَرَضًا يُقَرِّبُ أن يقدح في صحة آحاد تُنْقَلُ ، فإن لم يطق ، فهو يقدح في أصل الاحتجاج بها ، ولو في بعض من المسائل ، تفريقا بين متماثلات ، فيحتج بها في باب ويردها في آخر ، وتلك ذريعة لمن تلا أن يَرُدَّهَا في الأبواب كافة ، وأن يَزِيدَ فيقدح في أصل الصحة ، بل ويقدح بَعْدًا في أصل الوحي المنزل ، فلا يطلب مرجعا من خارج يفصل ، إذ لم يكن ثم من ذلك إلا دين الكهنة وليس من دين النبوة في شيء إلا الاشتراك في الاسم وأصل النسبة مع بَلْوَى قد عمت بما قارف الكهنة من جناية في الحس وفي المعنى ، فَنَفَرَ الخلق من الحق ، وكان من ضِدٍّ في الفعل ما قد غَلَا أن صار العقل والحس وحدهما مرجعَ التصور والحكم ، فما خالف عنهما فهو العدم ، وتلك حكاية خصومة قد استحكمت في عصر وسيط يظلم بين دين كهنة محدث ، وآخر من عقل يروم التحرر ، فَغَلَا في ضِدٍّ من الفعل ، وكان ما كان من خصومة الوحي أن لم يكن منه مثال في الخارج إلا دين الكهنة الباطل ، فضاهى به من ضاهى وحي النبوة الخاتم قِيَاسًا مع الفارق ، أي فارق ، فاقترح من الخصومة ما لم يكن في النبوة الخاتمة إذ لا يعارض منقولُها الصحيح المعقولَ الصريح ، بل هو له يَرْفِدُ رَائِدَ صدقٍ يَنْصَحُ ، وهو ، أبدا ، يتصدر ، فذلك الرائد الذي لا يكذب أهله ، وهو ما تَوَجَّهَ به الخطاب ، على التفصيل آنف الذكر ، فمنه خطاب أول قد توجه إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كما في قوله ![]() إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فلا يخاطب واحدا مُعَيَّنًا في الخارج وإنما يصدق ضمير الخطاب "أَنْتَ" في كل مخاطب حضر أو غاب ، وجد أو عُدِمَ فَلَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ . وقد يقال إن الجمعَ قَدْ دَخَلَ ، بادي الرأي ، فَزِيدَ في حد المفرد من الحد ، سواء أقيل إنه خاصٌّ يُرَادُ به عام ، أو العموم قد ثَبَتَ ، مَبْدَأَ النَّظَرِ ، وقد شهد له آخر في مواضع من التنزيل ، كما في قوله ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#9
|
|||
|
|||
![]() وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما خالف عنه خصوم النبوات ، إذ كان من قياسهم ما قد فَسَدَ ، فقد رَدَّ الغائب وهو الخالق العليم ، جل وعلا ، إلى الشاهد من المخلوق المحدَث ، فكان من ذلك ظَنٌّ باطل فهو المذموم في آي الوحي النازل ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، وله من سبب النزول ما يُؤْثَرُ ، إذ : "كانَ رَجُلَانِ مِن قُرَيْشٍ وخَتَنٌ لهما مِن ثَقِيفَ -أوْ رَجُلَانِ مِن ثَقِيفَ وخَتَنٌ لهما مِن قُرَيْشٍ- في بَيْتٍ ، وفي رواية أخرى تبين عن وصفهم "كَثِيرَةٌ شحومُ بطونهم ، قَلِيلٌ فقهُ قلوبِهم" ، فَقالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أتُرَوْنَ أنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا؟ قالَ بَعْضُهُمْ: يَسْمَعُ بَعْضَهُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ، فَأُنْزِلَتْ: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ)" ، فَكَانَ من وصفهم ما أَفَادَ كَسَلًا فَلَا حَرَكَةَ تَنْفَعُ في دين أو دنيا ، وتلك ذريعة أن يكثر الشحم بما يعالج القاعد من الترف والنوم ، وهما مما به القلب يقسو ، والعقل يضعف ، فكان من ذلك فَسَادُ التَّصَوُّرِ في باب الإلهيات ، أَنْ قَاسُوا وصف الخالق ، جل وعلا ، على وصف المخلوق ، في وصف السمع خاصة ، والعلم عامة ، فعلم الخالق ، جل وعلا ، العلم المحيط الجامع إِنْ فِي تَقْدِيرٍ أول قد استغرق المقدورات كافة ، الكونية والشرعية ، ومنها ما يكون من تقدير الأعيان في الأزل ، وما يقوم بها من الأوصاف ، ولا يخلو ذلك من حكمة في التقدير الأول ، فليست كما زعم من قال بالخبط والعشواء ، فَإِنَّ إعطاءَ كُلِّ ذي خلق الخلقةَ التي تواطئ ، ذلك مما اطَّرَدَ في الأجناس والأنواع كافة ، وهو ما لا يكون بداهة ، وهو الوصف الأخص ، ما لا يكون بلا عَلِيمٍ أول يُقَدِّرُ تَقْدِيرَ الحكمة في الهيئة والسبب الذي يُبَاشِرُ ، ولا يكون قَبْلًا وهو الوصف الأعم ، لا يكون بلا مُوجِدٍ أول ، فذلك مما امتنع في القياس المصرح إذ يوجب ، كما تقدم مرارا ، الأول الذي لا أول قبله ، فإليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، تقديرا وإيجادا وتدبيرا أن هُيِّئَ لَهَا من المحالِّ مَا يَقْبَلُ ، وكان من رِكْزٍ في كُلٍّ ما قد أُحْكِمَ ، رِكْزِ التَّأْثِيرِ في السبب ، وَرِكْزِ القبولِ في المحلِّ ، وهو ما لا يكون إيجادا مطلقا لماهيات قد جُرِّدَتْ من وصفٍ أخص يجاوز مطلق الوجود ، فذلك مما لا حقيقة له في الخارج تثبت ، بل ثم من وجودِ كُلٍّ في الخارج ما امتاز من غير بما كان من وصف أخص ، وبه يمتاز من بقية الموجودات ، ويكون من ذلك قسمة في الذهن تنصح ، إذ ثم من الوجود جنس في الحد والتعريفِ يُضَاهِي مطلقَ الحصولِ والثبوتِ في الخارج ، فلا يلزم منه خلق وحدوث من العدم ، كما المخلوق المحدَث ومنه ما يغيب فلا يدرك إلا بخبر يأرز إلى مرجع مجاوز من خارج ، كما الملَك والجن والعرش وما كان من أول في قصة الخلق ، ومنه آخر يُشْهَدُ بما تناولته مدارك الحس الظاهر ، فذلك الموجود المحدَث ، حدوث الأعيان وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام وعامة الأحوال ، وثم آخر لا يصدق فيه وصف الحدوث من العدم ، وإن كان من آحاد أفعال ما يحدث إذ يناط بمشيئة تَنْفُذُ ، فليس ذلك مما يحدث الحدوث المطلق من العدم ، كما وصف المخلوق المحدث ، وإنما يُحْدِثُ الخالقُ ، جل وعلا ، من آحادِ أفعالٍ ما يُنَاطُ بالمشيئة ، ونوع الوصف ، مع ذلك ، قديم أول ، كما الذات التي يقوم بها ، وذلك أصل يستصحب في أوصاف الأفعال كَافَّةً ، فَثَمَّ شطر آخر في القسمة ، قسمةِ الوجودِ ، إذ ثم واجب وجود أول ، فوجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو الأول فَلَا أول قبله ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الذَّاتَ وما يقوم بها من الأسماء والأوصاف والأفعال والأحكام ، وإن كان من أفعال التكوين آحادٌ تُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ فَهِي المرجِّح في الجائز ، أن يكون له بَعْدًا من الحقيقة في الخارج ما يصدق علم التقدير الأول ، وهو العلم الذي يجاوز ، فليس العلمَ الموجِد إذ يُثْبِتُ الحقيقة مطلقا ، فَذَلِكَ العلم الكلي المجمل الذي اقتصر عليه أرباب الحكمة الأولى فَمَنْ بَلَغَ منهم في الباب شَأْنًا ! ، لم يجاوز أن أَثْبَتَ أولا لهذا الخلق طَرْدًا لِمَا دَلَّتْ عليه ضرورات العقل ، ولكنه لم يحسن القول ، فذلك باب غيب لا يُتَلَقَّى إلا من مِشْكَاةِ الوحيِ ، فَمَا أُجْمِلَ فِي الوجدان مقدماتٍ في الاستدلال هي الأولى ، ومنها أصل يستصحب في باب الفعل والتأثير أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فلا يحسم هذه المادة إلا أول لا أول قَبْلَهُ ، له من الوجود وصف أخص ، فالوجود الثَّابِتُ في حقه ليس كالوجود المحدَث من العدم ، كما المخلوق ، إِنِ المغيَّب أو المشهود ، على التفصيل آنف الذكر ، فوجود الأول ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، يقتصر في دلالة المعجم المفرد على الحصول والثبوت ، لَا مَا زَادَ في حَقِّ المخلوقِ من الوجود بعد عدم ، فذلك مما انْتَفَى بَدَاهَةً في حق الأول ، فإنه إن كان الموجود بعد عدم ، فذلك مَا يُسَوِّيهِ بالمخلوق المحدَث ، فيكون الجائز مثله ، فلا ينفك يفتقر ، أيضا ، إلى مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجوده ، بداهة ، إِنْ سُلِّمَ أنه الجائز ، بادي الرأي ، لا يكون وجوده بلا موجِد ، فيكون من ذلك ما امتنع في القياس المصرح أن الممكن أو الجائز لا بد له من موجِب أو مرجِّح من خارج ، فلا يكون وجود محدَث من العدم بلا موجِد يتقدم ، ولا يكون ترجيح في جائز بلا مرجِّح ، فذلك مما يوجب أبدا ، رَدَّ الجائزات أو الموجودات المحدَثة من العدم ، إلى أول لا أول قبله ، فَلَئِنْ شاطرها جنس الوجود الأعلى ، فقد امتاز منها ، إِنْ في معنى أخص في معجم اللسان المفرد ، فوجود الخالق الأول ، جل وعلا ، وجود واجب أول له من ذلك الوصف المطلق ، واجب الوجود الأول ، وله من ذلك توحيد يَنْصَحُ في العلم ، وهو ما يواطئ الضروري من مقدمات الاستدلال في العقل ، أَنَّ الجائزات كافة مما يَتَسَلْسَلُ ، فكلُّ جائزٍ يطلب قَبْلًا موجِبًا له فهو فيه يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح حتى تُرَدَّ هذه الجائزات كَافَّةً إلى واجب أول ، له من وصف الوجود ما به امْتَازَ مِنْ سَائِرِ الموجودات المخلوقات ، فهو واجب وهي جائزة ، وَعَنْهُ جَمِيعًا تصدر ، صدورَ الجائز الممكن عن الواجب المرجِّح ، وهو ما امتاز ، كما تقدم ، بقيد أخص ، قيد الأولية المطلقة ، والذاتية التي لا تُعَلَّلُ ، فوجوده الواجب لا يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح أول يَتَقَدَّمُ ، بل له ، كما تقدم ، من الوصف أولية مطلقة فلا أول يَتَقَدَّمُهُ في الوجود ، بل كل الأوليات سواه ، فَإِلَيْهِ تَرْجِعُ ، إذ ليس من وصف الأول الأخص ، الوصف المطلق الذي لم يسبق بأول ، ليس من هذا الوصف الأخص إلا واحد يثبت لأوَّلٍ وَاحِدٍ دون غيره ، وإلا أفضى الأمر إلى التسلسل الممتنع في العقل ، تسلسل المؤثِّرين في الأزل ، فلا يكون الوجود المحدَث من هذا العالم ، لا يكون إلا أن يُرَدَّ إلى واجبٍ أوَّلَ ، مِنْ غير قد امتاز أَنَّ وجوبه ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل كل سبب إليه فهو يفتقر ، وهو ما زاد في دلالة "أل" في اسمه "الأول" ، فهي تحكي أولا يُبِينُ عن جنس المدخول من وصف الأولية ، وهو مما يقبل الشركة في الخارج كما الوجود ، إذ ثم من الأولية : أولية مطلقة لا أولية تَتَقَدَّمُهَا ، بل هي الواجبة لذاتها فلا تفتقر إلى سبب من خارج ، وذلك ما رفد "أل" إذ تحكي ما زَادَ من استغراقٍ قد تَنَاوَلَ وجوه المعنى كافة ، وكذا آحادها ، فذلك ما يصدق في الذات أولا ، ويصدق بَعْدًا فِيمَا يَقُومُ بِهَا من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فَلَهُ من وصف الخلق أول لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وله منه ما عم وجوهَ المعنى فذلك خلق التقدير في الأزل بما كان من العلم المحيط الجامع ، وَثَمَّ خَلْقٌ تَالٍ يُصَدِّقُ ، خلقُ الإيجادِ من العدم ، مع تصويرٍ لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وذلك تأويل اسمه البديع ، وهو مما قُيِّدَ في نص التنزيل ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وذلك "فعيل" من "فاعل" ، فهو البديع من المبدِع ، وهو اسم الفاعل من الرباعي "أَبْدَعَ" ، وهو ، من وجه آخر ، مما يجري مجرى المثال لعام يستغرق ، فلا يقتصر الوصف ، بداهة ، على السماوات والأرض ، بل يجري الباب ، لو تدبر الناظر ، مجرى التنبيه بالأعلى على الأدنى ، كما في قوله
![]() ![]() ![]() فالوجود الذي يَصِحُّ به إطلاق لفظ الموجودِ على الخالق ، جل وعلا ، إنما يقتصر في الدلالة اللغوية على الثبوت والحصول دون الحدوثِ من عَدَمٍ ، وإن كان من وصف الباري ، جل وعلا ، ما يَصْدُقُ فيه وصف الحدوث ، لا أنه من العدم ، فَثَمَّ من وصف الفعل والحكم ما يصدق فيه أنه حادث ، لا حدوثَ نَوْعِهِ بل هو قديم أول ، وإنما يحدث منه في الخارج آحاد تصدق ، فهي لنوعه الأول تَتَأَوَّلُ ، كما تقدم من خلق أول ، فذلك ما يكون بعلم محيط يستغرق ، وهو ما قَدُمَ نوعه ، وثم من آحاده في الخارج ، كلمات تكوين تحدث ، وبها تأويل ما كان أولا من علم محيط يقدر ، فذلك علم تال ، والكلمات الكونية منه ، فيصدق فيه حُدُوثُ آحادٍ بمشيئة تُرَجِّحُ لا حدوث نوعٍ ، بل هو القديم الأول ، والمشيئة له تَتَأَوَّلُ بما يكون من وجود في الخارج يصدق ، فذلك خلق الإيجاد الذي يصدق ما كان أولا من التقدير المحكم ، فيصدق فيه أنه علم الظهور والانكشاف لما كان أولا من تقدير قَبْلَ الإيجاد ، وثم من العلم بعدا : علم الإحصاء الذي يصدق إذ يستنسخ ما كان في هذا الوجود المحدَث فلا يقع إلا تصديقا لما تقدم من علم أول يحيط وما سطر بَعْدًا في لوح التقدير . فكان من اعتياد التَّرَفِ ما أفسد تصور أولئك النفر الذين جَلَسُوا في بَيْتٍ وَتَنَاوَلُوا بَابًا من الإلهيات ، باب السمع والعلم ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فلم تطق أذهانهم البليدة التي أفسدها الترف إذ راكم من الشحوم في أبدانهم بِطْنَةً أذهبت الفطنة والفكرة ، فلم يكن منهم إلا قياس الغائب على الشاهد ، مع القدر الفارق ، أَيِّ قَدْرٍ ! ، فكما الإنسان لا يملك من السمع إلا المدارك المحدودة بأصل الخلقة فلا يسمع إن جاوزها الصوت ، فكذا الرب الخالق ، جل وعلا ! ، فليس إلا التشبيه المذموم الذي يدل على طبع أدنى قد انحط إلى مدارك الحس السفلى ، وهو ما عَمَّتْ بَلْوَاهُ في الجيل المحدَث أن صار الحس هو المرجع فَحُدَّ به العلم فما جاوزه فليس بِعِلْمٍ ، بل العلم هو التجريب والوضع حصرا فَنَشَأَ جِيلٌ من الحضارة على هذه القاعدة التي تُعَزِّزُ في النفوس الأثرة والشح طلبا لِلَذَّةِ حِسٍّ قد صارت هي منتهى السؤل مع جحود ، يصرح تارة وَيُكَنِّي أخرى ، فليس ثم بعد هذه الدار أخرى تجاوز ليعمل لأجلها العامل ويحتمل من الجهد والنصب ما به يَدَّخِرُ الأجر في دار غيب ، فلو كانت لأدركها الحس الذي صار وحده معيار العلم ! ، فلم يحسن أولئك النفر الرجوع في هذا الباب الشريف ، باب الإلهيات ، إلى مرجع يجاوز من الوحي الصحيح ، فلا يخالف عن قياس العقل الصريح الذي يَقْضِي ضرورة بِقَدْرٍ مشترك في الباب ، وهو المعنى المجرد في الذهن ، وآخر فارق في الحقيقةِ والكيفِ في الخارج ، فَلَيْسَ السمعُ كالسَّمْعِ ، وإن اشْتَرَكَا فِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، إذ ليس السامع كالسامع في الخارج ، فَثَمَّ من قيد الإضافة إلى الموصوف ما يميز الحقائق في الخارج ، فَسَمْعُ الخالقِ ، جل وعلا ، يُغَايِرُ ، بَدَاهَةً ، عن سمع المخلوق ، إذ القول في الوصف فرع عن القول في الموصوف ، كما يقول أهل الشأن ، وإنما اعتادت النفوس التَّرَفَ الذي يفسد النظر ، وَيَنْحَطُّ بِصَاحِبِهِ إلى دركة الحس فلا يحسن ينظر في المعقولات ، وإن عالجت المشهود من ظواهر الاجتماع والسياسة ..... إلخ ، فكيف بالإلهيات وهي مادة من غيب أَعْلَى يُجَاوِزُ طَوْرَ العقلِ في درك الحقائق ، وإن لم يَتَكَلَّفْ من ذلك ما يُلْجِئُ العقل ويحرج أن يؤمن بالمحال الذاتي الذي لا وجود له في الخارج يصدق ، فلا يجاوز ، كما تقدم في مواضع ، حَدَّ الفرضِ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فالغيبيات ، عامة ، والإلهيات خاصة ، مما لا يَتَنَاوَلُهُ العقل إلا الإيجاب في مواضع كَمَا رِكْزْ الفطرة الأولى التي تشهد ضرورة بخالق أول ، وصفُه العلم المحيط المستغرق لِمَا خَلَقَ ، فذلك ما جاوز الجليل من الأعيان إلى الدقيق من الأوصاف والأحوال ، فَثَمَّ ، من ذلك تأويل قد استغرق من الأسماء ثلاثة : العليم والخبير واللطيف ، فهو عليم قد استغرق علمه العاملَ وعمله ، الذواتَ وما يقوم بها من الأوصاف والأحوال ، إِنِ الاختياريَّةَ أو الاضطراريَّةَ ، إن الدينيَّةَ أو العاديَّةَ ، فذلك علم قد تَنَاوَلَ تَقْدِيرًا هو الأول ، وبه الخلق كان ، فهو علم يُؤَثِّرُ في المقادير ، وهو مرجع في الأزل قد ثَبَتَ ، وتلك الأولية التي أُطْلِقَتْ فَاسْتَغْرَقَتْ ذَاتَ الخالقِ ، جل وعلا ، وما قام بها من وصفِ الذَّاتِ والفعلِ ، الخبري الذي يجري مجرى الجائز فلا ترجيح فيه من خارج بما يكون من رِكْزِ فطرةٍ أو عَقْلٍ ، بل مرجعه إلى الوحي مطلقا ، كما المثل يضرب بأوصاف اليد والوجه ...... إلخ ، فذلك مما لا يوجبه العقل ولا يمنعه ، بل هو الجائز المحتمل ، فَوَجَبَ التَّوَقُّفُ ، إذ ليس ثَمَّ مَرْجِعٌ يُثْبِتُ أو آخر يَنْفِي ، وإن كان ثَمَّ نَفْيٌ في الباب فهو المستصحب في باب الأصل فيه التوقف ، فَلَيْسَ النفي أَنْ كان ثَمَّ دليل أخص يَنْفِي الوصف محل البحث ، وثم من الوصف آخر ، وهو محل الشاهد من العلم والخبرة واللطف ، فذلك مما اصطلح أنه من أوصاف المعاني ، فإن العقل يَتَصَوَّرُهَا ، بادي الرأي ، بل وَيُوجِبُهَا بما رُكِزَ فيه من مقدمات الاستدلال الضرورية ، فلا خَلْقَ إلا بِعِلْمٍ أَوَّلَ يَتَقَدَّمُ ، وذلك خلق التقدير ، ولا خلق إلا بِقُدْرَةٍ بها إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، ودليل الخلق الشاهد إِنْ أَجْرَامًا أو أعيانًا وما كان من سنن محكم به التدبير ، كل أولئك يشهد ، أَيْضًا ، ضَرُورَةً فِي العقل تُلْجِئُ أَنَّ ثَمَّ من العلم ما هو أخص ، حِكْمَةً تَتَنَاوَلُ المحالَّ وما يُبَاشِرُهَا من الأسبابِ ، وَمَا رُكِزَ في كلٍّ من قوى في المحل تَقْبَلُ ، وأخرى في السبب تُؤَثِّرُ ، وَخِبْرَةً تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وَلُطْفًا وَخَفَاءً في التأثير والفعل ، فَيُسْتَدَلُّ عليه بما كان من آثار في الصنعة فَهِيَ تحكي أولا من وجود الصانع إذ لا حادث بلا محدِث ، فذلك مما يخالف عن ضرورات العقل المحكم ، وتحكي بَعْدًا من حكمة في التقدير ، وخبرةٍ تَتَنَاوَلُ مَا دَقَّ ، وخفاءٍ قد تَقَدَّمَ ، خفاءِ اللطيف فلا تدركه الأبصار المخلوقة في دار التكليف ، فذلك ما يُبْطِلُ خاصة الابتلاء في باب الاعتقاد أن يؤمن المكلف بغيب لا يخالف عن قياس العقل المحكم ، وإن ابتلاه بما يحار في حقيقته وكيفه لا ما يحيله من الممتنعات الذاتية ، وإن أَدْرَكَهُ بَعْدًا في دار الجزاء ، فلا يحيط به ، وذلك ، أيضا ، قياس العقل المحكم إذ يقضي ضرورة أن المحدود من نظر المخلوق لا يحيط بغير المحدود من حقيقة الرب المعبود ، جل وعلا ، فَكُلُّ أولئك مما يدل عليه العقل ضرورةً بِمَا رُكِزَ فيه من مقدمات استدلال أولى ، وكذا ما يكون بَعْدًا من قدرة تَنْفُذُ ، وبها ، كما تقدم ، إخراج المقدور من القوة إلى الفعل ، من الغيبِ إلى الشهادة ، فكل أولئك من أوصاف المعاني التي يَزِيدُ العقل فيها دلالة إيجابٍ تُرَجِّحُ ، فليس يَتَوَقَّفُ العقلُ فِيهَا عند التجويز العقلي المحض ، فهي مَعَانٍ يُدْرِكُهَا العقل إِدْرَاكًا أَخَصَّ ، ولكنه ، مع ذلك ، لا يستقل فيها بإثبات أخص ، إذ الوحي ، أَبَدًا ، رَائِدٌ فِي التَّكْلِيفِ مَرْجِعًا يجاوز من خارج ، إِنْ فِي الأخبارِ أو في الأحكامِ ، فهو رائد العقل في باب الأمر والنهي ، مُصَدِّقًا لأول قد رُكِزَ فِي العقلِ من معيار الحسن والقبح المحكم وهو ، مع ذلك ، يُفَصِّلُ مَا أُجْمِلَ منه ، وَيُقَوِّمُ ما اعوج منه إذ فسدت الفطرة بما يكون من وسواس من خارج ، ما خَفَيِ من شيطانٍ وحديثِ نَفْسٍ وما ظهر من مَلَإٍ قد استجمع أسبابا بها يأطر الجمع على ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه وما يطرأ من المصلحة والمنفعة الخاصة ، وإن اكتست لحاء العام فهو الموضوعي المجاوز لعقول الأفراد ، فلا يَنْفَكُّ ، وهو أعلى ، يخضع لمؤثرات أدنى إذ لم يفارق وصف الأرضي المحدَث ، فَثَمَّ أسباب يمتلكها قليل وبها يأطر كثيرا على ما بِهِ طغيان الأول يَرْسَخُ ، فَيَرُومُ أَنْ يكونَ إِلَهًا يُعْبَدُ ، كما يحكي بعض النظار في جيلٍ قد تَأَخَّرَ من موت حضارة وأمة قد امتلكت الأشياء ولم تأطرها بناصح من الأفكار ، بل قد صارت ذريعة الطغيان ، فالإنسان فِيهَا قَدْ أَعْلَنَ التمرد والعصيان لِأَمْرِ الخالقِ ونهيه ، بل وَتَبَجَّحَ أَنْ خَالَفَ عن فطرة التكوين الأولى بما سلك من بُنَيَّاتٍ حَادَتْ بِهِ عن الجادة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، ولو لم يكن لهم من دين الوحي ما يَعْصِمُ ، فَثَمَّ من فطرة التكوين الأولى بَقِيَّةٌ تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ، فكان من مكرِ الملإِ أَنْ يأطر الجمع على رَأْيٍ يُوَاطِئُ طغيانه ، فقد صار الإله الحاكم إذ مات الإله الخالق وَاسْتُبْدِلَ به الإنسان الذي طَغَى فَنَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، مَنْصِبَ التشريع في إباحة وحظر ، وَتَقَصَّدَ المخالفة في الأمر والنهي أن يكون هو المرجع المجاوز في الحكم ، وإن لم يكن له من علم ما يعصم من الخطإ مع ما جُبِلَ عليه من نَقْصٍ ، وَطَلَبِ حَظٍّ ، وَطَارِئِ مَرَضٍ وهرم .... إلخ ، فكل أولئك مَئِنَّةُ اتِّهَامٍ أن يكون المرجعُ هو الهوى والذوق ، وهو ما اضطرب فلا يستقر ، وقد صار أوله منفعة أو مصلحة ، إن لفرد أو لجمع ، فَلَا تَنْضَبِطُ في الخارج إذ يَتَنَازَعُهَا أصحابها ، وهي لمن غلب ، فيكتب من الشرع ما يُرَسِّخُ غَلَبَتَهُ ، فإذا غَلَبَهُ آخر نَسَخَ شريعته بأخرى ، فالمرجع لا يستقر أَبَدًا بما يطرأ لكلٍّ من وجوه المصلحة ، معتبرة أو مهدَرَةٍ ، ودليل النسخ ليس المحكم من خارج الخصوم ، فَلَيْسَ إلا القوة التي يمتلكها الغالب فَيَقْهَرُ المغلوبَ على حكمه وَيُصَيِّرَهُ الشرعَ المحكمَ حتى يأتي آخر يَغْلِبُ ، فالشريعة لِمَنْ غَلَبَ كَمَا الدولة والسلطان ! ، وذلك ما يُؤْذِنُ بالفساد إذ ثم اضطراب في المرجع بما كان من تَنَازُعِ خُصُومٍ تَكْثُرُ ، فَلِأَيِّهم يُسَلِّمُ الجمع المغلوب ، وَإِنْ قُضِيَ الأمر باسمه في مُثُلٍ تَمْكُرُ ، فَتُفْسِحُ له أن يختار فهو الحر الممَكَّنُ ، وهو ، مع ذلك ، لَا يَخْتَارُ إلا ما اختارت له إذ تحكمت في القسمة سَبْرًا وَتَقْسِيمًا ، فآل الأمر إليها ، وَإِنْ بَاشَرَهُ الجمعُ بِيَدِهِ لا بِيَدِ عمرو ! ، فَلَيْسَ يَسْلَمُ عقلُ الفرد ولا الجمع ، إلا أن يكون ثم مرجع من أعلى يجاوز العقول كافة ، فهو الموضوعي المطلق ، كما اصطلح أرباب المنطق ، فليس الموضوعي المقيَّد من عَقْلِ جَمْعٍ يصدق فيه أنه موضوعي يجاوز عقول الأفراد ، ولكنه ليس المطلَقَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عوامل في الأرض تُؤَثِّرُ ، مكر الملإِ إذ يُوَسْوِسُ ، فلا يحسم هذا الوسواس إلا وحي من السماء قد تَنَزَّلَ ، وإلا رُدَّ كُلٌّ إِلَى عَقْلِهِ الأخص فَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ الفردِ ، أو إلى آخر قد صُنِعَ عَلَى مُكْثٍ بِمَا كان من دعاية وَتَزْيِينٍ ، فَحَصَلَ منه معيار تحسينٍ وَتَقْبِيحٍ لم يسلم من التأثير بل والتبديل والتحريف حتى يَرَى القبيحَ حَسَنًا ، والحسنَ قَبِيحًا ، كما تقدم من نظم أبي الطيب في مواضع ، فـ : يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() ![]() فذلك نكد في أمر سياسة أو حرب ، فكيف بما جاوز من أمرِ دِينٍ يَتَنَاوَلُ الكليات والجزئيات كافة ، إِنِ الخبرَ المبيِّن أو الشرع المحكَّم الذي استغرق الجليل والدقيق كافة من أحوال الاختيار ما بطن من الاعتقاد والإرادة وَجُمِلَ من أعمال الجنان ، وما ظهر فَصَدَّقَ على اللسان وبه قد شهدت الأركان في امتثال الأمر فِعْلًا والنهي تَرْكًا ، فكان من أولئك الطواغيت إذ استجمعوا من السبب ما به اغْتَرُّوا ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، بِضِدِّ دعواهم يشهد ، إذ ليس الإلهُ المستغني مَنْ يَطْلُبُ السبب الذي به يَسْتَغْنِي ، بل له من وصف الغنى ما أطلق ، فالأسباب والمحال وكل شيء في هذا الكون المحدَث فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ الافتقارَ الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، كما غِنَى الخالق الحق هو الأول فَلَيْسَ قبله شيء ، فهو ، أيضا ، مما تناولته الأولية المطلقة ، إذ استغرقت الذات المقدسة وما قام بها من أوصاف الكمال المطلق ، فكان من أولئك الطواغيت ما خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس الشاهد بِنَقْصِ جِبِلَّتِهِمْ وطريقتهم ، فكان منهم أَنْ نازعوا الإله الحاكم ، جل وعلا ، منصب التشريع ، بل وَنَازَعَ جيل آت قد عَظُمَ فُحْشُهُ في الاعتقاد والعمل ، نَازَعَ الرب الخالق ، جل وعلا ، منصب التكوين في إيجادٍ وخلقٍ على فطرة أولى رَامَ الطاغوت المحدَث إفسادها بما وَسْوَسَ ، فَخَرَجَ عَنْ كُلِّ معقول ولا زال ، فلا منتهى له في الضلال إذ قد حاد عن معدن الهداية في الفطرة والشرعة ، في الفكرة والحركة ، فذلك وحي النبوة الذي جاوز من خارج ، وَهُوَ رَائِدُ العقلِ فِي بابِ الإثباتِ والنفيِ مُصَدِّقًا لأول من معاني الكمال المطلق وهي مما أُجْمِلَ في الذهن من أوصاف المعاني ، وَمُفَصِّلًا بما كان من أدلة أخص في الباب ، كما في هذا الموضع الذي ذم النفر السمين السفيه أن أنكر من وصف الخالق ، جل وعلا ، ما دل عليه العقل ضرورة ، فهو من صفات المعاني التي يدركها العقل ، بادي الرأي ، وليس ، مع ذلك ، يستقل بالإثبات ، وإن كان منه دليل ناصح في معاني الكمال المطلق ، فالوحي ، أبدا ، أول وَثَمَّ تَالٍ له من العقلِ كما في صفات المعاني ، والفطرةِ التي تحكي من التوحيد الخبري والحكمي مادة ضرورة مجملة لا تنفك ، أيضا ، تطلب بَيَانًا من خارج يفصل ، مع معيار في التقويم إِنِ اعْوَجَّتْ وخالفت عن الجادة ، والحسِّ فهو شاهد بدليل الإتقان في الخلقة والإحكام في السنة مع العناية بالخلق كافة ، فتلك رحمة عامة قد استغرقت ، فكل أولئك دليل علم وحكمة ، ومشيئة وقدرة ، مع رحمة بالخلق بما تَنَزَّلَ من أسباب الرزق ، وهداية في الباب أعم بها تقام الحجة على الخلق ، وأخرى أخص قد امتن بها الخالق ، جل وعلا ، على قَبِيلٍ مؤمن قد استجاب لداعي النبوة إذ يُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ ، فكان من هذا النفر السمين السفيه ما جحد ضرورة في العقل من إحاطة علم وسمع ، مع أخرى أقبح إذ خالفت عن نص الوحي المنزل ، فكان من الآي ما سجل الجناية ، فـ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وحسن لأجله إيراد الكينونة الماضية فهي مئنة ديمومة في الوصف وذلك آكد في الإثبات ، مع آخر أعم يستصحب في بَابِ الزِّيَادَاتِ كَافَّةً ، فزيادة المبنى لا تنفك تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، وثم من الشهود ما أطنب في ذكره إِنْ فِي حَدِّهِ مِنْ "أَنْ" وما دخلت عليه من العامل المضارع "تَسْتَتِرُونَ" ، فهي في تأويل المصدر ، على تقدير : وما كنتم تستترون من شهادة السمع والأبصار والجلود ، وقد حذف الجار "مِنْ" على ما اطرد ، أَيْضًا ، في لسان العرب من الحذف والإيصال أن يَتَعَدَّى اللازم بواسطة تُحْذَفُ وهي في الكلام تُقَدَّرُ ، وكان من آخَرَ في الإطناب أَنِ اسْتَوْفَى مَدَارِكَ الحسِّ الظاهرِ من السمع والبصر والجلد ، مع تكرار النفي وأداته "لَا "، فذلك ، أيضا ، من زيادة المبنى التي تدل على أخرى تضاهي من المعنى ، ومن ثم كان الاستدراك الذي يجري مجرى التعليل ، فما كنتم تستترون ، وذلك خطاب الجوارح إذ تشهد ، لأنكم ظننتم الظن الفاسد : (أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُدَّ حَدَّ التوكيد بالناسخ ، وذلك ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية ، وقد سَدَّ مَسَدَّ المفعولين للعامل "ظَنَّ" ، ولا يخلو من الإطناب بالناسخ ومدخوليه إذ ناب سِيَاقُهُمْ عن مفعولين يُقَدَّرَانِ في الكلام ، فَظَنَنْتُمْ عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، مُنْتَفِيًا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تعملون ، وذلك ظن يحكي الاعتقاد الجازم ، وإن فَاسِدًا ، وهو ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية أَنْ حصلت منهم جزما يقطع ، فالظن ، كما يقول أهل الشأن ، مادة يجردها الذهن ولها في الخارج آحاد تَتَفَاوَتُ على سبيل الاشتراك ، فَثَمَّ ظن يجري مجرى الجزم ، ومنه الصحيح كما في قوله ![]() فكان من ذلك دَرْسٌ مقارن إن في رواية الأخبار الدينية أو نظيرتها التاريخية ، وهو درس يَتَنَاوَلُ النقد الخارجي لإسناد الرواية المنطوقة أو المكتوبة ، وذلك ما استوجب جَمْعَ الطرق والكتب والمقارنة بَيْنَهَا على قَاعِدَةِ نَظَرٍ يدق فهو يَتَنَاوَلُ منها الاختلافات ، وَإِنْ دَقَّتْ ، ويميز منها المخارج ، فَلَا يُسَوِّي بَيْنَ ما ظاهره تَعَدُّدُ المخارج وأصله واحد ، وما تعددت مخارجه ، فَثَمَّ من الطرق المجموعة زيادات بها يَسْتَبِينُ الخطأ ، وأخرى يستفاد منها إن في الإسناد أو في المتن كما اصطلح في علم الرواية أنه زيادة الثقة .... إلخ من معايير النقد والنظر المحكمة ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، أمر يستوجب التحرر من نَزْعَةِ التَّقْلِيدِ في تدوين التاريخ ، والتي تعتمد الرواية المجردة دون نَظْرَةٍ نَقْدِيَّةٍ اصطلح في الدرس التاريخي المعاصر أنها النقد الداخلي لمتن الخبر ، وهو محل نِقَاشٍ في الدرس الإسلامي المعاصر ، فَثَمَّ من ينظر في نشأة التدوين لدى كل فريق ، ففي الدرس الإسلامي كانت نشأة الرواية التاريخية التي غلب عليها الجمع والتدوين ، كانت هذه النشأة على قاعدة فكرية مستقرة ، فالوحي قد أعطى العقل المسلم جواب السؤالات الكونية الكبرى التي انطلق منها العقل على قاعدة محكمة من النقل ، وهو ما يُشَبِّهُهُ بَعْضُ المفكرين بشهود النبوة وشهود التصوف ، فشهود النبوة في الغار وما كان بَعْدًا في المعراج ، كان قوة روحية كبرى باشرت بها النبوة التأثير الفاعل في ضبط حركة التاريخ ، خلاف الشهود الصوفي ذي الطابع التجريدي الذي خَرَجَ من دائرة الفعل الإصلاحي بعد سلوكه مسلك الفلسفة الباطنية ذات الأصول اليونانية التي غلب عليها الطابع التجريدي ، فالوحي ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، بدايةٌ ، بدايةُ الفعل المؤثر في الخارج دعوة وفتحا ، فتلك حركة فاعلة تضبط التاريخ إذ تأطره على جادة تَنْصَحُ ، والكشف عند صاحبه نهاية سالبة للفعل والحركة ، لا جرم كان من اليقين المحدَث ما لم تَأْتِ به نُبُوُّةٌ إذ صَارَ الغاية من العبادة ! فالتكليف يسقط عندها ! ، والتكليف يَبْدَأُ عند النبوة ، فشتان ! ، فكان صراع العقل المسلم الذي أكسبه الوحي خاصة التجريب والبحث في منهج استقراء في مقابل منهج استنباط في الفلسفة اليونانية ، فَخَاصَّةُ النقد في العقل الاسْتِقْرَائِيِّ أصيلة ، وهو ، كما تقدم ، ما انطلق منه العقل المسلم في فِعْلِهِ الفكري والعلمي والسياسي من قاعدة مستقرة من الوحي الذي امتاز بخاصة العصمة ، فمنح الأمَّةَ الخاتمة هذه الخاصة ، لا عصمة الأفراد ، وإنما عصمة المجموع التي تَمَثَّلَتْ فِي الدليل الثالث من أدلة الأحكام ، دليلِ الإجماعِ ، فعصمة الأمة في إجماعها قد نابت عن عصمة النبوة في أخبارها وأحكامها ، وعصمة الأمة ، كما يقول بعض المحققين ، قد أغناها عن عصمة الأئمة ، فالإمام في الدرس الإسلامي السياسي السني : نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حفظ الوحي وسياسة الدنيا به ، ونيابته المثلى إنما تكون باختيار الأمة ، وإن لم يشترط فيه الإجماع إلا أنه الصورة السياسية للإجماع الأصولي ، فَلَهُ صورة فقهية في الأحكام ، وله صورة سياسية في السلطان ، فالإمام في الفكر السني ليس المعصوم الذي لا تجوز مخالفته ، وليس نائب المعصوم الذي ينوب عنه حتى خروجه ، وإنما الإمام في الفكر السني نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، من وجه ، ونائب عن الأمة ، من آخر ، فينوب عنها باختيارٍ ، إِنِ الإجماعَ أو الرجحان ، فلا يشترط الإجماع القطعي المقرر في الدرس الأصولي ، فخلاف الواحد أو الاثنين يضر في الإجماع الفقهي ما لا يضر في الإجماع السياسي ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ البيعة السياسية الإجماع القطعي ، وإنما تنعقد البيعة الخاصة باختيار أهل الحل والعقد ، وهي ما لا يَكْتَسِبُ الشرعية السياسية المثلى إلا أن تُتْبَعَ بالبيعة العامة ، بَيْعَةُ السقيفة وهي بَيْعَةُ أهلِ الحل والعقد من رءوس المهاجرين والأنصار وإن غاب عَنْهَا بعض السابقين من الْقَبِيلَيْنِ ثم البيعة العامة في المسجد فذلك مثال قياسي للبيعة السياسية في الفكر السياسي السني ، فانتقلت العصمة من النبوة إلى الأمة ، فإجماع الأمة معصوم كما الوحي ، وإن كان الوحي أصل الأدلة كافة ، فالكتاب المنزَّل ، كما يقول الأصوليون ، هو الذي دل على حجية السنة ، وهما جميعا قد دَلَّا على حجية الإجماع ، وهو الذي أغنى الأمة الخاتمة عن نُبُوَّةٍ بعد النبوة الخاتمة التي كانت روح الفكر والحركة الفاعلة حتى قيام الساعة ، وإن كان ثم فُتُورٌ في أجيال ، وَهُوَ مَا يُبِينُ عن عظم الجناية التي قَارَفَهَا الاستبداد في العصر المتأخر الذي سَلَبَ الأمة الخاتمة خَاصَّةَ الاجتهاد الفاعل في الفقه والسياسة والحرب والاقتصاد والتجريب والبحث وقواعد العمران والاجتماع على قاعدة محكمة من الدين والأخلاق ، فَتَعَطَّلَتْ فِيهَا القوى الفاعلة إذ قَيَّدَهَا الاستبداد الذي انْتَزَعَ منها أدوات القوة الفكرية والحركية ، المعنوية والمادية ، فلم يَعُدْ ثَمَّ منها فِعْلٌ يُبَادِرُ ، وغلب عليها التقليد والجمود وذاعت فِيهَا مذاهب الجبر والقعود التي غَلَتْ في الاحتجاج بالقدر الكوني النافذ ، وذلك الحق الذي يُرَادُ به الباطل ، فَثَمَّ آخر قد جفاه النظر الجبري القاعد وهو الاحتجاج بآخر من القدر الشرعي الحاكم الذي يَتَنَاوَلُ الأسبابَ معالجةً ومدافعةً ، فلا يستقر إيمان إلا على قاعدة تسليم بالقدر الأول ومعالجةٍ لأسباب الشرع المنزل الذي به يَتَأَوَّلُ الفاعل ما قُدِّرَ أولا فلا يخرج عن محكم سَطْرِهِ ، وإن لم تكن تلك ذريعة إلى قعوده وكسله ، فإنه لا يعلم ما قُدِّرَ لدى المبدإ لِيَحْتَجَّ به على نَقْصٍ وَفَشَلٍ ، وإيمانه ، لو الْتَزَمَ قسمته في نص الشرع المحكم ، إيمانه قد استوجب آخر قد أمر بمعالجة الأسباب المشروعة ، فلا يكون حَظُّهُ مِنَ الوحيِ المحكَمِ أَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضٍ ويكفر بآخر ، فكان من ذلك ما أوجزه بعض المتأخرين من نظار المركز في عبارة ناصحة ، وإن من خصمٍ يناجر فهو العدو العاقل ! ، أَنْ جَعَلَ الإيمان بالقدر لدى القبيل الرسالي الخاتم : سَبَبًا فِي نَهْضَةٍ أولى ، وآخر في قُعُودٍ وَكَسَلٍ لدى الجيل المتأخر ، فالسبب واحد ، وإنما اختلف تأويله لدى كُلٍّ تَصَوُّرًا وَحُكْمًا ، فَتَصَوَّرَهُ الجيلُ الأوَّلُ التَّصَوُّرَ الناصح الذي صَيَّرَ الاعتقاد قوة باعثة من الروح بها تحركت الأجساد والجوارح فَتْحًا للأرضِ وعمارة ، وحملانا للوحي إلى الناس كافة ، رسم الخيرية الخاتمة ، فـ : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، وهي خيرية التكليف وبه التشريف إِنِ امْتُثِلَ دعوةً إلى الهدى ودين الحق ، وهو ، كما تقدم في موضع ، ما استوجب شَطْرَيْ قِسْمَةٍ قد اطردت في نصوص الوحي كافة : الجمال والجلال ، جمال الكتاب إذ يَهْدِي ، وجلال السيف إذ لِوَسَاوِسِ الخصم يشفي ، فذلك ما تَصَوَّرَ الجيل المتقدم من إيمان بالقدر الأول ، في مقابل آخر قد عمت به البلوى إذ تصوره الجيل المتأخر أنه سبب في القعود والكسل وَتَرْكِ المعاجلة للأسباب ، وترك المجاهدة لِذِي الظلم والعداون ، إِنْ مِنَ المستبِدِّ الذي يحكم أو المحتل الذي يَغْزُو ، فتمام الإيمان أن يُسَلَّمَ لهم ، فَهُمْ قدر التكوين النافذ وليس ثم مؤمن ينصح وهو مع ذلك يُدَافِعُ القدر المنزل ! ، وإن بقدر آخر قد تَنَزَّلَ بشريعةٍ تَنْهَى وَتَأْمُرُ ، وتعالج من أسباب الكون ما به صلاح الحال والمآل كافة ، فالسبب واحد وشتان التأويلان في الخارج . وكان من أَسْبَابِ النَّقْصِ ، أيضا ، نَزْعَةٌ روحيَّةٌ رياضية قد سَرَتْ إلى العقل المسلم من قَبِيلِ العجم الذي احتفظ بإرث رياضي ذي مسلك باطني يَغْلُو في التجريد في مقابل مَا تَقَدَّمَ من خاصة العقل المسلم الفاعل في البحث والتجريب ، فالتجريد الروحي والنظري يَسْتَنْزِفُ طاقة العقل في بحث سالب لا أَثَرَ له في الخارج ، لا في تجديدِ فكرٍ ولا سياسة ..... إلخ ، لا جرم دعم الاستبداد المتأخِّر هذا السلوك الروحي المحدَث الذي منح السلطان شرعية مطلقة تَسْتَبِدُّ إذ تَسْتَنِدُ إلى حق إلهي قد أَمْلَاهُ القدر نَظَرًا في الباب قد أهمل عين الشرع الحاكم وما أوجبه من بذل السبب الفاعل في الاختيار والإنكار والتغيير .... إلخ ، فذلك ما اجتهد الاستبداد في حسم مادته من العقل الرسالي في الجيل المتأخر مع ما أصابه ، بادي الرأي ، من خمول وكسل ، ورغبة في التقليد لا الاجتهاد وإعمال النظر ، فَمَنَحَ ذلك القعودُ في الفكر والحركة ، مَنَحَ الذريعةَ لاستبدادٍ في الداخل ، وكان من الغزو المحتل من خارج ما دعم كُلًّا ، فَدَعَمَ المسلك الروحي الخامل ، ودعم الاستبداد الحاكم ، فتلك البلوى التي تَعَدَّدَتْ روافدُها من النفس : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ومن غَيْرٍ قد تسلط إن في داخل يَظْلِمُ وَيَقْمَعُ ، أو من خارج يدعم ويمد بالأسباب الفاعلة بما يُضْفِي من شرعية سياسة قد احتكر أدواتها في الجيل المحدث ، وأخرى أخص فهي دعم ذو طابع مادي مباشر ، فعمت البلوى بِرَوَافِدَ تكثر منها بَعْضٌ من نَفْسٍ قد استوجبت الإصلاح ، ومنها آخر من خارجها قد استوجب المجاهدة والدفع بِمَا تَيَسَّرَ من أسباب بها يتأول المدافع سنن الشرع المحكم في مجاهدة الخصم ، وذلك ما استوجب الفقه الأخص في نَظَرِ حِكْمَةٍ يضع أسباب المجاهدة في الموضع الذي يلائم ، فَلَا يَتَعَجَّلُ فِي دَوْرٍ ، وإنما يُعْطِي كُلَّ ذي حق الحقَّ ، ويحسن يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال ، بما حصل له من وصف ضعف يستوجب المداراة مع دعوة إلى السبيل بحكمة وموعظة تحسن ، فـ : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، فالجمال فيها غالب وإن لم تخل من جلال عابر يزجر الخصم أَلَّا يجاوز الحد إن آنس الضعف الذي نال من قَبِيلِ الحق في أجيال الابتلاء بالشر فتنة قَدْ عمت فَتَنَاوَلَتْ أعظمَ أجناسها : فتنة في الدين قد جاوزت في الوصف القتل ، فـ : (الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، فَيُحْسِنُ يُرَاوِحُ بين الجمال والجلال بما حصل له من أسباب تضعف في مواضع أو أخرى من قُوَّةٍ في السياسة والحرب ، فهي تستوجب الدفع بِعُدَّةٍ تُنَاجِزُ ثم الطلب بأخرى تُبَادِرُ إن كان من ذلك قوة ترهب الخصم مع جمال في دعوة الخلق إلى الحق ، فتلك الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يعبد الله ، جل وعلا ، وحده ، ولا يكون ذلك إلا بدعوة الخلق إلى الحق ، ومبدؤه حملان الوحي بِرَسْمِ الدعوة أو الفتح ، ولكلٍّ كما تقدم ، فضاء فيه يتحرك بما يواطئ معيار النظر المحكم أن يوضع كُلٌّ في الموضع الذي يواطئ ، وذلك ما استوجب الرجوع إلى الوحي ، ولو بعد خمول وكسل ، قد ضمرت به خاصة العقل الرسالي أن يجتهد في النظر على قاعدة من النقل قد استقرت ، فالوحي قد احتفظ بأصوله الناصحة وقوته الفاعلة في إحياءٍ وتجديدٍ يَتَكَرَّرُ تأويلَ الوعد المصدق في آي الوحي المنزل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فكان من ذلك قاعدة محكمة انطلق منها العقل وقد استقر له منها نقل صحيح قد أجاب عن سؤالات الخلق الأول وما يكون من المصير والغاية ، وما يحتاج الناس من شريعة الأمر والنهي المحكمة التي اتسعت مدلولاتها بما انضاف إليها من روافد الرأي والاجتهاد المعتبر الذي عَزَّزَتْهُ خاصة النقد في العقل الاستقرائي الذي تحرر من قيد الدرس اليوناني الاستنباطي ذي الطابع التجريدي ، وهو ، مع ذلك ، لم يخرج عن قاعدة النقل الصحيح الذي أغناه عن سلوك جادة البحث في سؤالات الفلسفة الأولى ، سؤالات الخلق وأصل الكون وغاية الأمر .... إلخ ، فذلك ما جعله بعض الباحثين سَبَبًا في غلبة النقل والتدوين دون بحث أخص في التحليل والتركيب طلبا لنظرية تفسر الكون ، فالقاعدة الفكرية قد استقرت ، ثم جاء التدوين التاريخي الذي اهتم بالجمع ، ولم يشترط من نقد الأخبار التاريخية ما اشترطه في الأدلة الشرعية ، فإن النقد الخارجي والداخلي قد انصرف جُلُّهُ إن لم يكن كُلُّهُ إلى الأدلة الشرعية التي عمت بها البلوى ما لم تَعُمَّ في الأخبار ، وذلك خلاف ما كانت الحال في المثال الغربي العلماني الحديث ، فإنه قد نشأ في سياق مغاير ، فكان من ذلك ، كما يقول بعض الباحثين ، الانتقال من هيمنة الكنيسة ذات الدرس الفلسفي المجرد ، الفلسفة المدرسية مثالا ، وقد أخذت من الرُّشْدِيَّةِ تقريراتها الأرسطية ، فكان من ذلك جمود غلب على العقل الغربي في العصر الوسيط ، فكان الانتقال الإصلاحي المتدرج في عصر النهضة ، والانتقال الثوري الحاد في عصر الأنوار ، وهو ما قَوَّضَ أركان النظرية الكونية والدينية لدى الكنيسة ، فاحتاج العقل الغربي إلى إجابة جديدة عن سؤالات الوجود والغاية بعد أن أخفقت الكنيسة في الإجابة إذ لم يكن من دِينِهَا إِلَّا دِينٌ مُبَدَّلٌ مُحَرَّفٌ قد نالته أيدي الكهنة بالعبث مع ما كان من طغيانهم ذي الطابع الهرمي المركزي الصارم الذي انطلق من قاعدة عصمة للبابا والإكليروس ، فَمَا عَقَدُوهُ فِي الأرض فَلَيْسَ يُحَلُّ في السماء ، وما حَلُّوهُ في الأرض فليس يعقد في السماء ، وتلك عصمة الأعيان التي احتكرت منصب النيابة عن الوحي ، كما الأئمة في الفكر السياسي الإسلامي الشيعي ، فَأُخْرِجَ المجتمع من معادلة الفكر والحركة ، بل وَأُخْرِجَ من التاريخ وصار القوة المعطلة التي تنتظر المخلَّص ، أو هي تابعة للإمام أو البابا المشرِّع ، واضمحل الإجماع الفكري والسياسي فلا حاجة له وثم معصوم يَتَصَدَّرُ المشهد ! ، فكل أولئك مما ألجأ العقل الغربي وقد أَبَى الانقياد للوحي ، إذ لم يَرَ منه إلا الصورة المبدلة المحرفة ، ولم يكن من الإنصاف لديه أن ينظر في الوحي الحاكم على الضفة المجاورة ، فَثَمَّ إرث من الأحقاد المركوزة في الوجدان الغربي من لدن الحملات الصليبية ذات الطابع الديني المتعصب ، وهو ما لم ينجح الوجدان الغربي في التخلص منه ، وهو الفرع ، وَإِنْ تَخَلَّصَ مِنْ سلطان الكنيسة وهو الأصل ! ، فانطلق في فضاء من الشك والحيرة وقد كفر بالدين القديم كله ، ولم يجد من القاعدة الفكرية الصلبة ما يصدر عنه في تصوره وحكمه ، فكان ذلك سَبَبًا رَئِيسًا في ظهور المدرسة النقدية التاريخية التي اهتمت بالتأصيل والتدوين معا ، فكان نظرتها الفلسفية في التاريخ طلبا لنظرية جديدة تفسر بها الظاهرة الكونية والإنسانية بعيدا عن الدين الذي لم تجد من مُمَثِّلِهِ في الحياة العامة ، وهو الكنيسة ، إلا كلَّ استبدادٍ وظلم ، وكان الانتقال الحاد من تجريد غال إلى تجريب غال قد جاوزت فيه المدرسة الوضعية حدود العلوم التجريبية فتناولت بالبحث التجريبي : القيم والمبادئ المستقرة ، وصارت الأخلاق وقواعد الاجتماع .... إلخ ، صارت نسبية لا موضوعية مطلقة من خارج . والشاهد أَنَّ من ظن أولئك النَّفَرِ الذي جلس في بَيْتٍ وقد كَثُرَ منه الشحم وخف منه العقل ، كان من ظَنِّهِ : ظن فاسد ، وإن اعتقدوه جزما فذلك من خذلان في الباب يَعْظُمُ ، أن يفسد التصور فَيَرَى صاحبه الباطِلَ حقا ، ويعتقده جزما ، فكان من ذلك : ظَنُّهُم الذي يقبح إذ : (ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو ما حُكِيَ ماضيا فأفاد من ذلك تسجيلا أخص لجنايةٍ تَعْظُمُ ، وهو ما حَسُنَ معه الإطناب بالناسخ المؤكد ومدخوليه : جملةً سدت ، كما تقدم ، مسد المفعولين ، وثم من التوكيد أخرى قياسية في الباب ، كما الاسمية : اسمية الجملة حكايةَ الثبوت والاستمرار ، مع إطناب في الخبر : (لَا يَعْلَمُ) ، فقد حُدَّ جملةً ، مع تكرار الفاعل إذ اسْتَتَرَ في العامل "يَعْلَمُ" الاستتار الجائز ، ومرجعه المبتدأ الأول ، اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، فهو ، من هذا الوجه ، رابط قياسي في الباب إذ افْتَقَرَ إليه الخبر الذي حُدَّ جملة فلا بد من رابط يرجع إلى المبتدإ ومنه الضمير آنف الذكر ، فَتَكَرَّرَ الفاعل : فاعل اللفظ الذي استكن في العامل "يَعْلَمُ" ، وفاعل المعنى وهو المبتدأ : اسم الله الأعظم ، جل وعلا ، وثم من المضارعة في العامل "يَعْلَمُ" ما به استحضار الصورة وهو آكد في تسجيل الجناية ، مع عموم قد استغرق وهو في الباب أقبح ، فكان منه نَفْيُ العلم عن الله ، جل وعلا ، النَّفْيَ العام المستغرق إذ تسلط النَّفْيُ على المصدر الكامن في الفعل "يَعْلَمُ" . ومن ثم كان الإطناب إشارةَ البعيدِ إلى ما تَقَدَّمَ قريبا ، فـ : (ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فكان من ذلك إشارةُ بعيدٍ إِمَّا جريا على معهودِ لِسَانٍ أول به الوحي قد تَنَزَّلَ ، أو هو ذو دلالة أخص إذ يحكي البعد تحقيرا لذلك الظن الفاسد فمنزلته من الوصف منزلة السافل ، وثم من الخبر : (ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) ، وهو ما أجراه بَعْضٌ مجرى التعدد في الأخبار حكاية الإطناب ، فكان من ذلك زيادة مبنى تحكي أخرى تضاهي من المعنى ، فكان من الأخبار : "ظَنُّكُمُ" و : "الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ" ، و : "أَرْدَاكُمْ" ، وكان من الأخير أخص يحكي المآل الذي يقبح ، وهو مما به العاقل يعتبر ، فيخالف عنه لئلا يكون من مآله ما يفجع ، وهو ما حسن معه الإطناب في خبر تال : (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، فذلك آكد من القول في غير التنزيل : فأصبحتم خاسرين ، فَزِيدَتْ "مِنْ" ، وَهِيَ تحكي بَيَانَ جِنْسٍ وابتداءَ غايةٍ ، فَكَأَنَّ وصفهم قد ابْتُدِئَ من معدن الخسران ، وذلك أقبح في الوصف ، مع استغراق قد دلت عليه "أل" ، فَثَمَّ منه المعنوي الذي استغرق وجوه الخسران كافة ، ولا يخلو الخبر ، من هذا الوجه ، أن يدل على إنشاء به الاعتبار نهيا عن انتحال هذا الظن الفاسد ، وَأَمْرًا بِضِدٍّ من اعتقاد في الله العليم ، جل وعلا ، اعْتِقَادًا يَنْصَحُ أَنَّهُ قد أحاط بكلِّ شيءٍ علما . والله أعلى وأعلم . |
#10
|
|||
|
|||
![]() وقد كان من بَلْوَى في جيل قد تأخر أَنْ نَقَضَ العقل الذي طغى بما حصل له من أسباب التجريب والبحث ، أَنْ نَقَضَ هذا العقل المحدَث ما جاء به الوحي المنزل من كلمات الصدق والعدل التي تصدر عن علم أول هو المحيط ، فاستبدلت المدرسة الوضعية مَعَايِيرَهَا النسبية المضطربة التي أجرت القواعد المحكمة مجرى السلوك أو العادة التي تَتَبَدَّلُ بما ينالها من مُؤَثِّرٍ من خارج ، استبدلت هذه المعايير المتشابهة بمعايير الوحي المحكمة في حد القواعد الأخلاقية والاجتماعية والتاريخية ، مع ما اقترحت من قانون صارم يحكي حتمية ذاتية في سنن التاريخ فلا مرجع لها يجاوز من خارج ، وهو ما يخالف عن بدائه الضرورة في العقل والفطرة والحس ، مع أول من النقل المحكم ، إذ تجعل القانون الصارم هو الأول المحدِث فلا فاعل له يتقدم ، فهي الفعل بلا فاعل ، وهي الحتم الضروري جبرا وإن جاء العلم المحدث بِضِدٍّ يشهد ، كما تقدم في موضع ، فَلَمْ يكن مِنَ الحتم ما يطرد أبدا ، بل ثم من الخطإ ، ولو يسيرا ، حكاية الربوبية التي تخلق الأضداد وتجريها على سنن محكم من التدافع .
فظهرت هذه النزعة القانونية لدى بعضٍ من نظار الوضع المحدث في منهجه التاريخي إذ رَدَّ الظواهر التاريخية ، كما يقول بعض من حقق ، إلى بَعْضِ الصيغ العامة أو القوانين الثابتة التي تتسم بالحتمية التاريخية ذات الطابع الجبري الذي يضاهي العقل الجمعي في بَحْثِ الاجتماع والتاريخ المركب في مذهب الوضع التجريبي ، وإن مَالَ في أحيان إلى إفساح المجال للحرية الإنسانية ، فمذهب الوضع الذي صار في اصطلاح المتأخرين يضاهي العلم ، وذلك الفصل الحاد الذي تحكم ، كما تقدم في أكثر من موضع ، أَنْ أَخْرَجَ الدين من العلم ، وذلك ما يُشْعِرُ أَنَّ مظاهر التدين تخالف عن القياس العقلي المصرح ، فمرجع الدين هو العاطفة والمشاعر لا أكثر ، كما حده بعض أنه إرادة واختيار لاعتقاد يحقق احتياجات الإنسان التي اخْتَزَلَتْهَا المدارس الوضعية التجريبية في الاحتياجات المادية ، وذلك ، كما يقول أهل الشأن في بحث الأخلاق ، ذلك ما ظهرت آثاره في حد الأخلاق فهي استجابة لحاجة مادية ، فردية أو اجتماعية ، فَثَمَّ عقل جامع يُؤَثِّرُ من خارج فهو الإطار الذي يحدد معيار الحسن والقبح استنادا إلى قيم مادة لا تجاوز مدارك الحس ، فَذَلِكَ العقل الجامع الذي لا يجاوز مدارك الحس ، وإن جاوز الفرد ، سواء أكان الفرد هو المشخَّص المعيَّن في الخارج ، فهو زيد أو عمرو أو بكر في نَفْسِهِ دُونَ نَظَرٍ في مِثَالٍ أَعَمَّ مما يجرِّد الذهن من جنس أعلى هو الفرد المطلق الذي يَصْدُقُ حَالَ إطلاقِه في جميعِ آحاده في الخارج : زيد وعمرو وبكر ، فهي المقيَّدات بذات أخص لَهَا في الخارج وجود يَسْتَقِلُّ ، فَثَمَّ جنس أعلى يجرده الذهن ، وهو ما لا يحصل في الخارج إلا بقيد يَتَرَاوَحُ من النوع إلى الآحاد المعيَّنَةِ في الخارج ، فَيَصْدُقُ فِيهَا الجنس الأعلى المطلق مع قَيْدٍ يميزها في الخارج ، فذلك محلُّ افْتِرَاقٍ في الذات المعيَّنَةِ في الخارج ، فالجنس المطلق : محل اشتراك بَيْنَ الأنواعِ والآحاد كافة ، كما جنس الإنسان الذي يجرده الذهن في الخارج ، والنوع من ذَكَرٍ أو أُنْثَى ، وتلك القسمة في الفطرة وقد جاء الوحي يصدقها في آي من الذكر المحكم ، فـ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) ، وذلك ، والشيء بالشيء يذكر ، من علم أول يحيط بما كان من فطرة تقدير في غيب هو المطلق إذ سبق هذا الوجود ، فالعلم أزلي أول ، فكان من ذلك أول ، وبه تقدير المخلوق قبل الوجود المصدِّق في الخارج ، فكان من ذلك سنة محكمة قد تناولت الأنواع كافة ، ما عَقَلَ من الإنسان ، وما لم يعقل من سائر أجناس الحيوان ، بل ذلك مما اطرد في أجناس من الجامد كما الجسيمات التي بها تَيَّارٌ يَسْرِي بَيْنَ قُطْبَيْنِ قد اختلفا في النَّوْعِ ، فكان منهما ، أيضا ، الزوج ، فتلك سنة تطرد في الخلق كله ، وإن الْتَمَسَ بَعْضٌ من نَوَادِرَ لا يقاس عليها ، لِيُصَيِّرَ الفاحشة أصلا في فطرة التكوين ، بل واقترح بعض من بحث التجريب ما لا يجاوز حد التَّلْفِيقِ ، أن ثم من شفرة الخلق الأولى جُمَلًا قد رُكِزَتْ فِي الوجدان فهي تشهد لهذا المسلك الفاحش ، مع تَنَاقُضٍ لدى أولئك إذ بَحْثُ الأخلاقِ والسلوكِ عندهم بحثٌ مجاوز من خارج الفرد ، فعقل الجمع وَتَنْشِئَةُ الأبوينِ .... إلخ ، كل أولئك ما يُعَيِّنُ الأخلاق بل والنوع في مُثُلٍ قد جاوزت حَدَّ الفطرةِ ، ولو في أصل الخلقة ، فليس ثم فطرة أولى هي باعث الغاية ، وذلك دليل محكم من أدلة البعث الآخر ، وهو معيار حاكم في الأخلاق إذ يمنحها الأساس المطلق الذي لا يَتَفَاوَتُ ، فلا يكون ثم نسبية تضطرب ، وهي تحكي العدمية والعبث ، وهو ما يفتح ذرائع العدمية والعبث في الفطرةِ والخلقِ الأول ، إِنْ فِي الجبلة أو في الأخلاق ، فيكون ثم اضطراب في معيار الحسن والقبح ، إذ لا يجاوز درس الأخلاق عند أولئك حد البنيوية التي تقترح من المثال ما لا يجاوز الجيل الواحد ، فَتَتَنَاوَلُ منه المثال الشاهد دون نظر في أصل أول هو المحكم ، فهي تجرد منه معيارا حاكما يجعل الواقع هو الحاكم من خارج ، فلا معيار يجاوز من الخارج مطلقا لَهُ من العموم ما يجاوز هذا الجيل فيستغرق الأجيال كافة ، معيارًا محكَمًا ذا أصول ثابتة ، مرجعها يجاوز الأرض ، فذلك مرجع من الوحي المنزل ، وهو السالم من الأغراض والأغيار التي تطرأ ، فكان من البحث المحدَث ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ما صَيَّرَ السلوك المحدث لجماعة من البشر في جِيلٍ أو حقبةٍ ، ما صيره المحكَمَ الذي يجاوز الأفراد ، فذلك عقل الجمع القاهر الذي يجبر الفرد ، فلا إرادة له تُطِيقُ التَّغْيِيرَ لِمَا اسْتَقَرَّ من العرف ، ولو فَاسِدًا يُسْتَقْبَحُ ، فهو الحاكم المهيمن إذ يجاوز الأفراد كافة ، ويصنع من المثال : المثال المجرَّد من إنسان قد صار هو المركز ، وإن جاوز الأفراد والشخوص في الخارج ، وهو ما مَنَحَهُ بَعْضَ أَهْلِيَّةٍ في النظر إذ جاوز الشخوص المقيدة ، فلا يتوجه السؤال المتداول في حجج من خالف ، فلأي عقل يخضع المجمع أَلِعَقْلِ زيد المشخَّص في الخارج على حد التعيين والتقييد أم لعقل عمرو أم لعقل بكر ..... إلخ ، فجاوز المعنى المطلق من الإنسان ، جاوزَ أولئك ، وصار من عقل الجمع ما يجاوز ، ولكنه لم يبلغ الإطلاق المجزئ في حد القاعدة والمعيار ، معيار الأخلاق أو الأحكام ..... إلخ ، فليس يجاوز الجيل أو الحقبة التي تَنَاوَلَهَا الدرس الْبُنْيَوِيُّ ، فهو ذاتي ، من هذا الوجه ، ولو كان الموضوعي المجاوز لأفراد الجيلِ أو الحقبةِ ، فليس الموضوعي المطلق الذي يجاوز الأجيال والحقب كافة ، وهو ما يستوجب الرجوع إلى أصولٍ ومراجعَ تَثْبُتُ فَلَا يَعْتَرِيهَا ما يَعْتَرِي المذاهب المحدثة من تَغَيُّرٍ بل وَتَبَدُّلٍ ينسخ ما تقدم ، لا عن معنى محكم ، وإنما عُرْفٌ أو عادة تَطْرَأُ ، وليس ثم مرجع يأطرها من خارج ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِحُسْنٍ أو قُبْحٍ ، بل قد صارت هي المرجع الذي يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وَيُحِلُّ وَيَحْظر ، مع تفاوت يجاوز ، فَلَيْسَ بَيْنَ عقل زيد وعمرو وبكر ، وإنما جاوز أفراد الجيل الواحد ، فَثَمَّ تَفَاوُتٌ بَيْنَ عقلِ الجمع لجيل أول وآخر لجيل تال وثالث لجيل ثالث ...... إلخ , وهو ما جاوز المصالح المرسلة والمنافع المحدثة ، فهي من فروع يسوغ فيها الخلاف ما لم تأت على الأصول بالإبطال ، وهو ما سلك الدرس البنيوي فإنه قد صير الجيل أو الحقبة معيارا في التصور والحكم ، ولو تناول أصول الفكرة والخلقة ، فخالف عن مسلمات الخلق والشرع كافة ، كما تقدم من معيار محدَث ، قَدْ تَنَاقَضَ في القولِ ، فهو بين عَقْلِ جمعٍ مطلق قد جاوز الأفراد ، فصار المرجع المهيمن ، ولو تَنَاوَلَ الأصولَ المستقرة في التصورات والأحكام والأخلاق ، فهو يحكي حاجة الجيل المحدَث ، إذ يصنع دينه من خارج الأفراد ، فلا فطرة أولى تَتَقَدَّمُ قَدْ رُكِزَتْ في وجدانِ كُلِّ فردٍ ، ولا مرجع من خارج الأرض يجاوز ، بل ليس إلا مرجع العقل ، إن عقل الفرد أو ما جاوز من عقل الجمع الذي لا يسلم ، كما تقدم ، من الأغيار والطوارئ ، ومنها ما يكون من مُؤَثِّرَاتٍ تلطف ، فهي في الباب تمكر بما احتكرت من أدوات بها تصنع الفكرة وتأطر الحركة ، ولو الْأَطْرَ الذي يُوَجِّهُ الأفرادَ دون أَنْ يُلْجِئَهُمْ فيكون من الإكراه ما يفضح ، فَثَمَّ نخبة وهي قليل ، تحكم الجمع وهو كثير ، فتأطره على ما يواطئ أهواءها وحظوظها ، إذ تحتكر الأدوات الفاعلة في مثل سياسة حادثة قد اسْتَلَبَتْ مِنَ الجمعِ أسبابَ المناجزة والدفع ، فلا يدفع الصائل من خارج إذا كان ثم عدو يدهم المحلة ويستبيح البيضة ، فالمثال المحدث في السياسة قد استأثر بالأسباب ليحكم بها حكم الإطلاق ، فكان من ذلك صائل أول من داخل قد مَهَّدَ لِتَالٍ من خارج ، فلم يجد الأخير وقد أضعف الأول الجمعَ الذي ابْتُلِيَ به أن يحكم ، لم يجد الصائل من خارج جمعا قويا يدافع ، فَقَدْ نَالَ منه الصائل من داخل ، فذلك السلطان في المثل المحدَثة التي صار الحكم فيها إلى مَرْكَزٍ يطغى بما حصل من أسباب بها يستغني ، ولو توهما ، فهي ، كما تقدم في مواضع عدة ، هي دليلُ ضِدٍّ من فَقْرٍ هو الذاتي المؤصَّلِ ، فتلك فطرة الجبلة الأولى وبها امتاز المرجع المنزل من الوحي من آخر قد حدث من الأرض فهو الوضع ، فالأول قد سلم من أسباب الفقر الذاتي الذي لا يعلل ، كما جبلة المخلوق المحدث ، فعقل الفرد منه لا يستغني عن مرجع من خارج يرشده إلى الحق ، فينصح له في الباب ، هدايةَ البيان والإرشاد ، وذلك ما أقر به الخصوم كافة ، وإلا بطل منصب السلطان في الأرض ، فصار ذلك لكلِّ فردٍ ، وهو ما لا يستقيم به أمر ، فطبيعة العمران الاجتماع ، كما يقول أهل الشأن ، ولا تخلو من معاملات ومخاصمات تفتقر إلى سلطان من خارج يحكم فهو يفصل في الأقضيات وينفذ بما له من أهلية في الباب إذ جاوز الأفراد ، اختيارا أو جبرا ، فذلك حكم ضرورة لدى كل ذي عقل ، وإن جاوز الحكم الجبري حد العدل ، ولو في قهر الجمع أَنِ اسْتَلَبَ حَقَّ الاختيار ، ولو عدل في آخر من الأقضيات والأحكام ، فكيف وقد عمت به البلوى في جيل محدَث فلم يكن ثم عدل في اختيار ولا قضاء ، فَحَشَفًا وَسُوءَ كَيْلَةٍ ، ولم يكن للجمع من سبب به يدفع الصائل من السلطان الجائر ، فَقَدْ سَلَبَهُ الأسباب جميعا ، فهو الحكم القاهر من خارج بما احتكر من أسباب السلطان والقوة والمال .... إلخ ، وبها توسل إلى آخر ، أن يصنع من العقل الجامع ما يواطئ حظوظه وأهواءه ، فلم يكن من عقل الجمع ما يعصم ، فَلَئِنْ جاوز عقول الأفراد من زيد وعمرو وبكر ... إلخ ، فلم يحصل له بذلك عصمة إذ لم يسلم من أسباب من خارج تؤثر بما استجمع السلطان من الأسباب في مُثُلِ السياسة المحدثة التي وضعها الواضع أَنْ يَحْكُمَ قَلِيلٌ يملك في كَثِيرٍ لا يملك ، سواء أكان ذلك بالاختيار بما يكون من مكر ليل ونهار يَلْطُفُ أو بالإكراه بما يكون من سبب قُوَّةٍ يَقْهَرُ ، فلم يكن من ذلك ما يعصم ، بل قد صار إلى ضِدٍّ فهو يحكي طغيانَ قَلِيلٍ يحكم ، وإن زَكَّاهُ جمعٌ يَكْثُرُ ، سواء أكان ذلك حقا أم باطلا ، فمن الباطل ما تقدم من اختيارٍ يأطر الجمع بما لطف من أسباب بها يصنع الرأي بما يواطئ الهوى والحظ ، هوى السلطان وحظه الذي عم فاستغرق أسباب الحكم من سياسة وحرب ، وأسباب الرفاه من مال وَعَرَضٍ ..... إلخ ، ومن الباطل آخر يأطر جبرا فلا يَتَجَمَّلُ كما الأول ، ولا يمكر بما يزين من القول فليس إلا الإكراه الملجئ الذي يصرح ولا يكني عما يستقبح إذ أَمِنَ كُلَّ عقوبةٍ فَلَمْ يَتَأَدَّبْ ، وكان من أخلاقِ طغيانٍ ما به يبطش مع قِلَّةِ دِينٍ وَوَرَعٍ فلا يحجزه قرآن ولا سلطان ، بل لو كان من رأي الجمع حق فلا يكون ثم مكر ولا قهر ! ، وهو ، ما يجري ، لو تدبر الناظر ، مجرى الفرض ، فإن سنن المدافعة بين الخلق إن لم يكن ثم مرجع من خارج يجاوز ، ذلك مما يوجب خصومة في الفكرة والحركة ، وليس ثم مرجع من خارج يجاوزها ، ولو رُدَّ الأمر إلى الجمع فاختار ، فلا ينفك يحكي ما يطرأ في الجيل الواحد من المصالح والمنافع التي اتخذتها مذاهب النفع معيار حكم مطلق ، وهو ما اقتصر على جيل أو حقبة بما كان من درس البنيوية آنف الذكر ، فهو يقتصر على المثال الموجود في الخارج دون بحث عام يجاوز ، فمحل بحثه ، كما يقول بعض من حقق ، بنية المجتمع الموجود بالفعل وتركيبه فلا يجاوز الْمُدْرَكَ بالحس ، فيجرد منه المثال الذي يقهر الأفراد ، عقل الجمع الذي عم فاستغرق الأديان والأخلاق وقواعد الاجتماع .... إلخ مع ما اقترن به من مذهب الوضع الذي تحكم ، كما تقدم ، في حد العلم أن صيره ما يُدْرَكُ بالتجريب والبحث ، فلا اعتبار بما جاوز مدارك الحس ، فخضع البحث لمعيار يقيس الظواهر ، وصار هو الأول ، بل والأوحد في حكاية العلم المعتبر ، لا تاليا له من الاعتبار ما لا يُنْكَرُ ، ولو في مُثُلِ المعنى من الاجتماع والسياسة والأخلاق إذ يرصد ما يكون من تَغَيُّرٍ في سلوك الأفراد إذا اختلف ظرف الاجتماع أو الاقتصاد ..... إلخ ، فذلك عامل من الحس لا ينكر ، ولكنه لا يكون أبدا الأول أو الأوحد في درس الإنسان ذلك الكائن المركب الذي ائتلف من جسد وروح ، لا جرم كان من أولئك مقال قد غلا في المحسوس وجفا في آخر هو المعقول ليبطل خاصة الإنسان العليا : خاصة الروح التي بُثَّتْ في الجسد فاكتسب منها وصف الحياة والحس ، فليس ذلك إلى دماغ أو أعضاء ، فهي مُظْهِرَاتٌ تكشف لا مؤسِّسات تُنْشِئُ ، فلها من التأويل وصف يثبت ، إذ تتأول ما يقوم بالوجدان الألطف : العقلِ الذي استقر في الجنان ، وهو حكاية روح لا تقاس بالحس ، فكان من اجتهاد مذهب الوضع أن يعزلها من مسمى العلم الذي اقتصر على المحسوس الذي يقاس في بحث وتجريب يرصد بأدوات تُسَجِّلُ وَتَقِيسُ ، فَتُسَوِّي الإنسان بما دونه من أَنْوَاعٍ لا عقل لها يكمل ، ولا تكليف لها يَتَوَجَّهُ ، فذلك ما امتاز به الإنسان المكرم أن يؤمن بغيب يجاوز مدارك الحس ، وأن يكون من ذلك معيار حقيقة تصدق لا خرافة تبطل ، كما رام مذهب الوضع المحدَث ، إذ ثم قسمة ثلاثية قد اشتهرت في بحثه ، فالدين أول ، وليس إلا حكاية طفولة ساذجة لبشر لا عقل لهم قد اكتمل ، فكان من درس التطور ، أيضا ، ما عضد ، إذ كان الإنسان لدى المبدإ ، إن حسا أو معنى ، كان على هيئة نقص ، بل كان بسيطا في كائن أول لا عقل له ولا مرجع ، فليس إلا حياة بسيطة في المبدإ وهو ما لا يخلو من تعقيد أبان عنه البحث بعد ذلك ، فلم تكن وحدة الخلق ، وهي الخلية ، لم تكن ذلك الخلق البسيط الساذج ولم يكن سلوكها السلوك البسيط غير المعقد ، بل هي مِمَّا دَقَّ في الخلق وَتَعَقَّدَ ، ولها من السلوك في وظائف الحياة ما تَرَاكَبَ ، ولا زال في البحث بقية وإن كان في المكتَشف غنية في هذا الباب إذ يُبْطِلُ ما ذهب إليه أولئك من دعوى البسيط الذي تراكب وتطور ، وإنما زعم أولئك التبسيط بما بلغ علمهم لدن خرج هذا الْفَرْضُ من رأس صاحبه ، فلم يكن ثم من آلة البحث ما يبين عن تَعَقُّدٍ وَتَرَكُّبٍ لا يكون ، بداهة ، بخبط وعشواء يجرِّب ، وإنما صار الجهل دليلا ، فمن لم يعلم إذ لم ينظر فلم يكن في جيله من آلة البحث ما يكشف ، من تلك حاله فهو حجة على من علم من دقائق الخلق ما تَعَقَّدَ وَتَرَاكَبَ ! ، فدعوى مستندها الجهل أو العجز عن درك الخلق الدقيق المعقد ، فقد كان البحث في ذلك الجيل لا يجاوز حد الخلية ، وحدة الحياة الأولى ، فَجَازَفَ مقال التطور ، ولم يكن له علم بما دون الخلية من عُضَيَّاتٍ أدق وفيها ما لَطُفَ في التركيب ، وإن كانت وحدات البناء الصغرى واحدة من عناصر بسيطة وحروف وراثة استوت فيها الأنواع ، فمعجم الحروف واحد ، وليس يلزم من ذلك ، بداهة ، أَنَّ جُمَلَ الوراثة واحدة فهي على أنحاء لا تحصى بما يكون من تَغَايُرٍ في الترتيب ، فثم اشتراك في الحروف المفردة ، كما الكلام المتداول بين البشر ، فحروفه واحدة ، والاختلاف ، ولو في حرف واحد ، قد يُفْضِي إلى تغير المعنى بل وصيرورته إلى ضد ، وكذا التَّرْتِيبُ ، ولو كانت الحروف واحدة كما صَنَعَ صاحب "العين" في استقراء ما اسْتُعْمِلَ من مادة وما أُهْمِلَ فَغَايَرَ في التَّرْتِيبِ وإن كانت الحروف واحدة ، فكيف باختلافٍ يجاوز الكلمات إلى الجمل بما يكون من تَغَايُرٍ في الكلمات بالتقديم والتأخير ، ولو كانت واحدة في المبنى ، فإن مدلولَها حَالَ التركيب يخالف عن آخر حال الانفراد ، إذ المعنى المجرد في المعجم : مُطْلَقٌ يحكي المعنى الكلي ، فهو جنس في التعريف أعم لا يَنْفَكُّ يطلب من الْفَصْلِ ما هو أخص بما يَرِدُ من قيدٍ يُخْرِجُ ما سِوَى المعرَّف ، فيكون القيد بالوصف أو الإضافة أو العهد الخاص بما دل عليه السياق وبساط الحال وكذا التَّرْكِيبُ بما يواطئ نَحْوَ اللسان الذي يَتَكَلَّمُ به فهو يَتَفَاوَتُ من قبيلٍ إلى آخر ، إِنِ اختلافَ اللغات الأعم ، أو ما دونه من اختلافٍ في لهجات أخص ، فيكون من العرف ما يجري مجرى العهد لَدَى قَبِيلٍ دون آخر ، وإن كان ثم لسان جامع ، فَثَمَّ من العرف ما يُحَسِّنُ مَبْنًى في لهجة ، وَيُقَبِّحَهُ في أخرى ، وإن كان المبنى واحدا في النطق والكتب ، وهو ما استوجب البحث في أصل الكلمة وتاريخ المعجم أَنْ يَتَتَبَّعَ الناظر ما طَرَأَ على المادة من تَغْيِيرٍ أو تَقْيِيدٍ بما جَدَّ من العرف مما لم يكن قبلا ، فَلَا يُفَسَّرُ الماضي ، بداهة ، بما جَدَّ من المعنى ، فَلَيْسَ الجديد المستحدَث بعد استقرار العرف ، ليس بِحَكَمٍ على الأصل الأول من كِتَابٍ أو مرجع ، وإنما يفسر الكلام باصطلاح جيله الذي به نَطَقَ ، فلا يُتَأَوَّلُ بما حَدَثَ من الدلالات أو استحدث في معجم اصطلاح أخص كَمَا العلوم التي دُوِّنَتْ بَعْدًا وإن كان أصل مادتها قديما فإن من الاصطلاح ما تناول أولا قد استقر فَزَادَهُ من القيد ما صَيَّرَهُ حقيقة في العرف ، عُرْفِ العلم الأخص الذي دُوِّنَ منه ما تَقَدَّمَ ، أو كُشِفَ عَنْ بعض لم يكن يظهر ، كما في علوم التجريب ، فلم يكن منها إيجاد من عدم ، وليس الكشف عن السَّنَنِ والقوانين مُنْشِئَ الإتقان ، بل الإتقان حاصل قَبْلَ ذلك كما في ظواهر الخلق المحكم ، فإنها مِمَّا وُجِدَ أَوَّلًا ، وإن لم يكشف عنها البحث ، فَقَدْ أَبَانَ بَعْدًا عنها فلم يكن كشفه المؤسِّس ، وإنما كان منه المبيِّن . والشاهد أن الكلام إنما يُفَسَّرُ باصطلاح جيله الذي به نَطَقَ ، فلا يُتَأَوَّلُ بما حَدَثَ من الدلالات فهي تأتي على الأصل بالإبطال ، وشرط الاجتهاد في حكم أو تفسير أَلَّا يَأْتِيَ وهو الفرع ، ألا يأتي على أصله بالإبطال ، كما تَذَرَّعَ البحث الحداثي المتأخِّر في نَقْدِ الكتاب الأول الذي لم يسلم من التبديل والتحريف ، فكان من نَقْدِ التاريخ وَنَقْدِ الدلالة ما وجد الذريعة والمسوِّغ إذ كان من مواضع التبديل والتحريف ما تذرع به المخالف أن يَتَنَاوَلَ الألفاظ على قاعدة التأويل الباطن ، فهو يفتح النص وَيُخْضِعُهُ للعقل ، إن الفرديَّ أو الجمعيَّ المجاوز ، وكلاهما المحدَث ، وإن كان للثاني من الحجة ما هو أقوى بما يَقْتَرِحُ من المثل العليا المجاوزة للعقل الفردي ، فلا يسلم ، أيضا ، من أغيارٍ تَتَعَاقَبُ وأعراضٍ تَتَفَاوَتُ بِمَا يَتَأَطَّرُ منه ، فَالْعَقْلُ الجمعي لا يَسْلَمُ من التأثير ، ولو الخفيَّ الماكر ، الذي يصنع الفكرة على مُكْثٍ ، فَثَمَّ اضطراب في المرجع إِنْ رُدَّ إلى العقل فصار هو الحاكم المطلق في تَنَاوُلِ النَّصِّ ، إِنْ فِي تَنْزِيلِهِ أو فِي تَأْوِيلِهِ ، وإن كان من معيار الإثبات لصحة النص ما يَتَنَاوَلُهُ العقل على قاعدةِ التَّحَقُّقِ ، فذلك معيار عام قد تَنَاوَلَ الإستاد والمتن كافة ، ولكنه لا ينفك يضطرب إن كان هو الأصل في إِثْبَاتِ الخبر أو نَفْيِهِ ، فكان من العقل المحدَث ما أعاد حَدَّ العلمِ ، فَقَصَرَهُ على الْمُدْرَكِ بالحسِّ وحده ، فذلك المنهاج الوضعي في علم البحث والتجريب فَلَا يُقِرُّ إلا بِنَتَائِجِ البحثِ اسْتِنَادًا إلى استقراءٍ يَتَنَاوَلُ الظاهرة في الخارج ، فيكون من المنهج الوضعي معيار حاكم يجاوز ، فهو مِعْيَارٌ يَتَنَاوَلُ العلوم كافة ، إن الطبيعيَّةَ أو الإنسانيَّةَ كما الظاهرة الاجتماعية مثالا يذكره بعض من حقق في حكاية الدرس الاجتماعي المحدَث الذي دَرَسَ قواعد الاجتماع والعمران كما التجريب في الطبيعيات ، وإن كان من الظاهرة الاجتماعية ما تَرَاكَبَ إذ تَتَنَاوَلُ الإنسان ، وهو المجموع المركب من روح وجسد وله من الأفعال ما يجاوز في الحد فعل المادة التي لا علم لها ولا قصد ، فَثَمَّ من دوافع الإنسان ما يجاوز غَرِيزَةِ الحس ، إذ ثم من العقل أول فهو باعث الفكرة ، فما الدماغ المدرك بالحس وما يكون من إفراز ونبض ، وما يكون من استجابة في الخارج بالحركة أو السكون ... إلخ ، فما كل أولئك إلا حكاية لما كان أولا من علم وإرادة ، ومحله العقل الذي استكن في الجنان ، وهو ما لَطُفَ فَجَاوَزَ القلب المدرَك بالحس ، فالظاهرة الاجتماعية مما تَرَاكَبَ فلا يَتَنَاوَلُهَا درس المعمل بالتجريب والبحث كما الطبيعيات التي تُقَاسُ الحس ، فَهُوَ يُشْبِهُ ، مِنْ وَجْهٍ ، مَا تَقَدَّمَ من سذاجة في الطرح ، طَرْحِ التَّطَوُّرِ الذي يَفْرِضُ بَسِيطًا هو الأول قد تَرَاكَبَ فَصَارَ منه هذا الخلق المتقن المحكم ، فذلك الأول البسيط بما أدرك الباحث في جيله إذ لم يكن له من آلة النظر ما دَقَّ ، فَصَيَّرَ جهله ، كما تقدم ، دليلا على علم أول في تقدير محكم به كان هذا الخلق المعجِزُ الذي لا يطيق الجاحد له مِثْلًا ، فَثَمَّ الإعجاز المركب في عُضَيَّاتٍ دون الوحدة الأولى فهي أجزاء الخلية ، وثم آخر وهو جُمَلُ وراثةٍ تَأْتَلِفُ من حروف وكلمات معجمُها واحد ، وإن كان من كلماتها أجناس تَكْثُرُ ، كما معجم الكلام إذ حروف المبنى المقطعة تَتَرَاكَبُ بما يكون من نَظَرِ احتمالٍ يَتَعَدَّدُ ، فَمِنْهَا المستعمل ومنها المهمل ، وثم من المستعمل أجناس دلالية مطلقة تحتها أنواع وآحاد تَتَعَدَّدُ بِمَا يكون من قَيْدٍ يَتَفَاوَتُ فمنه الوصف الذي يُقَيِّدُ الموصوفَ ، ومنه الإضافة التي تُقَيِّدُ المضافَ ، ومنه العهد الأخص بما تقدم من عرف النطق المتداول ، وكذا ما يكون من معيار النحو الذي يَتَنَاوَلُ التَّرَاكِيبَ ، فَثَمَّ عهد آخر أخص بما يكون من تقديم وتأخير ، وما يكون من إيصال بِرَوَابِطَ هي حروف المعنى من عطف أو جَرٍّ .... إلخ ، فلها دلالة في المعنى بها الجمل تَأْتَلِفُ ، ولبعض آخرُ يجاوز في العملِ نَصْبًا أو جَزْمًا أو جَرًّا ، ومنها المختص بالاسم أو بالفعل ، وهو مظنة العمل بِتَغْيِيرٍ يَتَنَاوَلُ آخرَ الكلمات لفظا أو تقديرا ، وهو الإعراب الذي يُبِينُ عن معنى أول هو مدلول النحو ، فذلك أول ما يفيد من الكلام من تَرْكِيبٍ مخصوصٍ عليه يحسن السكوت ، فَكَذَا جُمَلُ الوراثةِ في الخلق الدقيق المعجِز ، فذلك ما يجاوز المثال البسيط الساذج الذي رَدَّ هذا المعقد المركب إلى مراحل تطور من بسيط ، مع آخر يخالف عن العقل الصريح ، أَنِ اسْتُؤْنِفَ الخلقُ لا عن إرادة وقصد ، وإنما العشواء والخبط ، فَنَفَى العلم الأول ، عِلْمَ التَّقْدِيرِ قَبْلَ فِعْلٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، واضرب له المثل ، أيضا ، في الكلام ، أن يقول قائل : إن الكلام هو لفظ يُنْطَقُ دون معنى أول يَتَقَدَّمُ في النفس ، فيكون الكلام الذي يحكي مدلولا أخص فهو يفيد معنى بِعَيْنِهِ إن في مفرداته أو في جمله ، وَلَهُ مِنَ المثلِ المصدِّقة في الخارج كثيرٌ لا يُحْصَى ، وإن كانت المادة واحدة ، إِنْ مَادَّةَ الحروفِ المقطعة أصواتا هي المجردة وهي أول ما يَتَنَاوَلُهُ درسُ الكلامِ ، فَثَمَّ الدلالة الصوتية المقطَّعة لحروفٍ بها المعجم يَأْتَلِفُ ، فإن قِيلَ فِي باب الخلق إن له ، أيضا ، معجما من عناصر بسيطة بها يأتلف في الحد المدوَّن ، فهي كالحروف المقطعة التي لا تفيد بنفسها معنى فكذا عناصر أولى إليها تُرَدُّ تراكيب الأشياء ، فهي لا تفيد إلا في مركبات تأتلف من عناصر ، فالعناصر كالحروف المقطعة ، والمركبات كالكلمات المفردة التي تُضَمَّنُ جملا من تفاعلات بها تدبير الكون يحدث ، والعناصر المفردة هي مَا يَتَنَاوَلُهُ درس الكيمياء في جدول يجردها ، كما درس الصوت في الكلام فهو يَتَنَاوَلُ الحروف المقطعة ، أصواتا هي المفردة ، فإن قيل ذلك في باب الخلق ، فهو صحيح ، فأصل الخلق واحد بالنظر في هذه العناصر البسيطة ومنها تأتلف الجمل المركبة من نَحْوٍ يَنْظِمُهَا أولا في محتوى وراثة به امتياز الأنواع في الخارج ، فلا يصدق ، من هذا الوجه ، أن أصل الأنواع واحد ، بل ثم من جمل الوراثة ما تناول العناصر البسيطة فنظمها مبدأ الأمر في كلمات تضاهي الأجناس الدلالية المطلقة في معجم اللسان المنطوق ، ثم نظمها بَعْدًا في جُمَلٍ هي مناط الامتياز ، امتياز الأنواع ، فليست من أصل واحد بالنظر في وحدة بسيطة أولى هي الخلية أو ما دونها من مادة وراثة تَأْوِيلُهَا يختلف ، وإن في النوع الواحد ، فَيُتَرْجِمُ مِنْهَا ترجمةً أخص لخلايا وأنسجة وأعضاء ...... إلخ ، وتلك دلالة الاختصاص ، فهي ، كما يقول أهل الشأن ، لا تكون إلا عن إرادة وقصد ، ولازمه علم تقدير أول قبل حصول الفعل الذي يصدق مع آخر في تَأْوِيلِ الجملِ الوراثية أنواعا تختلف ، فلكلٍّ من الأصل الوراثي ما يميز وإن كان ثم تشابه في مواضع ، فإن من النَّظْمِ وَقَانُونِ التَّرْكِيبِ في كلِّ نَوْعٍ ما يميز ماهيته من آخر ، كما جمل النطق تمتاز من بَعْضٍ في الدلالة وإن كانت جميعا مما يُلْفَظُ وَيُكْتَبُ بِمُعْجَمِ حروف واحد وذلك ، أيضا ، مما يَنْفِي العشواء والخبط إذ يَتَكَلَّفُ الجاحد المنكِر مِنْ ذلك ما لَا يُتَصَوَّرُ ، أن يكون هذا الإتقان والإحكام بلا علم أول يقدر ، فخبط بلا قصد ، فكان هذا الإعجاز والإتقان في الخلق ، وهو ما يَلْزَمُ الخصم ، أيضا ، في الكلام ، إذ خَبَطَ بِلَا قَصْدٍ ، فأخرج من الأصوات حروفا ولم يكن ثم معنى أول في النفس هو مناط الفائدة ، فالصوت له يُتَرْجِمُ وَيُظْهِرُ ، إذ يخرجه من القوة إلى الفعل ، فيكون من ذلك حد الكلام المجزئ كما اصطلح النحاة ، فهو المجموع المركب من قوة أولى في الوجدان قد رُكِزَتْ ، فَيَصْدُقُ في المحلِّ أنه المتكلم ، وإن لم ينطق ، فهو المتكلم بالقوة إذ رُكِزَتْ فِيهِ القوة بالنظر في أصلِ الجبلة ، وإن اعْتَرَاهُ بعد ذلك ما يمنع من علة أو عجز ...... إلخ ، فالنظر المجرد في المحل الناطق يثبت له من ذلك الوصفَ ، ولو القوَّةَ المجملة ، فلا تنفك تطلب التأويل وهو ما يكون من تَرْجَمَةِ اللسان بالفعل ، فِعْلِ النطق إذا اسْتُوفِيَ الشرطُ وَانْتَفَى المانع ، فحصل من ذلك شطر ثان به اكتمال الحد المجزئ لدى النحاة : القوة والفعل ، أو : المعنى واللفظ ، فالمعنى أول يحصل في النفس ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن إرادة وقصد باعثه علم أول يتقدم ، فذلك المعنى الذي قَامَ بالنفس ، فالمتكلم عنه يبين بما كان من صوت ينطق على معيار مخصوص من المعجم الذي يحكي الأجناس الدلالية المطلقة ، وهي محل اشتراك ، من وجه ، إذ ثم من القيد آنف الذكر : الوصف أو الإضافة أو العهد الأخص بالنظر في بساط حال أو آخر من عُرْفِ المقالِ الذي يصدر عن معيارِ نحو أول ، وما تَلَا مِنْ بَيَانٍ أخص ، فذلك تال في الاستدلال بعد أول من النظم ، نَظْمِ النحو على قانون اللسان المتداول ، فذلك أدنى ما يصدق فيه حد الكلام في اصطلاح النحاة أنه : اللفظ والمعنى ، أو المعنى واللفظ بالنظر في حصول كُلٍّ في الخارج ، فالمعنى أول يَتَقَدَّمُ في النفس ، وهو ، لو تدبر الناظر ، الغاية والقصد ، فما الكلام المنطوق إلا مُظْهِرٌ له وكاشف ، وإن شاطرَه حَدَّ الكلام المجزئ : المعنى واللفظ ، مع آخر من قوة مجملة في النفس بالنظر في أصل الجبلة ، وَفِعْلٍ يَتَأَوَّلُ هذه القوة فَيُخْرِجُهَا من السكوت إلى النطق ، وذلك ما لا يكون عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ ، فهو يضع الحروف في نَظْمٍ واحد إِنْ كلماتٍ أو جملًا ..... إلخ ، وَيَتَصَرَّفُ بتقديم وتأخير ..... إلخ من معيار أخص في الدلالة يجاوز أولا من المعجم والنحو مع زيادات في الاشتقاق ذات مدلول أخص ....... إلخ ، ، فيكون كلُّ أولئك بِلَا عِلْمٍ أَوَّلَ يَتَقَدَّمُ ، فلا إرادة ولا قصد ، والحادث في الخارج كلامٌ يُفْهَمُ ، بل وله من الفصاحة والبيان ما يحسن ! ، وذلك ، بداهة ، ما يأطر الكلام على جادة محكمة في الدلالة تَنْفِي العبث في التأويل الذي تَصَرَّفَ في أصول الدلالات حتى خالف عن الضروري المستقر في وجدان المتكلم وما ثبت أولا في معجم الكلمات المطلق ومعدنه أول من نَظْمٍ وَنَثْرٍ قد تناوله النحاة والبيانيون بالاستقراء لِمُثُلٍ في الخارج من كلامٍ يُتَدَاوَلُ هو في الباب الدليلُ ، مع آخر أدق من التجريد ، تجريد الأجناس الدلالية المطلقة في المعجم ، وتجريد قواعد النحو والبيان بما اسْتَنْبَطَ الناظر في المثل المتداولة ، فهي أصل أول وهي في الاستدلال مرجع محكم وبه يُفَسَّرُ النص ، فَلَا يُفَسَّرُ ، كما تقدم ، باصطلاح حادث ، كما كان من درسِ الْبُنْيَوِيَّةِ المتأخِّر إذ يجرِّد لكلِّ جيلٍ من معيار الدلالة ما يخص ، فلا معيار أعم يَقْضِي في تأويلات الأجيال المتعاقبة مع ما يحدث لكلٍّ من عُرْفٍ أخص قد يخالف عن الأصل بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ ، بل قد يأتي على ضِدٍّ ، فيكون اللفظ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، حَسَنًا في جيل ، قَبِيحًا في آخر ، ويكون لكلٍّ من المعجم والنحو والبيان ما يميزه من آخر ، وإن كان اللسان واحدا ، فَيُضَاهِي ، من وجه ، ما اقترح بَعْضٌ من تَقْدِيمِ اللهجات أن يتناولها الدرس فيجتهد في وضع معجم ونحو واصطلاح في الكتابة ..... إلخ ، فذلك ما يَبُتُّ الصلة باللغة الأم ، ولو بعد أجيال تَتَعَاقَبُ ، فاللهجات تصير أَلْسُنًا تَتَمَايَزُ ، فَتَرْقَى من نوع أخص إلى جنس أعم ، وهي لِلِسَانِ النطق الأم تَنْسَخُ ، لسان اللاتين مثالا يذكره بعض من حَقَّقَ ، فقد كان من لهجاته المتأخرة ما انْشَعَبَ ثُمَّ لم تلبث الأيام حتى صارت هذه اللهجات ألسنا قَدِ امْتَازَتْ وصار لكلٍّ من قانون المعجم والنحو والبيان ما يميز ، وإن كان ثَمَّ شَبَهٌ في مواضع تَكْثُرُ مَرَدُّهَا جميعا إلى أصل أول يَجْمَعُ ، وهو ، مع ذلك ، ما اندثر فلم يَعُدِ المتداول ، وكذا مآل كل لسان قَدَّمَ أهله اللهجات الأخص على اللغة الأعم ، فَيَضِيعُ الأصل وما كُتِبَ به فقد صار المستغلِق الذي لا يفقه مدلوله إلا آحاد لهم عناية بما اندثر من اللسان ، فَقَدْ صار تاريخا يُؤْثَرُ فلا يحسنه إلا من دَرَسَ وبحث ، كما ألسن قد ماتت ، فهي محفوظة في المتاحف ، ولا أحد يفقه ما حُفِظَ من مخطوطها أو أَثَرِهَا الشاخص ، فلم يعد منه ما يَنْطِقُ به الجمع طلقا بلا تكلف ، ويقرأ به ما قَدُمَ من الديوان والأثر ، فتكون قطيعة رحم في الفكرة والشرعة ، فَثَمَّ في لسان العرب من ذلك قطيعة أخص إذ لسانه لسان دين وتعبد ، فليس لسان تعامل في بَيْعٍ وشراءٍ أو تَعَلُّمٍ في درس طب أو زراعة ، بل له ما زاد إذ به وردت أخبار وأحكام هي فحوى الديانة ، فإذا نسخ بلهجات أخص ، كما لهجات الجيل المتأخر ، لم يحسن صاحب اللهجة أن يَفْقَهَ أدلة الشرعة ، ولم يحسن يَفْقَهُ ما ينطق من تلاوة آي أو ذكر ، فيحاكي الصوت بلا معنى ، فيكون من نطقه لفظ بلا مدلول ، فَهُوَ كَبَبَّغَاءَ تُقَلِّدُ مع ما يكون من تَشَوُّهٍ في الصوت إذ لا عهد له بقانونه في الوصل والفصل ، كما يذكر بعض من حقق إذ سَمِعَ من ذِكْرٍ مكتوب بِلِسَانِ الوحي ما لا يصدق فيه حَدُّ العربية ، فهو مكتوب عربي ، وهو ملفوظ أعجمي إذ من ينطق ليس من أهل اللسان ، وإنما رام المحاكاة تَعَبُّدًا بلفظ عربي يشرف ، ولم يحسن مع ذلك ينطق فلا يعلم مواضع الفصل والسكوت ، وبها الكلمات والجمل تمتاز ، فهو يقف في موضع وصل ، أو هو يصنع عكسا ، فلئن حُمِدَ له أن رَامَ الدعاء بالعربية إلا أن حظه من التلاوة والذكر لا يجاوز الأماني في النطق ، وهو ما تُفْضِي إليه دعاية اللهجات آنفة الذكر ، إذ يَنْشَأُ المتأخِّر وقد درس لسان المتقدم ، بل من ذلك ما يفصم العرى في جيل واحد ، فيكون لكلٍّ من لهجة النطق ما اقتصر على مِصْرِهِ أو بَلَدِهِ ، فلا يحسن لهجة آخر يجاور ، وإن كان لسانهما في الأصل واحدا ، فإذا تَقَادَمَ العهد ، صارت اللهجات الأخص لُغَاتٍ ذات معاجم وقواعد في النحو والبيان ...... إلخ ، فَبَطَلَ اللسان الأول ، وهو الجامع لأولئك ، وهو ما يفسد الدين والدنيا ، فلا يكون ثم معيار واحد في تَنَاوُلِ الكتاب المنزل ، وهو مرجع التصور والحكم ، فاحتال من احتال أن مَازَ الدين روحا وفكرة من آخر هو معيار الحكم والشرعة ، فالأول واحد ، وإن المثالَ المجرَّد في الذهن فلا أثر له في الخارج يأطر على جادة قانون يحكم ، فليس القانون إلا القيد التاريخي القديم ، فَلَئِنْ صَحَّ في التأويل فهو يواطئ الجيل الأول ، فلكلِّ جيل من الشريعة ما يواطئ حاله ، إن في الفكر أو في النطق ، فذلك قانون عام يَطَّرِدُ ، وهو معيار ذاتي ، وإن كان المؤثِّر فِيهِ من خارج بما يَجِدُّ من مصالح ومنافع ...... إلخ ، فَثَمَّ معيار ذاتي لا يجاوز الفرد في المثال الخاص ، أو الجمع في المثال العام ، فلا ينفك يضطرب بما جبلت عليه العقول مِنْ جَهْلٍ هو المبدأ ، وإن كان ثم تَعَلُّمٌ فهو دليل النقص الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فليس له من العلم أول يحيط فيكون من تقديره ما يستغرق ، وعنه تأويل في الخارج يصدر ، إن في التكوين أو في التشريع ، فَلَهُ من ذلك إحكامٌ وإتقان هو المطلق ، فلا اضطراب في المرجع ، كما العقل المحدَث ، فَثَمَّ نسبية يضطرب معيارها ، لا في تقدير المصالح والمنافع فذلك مما اعْتُبِرَ في كتاب الشريعة المنزَّل وإن كان من أصول الاستدلال ما يأطر سدا لذريعةِ نِسْبِيَّةٍ في التقدير ، فإن المصالح مما يتفاوت ، إن الخاصة أو العامة ، فلا عقل الفرد ولا آخر من عقل الجمع يأطرها على جادة العدل بما جُبِلَ عليه كلٌّ من جهل وفقر ، فذلك ، كما تقدم ، الذاتي الذي لا يعلل ، وهو ذريعة تأويلٍ يلطف إذ يجتهد في اعتبار المصالح الذاتية ، الفردية والجمعية ، ويكسوها من لحاء الأخلاق ما يحسن ، وإن كانت ظاهرة القبح بما يكون من عدوان وظلم ، فذلك المعنى القطعي قد صار نسبيا يَضطَّرِبُ ، فلم يعد الحق قيمة مطلقة في نفسه ، وإنما هو نِسْبِيٌّ في مذاهب نَفْعِيَّةٍ تُصَرِّحُ فَلَا تُكَنٍّي ! ، فالحق ، كما ينقل بعضُ من حقق ، سلاح ذو حد يُؤَثِّرُ فإذا قَدُمَ وعلاه الصدأ وجب استبدال آخر به ، ولو نسخ ما استقر في الوجدان ضرورة من معيار الحسن والقبح إذ لم يعد ثم له مطلق في الحد ، وإنما هو نسبي يتفاوت بما يجد من المنافع ، فليس ثم فطرة حسن وقبح نستقر ، بل النفس ، في هذه الحال ، كصفحة لم يُخَطَّ فيها سطر ، فالخارج هو ما يَسْطُرُ إذ في النفس يُؤَثِّرُ التأثير المحسوس المباشر ، فليس ثم ما يجاوزه من مرجع غيب من نبوة أو وحي ، فليس يثبت من المعيار إلا المحسوس ، فلا فطرة أولى قد ركزت ، ولو في أصل الجبلة ، من ذكر أو أُنْثَى ، مع دعوى تَتَنَاقَضُ في الحد ، إذ لها من الجبر حظ فهي مما يأرز إلى مقال تطور يجحد الخلق الأول ، ولها من الاختيار المطلق أو ما يصدق فيه ، من وجه ، أنه مقال القدر ! ، لها من ذلك آخر ، فهي تزعم الحرية المطلقة في الاختيار دون مرجع من خارج يأطر إلا مرجع المصلحة أو المنفعة التي تدرك بالحس ، سواء أكان الباعث فردا أو جماعة ، فاستنبط من الأول عقل فرد ، ومن الثاني عقل جمع ، وكلاهما ، لو تدبر الناظر ، لا يجاوز مدارك الحس ، ولا يسلم من الهوى والحظ ، إن عقل الفرد الأخص أو عقل الجمع الأعم الذي يُقَدِّرُ من المصلحة ما لا يأرز إلى مرجع من خارج يجاوز قد سلم من أهواء الفرد والجمع وما يعتري كُلًّا من نقص ، فيكون من ذلك معيار نِسْبِيٌّ يضطرب وإن في مواضع إطلاق في الدلالة قد أجمع عليها العقلاء كافة ، فالظلم لا يقبح إن كان الظالم هو القوي المتغلب ، فَثَمَّ من القوة معيار جديد يَنْسَخُ ، فهو الحق المطلق ، وما يَسْطُرُ من قانون يحكم فهو العدل ، فالعدل ما يحكم بِهِ القوي والقانون ما يَكْتُبُ من مدونة الأحكام ، وهو ، كما يقول أهل الشأن ، تأويل يحكي الميزان ، ميزان القوى والمصالح لا العدل والمبادئ ، والأول ، بداهة ، نسبي يضطرب إذ يتفاوت في التقدير مع ما تقدم من تأويل يكسوه لحاءٍ يحسن ، فيكون من ذلك مجاز هو ، كما اصطلح في درس الحداثة ، هو المدخل الأساسي لتأويل النص الأصلي أن يواطئ مصالح الجيل الحادث ، وإن نَقَضَ الأصل الدلالي الثابت ، فليس إلا التاريخ الملهِم دون أن يكون ثم أَثَرٌ في شريعةٍ تَحْكُمُ ، فاستصحب منه الباعث الروحي والديني مع قَيْدٍ ثَانٍ هو التاريخي الذي نُسِخَ منه المعنى اللاهوتي فليس إلا حكاية المصالح الخاصة لنخبة الدين والسياسة ...... إلخ ، وبه ، كما تقدم في مواضع ، قِيَاسٌ مع الفارق قد تَنَاوَلَ الْمُثُلَ في الخارج تَنَاوُلًا واحدا لا يميز الباطل من الصحيح ، المبدَّل من المحفوظ ، المحرَّف من المحكَم ذي الدلالة الثابتة فهي معيار مطلق يَنْضَبِطُ بما استقر من أصول اللسان : الصوت والمعجم وقانون الاشتقاق في الألفاظ المفردة وقانون النحو في الجمل المركبة وثالث من بَيَانٍ أخص بما عُهِدَ من كلام من نَزَلَ فيهم النص ، فكان من لسانهم محكَمٌ يَقْضِي في مُتَشَابِهِ اللَّهَجَاتِ ، وذلك درس الأحرف السبعة في الشريعة الخاتمة رخصةً في لهجات حتى تذل الألسن لمعيار الكتاب المحكم : لُغَةً هي الأم ، فلا يكون من لهجات أخص ما يقدح في معيار اللسان الأعم الذي جاء به النص الحاكم ، فذلك لسان عام يجاوز الجيل الأول ، فليس البنيوي الذي يستفاد بدرس الظاهرة اللسانية في حقبتها أو جيلها واستنباط معيار لها لا يجاوز ، فيكون من مدلولها ما يَتَنَاسَخُ تِبَاعًا بما يكون من عرف جديد يحدث ، فيكون منه قَاضٍ في دلالة النص المحكم أَنْ كَانَ ثَمَّ من المرجع ما يَتَبَدَّلُ تِبَاعًا لِمَا يَجِدُّ من عرف اللسان ! ، فَلِسَانُ الجيل الأول هو المحكم ، وهو المجاوز الذي يقضي في لهجات جيله وما تَلَا ، فَلَهُ دلالة محكمة تُجَاوِزُ ، فَلَيْسَتْ تاريخا يُؤْثَرُ ، لا يجاوز حد المثال الروحي الملهم ، فلا يكون منه بَعْدًا آخر في الأحكام يُسْتَصْحَبُ ، فالأحكام عند المخالف الذي قَاسَ مع الفارق ، فَاسْتَلْهَمَ المثال المحدث من دين الكهنة المبدل ورام إجراءَه على الدين المحكم ، الأحكام عنده ليست إلا درس اللاهوت السياسي المستبد بما كان من طغيان رجالاته وقد تَوَاطَئُوا مع رجالات السياسة والإقطاع ...... إلخ ، فَلَيْسَ ثم معيار يأطر إلا القوة ، وهو ما افْتَقَرَ إلى أداة تأويل تَتَنَاوَلُ النص الواحد على وجوهٍ تَتَغَايَرُ فهي نسبية تَضطَّرِبُ ، وليس ثم محكم يَقْضِي فِيهَا من خارج إذ سَلِمَ مِمَّا لم تسلم منه من الأغيار والعوارض الذاتية التي تقدح في الأهلية ، الفردية أو الجمعية ، على التفصيل آنف الذكر ، فلا تسلم جميعا من الهوى والحظ ، وهو ما استوجب في الاستدلال أداة تأويل تُسَوِّغُ ، كما صنع جيل الكهنة الأول ، وذلك ، كَمَا تَقَدَّمَ ، قياس مع الفارق ، قَدْ سَوَّى بين المثل كافة ، وَلَئِنْ سُلِّمَ له فما صنع إلا أن استبدل كهنة بآخرين ، وإن كانوا حداثيين لا دينيين أو ضد دينيين ، فَلَهُمْ ، أيضا ، من معيار الحكم ما يواطئ جيلهم بما جَدَّ فِيهِ من أهواء وحظوظ ومصالح لا تنضبط فهي نسبية تضطرب بما يكون من معيار حكم أداته في التصور : المجازُ الذي يَفْتَحُ ذَرَائِعَ التأويل فلا معيار من لسانٍ محكَم ، فهو ، كما تقدم ، تاريخي لا يجاوز جيله ، وثم آخر بُنْيَوِيٌّ يجرد لكلِّ جيلٍ من اللسان ما يُوَاطِئُ مصالحه ، فهو المعيار الذي يُكْتَبُ به القانون الجديد حكايةَ جيلٍ جديد يَسْتَبِدُّ في كتابة القانون الحاكم بما يواطئ مصالح الغالب ، فليس ثم أداة إلا القوة ، وهي ، أيضا ، من النسبي الذي يضطرب ، فلا يثبت لها حال ، بل الأيام دول تتعاقب ، فَلَوْ رُدَّ الأمر إليها ، فكانت هي الأصل ، وصار المجاز لها رِفْدًا بما يُبَرِّرُ وَيُسَوِّغُ ، فكان من التأويل ما يحسن ، ولو التأويلَ البعيد بل وآخر يَبْطُنُ ، فهو يَنْقُضُ مَا اسْتَقَرَّ من معيار اللسان الأول ، فليس ثم مطلق يُرَدُّ إليه النسبي الحادث في كلِّ جيلٍ ، بل قد صارت النِّسْبِيَّةُ فَضِيلَةً وإن اضطرب بها المعيار الناطق والحاكم ، فخالفت عما استقر ضرورةً في الوجدان المتراكم ، فلا يكون ذلك إلا أن تُبَتَّ الصلة بالأصول ، وَتُصَيِّرَ ذلك حَسَنًا إذ ينسخ أسباب الرجوع والتخلف ! ، قِيَاسًا مع الفارق قد تَقَدَّمَ ، إذ سوى بين المحكم المحفوظ وآخر هو المضطرب المبدل ، ولم يكن من ذلك ما تَذَرَّعَ به المعيار الحداثي أَنَّهُ يحسم مادة اللاهوت السياسي والقانوني المستبد ، فما صنع إلا أَنْ سَوَّغَ للمستَبِدِّ في كلِّ جيلٍ ما يواطئ مصالحه بما قَرَّرَ من أداة المجاز والتأويل التي تأرز إلى معيار بُنْيَوِيٍّ لا يجاوز جيله ، وآخر تاريخي ينسخ ما تقدم ، ولو الأصل المحكم ، وَيَنْفِي المطلق ، صَرَّحَ أو كَنَّى ، ويستبدل النسبي به فَضِيلَةً في الفكر بها يَتَحَرَّرُ ولو خالفت عن بدائه العقل الذي به يَتَبَجَّحُ . فليس إلا الاغترار والعجب بما حصل لجيل تال من العلم ، وإن لم يجاوز الظواهر ، وهو ، أيضا ، ما بِهِ الجيل المحدَث قد تَبَجَّحَ في حَدِّ العلم فليس له إلا الوصف لظاهر ، فلا يفتش فيما جاوز من السببية والغائية التي تحكي ضرورةً في الوجدان قد استقرت بما كان من مقدِّمات الفكرة وَمَرْكُوزَاتِ الفطرة ، أَنَّ ثم حكاية تجاوز الظاهر الموصوف في درس البحث والتجريب ، فَثَمَّ إتقان وإحكام يحكي عِلْمًا قد أحاط في الخلق والتدبير ، وهو ما يدل على لازم ضروري في الباب : باب التصور والحكم ، فَإِنَّ العلمَ قَدْ عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الاعتقاد الباطن وما يكون من شرع حاكم قد تناول المحال والأحوال كافة بالنص والقياس وما اعْتُبِرَ من مقاصِدَ وأعرافٍ ومصالحَ وذرائعَ ..... إلخ ، فلا يجزئ علم يصف ظاهرة وإن أَلَمَّ بوجوهها ، فخاصة الإنسان الحي الحساس الذي يتحرك بالإرادة ، خاصته تَطْلُبُ تاليا من معيار هو الحاكم ، فيحكم على الأفعال وذلك قدر يجاوز ما تَقَدَّمَ من وصفِ الأشياء ، فكيف ولم يحسن يَصِفُ قَطْعًا ، بل لا زال من أدوات البحث والتجريب ما يكشف عن جديد كان يجهل ، كما تقدم من دَرْسِ تَطَوُّرٍ أول لم يكن في جيله ما يجاوز وصف الخلية فَصَيَّرَهَا البسيط الذي عنه الأنواع تصدر خبطَ عشواءَ فلا علم ولا قصد فَنَفَى التقدير الأول بل وَنَفَى الصانع ، والتزم من ذلك ما خالف عن بدائه القياس أن المحدَث لا يكون إلا عن محدِث يتقدم ، ونفى الإرادة ، وإن كان من التخصيص في الخارج ما يدل ترجيح بالإرادة ، فلم يكن من علمه ما ثَبَتَ بَعْدًا من دقائق تميز الأنواع من عضيات وَجُمَلِ وراثة بها إعجاز في الخلق ، فصار الجهل ، كما تقدم ، دليلا ، فمن لم يعلم إذ لم ينظر فلم يكن في جيله من آلة البحث ما يكشف ، من تلك حاله فهو حجة على من علم من دقائق الخلق ما تَعَقَّدَ وَتَرَاكَبَ ، فَلَيْسَ فرض التطور ، عند النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ ، إلا تصورا ساذجا يحكي فساد التصور بما كان من جهل هو المركب ، فلم يكن منه إلا فرض البسيط توصلا إلى تركيب يَتَعَقَّدُ ! ، وليس ثم من التعقيد والتركيب ما يحكي إعجازا في الخلق ، وإنما عشواء وخبط بلا علم ولا قصد ! ، فلا سببية أولى ولا غائية تالية ، فسؤال التسلسل ، كما تقدم في مواضع عدة ، لا ينفك يطلب أولا لا أول قَبْلَهُ ، فلا حياة تحصل دفعة بلا أول فيها يُرَجِّحُ ، فيكون منه المرجِّح التام الذي لا يفتقر إلى مرجِّح يَتَقَدَّمُ وإلا كان التسلسل الممتنع في المؤثِّرين أزلا ، مع دليل إتقان وحكمة ، فهو يبطل مذهبا من الحكمة قد رَدَّ الأمر إلى علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف ، فلا علم ولا إرادة ، وإنما فعل طبع مع اضطرار في الوصف إذ يوجب بالذات لا بما قام بها من صفات العلم والحكمة والمشيئة والقدرة ... إلخ من صفات الكمال المطلق التي بها قد أخبر الوحي المنزل ، فهو ، أبدا ، جواب في الباب يجزئ ، إن في الخلق الأول أو ما يكون من شرع يخبر ويحكم ، فيأطر الخلق على جادة من الشرعة تواطئ أولا من الفطرة ، وتصدق ما كان من مُسَلَّمَاتِ الضرورةِ في العقل والجنان ، وكذا يُقَالُ في الغائية وقد أنكرتها المذاهب الوضعية التي اقتصرت على دراسة الظاهرة وما يأطرها من قانون دون بحث في تفسير يجاوز فهو يطلب السبب والغاية ، فكان من إنكار الغاية ما خالف عن الضرورِيِّ المستَقِرِّ من مُسَلَّمَاتِ العقلِ والفطرة ، أَنَّ ثَمَّ ، كما يقول أهل الشأن ، ثَمَّ غايات في الأجزاء كما العين فَثَمَّ من خلقها المحكم ما يدل ضرورة على غاية ، فلا يكون من ذلك خبط هو المطرد في مقال قد اضطرب فخالف عن كل معيار في الاستدلال قد أُحْكِمَ ، ولو معيارَ الحس المحدث أن صار هذا الخلق المحكم بلا غاية تَتَأَوَّلُ مَا رُكِزَ فِيهِ من قوى التَّأْثِيرِ والفعل على سنن محكم يحكي آخر من العلم ، علم التقدير الذي يسبق الإيجاد ، وهو العلم المحيط الجامع ، وهو في الباب محل الشاهد ، فَثَمَّ غايات في الأجزاء بِهَا التَّوَسُّلُ في قياس عقل محكم فهو يستدل بالجزئي على الكلي ، فيكون من الغاية الكلية ما يثبت من باب أولى ، إذ كيف يكون من الأجزاء غايات محكمة ، ولا يكون من هذا المثال الكلي ، مثال الكون المعجِز بما بُثَّ فيه من آي الآفاق والأنفس ، ولا يكون من هذا المثال غاية ، فليس إلا الخبط والعشواء ، فذلك ما سلك مقال التطور الذي يجافي كل معيار في الاستدلال ينصح ، ولو معيار الحس الذي اتخذه معيار العلم الأوحد ، وكان من التطور ، كما تقدم ، ما عم الأديان كما الأبدان ، فليس ثم في المبدإ إلا السحر الذي يواطئ الكائن البدائي الساذج ، فليس إنسانَ الوحي الذي عُلِّمَ كُلَّ شيء وَنَزَلَ إلى الأرض بِرَسْمِ الابتلاء بالأمر والنهي شَرِيعَةً قد تَحَمَّلَهَا الأب الأول بِرَسْمِ النُّبُوَّةِ وهي في العلم رُتْبَةٌ عُلْيَا ، فليس ذلك ، بداهة ، ما يثبت في مذهب التطور ، بل كان منه ساذج أول فكان السحر له هو المرجع ، فَلَمَّا نَضَجَ بَعْضًا كان من الدين تال ، فَلَيْسَ المستَقِرَّ الثابت بل قد تَطَوَّرَ من السحر ، ولا زال يحكي طفولة في الفكر ، كما حد بَعْضٌ الدين فاتخذ لذلك مذهبا نَفْسَانِيًّا لم يجاوز بالدين في الحد أنه : مرحلة طفولة في حياة الخلق ، فكان السحر ولادة ، والدين طفولة ، والعلم ثالثا هو البلوغ والرشد بما تقدم مرارا من تَحَكُّمٍ قَدْ أَطَرَ العلم على التجريب والبحث الذي يُرْصَدُ بالحسِّ ويقاس بأداة المعمل ، معبد العلم في الجيل المحدَث ! . والشاهد أن التحكم في إبطال المرجع المجاوز من خارج الأرض ، من خارج العقل ، إن الفرد أو الجمع بما يَعْتَرِي كُلًّا من الهوى والحظ مع نقص في الوصف هو الذاتي الذي لا يعلل ، وحديث نفس ووسواس يزين ، وعوارض وأغيار تطرأ ..... إلخ ، فكل أولئك ما يقدح في نظره الكلي أو حكمه الجزئي ، فلا يسلم له من ذلك معيار محكم إلا أن يُرَدَّ إلى مرجع من خارج العقول كافة ، الفرد والجمع ، فَإِنَّ مُثُلَهَا في الأديان والأخلاق وقواعد الاجتماع ..... إلخ ، ذلك مِمَّا يَضطَّرِبُ فهو نسبي يَتَفَاوَتُ من جيل إلى آخر ، من حقبة إلى أخرى ، وهو ما يواطئ ما تقدم من مذهب التطور ، فإنه يَفْتَرِضُ ما لا دليل عليه لا من التجريب والبحث ، ولا من المنطق الشكلي المجرد ، ولا من خبر يجاوز من خارج فهو يثبت ، ولا من العقل فإن له مسلمات ضرورة في أي استدلال ، ومنها تَقَدُّمُ العلة على المعلول ، وصدور الفعل عن فاعل ، فالمحدَث لا بد له من محدِث ، فلا بد من مرجِّح في الجائز ، فمبدأ الأمر أن يكون الأمر جائزا يحتمل فلا يكون المحال الذاتي الذي يمتنع ، فذلك مما لا يجاوز في الحد : الفرضَ المطلق تَنَزُّلًا في الجدال مع خصم يسفسط فَيُنْكِرُ العلوم الضرورية وَيُجَوِّزُ ضدا من المحالات الذاتية كارتفاع النقيضين أو اجتماعهما ....... إلخ ، فإذا ثبت أن الأمر جائز ، فذلك مبدأ في الباب ، ولا يجزئ وحده أن يكون ثم وجود في الخارج يجاوز ما يُقَدِّرُ الذهن من جائز يحتمل ، فلا يجزئ ذلك في حصول الشيء في الخارج وإن كان في الذهنِ : الْجَائِزَ ، فَثَمَّ افتقار إلى تَالٍ من المرجح من خارج الجائز ، فلا يستدل لدعوى بعينها ، بل دليلها أبدا من خارج يجاوزها ، فهو يتقدم في الوجود ، إذ العلة تسبق المعلول ، فلا يكون من الجائز في الذهن : وجود في الخارج يجاوز فهو يصدق ما كان في المبدإ : المجرَّدَ ، لا يكون ذلك إلا بمرجِّح من خارجٍ هو السبب أو العلة بما رُكِزَ فيه من قوة تأثير بها يُرَجِّحُ ، وذلك ما لا يكون اقْتِرَانًا أو تَعَاقُبًا يُبْطِلُ خاصة الأسباب في التأثير ، فهو مما يخالف عن العقل الصريح ، أَنْ تَبْطُلَ خَاصَّةُ السببِ في التأثير ، فيكون من المسبَّب ما عنه يصدر إذ ثم من الضرورة والقوة ما سلك جادة سنن محكم ، فذلك الفعل أو حكاية الفعل الذي يحصل في الخارج إذا باشر السبب بما ركز فيه من قوى تؤثر ، إذا باشر السببُ المحلَّ بما ركز فيه من قوى تقبل ، مع استيفاء الشرط وانتفاء المانع ، فذلك المجموع المركب الذي لا ينفك يطلب سَبَبًا هو الأول الذي يَتَقَدَّمُ ، فهو في هذا المجموع يُؤَثِّرُ إذ لِطَرَفٍ منه يُرَجِّحُ ، فَيُرَجِّحُ الإيجابَ على السلب ، ويكون من الوجود في الخارج ما يحكي أولا من العلم : علم التقدير فهو المبدأُ ، وتلك ضرورة أخرى يحكيها الإتقان والحكمة ، فَثَمَّ تَقْدِيرٌ أول ، وذلك من علم محيط يستغرق ، ولا ينفك يدل على غاية من هذا الخلق المحكم ، وإلا كانت سَفْسَطَةٌ أخرى أن يكون هذا الإتقان أولا بلا مُتْقِنٍ ، ويكون الإحكام في جريان الأسباب على جَادَّةٍ تَنْصَحُ بِمَا تُبَاشِرُ من قوى في المحل تُعَالِجُ ، أن يكون كل أولئك بلا سَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، فلا فاعل في المبدإ قد قَدَّرَ بِعِلْمٍ ، هو التقدير الذي يؤثر في حصول المقدَّر في الخارج ، فذلك سبب أول في حصول المسبَّب في الخارج ، وثم آخر بما يكون من قُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ في الجائز ، فيكون من ذلك طَرَفُ إيجابٍ يَرْجُحُ ، فذلك الواجب في الخارج بَعْدًا إذ يصدق ما كان من علم أول يُقَدِّرُ ، ووجوبه مع ذلك لغير فليس وجوبا ذاتيا لا يعلل ، إذ لا ينفك يفتقر إلى موجِب من خارج ، فهو في المبدإ : عدم ، لا المحال الذاتي الذي يمتنع ضرورة ، وإنما الجائز فلا وجود له في الخارج مبدأَ الأمرٍ ، وإن كان له وجود يثبت في علم التقدير الأول ، فذلك وجود في الغيب ، فَيَصْدُقُ فِيهِ ، من هذا الوجه ، أنه عدم ، لا المحال الذاتي الذي لا يُقَدَّرُ ، بادي الأمر ، فليس ابتداء من الجائز المحتمل ، وإن تَنَاوَلَهُ العلمُ فَلَيْسَ تَنَاوُلَ التقدير لمقدور في الخارج هو الجائز الذي يطلب المرجِّح ، فالعلم يَتَنَاوَلُ المحالَ الذاتي تَنَاوُلَ الفرضِ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم كما اطرد في مواضع من آي الذكر المحكم ، فـ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، فذلك وجه من العلم لا يجاوز حَدَّ الفرضِ ، وثم آخر يَتَنَاوَلُ الجائز ، فذلك علم التقدير الذي يتقدم في الأزل ، فهو علة أولى بها المقدور يَتَعَيَّنُ على حد مخصوص يميزه من غير ، وذلك الاختصاص الذي لا يكون إلا بإرادة ترجح ، فَتَخُصُّ المقدورَ بماهية وأوصاف تعين ، وذلك ترجيح لا يكون ، بداهة ، إلا بإرادة ، ولو مبدأ التقدير في العلم الأول ، فيكون من إرادة المريد أن يقدر ماهية المقدور الذي يريد ، فذلك ، بداهة ، أول قبل الإيجاد والتصوير ، فيكون من ذلك ترجيح أول بإرادةٍ في تقدير المقدور قبل تال من الوجود في الخارج ، فهو يصدق ، من وجه ، وبه تأويل لما تَقَدَّمَ في العلم المؤثِّر ، علم التقدير الذي رجح الماهية المخصوصة في الغيب ، فكان لها من ذلك وجود أول ، وجود في علم التقدير المحكم ، وكان تال من الترجيح بإرادة ترجح في الجائز ، فقد حصلت منه في الغيب ماهية مقدرة تدل ضرورة على فاعل أول قد قَدَّرَ بِعِلْمٍ محيط يستغرق ، فتناول المعلومات المقدورات كافة ، إِنِ الكونيَّةَ أو الشرعيَّةَ ، وتناول من الأولى : الأسباب التي تؤثر بما ركز فيها من قوى بها الترجيح في الجائزات يثبت ، والمحال التي لها تباشر بما ركز فيها ، أيضا ، من قوى تقبل آثار السبب ، فكان من الإتقان في المحل والإحكام في السبب ، وما كان من سَنَنٍ جَارٍ يَتَأَوَّلُ القوى المركوزة في كُلٍّ ، قوى التأثير في السبب ، وقوى القبول في المحل ، فكان من كل أولئك ما يدل ضرورة أن ثم فاعلا هو الأول ، وإليه تَنْتَهِي الأسباب كافة حسما لمادة التسلسل في الأزل ، فَثَمَّ سَبَبِيَّةٌ تُؤَثِّرُ ، ومبدؤها مشيئة في التكوين تُرَجِّحُ بما يكون من غيب أول لم يُشْهَدْ ، فكان من الخبر وحي محكم يبين ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فتلك كلمة تكوين أعم قد استغرقت المقدورات كافة ، إن الآفاق أو الأنفس ، وما كان في كلٍّ من آي محكم يشهد ضرورة بالحق ، أن ثم خالقا مقدِّرا مدبِّرا لهذا الكون إليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، فَفِي كُلٍّ قد رُكِزَ من القوى ما يُؤَثِّرُ ، وهو في الجائزات ، كما تقدم ، يُرَجِّحُ ، وهو لمحالٍّ مخصوصة يُبَاشِرُ إذ لها من القوى ما يعالج ، فيكون من ذلك مجموع مركب مع استيفاء الشرط وانتفاء المانع ، فذلك ما به المقدور يُتَأَوَّلُ في الخارج ، وهو ما افْتَقَرَ إلى سبب يَتَقَدَّمُ ، ولا يَزَالُ ذلك يَتَسَلْسَلُ في النظر فلا يكون ثم وجود في الخارج يصدق ما قدر في العلم الأول ، علم التأثير بما كان من محكم التقدير المخصوص لماهيات ذات أعيان وصور مقدرة ، فذلك مؤثر أول ، به الماهية في الغيب تَتَعَيَّنُ ، ولكن ذلك ، وإن كان المبدأ ، فلا يجزئ في حصول المقدور في الخارج حصولا تاليا يصدق الأول ، فلا يكون ذلك إلا بسبب من خارج يرجح في الجائز من المعلوم الأول ، ولا ينفك يطلب أولا لا أول قبله حسما لمادة التسلسل في المؤثرين إذ تمتنع في الأزل ، فَثَمَّ غيب أول لم يشهده أحد ، وهو مبدأ التكوين إذ به الترجيح في الجائزات المقدرة في العلم المحيط الأول ، فكان من ذلك ما قص الوحي المصدق عموما قد استغرق الأشياء كافة ، فـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وهو ما خص بالمقدورات ، إذ لا تناط القدرة بالمعدومات من المحالات الذاتية ، وإنما تناط بالجائزات التي تحتمل ، فيكون من الترجيح ما به الإيجاد في الخارج ، ويكون من ذلك واجب لا لذاته وإنما لِغَيْرٍ بما احتف به من قرينة الترجيح ، فتلك كلمة التكوين آنفة الذكر ، فهي سبب في الترجيح الذي يُصَدِّقُ مَا كَانَ من علم تقدير هو الأول ، وبها استئناف لأسبابٍ تعقب ، وفي كلٍّ من القوى ما يُؤَثِّرُ ، تأثير السبب ضرورة بما ركز فيه من القوى لا ما اقترح المنكر الجاحد لمبدإِ السببية إذ يلجئه الإقرار به إلى إثبات الخالق الأول ، ولو عِلَّةً فاعلة بالطبع مجردة من الوصف كما عِلَّةُ الفلاسفة ، فذلك ما يفر منه ، ولو العلةَ المجرَّدَةَ ، فكيف بما كان من دليل أخص يُلْزِمُهُ أن يُقِرَّ بأول من الخلق ، الخلق المحكم الذي يدل ضرورة على الخالق الأول الذي خَلَقَ بالعلم وَقَدَّرَ ، فكان من الإتقان والحكمة تال به الجاحد يفجع ! ، إذ يلجئ ضرورة إلى آخر من الدليل ، فَثَمَّ غاية من هذا الخلق المحكم ، ولو قيل لبشر يعقل إن هذه الآلة التي صنع فأتقن في التقدير والإيجاد وأحكم من الأسباب أن أجراها على السنن المحكم في الحركة والسكون ...... إلخ ، لو قِيلَ له إن ذلك عبث فليس ثم غاية من هذه الآلة بل ليس ثم خالق أول لها ولا مقدِّر ، فقد كان من ذلك عشواء وخبط لا أكثر ، فلا علم ولا قصد ، ولا سَنَنَ محكمًا في الباب بما رُكِزَ من قوى في الأسباب ، لو قيل له ذلك فما عساه يجيب ؟! ، فكان من الحيدة في الجواب ، كما يذكر بعض من حقق ، كان من الحيدة أن جحد سؤال الضرورة : سؤال "لماذا" ، فلماذا كان هذا الخلق ، ولماذا كان هذا التخصيص في هذا العضو أو ذاك بما يحكيه إتقان الخلقة وإحكام السنة ، فالسؤال عن العلة ، كما حاد الجاحد المنكر ، ذلك سؤال سخيف يقبح بما اطرد في منهاج البحث والتجريب المحدَث ، كما قَرَّرَ بعض من حقق ، إذ اشتغل بالعلة الصورية ، وصفا ، فهو وصفي يحكي الظاهرة في الخارج ، وقد يجاوز فيكتشف من القانون أو السنة ما هو حاكم ، ولكنه لا ينظر في أول من السبب وإلا أَقَرَّ ضرورة بالفاعل الأول ، وهو من الغيب الذي يجحده العلم المحدث إذ اقْتَصَرَ على ما يُدْرَكُ بالحس وحده ! ، فلا ينظر في أول من السبب ولا ينظر في تال من الغاية ، فهي تحكي العلم والإرادة ، وهي تحكي المآل الذي يجحد المنكر ، فَثَمَّ غاية من هذا الخلق كُلًّا إذ قد دلت عليه الغايات جُزْءًا ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى القياس : قياس الأولى ، فاستدل بجزء أدنى على كل أعلى ، فَثَمَّ غاية في هذا الخلق الكلي الأعم ، ثم غاية فيه من باب أولى ، وهو ما جاء الوحي له يبين ، فكان منه سؤال ينكر ويوبخ : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، فَثَمَّ ، من وجه تقدم في مواضع عدة ، ثَمَّ وجه يحتمل التقدير ، تقدير المحذوف على تأويل : أفسد منكم العقل والنظر فأنكرتم الضروري من العلم في الغائية التي لا ينكرها إلا الجاحد أو المسفسط ، أكان كل أولئك من لوازم تقبح فحسبتم لأجلها أنما خلقناكم عبثا بلا غاية ولا قصد ، ولا أول من العلم والحكمة مع مشيئة وقدرة بها تأويل المعلوم المقدور في المبدإ ، فكان الخلق لا بأول فلا سبب ، ولا بقصد فلا غاية ! ، وثم من التوكيد : اسمية الجملة التي سدت مسد المفعولين للعامل "حسب" على تقدير : أفحسبتم خَلْقَكُمْ عَبَثًا ، وثم من أجرى الباب مجرى التبادل بين الصيغ أو ما اصطلح أنه مجاز التعلق الاشتقاقي إذ أطلق المصدر "عَبَثْ" وأراد الوصف "عابث" ، على تقدير : أفحسبتم أنما خلقناكم عابثين ، وهو الوصف المشبه الذي حُدَّ حَدَّ الفاعل ، كما "طاهر" من "طَهُرَ" ، فكان من ذلك زِيَادَةٌ في المعنى ، إذ حُدَّ مَصْدَرًا يحكي الثبوت والاستمرار وإن كان من الوصف المشبه ما يحكي ذلك إِلَّا أَنَّ حده حَدَّ "فاعل" مما أكسبه معنى الحدوث لا الثبوت والاستمرار ، والحدوث مما اعتبر في فعل الخلق الذي يتكرر ، وإن كان نوعه قديما ، كما اطرد في صفات الأفعال كافة ، فاعتبر في اسم الفاعل "عَابِثْ" : معنى الحدوث إِذِ الْخَلْقُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، يَتَكَرَّرُ ، وَاعْتُبِرَ في المصدر "عَبَثْ" معنى الثبوت والاستمرار فكان من حده مصدرا ما قطع الاحتمال وذلك آكد في الإنكار ، إنكار العبث فلا غاية من الخلق ، وهو مما يخالف عن بدائه العقل والحس إذ يباشر من هذا الخلق ما يَنْفِي العشواء والخبط ، وثم من أجرى العبث مجرى المفعول لأجله على تقدير : أفحسبتم هذا الخلق المحكم للعبث واللعب فلا غاية مع حصول ما ترون من الإتقان والإحكام ، وثم من "أَنَّ" : مصدرية قد أُوِّلَتْ مع مدخولها تَأْوِيلَ المفعولين ، فَلَمْ تُخْرِجْهَا "مَا" ، كما يقول أهل الشأن ، لم تخرجها عن المصدرية ، وإن كَفَّتْهَا عن العمل ، ولم تخرج عن معنى التوكيد فهي أم الباب ، فكان من ذلك توكيد وهو ، كما تقدم ، آكد في الإنكار بالنظر في سياق الاستفهام الذي صُدِّرَ به الكلام ، وهو ما أبان عنه تال في الآية يختم : (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، وهو ما صُدِّرَ ، أيضا ، بالناسخ المؤكد ، فكان من ذلك إطناب بالتكرار ، وهو ، في نفسه ، مئنة توكيد مع ما كان أولا من دلالة التوكيد القياسي في الناسخ ، فهو ، في نفسه ، نَصٌّ في الباب ، مع تكرار يفيد التوكيد ، ولو لَازِمًا في الدلالة ، فكان من التوكيد : نَصٌّ في الباب ، ولازم آخر من التكرار ، وَثَمَّ من العموم في ضمير الخطاب ما استغرق الجمع المخاطب كُلَّهُ ، فَجَاوَزَ الحاضرَ إلى آخر قد اعتبر ، فتلك دلالة الخطاب الرسالي إذ يجاوز لقرينة أَبَدًا تُسْتَصْحَبُ ، وهي العموم في خطاب التكليف المنزل ، وثم من انتهاء الغاية ما أبانت عنه "إِلَى" ، فهي ، أيضا ، نص في الباب ، مع تقديم المعمول "إلينا" على العامل ، وتلك مئنة حصر وتوكيد بتقديم ما حقه التأخير ، فإلينا دون غيرنا المآل والمرجع ، وهو مَئِنَّةُ جلالٍ حَسُنَ معه الإسناد إلى ضمير الجمع ، وثم من الرجوع ما حُدَّ مضارعا وبه استحضار الصورة ، من وجه ، مع آخر يحكي ما يُسْتَقْبَلُ من الظرف ، فلما يأت الرجوع بعد ، وثم من إطلاق العامل ما استغرق فالرجوع بالروح والجسد كافة ، خلافا لمن قَصَرَ ذلك على الروح فأنكر معاد الأبدان فضلا أن ينكر المعاد الإنكار المطلق ! ، وهو ، أيضا ، مما عم الجمع كله ، فتلك دلالة الضمير المجموع ، واو الجمع فهي نص في جماعة الذكور ، من وجه ، وهي مما زيد في دلالته بالتغليب ، فذلك ، أيضا ، مما يستصحب ، أبدا ، في خطاب التكليف المنزل ، فإن المرجع والحشر في يوم تال فيه يبعث الخلق ، وفيه تأويل ما كان من وصف العدل فلا ظلم ، وَفِيهِ تَالٍ من الحكم يُسْتَكْمَلُ ، فيكون من فَصْلٍ في الخصومات ما أُجِّلَ ، فَالدَّيَّانُ يَقْضِي بين الخصوم ، وذلك ما دَلَّ عليه ضرورة المعقول ، فالبعث والحساب العادل والجزاء الأوفى فهو الكامل ، كل أولئك مما يدل عليه العقل ضرورة لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط يُقِرُّ الظلم وَيُهْدِرُ الحق ، ويخالف عن ركز في فطرة التكوين هي الأولى ، وهو ، كما يُلْزِمُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مما يحكي التناقض لدى الخصم ، فإنه لا يستطيع دَفْعَ جُمَلِ ضرورةٍ في الوجدان ، كما قُبْحُ الظلمِ وَحُسْنُ العدلِ فلا ينفك يَتَشَدَّقُ بحقوق الخلق والحريات العامة ..... إلخ ، وإن تَوَسَّعَ فيها ، وتلك معان معيارية ، كما يقول أهل الشأن في درس الأخلاق ، فجاوزت ما يَتَنَاوَلُ من درس الوصف في علم التحريب والبحث الذي لا يَتَنَاوَلُ السبب والغاية ، ولا يؤمن بالمطلق ، فَثَمَّ نسبية تضطرب ، وإن في أصول المعاني المحكمة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، فثم نسبية لا ينفك يخالفها في وجدانه ضرورةً فيجد من المعنى ما يُلْجِئُ أن يستحسن الحسن من العدل والإحسان إلى الخلق ...... إلخ ، وتلك مطلقات تحكي غايات تحمد ولا تستقيم على معيار من النظر يُنْكِرُ الغاية إن في الْخَلْقِ أو في الْخُلُقِ ، فَثَمَّ من المعنى ما يحمد ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مما يبطل المعنى المادي المجرد الذي ينكر أي مرجع من خارجها يجاوز ، قِيَمًا ومعان تحمد ، وإن كليات في الذهن تُطْلَقُ كما الحب والرحمة .... إلخ ، فتلك معان مجاوزة لا يمكن تفسيرها بمعيار مادي وإن رَصَدَ من أعراضها ما يظهر ، فلا يطيق تفسيرا لها يبين ، إذ محلها لطيف لا يدرك بالحس ولا يخضع لمعيار التجريب والبحث ، وهو ما ينكره دَرْسُ العلم الواصف الذي يقتصر على الظواهر دون نظر في معايير أدق مما يقوم بالنفس من معاني تمدح أو تُذَمُّ فلا تَنْفَكُّ تطلب معيارا في الحكم يجاوز معيار الحس ، فَثَمَّ من مدركات الضرورة الوجدانية ما لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، فَهِيَ كَمَواجِيدِ الغريزة من جوع وعطش وشبق ..... إلخ ، فهل عاقل ينكرها ؟! ، وإن لم يحسن حدها في كلام جامع مانع ، فكذا مواجيد المعنى من الحب والكره ، وما يصدران عنه من معيار الحسن والقبح ، وهو ما افْتَقَرَ إِلَى معيارٍ ثابت في الوصف والحكم ، ولو المطلقاتِ الكلية في الذهن ، فلا ينفك العقل يطلب منها الجمل الدلالية المحكمة ، وإلا فسدت حاله فلم يُطِقْ معاشرة الْخَلْقِ ، فلا يتعاطى في بيع أو شراء أو أي أمر إلا وَثَمَّ حد أدنى من مطلقات المعنى ، ولو آدابا بها يحسن يباشر الأمر ، ولو على قاعدة المصلحة المتبادلة ، فَثَمَّ جُمَلٌ من الآداب العامة في أي شأن لا يجاوزها كُلُّ ذِي لُبٍّ ، وَإِلَّا هجره الناس لفحشه وسوء خلقه وجفاوة طبعه ، فتلك مطلقات ، ولو حدا أدنى ، تَنْفِي النسبية المطلقة في الأخلاق والأحكام فذلك ما يجحده صاحب الدعوى بما يباشر عامة يومه ، فلا ينفك ، كما يقول بعض من حقق ، لا ينفك يباشر جملا من الحقائق الثابتة ، ولو في أمور الجبلة ، فيباشر من مسلمات الضرورة العقلية في الخارج ما لا ينكره إِلَّا جَاحِدٌ أو مسفسط يَنْفِي العلوم الضرورية الَّتِي لا يستقيم أمر في دين أو دنيا إلا بإثباته ، فلا يجهر عاقل أن العدل قبيح ، أو أن الظلم حسن وإنما يجتهد وهو يظلم أن يكسو ذلك من لحاء التأويل ما يَجْمُلُ ، فلا يقر أن الظلم حسن ، وإن كان ذلك لازم معياه النسبي المضطرب ، فَلَيْسَ ثَمَّ قبيح مطلق ، وإنما الحسن قد يطرأ ، وإن كان المعنى في أصل الوضع قبيحا لذاته ، فقد يطرأ الحسن بما يكون من مصلحة تعجل ، فليس ثم إلا نفعية تَشْمَئِزُّ منها النفوس فلا يطيق الجهر بذلك وإنما يجتهد في التأويل أن يُخَرِّجَ القبيح من الظلم على جادة حَسَنٍ من العدل ، بل صار العنوان الحسن ذريعة بِهَا يَنَالُ ما قبح من ضِدٍّ . والله أعلى وأعلم . |
#11
|
|||
|
|||
![]() فَلَمْ يُطِقْ مع ذلك ، وهو محل الشاهد ، أن يُقِرَّ بالقبيح ، بل قد جعل الْحُسْنَ غاية ، ولو دعوى ، وإن كان ابتداء مما يَنْفِي الغاية والحق ، فلا قيم مطلقة في بحثه ، إذ يجرد الإنسان من مادة شريفة في النظر ، السبب والغاية ، ويصيره إلى عدم وعبث ، ويجتهد في الوصف آنف الذكر ، فعلم التجريب وصف بلا معيار ، أشياء تَنْفَعُ بالنظر في ذواتها المجردة دون أفكار تأطرها على جادة حق محكمة ، فَثَمَّ من درسه ما تناول العلة الصورية دون الفاعلية والغائية ، فأطنب في الوصف ولا ينفك يُعَالِجُ فِي بَحْثِهَا التَّجْرِيبِيِّ ما يُنْكِرُ مَنَ السَّبَبِيَّةِ والغائية ، ولو في أجزاءَ هي تَجَارِبُ أَخَصُّ في المعمل ، وإن أنكر بالمنطق الظاهر ، فَثَمَّ آخر يَبْطُنُ بما يَلْتَزِمُ من مقدمات الضرورة العقلية ، ولو في أفعال الجبلة في يومه ، فلماذا يأكل ويشرب ؟! ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، العبث فلا غاية ، بل ثم غايةٌ أن يَحْفَظَ النَّفْسَ ضرورةً هي الأولى فإن جاوز فهو يَرُومُ اللذة ، وهو ما يحتفي به المنكِر ، ولو قارف منه ما حَرُمَ فإنه بداهة لا يقر بمعيار من التشريع يأطر فليس ثم غاية أخرى تجاوز هذا العالم لتحمله على التزام جادة من الأمر والنهي تَأْطِرُ شهواتِ الحسِّ وَلَذَّاتِهِ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَلْتَزِمُ لأجل ذلك جملة لوازم تقبح ، فلا يكون ثم بحث في المعيار الذي يأطر ، فإن علم التجريب والبحث لا يجاوز وصف الظاهرة في الخارج ، فَلَا يُفَتِّشُ فِي التفسيرِ الأول الذي يُلْزِمُهُ بما يجحد من السببية ، فيسلك ، كما يقول بعض من حقق ، يسلك منهج البنائية في تناول الظواهر في الخارج ، إذ لا يجاوز درس الظاهر أَنْ يُجَزِّئَ كُلًّا في الخارج إلى أَجْزَاءٍ بَسِيطَةٍ يَتَنَاوَلُهَا تَنَاوُلَ الوصفِ ، فليس ثم معيار يجاوز ، وهو ما يقضي في الظاهرة من خارج قَضَاءً أخص فَيَتَنَاوَلُ معيار الأخلاق وما يكون من إلزام تال في الأحكام التي تأطر الظاهرة على جادة حق وعدل ، وإلا صارت وبالا على صاحبها ، فَدَرْسُ الظاهرةِ ، بادي الرأي ، دَرْسُ وسيلةٍ أو آلةٍ ، فَهُوَ دَرْسٌ يَتَنَاوَلُ الظاهرة بِوَصْفٍ يُحَايِدُ فَلَا مُرَجِّحَ فيه ، وإنما اقتصر على اكتشافِ الظاهرة بما رُكِزَ فيها من قوى وما تسلك من سَنَنٍ في الفعل ، بل لم يجاوز بِذَا أن يُثْبِتَ السَّبَبِيَّةَ وَالْغَائِيَّةَ ، فذلك ما يَنْفِي مذهبه في العبث والخبط وانتفاء العلم والقصد ، ولم يجاوز إلى تَالٍ وهو محل الشاهد ، فذلك معيار الأخلاق التزاما ومعيار الأحكام إِلْزَامًا أَنْ يَسْلُكَ بهذه الظواهر جَادَّةَ حَقٍّ وَعَدْلٍ ، فالظاهرة كالآلة التي تُؤَثِّرُ بما رُكِزَ فيها من قوى ، فلا إرادة لها تُرَجِّحُ ، إِذْ لَا عِلْمَ لها هو الأول ، فهي جماد لا حياة فيه ليكون ثم عقل يُخَاطِبُ بالتكليفِ أَمْرًا ونهيًا ، مع أول من معيارِ أَخْلَاقٍ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، فليس ذلك ، بداهة ، ما يكون من الآلة فليست إلا الوسيلة ، وذلك درس العلم المحدَث ، علم التجريب والبحث ، فإنه لم يجاوز في البابِ حَدَّ الوصفِ المحايد ، وصفِ القوى الكامنة في الظاهرة ، فهي آلة ذَاتُ سَنَنٍ في الفعل بما رُكِزَ فيها مبدأ الخلق ، فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ السكين ، وفعلها أَبَدًا أَنْ تَقْطَعَ ، فَلَا تَنْفَكُّ ، ضرورةً ، تَفْتَقِرُ إلى معيارٍ يأطرها ، فإنها تقطع بالطبع الذي رُكِزَ فِيهَا من قوة القطع ، وليس ثم ما يجاوز أَنْ تَقْطَعَ بالإرادة والعلم ، فذلك وصف القاطع الذي يمسكها وَيُعْمِلُهَا فِي المقطوع ، فلا ينفك يطلب معيارا أخص ، معيار الحسن والقبح ، وما يكون من تال في حكومة إباحة وحظر ، فذلك مرجع الترجيح في ظاهرة محايدة لا يجاوز البحث والتجريب أَنْ يَصِفَهَا ، فَيَصِفُ في السكين قوة القطع ، وهي الجائز الذي يحتمل قَطْعًا يَحْسُنُ فَهُوَ مباح إذ يُصَدِّقُ ما كان أولا من رِكْزِ أخلاقٍ تُلْتَزَمُ فلا تنفك تطلب آخر من الشريعة يُلْزِمُ بالإباحة والحظر ، فالقطع جائز يحتمل الحسن كأن يذبح أضحية أو هديا فَتِلْكَ شعيرة تَوْحِيدٍ تُسْتَفْتَحُ بالاسم الأعظم مع تكبير بِهِ يقع الدم عند الله ، جل وعلا ، كل موقع ، فـ : (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) ، وذلك مما يجري مجرى المقابلة بين شَطْرَيْنِ : شَطْرِ النَّفْيِ أولا في قوله
![]() ![]() ![]() فَثَمَّ من ظهور الظالم ما تعظم بعه البلوى وإن كان الاستدراج والمكر ، فيكون من مقاله أو حاله ما اطرد في مقال الأمم الذاهبة أن فسد تَصَوُّرُهَا بما استجمعت من أسباب القوة ، فـ : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فَكَانَتِ السكرةُ الَّتِي أَذْهَبَتِ الفكرةِ ، سَكْرَةُ الغرورِ بما حصل من أسباب لَوْ تَدَبَّرَهَا الناظر لَعَلِمَ فِيهَا دليلَ ضِدٍّ من حاجة وفقر ، مع قصور الأسباب أن تَبْلُغَ الكمال المطلق ، بل مِنْهَا ما نُسِخَ بآخر من جيلٍ تَالٍ إذ كان من طفرة التجريب ما زَادَ ، فأبان عن نَقْصِ الأول ، ولم يبلغ بالثاني الكمال المطلق فلا زال كثير في الجعبة ، وما جهل فهو أكثر ، لا جرم كان مِنْ قَيْدٍ به الاحتراز ألا يسلم أهل التجريب والبحث بما بلغوا من العلم أنه النظريات القاطعة التي خُتِمَ بها البحث فَلَا جَدِيدَ ، وليست إلا الْفَرْضَ الذي يحتمل ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، أداة تجريب نافعة تحكي ما بَلَغَ العقل والحس من العلم ، فلا يفرح به وإنما يُجْرِيهِ ، كما يقول بعض من حقق ، مَجْرَى الفاعل لا القاطع ، إذ ليس من شرط الفاعل أن يكون من دليله الدليلُ الجازم ، بل الظن الراجح يجزئ في العمل ، فهو دليل في البابِ يُسْتَصْحَبُ إِذْ ثَمَّ رَاجِحٌ قَدْ ثَبَتَ ، وإن احتملَ ضِدًّا ، فكان من العدم الأول في أي جائز في قسمة النظر ، كان من هذا العدم ما يستصحب مَبْدَأَ النَّظَرِ ، فالمحل خلو من الدليل إلا ما يكون من مقدمات أولى في العقل هي من العلم الضروري الذي يُسَلِّمُ به خصوم الجدال كَافَّةً ، مع وجدان الفطرة وتلك ضرورة أخرى لا يُنْكِرُهَا إلا جاحد أو مسفسِط ، ومنها مُسَلَّمَةُ الأوَّلِ ، الخالق ، جل وعلا ، وهو الذي قَدَّرَ بعلم أول محيط ، وأوجد بقدرة تَنْفُذُ ، فذلك أول لا أول قبله إليه تأرز الأسباب والمحال كَافَّةً ، فَلَهُ من الغنى المطلق ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وهي على ضِدٍّ فَالْفَقْرُ وَصْفُ ذاتٍ فيها لا يُعَلَّلُ ، فلا تنفك تطلب الغني الأول الذي له من الكمال المطلق ما تأويله في الخارج قُدْرَةٌ فِي الإنفاذِ وحكمةٌ في الإجراء ، وهي ما به الجائز ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، يخرج من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى الوجود ، فالجائز الذي استوى طرفاه لا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا اسْتُصْحِبَ منه العدم الأصلي ، فهو أول يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يَرِدَ مِنَ الدليل ما يَنْقِلُ ، فيكون من ذلك مرجِّح من خارج ، فَهُوَ يَنْقِلُ عن الأصل العدمي الأول ، وذلك ما يطرد في باب الرواية ، كما خبر الواحد فإنه ابتداء يحكي ظنا راجحا يُسْتَصْحَبُ إِذَا اسْتَوْفَى شروط الصحة في الاصطلاح المحرَّر ، فتلك قرائن ترجح في الجائز فيكون منه ظن راجح لا يَقْطَعُ ، وإن كان أصل الوحي قاطعا يجزم بما كان من بحث أول في أدلة النبوات نَوْعًا وَعَيْنًا ، فكان من ذلك دليل العقل والفطرة الذي رفده تال من خبر الشرعة إذ قَصَّ من النبوات ما قد ثَبَتَ ، وَفَصَّلَ ما أُجْمِلَ منها وَخَتَمَ ، وعلماؤه ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، لم يصبهم ما أصاب من اغْتَرَّ بِعِلْمِ التجريبِ المحدَث أَنْ حَصَلَ لَهُ من العلم ما لا يقطع ، وليس يجزم في جمهرة المسائل ، وإنما يَرِدُ فِي كلِّ جيلٍ : الناسخُ إذ المدارك تَتَفَاوَتُ في وصف الظاهرة المحسوسة ، مع اشتغال بها عن الغاية المحمودة والمعيار الحاكم من خارج من دَرْسِ أخلاقٍ وَمَبَادِئَ ، فليس إلا المنفعة التي اقتصر النظر فيها على جيلٍ أو حقبةٍ ، فكان من ذلك ما تَنَاوَلَتْهُ البنيوية إذ تُجَرِّدُ من كلِّ مثالٍ قَانُونًا يأطر الظاهرة فلا يجاوزها إلى آخر إذ ثم نسبية واضطراب في الحقائق ، وَإِنِ الكلياتِ المطلقة في الذهن ، فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى الظن في علوم التجريب ، بل لَيْتَهُمْ وضعوا التجريبَ في الموضعِ الذي يَلِيقُ ، فَلَمْ يَغْتَرُّوا بما حصل لهم من آلة بحث حَتَّى أَجْرَوا الظن مجرى القطع ، بل كان من الفرض المحض الذي لا دليل له يشهد إلا وصف ظواهر مع تَلْفِيقِ عَلَائِقَ فلا نص منها في محل نِزَاعٍ يَتَنَاوَلُ غيوبا لا تدرك إلا بخبرٍ من خارج يجاوز ، فاقترح من المحال الذاتي الذي يمتنع ، اقترح منه ما أَخَلَّ بمسلمات العقل في باب المطلق الثابت ، فهو من آكد البدائه ، أَنْ ثَمَّ من المطلق مقدماتُ ضرورةٍ في الوجدان ، ولو مسلماتٍ أولى هي المقدمات في أيِّ استدلالٍ ، فكان من فرض التطور ما أجهز على باب المطلق الثابت إذ كل شيء يَتَغَيَّرُ وَيَتَطَوَّرُ ، إِنِ الخلقةَ أو الفكرةَ ، فَتَنَاوَلَ أولئك تاريخَ الإنسانِ استنادا إلى فَرْضٍ محض لا دليل عليه من نَقْلٍ أو عقلٍ أو فطرةٍ أو حِسٍّ ، إلا ما كان من قصور الآلة زَمَنَ الفرض فلم تَتَنَاوَلْ إلا وحدة أولى فَظَنَّهَا الظانُّ المتخرِّص أنها أصل أول قد انْقَسَمَ وَتَرَاكَبَ لا على جادَّةٍ تَنْصَحُ وإنما خبط عشواء يَضْرِبُ لا على هُدًى ، وذلك ما غَابَ فَلَمْ يُشْهَدْ ، وليس على معياره يَنْصَحُ إذ لا يُقِرُّ إلا بما يدرك بالحس الظاهر ، فاقترح من قصة غيب لا تدرك إلا بخبر من خارج يجاوز العقل ، اقترح وجود أول بلا موجِد ، وانقساما بلا سبب ، وتراكبا بلا غاية ، فَلَيْسَ ثم علم يقدر ولا قصد يحرر ، فلا سبب ولا غاية ، وإنما عشواء وخبط قد أخرجت هذا الكون المتقن المحكم وقد خالفت عن بديهة أولى في أي خلق ، ولو مَعِيبًا شَائِهًا لا سنة له تُحْكَمُ في سكون أو في حركة ، فلا بد من أول إليه يَنْتَهِي هذا الوجود المحدَث ، فيصدر عنه صدور الحادث عن المحدِث ، إذ لكلِّ حادثٍ في الخارج محدِث ، وذلك من بَدَائِهِ العقلِ الذي لا يماري فِيهَا إلا جاحد أو مسفسِط ، فَلَيْسَ إِلَّا الفرض المحض ، وغايته أَنْ يُسَلِّمَ به الناظر تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم الجاحد ، وليس إلا التخرص والظن بِغَيْرٍ علمٍ ، وليس إلا الغيب الذي فَرَّ منه الجاحد فأنكر قصة الخلق في الوحي ، واقترح أخرى لا تنفك تُرَدُّ إلى أول في الغيب ، ولو البسيطَ الذي وُجِدَ بلا موجِد ، وانقسم بلا سبب ، وتراكب لا على سنن ! ، جُمَلًا من المحالات الذاتية التي لا تُتَصَوَّرُ ، فَغَايَتُهَا فَرْضٌ محض في العقل تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم وذلك عنوان يطرد في مواضع كثيرة إذ يكاد المناظِر يجادل من لا يعقل ، وذلك في الفعل ما يعسر بل لا ينفك الجاهل يظهر على العالم في الجدال ! ، إذ لا يعلم من مقدمات الاستدلال ما يجوز وما لا يجوز ، فيجهد العالم أَنْ يُبِينَ له ما يجوز وما لا يجوز ، فهو يجادل من ينكر البدائه ، أو هو لا يعلمها ، بادي الرأي ، فيكاد يكون الجدال في هذه الحال : تعليما لطفل لا يدرك مقدمات الضرورة في أي استدلال ينصح ! ، وهو ، مع ذلك ، يجادل في مسائل الخلق الأول والمصير ، ولا يكاد يحسن الضروري من الدليل ! ، فالعالم معه في محنة أي محنة ! ، فَمَثَلُهُ ، كَمَا يَنْقِلُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ عن حكيم أول ، مثله كعالم يجادل صانع حلوى في مسائل من العلم تدق وجمهور من يشهد قبيل من الأطفال لا يعقل ، فيستفزه ما يطلق صانع الحلوى من دعاوى تخالف عن أي معيار في الاستدلال ينصح ، كما تقدم من دعوى التطور التي تَرُدُّ هذا الكون المحكم إلى خبط وعشواء أول ، وهو غيب يصدر عمن يتبجح بإنكار الغيب ، فينكر خبر النبوات في قصة خلق أولى إذ لم يشهدها بالحس المحدث ، فهلا أقام دليلا على دعوى التطور ، وهي ، أيضا ، من الغيب الذي ينكره ! ، إذ لم يشهد منه شَيْئًا بالحس المحدث ، وإنما تحكم في الباب فاستبدل غَيْبَهُ المحال بِغَيْبِ النبوات الذي قَصَّ من الخبر ما يواطئ العقل والفطرة والحس ، فكان من أهل : (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ، وهو ما حُدَّ طِبَاقًا يبين عن فحش الجناية ، طباق الإيجاب بين "أدنى" و "خير" ، وهو طباق ناقص ، فالطباق التام يكون بين الخير والشر ، أو بين الدنو والعلو ، فكان من لازم العلو خيريةٌ تُطَابِقُ الدنو في الدلالة وبه يحصل استغراقٌ لوجوهِ القسمة في الخارج ، فالشيء يوصف بالحسن أو القبح ، وإن كان بينهما ما هو عفو فهو إلى الحسن أَقْرَبُ إذ يَأْذَنُ في مباشرةِ كُلٍّ ، وذلك ما لا يُتَلَقَّى إلا من مشكاة الوحي ، إذ الإباحة والحظر مما يدرك العقل وجهه بما ركز فيه من قوة التحسين والتقبيح ، ولكنه لا ينفك يطلب مرجعا من خارج يبين بَيَانًا أَخَصَّ ، فإن الحظوظ والأهواء دَاعِيَةُ التَّدَافُعِ على قاعدة الجهل والنقص ، وهو معدن الأثرة والشح وما يكون من التظالم ، ولا ينفك يطلب قاعدة من التأويل ، ولو باطنا ، يكسو الأغراض الدنيا لحاء قيم عليا ، كما الحرية التي اتُّخِذَتْ ذريعة إلى مطاعنة الوحي ، وآخر من رِكْزِ الفطرة من أخلاق الجبلة الأولى ، وهي ما تقدم من معيار الحسن والقبح ، فَثَمَّ الأطر الحاكمة لأي فكرة أو حركة ، وهي ما تناول الْخِلْقَةَ وَالشِّرْعَةَ جميعا ، وذلك العلم الضروري الذي لا ينكره إلا جاحد أو مسفسط ، فكان من الحرية دعوى أَفْضَتْ إِلَى سفسطةٍ بها اضطرب معيار الخير والشر ، فَصَارَ الحكمُ ، كما يقول بعض من حقق ، ذَاتِيًّا لا يجاوز الفرد ، فلكلٍّ من المعيار ما اختلف ، فكان من أحكام النسبية ما اضطرب إذ لَا تَسْلَمُ إِلَّا أَنْ تُرَدَّ إلى مطلقات أولى هي المقدمات الضرورية لدى أَيِّ مستدل قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ في النظر والبحث ، فكان من دعوى الحرية في الفكرة والحركة ما آل إلى الفوضى ، فوضى التأويل الباطن ، وَلَا يَنْفَكُّ ، وإن أَطْلَقَ دَعْوَى النِّسْبِيَّةِ ، يحتكر المطلق الذي عنه البحث يصدر ، ولو مطلق الحرية المطلقة ! ، فالحرية المطلقة التي تُفْضِي إلى نسبية في الأحكام تَضطَّرِبُ هي ، فِي نَفْسِهَا ، مُطْلَقٌ ، ولو أتت عليه بالإبطال كما أن الجحود والإنكار دين وإن أتى على أصل الدين بالإبطال بما يكون من تكذيب واستكبار ، فذلك هوى قد صار الإله ، كما النسبي المضطرب قد صار أصلا يصدر عنه صاحبه في حكومته على الأفكار والأشياء جميعا كما قد عَمَّتْ به البلوى في الجيل المتأخر ، وهو ما يأتي على أصله بالإبطال احتجاجا بما قد أثبت مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، فلا يَرْضَى أن يطعن الخصم في أصله وهو الحرية المطلقة فَيُقَيِّدَهُ بما يُخْرِجُ آحَادًا لها من التَّعْزِيرِ وَالتَّوْقِيرِ ما يمنع ، وهو ما لأصل الحرية المطلقة يَنْقُضُ ، فَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ إِذْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقٌ ، ولو مطلق المطلق ! ، فاحتكر المطلق ، ولو الفوضى الذي تُفْضِي إليها الحرية المطلقة ، فاحتكر المطلق وهو ينكر المطلق ، واحتكر الحرية أَنْ يَتَنَاوَلَ غَيْرًا بما شاء ، ولا يَتَنَاوَلُهُ أحد بما شاء ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَبَادَلَ كُلٌّ الطعنَ ، وأن يكون كلٌّ محلًّا يَقْبَلُ النَّقْدَ والجرحَ ، فاحتكر صاحب الحرية المطلقة معيارَ الحسن والقبح الذي يصف ويحكم ! ، فهو يُجَرِّمُ جَرْحَ أوليائه وإن كانوا على جادة من التصور والسلوك تَقْبُحُ ، فَيَنْتَصِرُ لهم إذ لهم من الحق ما قد أُطْلِقَ ، ولو تَنَاوُلًا لغيرٍ بما يفجع ويؤلم ، أَنْ يَطْعَنَ فِي دِينِهِ ومعيارِه ..... إلخ ، وليس لِأَحَدٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ أوليائه بذلك ، فَلَهُمْ وحدهم الحرية المطلقة ، فلا يطرد الحكم في حَقِّ غَيْرٍ أَنْ يَتَنَاوَلَ أصلهم المطلق ، فإن النسبية في حقِّهِ وحده تَمْتَنِعُ أَنْ يحتمل ضِدًّا من الخطإ ، فما سواه فَهُوَ الفرع الذي يُرَدُّ إليه ، فهو خطأ حتى يثبت ضِدٌّ فيكون من رَدِّ الخصم إلى أصله ما يصحح ، فصار له وحده من المعيار ما أُحْكِمَ ، وهو ما ينقض دعوى النسبية التي تَحَمَّلَهَا ، فلا بد من أصل ، ولو أصلًا كَلَا أَصْلٍ ! ، فذلك في نفسه معيار في التصور والحكم يصدر عنه صاحبه على قاعدة الاعتقاد الجازم أنه وحده الحق دون غير ، فَعَلَامَ ينكر على الخصم أن يعتقد أيضا أَصْلًا هو المحكم ؟! ، فيكون من ذلك جزم يقطع بالصحة ، فما دونه فهو خطأ حتى يثبت ضده فيكون من رده إلى أصله ما يصحح ، وتلك ضرورةٌ لدى كُلِّ ذِي مُعْتَقَدٍ يَثْبُتُ ، ولو معتقدَ الفوضى تَذَرُّعًا بالحرية المطلقة ، فمن اعتقد فكرةً فلا بد أن يكفر بضدها ، سواء أكان الواحد أم الدائر ، وَلَوْ تَقَابُلَ الْمَلَكَةِ ، كما يقول النظار ، تقابل العدم والوجود ، فلا بد من ضد أو نقيض ، فمن انتحل أحدهما كفر بضده أو نقيضه لزوما ، وإلا ناله من قادح الاستدلال أَنْ جَمَعَ بَيْنَ اثنين لا يجتمعان والجهة واحدة ، فلا حجة له من جهة قد انفكت فهي تُسَوِّغُ الجمعَ ، فكيف بما زاد من نقيضين وصفهما ، كما قال أهل الشأن ، أنهما لا يجتمعان ولا يَرْتَفِعَانِ ، فمن اعتقد الحرية المطلقة أَصْلًا فهو يطعن في أصله مبدأ النظر إذ ينكر حرية الخصم المطلقة أن يجحد أصل الحرية المطلقة ! ، لَا جَرَمَ رُدَّ الأمر في كلِّ جدال إلى أصلٍ هو المحكم ، فلا يتناول الناظر المجادل هذه الدعوى المتناقضة إلا إلزاما للخصم لا اعتقادا لها أنها تَصِحُّ ، فَلَهُ منها حظ أن يعتقد ما شاء ، وَيَتْرُكَ آخرَ يعتقد ما شَاءَ عَلَى قَاعِدَةِ التَّسْلِيمِ والإقرارِ تَذَرُّعًا بآي من الوحي يَسْتَقْطِعُهَا من سِيَاقِهَا ، فـ : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ، وليس ذلك من الإقرار بل تلك مفاصلة صَدْرُهَا : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) ، فَثَمَّ حكومة تَفْصِلُ بين قَبِيلٍ يؤمن وآخر يكفر ، كما الخصم الذي يؤمن بالحرية المطلقة فهو يفاصل آخر لا يؤمن بها ، ولا يدخله في عموم قاعدته أَنَّهُ حُرٌّ أن يَعْتَقِدَ مَا شَاءَ ، فَثَمَّ القيد أن يعتقد ما شاء إلا أن يعتقد ضدا يقدح في أصله المحكم ! ، أصل الحرية المطلقة ، لا جرم كان الأولى في الجدال أَنْ تُتَنَاوَلَ الأصول ، فَيَعْتَقِدَ كُلٌّ أَصْلًا على قاعدة لا تقبل الشركة ، فَيَسْلَمَ من التناقض أن يجمع بين ضدين أو نقيضين ، ويكون من المفاصلة ما به العقل ينصح ، فـ : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فَلَيْسَ كُلٌّ على حق ، فهو واحد لَا يَتَعَدَّدٌ ، فلا يصدر المجادل إلا عن قاعدة اعتقاد يجزم ، وهو ما لا يحتمل الشركة ، ولو في فُرُوعٍ تدق ، فكيف بأصول جليلة ؟! ، فلا شركة فيها من باب أولى ، فمن اعتقد واحدا فَقْدَ نَقَضَ ضِدَّهُ الواحد أو الدائر ، وَنَقَضَ نَقِيضَهُ من باب أولى ، فإذا اعتقد صحة الأصل الذي له ينتحل ، فهو يتناوله بما يثبت من أدلة تنصح ، ثم يكون من تال أن يدحض أدلة الخصم فَلَا يُسَلِّمَ له بِصِحَّةِ أصلِهِ ، إلا أن يكون ذلك إِلْزَامًا بِلَازِمِ قَوْلِهِ ، أو تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم استدراجا له أن يلتزم من اللازم ما يبطل معتقده ، فلا يكون من ذلك مداهنة أو مصانعة تَرُومُ السلامة من غالب يتحكم فهو يضع المعيار على قاعدة القوة لا الحق ، وَيُلْجِئُ غَيْرًا أَنْ يَنْتَحِلَ على قاعدة الانهزام في الأفكار والأشياء كافة ، فلا يميز المنهزم بين الأفكار والأشياء بل يَغْتَرُّ بِظَاهِرٍ وزخرفٍ من أشياءَ تُبْهِرُ ، ولا يُنْكِرُ المنصِفُ ما قد بَلَغَ الخصم في عالم الأشياء ، ولكنها لا تُغْنِي شَيْئًا إِلَّا أَنْ تُؤْطَرَ عَلَى جَادَّةٍ تَنْصَحُ من الأفكار ، فهي محلُّ النِّزَاعِ الأخص ، بل هي المعيار الحاكم ، فليست الأشياء إلا وسائل ، فلا قيمة لها في نفسها إذ لغاياتها ومقاصدها تَتْبَعُ ، لا جرم كان من المخالِف إذ رام الخروج من هذا الإلزام أَنْ أَنْكَرَ الغائية الضرورية في أي طريقة عقلية ، فَصَيَّرَ الأداةَ في نَفْسِهَا مَرْجِعًا ذا قيمة تستقل ، فهي في نفسها غاية ، مع جحد لما يجاوز مِنْ تَفْسِيرِ ظاهرِها وَبَيَانِ غايةٍ لها هي معيار الحكم بالحسن والقبح ، كما تقدم من مثال السكين فإنها في نفسها آلة مجردة من القيمة ، فلا تصح معيارا يأطر ، فَيُقَالَ إن السكين تحكم ، بل هي تقطع والحكم قدر يُجَاوِزُ فهو يتناول قصد القاطع وغايته وما يحتف بفعله من القرائن ...... إلخ ، وهل يقول عاقل إن الملعقة في نَفْسِهَا غاية يحصل بها الشبع فيشتغل الطاعم بِتَحْصِيلِهَا دون الطعام بل هي أداة بها يَطْعَمُ ، والحكم بالحل أو الحظر ، بالنفع أو الضر ، ذلك الحكم إنما يتوجه إلى المطعوم لا الأداة التي بها يُتَنَاوَلُ ، وكذا الحرية فهي أداة لا غاية وبها تكليف بعواقب ما اختار الحر ، ولا يختار مع ذلك إلا على أصل محكم من القيم والمبادئ ، فلا اختيار يطلق ، وإلا اختار كلٌّ أن يقتل خصمة ويستلب حقه وهو مَا اسْتَوْجَبَ فِي الفصلِ بين الخصوم شريعةً ، والشريعة مظنة الإلزام بِقَيْدٍ فَلَا تُطْلَقُ الحرية والحال تلك ، فلا بد للخلق من شريعة إليها يتحاكمون وهي لحرياتهم تُقَيِّدُ ، ولو شريعةَ الحدِّ الأدنى كما اصطلحت أَدَبِيَّاتُ السياسة المحدثة ، ولو كانت الشريعة التي يتحاكم إليها الخصوم في نفسها ظالمة ، كما شريعة القوي الغالب ، فذلك أصل قد صدر عنه ، فهو محكم أو مطلق يُبْطِلُ دعوى النسبية المضطربة ، بل نِسْبِيَّةُ المنفعةِ الخاصة أو العامة ، وَإِنِ اضطَّرَبَ معيارُها فهي ، ولو في سياق الجدال ، هي أصل محكم عنه صاحبه يصدر ، ولو أصل النسبية المضطرب فلا يصدق فيه من هذا الوجه أنه أصل ، كَمَا تَقَدَّمَ في موضع ، فهو أصل كلا أصل ، أو إثبات والحال نفي ! ، فَصَيَّرَ القويُّ الغالب القوة هي المعيار في الحكم ، وصار الاختيار بين أقوياء ، فالبقاء للأقوى منهم ، كَمَا الْتَزَمَ التطور المحدَث ، فتلك شريعة تحكم ، ولو جائرةً تَظْلِمُ ، وهي معيار إليه يَرُدُّ المتخاصمون خصوماتِهم . فَثَمَّ ، كما تقدم ، معيار أول يجاوز آلة الاختيار من حرية وسلامة من العطب ..... إلخ ، فتلك شروط التكليف لا عَيْنُهُ ، فلا بد من أول عنه يصدر الاختيار من قِيمَةٍ عليا حاكمة هي المعيار المطلق الذي يصدر عنه المكلف في اختياره ، فلا يصدر عن لَا شَيْءٍ ولا يكون الشيء في الخارج هو الحكم المطلق ، إذ جَاوَزَ بِفَرْضِهِ الأشياءَ إلى الأفكارِ ، الفردَ إلى الجمعِ ، فيكون الحكم على الباعث والغاية ومعيار التحسين والتقبيح وما يصدقه في الخارج من مرجع التشريع الأعم ذي المقاصد الكلية وما يزيد في الحكم إذ يَتَنَاوَلُ الجزئي الأخص بالإباحة أو الحظر ، فَيُصَدِّقُ أَوَّلًا من المعيار قد نصح في الوجدان الباطن بما رُكِزَ فِيهِ ضرورةً لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، وذلك ما افْتَقَرَ إلى قدر من الإجماع ، ولو الإجماعَ على جملةٍ من العلوم الضرورية المركوزة في وجدان الخصوم كافة ، وذلك أول في النَّظَرِ : النَّظَرِ في الكلي المجمل ، محل الإجماع لدى العقلاء جميعا ، إلا مَنْ سَفْسَطَ فَأَنْكَرَ الْبَدَائِهَ ، وهو ، مع ذلك ، مما لا يجزئ مُنْفَرِدًا في محَالِّ النِّزَاعِ الأخص ، فلا ينفك يطلب من الشرعة ما يُفَصِّلُ ، فما أُجْمِلَ في العقل من معيار الوصفِ ، وَصْفِ الظاهرة في الخارج ، ومعيارِ الْحُكْمِ بالحسن والقبح ، ذلك مما لا يجاوز حَدَّ الكليِّ المجمل ، ولا ينفك ينفع في جدالِ خِصْمٍ يُسَفْسِطُ فَيَزْعُمُ طريقةً هي المثلى أَنْ يُنْكِرَ المطلقاتِ كَافَّةً حسما لمادة التعصب ، فَيَرُدَّ الأمرَ إلى نسبيات تضطرب تَذَرُّعًا بما تقدم من الحرية المطلقة في النظر والاعتقاد ، فلا بد من قدر من الثوابت والمطلقات ، ولو المجرَّدَ في الذهن من الكليات آنفة الذكر ، وإلا لم يسلم في الدنيا استدلال ، فلا ينفك يطلب من المقدمات الضرورية ما هو محل الإجماع لدى الخصوم كافة ، وهو ، كما تقدم ، مما يعود بالإبطال على أصل الحرية المطلقة ، ولو حُرِّيَّةَ السفسطَةِ انْتِحَالًا لِمُحَالٍ ذاتي لا يُتَصَوَّرُ ، فهي تضيق ذرعا بحرية آخر عليها يُنْكِرُ وَلِسَفْسَطَتِهَا يَفْضَحُ ! ، فلا بد من قدر من العلوم الضرورية ، ولو الكليات المجملة التي يجدها كُلٌّ فِي نَفْسِهِ ضرورة لا يطيق لها دفعا إلا أن يتحكم فيخالف عن مقدمات الاستدلال في العقل الصريح ، والقول بالحرية المطلقة مما يجري مجرى المحال الذاتي إذ يُفْضِي إلى فساد الدنيا باستباحة الحقوق والحرمات ، فلكلٍّ من الحرية أَنْ يَنْتَهِكَ حَقَّ غيره ، فإذا ضربه أو قتله أو هتك عرضه فهو حُرٌّ ! ، فمن ذا يُسَلِّمُ بِذَلِكَ وإن انْتَحَلَ من الحرية المطلقة ما انْتَحَلَ ! ، فلا يطيق منه ، ولو بعضا ، إذ له من الحق ما تقدس ، وهو ، مع ذلك ، ينتهك حق الخالق ، جل وعلا ، فيغضب لنفسه ولا يغضب لمن خلقه بل قد يجحد وجوده ، بادي الرأي ، ولو تكلف لذلك إنكار المعلوم الضروري من المنقول والمعقول والمفطور والمحسوس ، والخالق ، جل وعلا ، قد أَطْلَقَ وَقَيَّدَ في الباب ، فَأَطْلَقَ الأمرَ بِقِتَالِ مَنْ كَفَرَ ، وَقَيَّدَ إذ لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ على الإيمان ، والحكم ، مع ذلك ، لِوَحْيِهِ المنزَّل ، فَتِلْكَ رسالةٌ يَتَحَمَّلُهَا أَتْبَاعُ الوحيِ ، ولها ضِدٌّ يَتَحَمَّله الخصم فَلَا يَنْفَكُّ ، أيضا ، يَنْتَصِرُ لدينه المحدَث ، فإذا حصلت له كفاية فَهُوَ سَاعٍ في حمله إلى غير ، فمنه جدال بما يَبُثُّ من دعاية ، ومنه جلاد كما جلاد الحداثة المتأخر في دعاوى إصلاح وتحديث وفدت على الأمصار بِجُنْدٍ وَعَتَادٍ وتجشَّمت ، كما تَوَاتَرَ من أدبياتها سياسةً وَحُكْمًا ، تَجَشَّمَتْ عَنَاءَ التحديث ، فتلك رسالتها أن تتحمل أعباء الخلق فتخرجهم من الظلمات إلى النور ، وتلك دعوى قد اشترك فيها أتباع الرسالة وأتباع الحداثة ، فكلٌّ يدفع عن نفسه الصائل ، وكلٌّ يحمل دينه إذا كان ثم من القوة فائض ، فيطلب الخصم ، ولو في أَرْضِهِ ، فَهُوَ يَرُومُ نَشْرَ دِينِهِ الذي انتحل ، ويروم من حكم الأرض به مَا يُصْلِحُ ، وإن لم يكره أحدا أَنْ يُؤْمِنَ ، وهو ، مع ذلك ، قد أَلْجَأَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي حُكْمِهِ ، إذ يَرَاهُ الأصلح والأنفع ، فتلك دعوى مشتركة تستوجب قَدْرًا من الإلجاء ، وإن صدرت عن قاعدة حرية مطلقة ، وإلا احتج بها المغلوب أن يحتكم في الشأن العام إلى ما يراه الصواب ، فلا يكون ذلك في أي جمع ، وإلا اتخذت فئام منه مرجعا يخالف عن المرجع الأعم ، فيكون لها من الحكم ما يجاوز الاعتقاد إلى الشأن العام ، فَتَتَعَدَّدُ الشرائع وكلٌّ حر أن يتخذ من المرجع ما يلائم ، أَفَتَرْضَى الحرية المطلقة أن يكون المرجع إلى غيرها تذرعا بما أطلقت من دعوى الحرية ؟! ، فلا يرضى مِثَالٌ يُعَظِّمُ رأسَ المالِ ، لا يرضى أن يكون معيار الاشتراك في الأموال شيوعا لا يميز ، لا يرضى الأول وإن ادعى الحرية المطلقة مرجعا ، لا يرضى أن يكون الثاني هو المعيار ، بل الحرية أن يختار في نطاق المرجع الأعم ، رأس المال وما يواطئ من حرية الحركة والعمل في سوق تَتَّسِمُ بالانفتاح الذي يتخفف من قيد العدالة في توزيع الثروة إِنْ فِي نِطَاقِ الأمة الواحدة ، أو آخر تحتكر فيه الدولة الغالبة ، فقوتها سَبَبُ غَلَبَتِهَا لا ما تَحْمِلُ من معيارِ حَقٍّ ، إلا حق القوة ، فهو أداة بها تحكمُ المغلوبَ وَتَقْهَرُ أَنْ يَخْضَعَ لِمِثَالِهَا الذي يزيد في جَاهِ الْقَوِيِّ وَرَفَاهِهِ ، فلا يكون للمغلوب خيار ، فليس له من الحرية المطلقة أن يأبى الانقياد للغالب ، فالغالب يكرهه أَنْ يَنْتَحِلَ حُرِّيَّةً مطلقةً ! : حُرِّيَّةَ تَدَفُّقِ المالِ والثروة فلا قيد يأطر ، ولو رعايةً لحقِّ ضعيفٍ لا يقدر ، فقانون السوق هو الحاكم ، وهو القوي القاهر ، وإن انتحل الحرية فلا إكراه ولا قهر ، إلا الإكراه على حُرِّيَّةٍ تحفظ حق القوي في انْتِهَابِ الضعيف بما احتكر الأول من أداةِ سياسةٍ وحربٍ ، مع أخرى بها قُوَّةُ الآلةِ ، ولها من النفع مَا لَا يُنْكَرُ ، ولكنها ، كما تقدم في موضع ، لا تصح أصلا في عالم الأفكار إذ لا يجاوز نَفْعُهَا عَالَمَ الأشياءِ ، فعالم الأفكار يجاوز وهو المرجع في السلوك والفعل ، فالآلة لها من الْأَثَرِ مَا اطَّرَدَ بِمَا استقر من السَّنَنِ ، سَنَنِ الكونِ الذي أُحْكِمَ ، فلا يكون منها معيار يجاوز إلى الفاعل إذ ثَمَّ سِلْكُ أخلاقٍ وأحكامٍ يَنْتَظِمُهَا ، فَأَثَرُهَا واحد ، كما السكين فهي تقطع في يَدِ العادل وفي يَدِ الظالم ، في يَدِ النافع وفي يَدِ الضار ، فلا مناص أن يكون ثم معيار حاكم لهذا الأثر القاطع ، فهو قرينة من خارج تُرَجِّحُ في جائز يحتمل ، فَثَمَّ محل الإجماع في أَثَرِ الآلةِ وَفِعْلِهَا بما كان مِنْ سَنَنٍ في الكون قَدْ أُحْكِمَ فَجَرَى عليه أمر هذا العالم وَانْتَظَمَ ، فذلك وصف الآلة ، وثم اختلاف في الحكم ، فهو يفتقر إلى معيار يجاوز من خارج ، معيارِ أخلاقٍ تُلْتَزَمُ وآخر من الأحكام يُلْزِمُ ، فَثَمَّ جَائِزٌ قَدِ اسْتَوَى طَرَفَاهُ ، فالسكين تَقْطَعُ إِجْمَاعًا ، وإنما استوى طَرَفَا الفعلِ ، بادي النظر ، فهو يحتمل نافعا وآخر يضر ، حَسَنًا وآخر يَقْبُحُ ، فلا مرجِّح في السكين يَثْبُتُ ، فهي آلة مجرَّدة من الفكرة والشرعة ، قد استوى فيها الخلق كافة إذ كلٌّ بِهَا يَقْطَعُ ، فذلك الجائز المحتمل الذي استوى طَرَفَاهُ ، فَاحْتَمَلَ الْحُسْنَ وَالنَّفْعَ في موضع ، وَالْقُبْحَ وَالضُّرَّ فِي آخر ، فلا ينفك يطلب مرجعا من خارجٍ يُرَجِّحُ ، وذلك محلُّ إجماعٍ آخر أن يكون ثم معيار حاكم من خارج ، وهو مُلْزِمٌ لمن اعتقد صحته فلا حرية له أن يخالف عنه ولا حرية لخصم يجاوره إن كان في سلطانه ، بل معنى الرسالة الأخلاقي يوجب عليه حِمْلَانَ مَذْهَبِهِ إِلَى غَيْرٍ فَهُوَ بِهِ يُبَشِّرُ وَلَهُ يَنْتَصِرُ أن يكون الحكم المهيمن ، فلا يَرَى صَلَاحَ الخلقِ إلا أن يدخلوا فيه فلا حرية لخصم أن يخالف عن معيار الحرية المطلقة ! ، وذلك ، كما تقدم مرارا ، إِلْزَامٌ يَأْتِي على الأصل بالإبطال فلا يُسَلِّمُ به عاقل ، سواء أَزَعَمَ الحرية المطلقة وتكلف لذلك ما يخالف عن القياس المصرح بل وطريقته في الخارج تفضح كذب دعواه بما تقدم من إلزام الخصم أن يلتزم قواعد الحرية المطلقة فَلَيْسَ حُرًّا أن يختار سوى الحرية المطلقة ، فَلَا يُسَلِّمُ العاقل بهذا الإلزام سواء أَزَعَمَهُ وَتَكَلَّفَ له الدليل أم سلك الجادة الناصحة في النقل والعقل فأبطل هذا الأصل إذ يُجَافِي عَنْ معنى التكليف الذي يَطَّرِدُ في أَيِّ تَشْرِيعٍ ، وَإِنِ اتَّسَعَ فِيهِ نِطَاقُ الحرية فلا يخلو من خداع ومكر إذ ثم من واضع الأصل ما لا يسلم من هوى وحظ فتلك دعوى تُضَخِّمُ نُفُوذَهُ وَثَرْوَتَهُ إِذْ تُعَزِّزُ في نَفْسِ الْحُرِّ المطلَقِ ! نَزْعَةَ الاستهلاكِ لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَدَائِرَةُ المحظور قد ضاقت ودائرة المباح قد اتسعت حتى آلت إلى استباحة ما قد عُلِمَ ضرورةً فَسَادُهُ ، ولو في معيار البحث والتجريب الذي يستند إلى الحس ، مرجع العقل المحدَث في سَنِّ الشرعِ الملزِم ، فَخَرَجَ المكلَّف عن تكليف الوحي المنزل الذي جاء من عِنْدِ غَنِيٍّ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ ، فحكومته في الخلق تَنْصَحُ ، خرج المكلَّف عن الشرع المنزَّل تَذَرُّعًا بالحرية المطلقة لِيَدْخُلَ فِي قَيْدٍ آخر يُبْطِلُ الدعوى ، دعوى الحرية المطلقة ، قَيْدِ الوضع المحدَث الذي جاء من عند فقير له من ذلك وَصْفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ بِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مَاهِيَّتُهُ مِنْ جَهْلٍ وَنَقْصٍ وَحَظِّ نَفْسٍ يَتَكَلَّفُ لَهُ وجوها من التأويل تغش فلا تنصح ، ولو بمعيار الحس المدرَك ، وهو بها يوسوس ولها يَفْرِضُ في الدرس الموجِّه ، فلا تعليم بلا قيم تُؤَسِّسُ وَهِيَ مَا يَفْتَقِرُ إلى المعيار والمرجع ، وذلك قيد يأطر الحرية ويميز كُلَّ منهاجٍ من غير ، فلا إنسان ، شاء أو أبى ، إلا وهو عبد يمتثل شريعةَ مَنْ يَعْبُدُ ، فَلْيَخْتَرْ سيِّدَهُ الذي يُسْلِمُ إليه قِيَادَهُ ، وإلهه الذي يسلك منهاجه ، لا جرم كان من ملإ فرعون ناصح ينكر : (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) ، فلم يكن ثَمَّ من الحرية المطلقة ما يُجَوِّزُ لبني إسرائيل الخروج عن آلهة فرعون والملأ ، فهي المعيار والمرجع الذي يهدي سبيل الرشاد ، وتلك دعوى تطرد في كلِّ شرعةٍ ومنهاجٍ ، وفي كل جيل وحقبة ، فلا مناص من الجدال بكتاب يَهْدِي وهو ما يفضي لُزُومًا بما اطرد من سنن النفوس إذ تَتَدَافَعُ ، ما يفضي إلى الجلاد بحديد يَنْصُرُ ، فَكُلٌّ يدفع عن منهاجه الذي يسلك بل ويطلب الخصم إِنْ حَصَلَ له من القوة والمكنة قَدْرٌ ، وَتَصَفُّحُ تاريخِ الأمم عن ذا يكشف ، فهو قانون في الدنيا قَدْ أُحْكِمَ ، وإنما الشأن في صدق الدعوى المجادِلة في نفس الأمر ، وعدالة الحديد المجالد في ساحات القتال والحرب ، والتاريخ والحاضر حكم بين الخصوم إذا تجردت النفوس من الأهواء والحظوظ . وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، ما يَفْتَقِرُ إلى المحكَم الأول ضرورةً في العقل قد خالف عنها صاحبُ الدعوى المطلقة في حرية النظر ، ولو جُودِلَ أن لآخر حرية تطلق أن يخالف عن قواعد الجمع والطرح في الأخذ والرد ، فأخذ من ماله بغير حق وتذرع أن ذلك حق بما اقترح من سَنَنٍ جديد في عالم الأعداد ، فهو حر في جمع وطرح وإن خالف عن بدائه العقل ، فلو كان ذلك منه لأنكر الخصم أشد الإنكار وَنَبَزَ صاحب هذه الذريعة أنه مجنون حَقُّهُ العلاج أو سَفِيهٌ حَقُّهُ التأديب والزجر ، مع أَنَّهُ يُنْكِرُ ما هو أشد ضرورة ، فَقَدْ أَنْكَرَ المحكِم لِمَا يَشْهَدُ في هذا العالم من سَنَنٍ محكِم ، فلا محدِث لهذا الكون المحدَث ! ، ولا متقِن ولا محكِم ، وإنما عشواء وخبط بلا إرادة ولا قصد ! ، فذلك ما يجري مجرى الحرية المطلقة ، وليس لأول أن يضع من معيار الجمع والطرح جديدا هو المحدَث ، فلا بد من مطلقات وثوابت في عالم الأعداد ، وإلا فسد الحساب وضاعت الحقوق ، وليس ثم آخر في هذا الكون بما أتقن من خلقه وأحكم من سننه ! ، فيكون الإنكار على الأول إذ يضيع حق المخلوق ، ولا يكون على الثاني وإن ضاع حق الخالق ! ، فأيهما أولى بالاعتبار ، وأيهما أحق أَنْ تُقَيَّدَ الحرية المطلقة لأجله ؟! ، وأيهما أشد ضرورة في قياس العقل المصرح ، وإن كان ثم حق في حريَّةِ اعتقادٍ فهو مما قُيِّدَ فلا حرية تُطْلَقُ في اعتقادِ دينٍ أو مذهبٍ بلا قيد ، فكان من قيد الدخول في شريعة الوحي ، وإن لم يدخل الإنسان في اعتقاده ، فَيَلْتَزِمَ أحكامَه العامة ، وله من أحكامٍ خَاصَّةٍ ما لا يُنَازَعُ فِيهَا فَيَقْضِي فِيهَا بِشِرْعَتِهِ ، على تفصيل في ذلك ، وهو ، أَيْضًا ، ما يكون من آخر يزعم الحرية المطلقة فَلَهُ في سلطانه حكم عام لا حرية في المخالفة عنه ، وإن كان الشعار المعلن : الحرية المطلقة إلا أن تخالف عنها ! ، فذلك ، كما تقدم في موضع ، مما يأتي على الأصل بالإبطال ، فالقول بالحرية المطلقة ، من هذا الوجه ، محال ذاتي ، إذ لكلٍّ أصل عنه يصدر ، فآلة السياسة الحرة ! في مثال رأس المال لا تَرْضَى أن يختار الأحرار مثالَ الاشتراك والشيوع ، فَتَجْتَهِدُ تارةً في الجدال والمكر ، وتباشر أخرى الجلاد والقتل ، إذ ثم حال ضرورة تهدد الأصل ، وهو ما منح المثال الحر استثناءً أن يقيد الحرية المطلقة تَذَرُّعًا بحفظها ، ولو نَالَ من أصل الدعوى ، وكل أولئك من جملة لوازم ضرورية في أي جدال ينصح ، فلا يستقيم إلا أن يكون ثم مقدماتٌ يُسَلِّمُ بها الخصوم كَافَّةً ، فَثَمَّ قَدْرٌ من العلوم الضرورية ، المحسوسة كما الجوع والعطش والشبق ، والمعقولة كما حُسْنُ الصِّدْقِ والعدلِ وَقُبْحُ الكذبِ والظلمِ ، فذلك مما ركز في الفطرة الأولى ، وَإِنْ جَحَدَهَا الخصم فلا ينفك يَلْتَزِمُهَا إذ أُلْزِمَ ، وإلا افْتُضِحَ أمره واستبان خطؤه ، وهي ، كما تقدم في موضع ، دليل على فاطر هو الأول ، لا جرم التزم الخصم أيضا مع ما تقدم من إنكار الغاية ليسلم من لَازِمِهَا في الاعتقاد والتكليف ، الْتَزَمَ آخرَ أَنْ يُنْكِرَ الفطرة الأولى ، إذ تدل على سبب يَتَقَدَّمُ وهو مما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يُفْضِي إلى فاطرٍ هو الأول ، فَلَا سَبَبَ لَهُ يَتَقَدَّمُ ، بل كلُّ سببٍ فَعَنْهُ يَصْدُرُ صدورَ المفطور لا على مثال تقدم ، فذلك البدع والتصوير وهو قدر يجاوز الإيجاد والتكوين ، فكان من ذلك ما نص الوحي المحكم إذ يصف الرب المهيمن ، جل وعلا ، فـ : (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) ، فَثَمَّ من القصر ما اطرد في درس المعاني أَنْ عُرِّفَ كلا الجزأين في لفظه "هُوَ" و "الله" ، وذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى الإيجاز بالحذف ، فكان من ذلك ما ناب عن مدلول في النطق أن : هو الله لا إله غيره ، وهو الخالق لا خالق غيره ، وهو البارئ لا بارئ غيره ، وهو المصوِّر لا مصور غيره ، مع آخر قد سكت عنه النص ، فهو المدبر لا مدبر غيره ، وإن كان من الأخير ما لم يَرِدْ به اسم يَنُصُّ كما الألوهية والخلق والبرء والتصوير ، فكان منه ما حَدَّهُ التَّنْزِيلُ ، في مواضع ، حَدَّ الفعلِ في باب الأصل فيه التوقيف فلا ينال إلا من مشكاة خَبَرٍ يَصْدُقُ ، فَلَا يُشْتَقُّ منه اسم ، على خلاف قد بُسِطَ في درس الإلهيات ، فثَمَّ من أجاز بقيد ، وثم من منع سدا لذريعةِ تَوَسُّعٍ في الباب ، فكان من ذلك نص يحكي الفعل إذ : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، وهو مما حد مضارعا ذا دلالة تستغرق الحاضر والمستقبل مع آخر يلزم إذ ثم من فعل التدبير ما تناول أَجْزَاءَ الزَّمَانِ كَافَّةً ، فهو لازم ، من وجه ، لازمُ الخلقِ والتصوير والبرء ، وهو نص من آخر ، فكان من الخلق أول ، وهو التقدير في علم غيب أول ، وكان من البرء ما يَتَأَوَّلُ هذا التقدير فَيُخْرِجُهُ من القوة إلى الفعل ، من الغيب المقدَّر إلى الشهادة إذ تُصَدِّقُ ، وثم من التصوير تال به إِتْقَانٌ أَخَصُّ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ من الصورةِ ما يميز ، وَلَوِ التَّوْأَمَ الَّذِي يَتَمَاثَلُ ، فلا بد من قَدْرٍ فَارِقٍ به تصويرٍ وَبَدْعٌ لَا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، فكان من دلالة التعريف آنف الذكر ، تعريف الجزأين في "هُوّ" ، في حد ، و : "اللهُ" و : "الخالق" و : "البارئ" في آخر ، كان من ذلك قَصْرٌ يحصر ، وهو ما رَفَدَ "أل" ، فَتَحْكِي مبدأ النظر : دليلَ بَيَانٍ لماهية المدخول ، معنى الخلق والبرء والتصوير ، وتحكي آخر من استغراقٍ لِوُجُوهِ المعنى ، وَتَحْكِي الْوَصْلَ وهو نص في العموم قد زَادَ مِنَ الدلالة التعليلَ والتَّسَبُّبَ ، إِذْ يُنَاطُ الحكم بالمعنى الذي اشتقت منه الصلة ، على تقدير : هو الذي خَلَقَ وَبَرَأَ وَصَوَّرَ ، وكلٌّ قد حُدَّ حَدَّ الفاعل من الثُّلَاثِيَّانِ "خَلَقَ" و "بَرَأَ" ، والرباعي "صَوَّرَ" ، وكل أولئك مما رَفَدَ معنى آخر أخص ، معنى العهد ، فَثَمَّ عهد خاص لا يصدق إلا في واحد ، فلا خَلْقَ ولا بَرْءَ ولا تَصْوِيرَ يستغرق وجوه المعنى إلا لواحد هو الرب الأعلى ، ![]() ![]() ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#12
|
|||
|
|||
![]() وَقَبْلًا فِي سِبَاقٍ من الآي قد تَقَدَّمَ ، قَبْلًا كان القصر بتعريف الجزأين في قوله
![]() ![]() ![]() فَثَمَّ ضمير الغائب الذي يرجع إلى غير غائب ولا آفل صدر الآي آنف الذكر : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ، فَلَيْسَ ، جل وعلا ، بالغائب ولا بالآفل ، بل له من المعية ما أحاط ، مَعِيَّةِ العلم الذي استغرق ، فَثَمَّ علم أول في الأزل ، علم التقدير الذي استغرق الكليات والجزئيات كُلِّهَا ، وَثَمَّ عِلْمٌ تَالٍ يصدق ، وبه خروج المعلوم من القوة غَيْبًا إلى الفعل شهادةً ، من التقدير إلى التكوين ، وبه حصول ماهية أخص في الخارج ، ماهية الفعلِ المصدِّق لِمَا كان من تقدير في العلم الأول ، فذلك الموجود بالقوة فإذا كان ثَمَّ مُرَجِّحٌ مِنْ خَارِجٍ ، مشيئةَ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وما تلا من كَلِمَةٍ تُصَدِّقُ فَهِيَ السَّبَبُ الَّذِي يُبَاشِرُ في الخارج ، وعنه أَسْبَابٌ أخرى تَصْدُرُ ، منها المغيب ومنها المشهود ، حتى يكون ثم لحظة خروج ، خروج المقدور من الغيب إلى الشهادة ، من التقدير إلى التكوين ، ولا يكون ذلك إلا بالتأويل ، تأويل المقدور المغيب بآخر يشهد في الخارج ويصدق ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ من العلمِ المحيطِ إلى المشيئة إلى الكلمة وهي ما يَتَحَمَّلُ الْمَلَكُ الموكَل بالأمر لا عن غِيَابٍ أو عَجْزٍ ، وإنما هو من جُمْلَةِ أسبابٍ تصدر عن الخالق الأول ، جل وعلا ، صدورَ المخلوقِ المفتَقِرِ إلى خالق أول يُقَدِّرُ ويوجد ويجري على سنن محكم فكان من الحكمة في إجراء الأسباب ما به إثبات وصف الجمال ، فَيَتَحَمَّلُ الْمَلَكُ الكلمةَ ، وعنها يصدر في تأثير آخر مغيَّب ولا يَزَالُ ذلك يتسلسل حتى ينتهي إلى عين الموجود تأويلا لعين المقدور ، فيقع في الخارج كما قَدْ قَدَّرَ الرَّبُّ الخالق ، جل وعلا ، فخلقه على أنحاء منها : خلق التقدير الأول ، وآخر به الإيجاد ، وثالث به التصوير والبدع ، ورابع به التدبير والرَّزق ، فَثَمَّ جنس عام يستغرق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، يُرَدُّ إلى علم أول قد تَنَاوَلَ الكليات والجزئيات كافة ، فكان من ذلك تسلسل من أعلى إلى أدنى : من علم التقدير المحيط إلى مشيئة تنفذ إلى كلم تكوين يحدث ، وهو تأويل ينصح لما كان من العلم المحيط الأول ، فَثَمَّ مِنْ نَوْعِ الوصفِ مَا قَدُمَ إذ ثَبَتَ في الأزل قُوَّةً ، وكان من آحادٍ بِالْفِعْلِ تُصَدِّقُ بِمَا كان من مَشِيئَةٍ في الخارج تَنْفُذُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع تكثر ، أصل يطرد في صفات الفعل كافة ، فَيَصْدُقُ فِيهَا جَمِيعًا أنها قديمة النوع إذ ثم كمال أول هو المطلق ، فذلك أصل قد استغرق الذات القدسية وما قام بها من صفات الذات والأفعال ، فالأولى لا تناط بالمشيئة إذ لا يتصور أن يحدث منها شيء ، ولو آحادًا ، فالحياة ، وهي وصف الذات الأول ، وهي أصل الصفات كافة ، الحياة ، بداهة ، لا يتصور أنها مما يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، أو أن ثم آحادا منها تحدث ، بل هي وصف ذَاتٍ لا يُفَارِقُهَا أَبَدًا ، وهو أول لم يَزَلْ آخر لا يَزَالُ ، فلا يَعْرِضُ له ما يَعْرِضُ لِغَيْرٍ من الحيوات المخلوقة ، بل تلك حياة الخالق ، جل وعلا ، وهي واحد في الباب قد انْفَرَدَ بالكمال المطلق ، وذلك كَيْفٌ لا يدرك بالحس ، والشركة فيه تَمْتَنِعُ بالنظر في الحقيقة الأخص في الخارج . فَثَمَّ ، كما تقدم في مواضع ، الاشتراك في الجنس المعنوي المجرَّد في الذهن ، وَثَمَّ افتراق بالنظر في القيد ، قَيْدِ الإضافة إلى الموصوف أو الذات التي قام بها معنى الحياة ، فَثَمَّ جنس الحياة المطلق وتحته حياة المخلوق في حد ، وهي المحدَثة بعد عدم الناقصة فلا يكون لها من الكمال أول بل كمالها إن حَدَثَ فهو طارئ يَعْرِضُ ، وليس ، بداهة ، مما يُطْلَقُ كما كمال الخالق الأول ، جل وعلا ، فحياته ، ![]() والشاهد أن مَرَدَّ كُلٍّ ، وصف الذات أو الفعل ، وآثارها ما به صلاح هذا الكون ، أَنَّ مَرَدَّهَا جَمِيعًا إلى وصف الحياة ، فهي أصل الصفات عامة ، وأصل الصفات الذاتية خاصة ، وَمِنْهَا ما يَتَعَدَّى إحياءً لِغَيْرٍ بما يخلق من مادة الحياة وهي أَخَصُّ مِنْ مَادَّةٍ في الخارجِ مَيِّتَةٍ ، فذلك ما لا يطيق الخلق له إيحادا من العدم وإن كان ثم استنباط واستخراج من أول في الكون ، فلم يكن منهم خلق من العدم ، ولو مَادَّةً مَيِّتَةً ، فهم عن خلق الحياة ، بداهة ، أعجز ، بل ما ضَاهَوا من جُزْئِيَّاتٍ تدق من عُضَيَّاتٍ في وحدات الخلق الأولى ، ما ضاهوا منها فلا يكون منه حياة تحدث إلا أَنْ يَنْتَظِمَهُ مِثَالٌ حَيٌّ فيه يُحْقَنُ أو يُضَمَّنُ ، كما ذكر بَعْضُ من حَقَّقَ . فذلك ، لو فُرِضَ الفرض المحض في العقل ، فَلَيْسَ وصفُ صاحبِه الواجب الأول ، بل هو جائزٌ كَسَائِرِ الجائزاتِ التي يُسْتَصْحَبُ مِنْهَا العدم الأصلي الأول حتى يكون ثَمَّ دليل عنه يَنْقِلُ بما يكون من مرجِّح من خارج ، فيكون له من الوجود تَالٍ في الخارج ، فهو وجود أخص يجاوز أولا من التقدير المجرد ، فليس للأخير وجود في الخارج ، وإنما وجوده في العلم الأول ، وذلك ما لا يخرجه عن حَدِّ المعدوم ، وإن كان من المقدور ، فَثَمَّ تقدير أول قد تَنَاوَلَ الماهية قبل حدوثها ، فَحَدَّ لها من الذات والوصف ما به تمتاز من غير ، ولا يَنْفَكُّ يستصحب منها العدم الأصلي الأول حتى يكون ثم مرجِّح من خارج فَهُوَ يُخْرِجُهَا من القوة إلى الفعل ، فَيَصِيرُ الجائز ، وهو عدم لَدَى المبدإِ ، يصير ذا وجود في الخارج أخص ، يُصَدِّقُ مَا كَانَ من وجود أول في علم التقدير المستغرِق ، وهو وجود لِغَيْرِهِ لا لذاته ، فَثَمَّ من القرينة ما رَجَّحَ في الجائز ، فلم يكن من حصول الواجب في الخارج ترجيح بلا مرجح ، فذلك التحكم الذي يجافي عن قياس العقل المصرح إذ لا يكون الترجيح إلا بمرجح ، ولا يكون من الجائز تال هو الواجب الذي يرجح فيه طرف الإيجاب ، لا يكون من ذلك إيجابٌ بلا موجِب ، كما أنه لا حدث إلا بمحدِث أول يَتَقَدَّمُ فهو علة عنها المحدَث يصدر ، وذلك أصل ضروري وهو من مقدمات أيِّ استدلالٍ نَظَرِيٍّ في باب السَّبَبِيَّةِ التي ما انْفَكَّ جاحد الخلق الأول يُنْكِرُ منه البدائه ، فكان مِنْ فَرْضِ التَّطَوُّرِ مَا يجافي عن أصلٍ في الباب آخر ، امْتِنَاعِ التَّسَلْسُلِ فِي الْمُؤَثِّرِينَ أَزَلًا ، فالأسباب ، كما تقدم ، لا تنفك تَتَسَلْسَلُ من الشهادة إلى الغيب ، من المحدَث إلى القديم حتى تَبْلُغَ أولا لا أول قبله وهو الخالق ، جل وعلا ، إذ له من ذلك وصف الإطلاق المستغرق . فكان من فَرْضِ التطور ما جَفَا الأصلَ آنفَ الذِّكْرِ ، امتناع التسلسل في المؤثرين أولا ، وكان من آخر قد جفا ، أيضا ، المعلومات الضرورية التي تثبت لدى المبدإ في أي استدلال في العقل ينصح ، فكان منه جفاء في المعقولات إذ نَفَى القوى المؤثرة في السبب ، فالمسبَّب يحصل بعد السبب اقْتِرَانًا أَوْ تَعَاقُبًا بلا معنى أخص هو مَنَاطُ التَّأْثِيرِ المرجِّح ، بما رُكِزَ في السبب من قُوَّةٍ تُؤَثِّرُ فهي تباشر أخرى في المحل تَقْبَلُ ، وهو ما يجحد حكمة في سنن الكون بها تدبير الأمر أن لم يكن ثم علم ولا قصد ، فَثَمَّ من الإتقان والإحكام ما يدل ، بداهة ، على متقِن محكِم أول ، فَلَهُ من العلم ما أحاط بالكليات والجزئيات كافة ، فمنه علم يدق قد تَنَاوَلَ المحال والأسباب ، مع تخصيص في التكوين والتأثير فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بإرادة ، وهي المرجِّح من خارج ، فليس الأمر خبط عشواء ، بل ثم من القصد ، وهو الحكم ، مَا لَا يَنْفَكُّ يدل على أول من التصور وهو العلم ، فالعلم أول إذ يقدر ، والإرادة تالية إذ تصدق فَهِيَ في المقدورِ الجائزِ تُرَجِّحُ ، وذلك المرجِّح من خارج وهو الدليل الناقل إذ به الجائز في التقدير الأول ، وهو عدم لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ في الخارج بَعْدُ ، فيكون من ذلك افتقار ذاتي إلى مرجِّح من خارج ، وبه تأويله يأتي مصدِّقا لما كان من علم تقدير أول ، فيكون من ذلك سبب من خارج يُرَجِّحُ ، وهو ما يتسلسل فلا بد له من أول لا أول قبله حسما لمادة في العقل تمتنع ، مادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فَرُدَّ عَجُزُ الكلامِ إلى صدر إذ ثم واجب وجود أول ، لا أول له يتقدم ، فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى موجِد يسبق ، ولا سبب فيه يُؤَثِّرُ ، بل عنه المحال والأسباب كافة تصدر على وصف الإتقان والحكمة ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بعلم وإرادة ، وهما من وصف الأول : الخالق ، جل وعلا ، فهو واجب الوجود الأول الذي انفرد بهذا الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا يكون مخلوق محدَث في الخارج من هذا الكون إلا أن يكون أول هو واجب الوجود الأول ، على التفصيلِ آنِفِ الذِّكْرِ ، فَلَهُ من الأولية الذاتية والوصفية ما ثَبَتَ فِي الأزلِ عَلَى حَدِّ كمالٍ مطلق ، فلم يكن ثم نَقْصٌ يَطْلُبُ مِنَ السَّبَبِ ما به يَكْمُلُ ، فالغنى وصفُ ذاتٍ لَا يُعَلَّلُ لِوَاجِبِ الوجود الأول ، والفقر ، في المقابل ، فَقْرُ الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، ذلك وصف ما تلا من الكائنات ، فكلها مخلوقات حادثات بالكلمة التي يتحملها الملَك ، وهي ما يباشر في الخارج أسبابا منها الْمُغَيَّبُ وَمِنْهَا المشهود الذي به الْأَثَرُ المدرَكُ بالحسِّ في المحل إذ يباشر من ذلك آخرَ حلقاتِ إسنادٍ قد اتصل من أعلى إلى أدنى ، فمن واجب الوجود الأول وله من الكمال المطلق ما ثَبَتَ أزلا وأبدا ، فهو الأول والآخر ، ومن ذلك علم وإرادة ، وعنهما يكون هذا الخلق المتقن المحكم ، فالمحالُّ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى حَدِّ الإتقان ، والأسباب قد جَرَتْ على جادة الحكمة جَرَيَانَ النَّفَاذِ إذا اسْتُوفِيَتِ الشروط وَانْتَفَتِ الموانع ، فكان من هذا الأول ، واجب الوجود ذي الكمال الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سَبَبٍ من خارج ، بل كلُّ محلٍّ وَسَبَبٍ إليه يَفْتَقِرُ أَنْ يُوجَدَ عَلَى مِثَالِ إتقانٍ وإبداعٍ وَأَنْ يُدَبِّرَ عَلَى مثالِ حكمةٍ بما اطرد من سَنَنٍ في الكون قد أُحْكِمَ ، ولا ينفك ، كما تقدم في موضع ، يدل على سَانٍّ أول لَهُ قد أَحْكَمَ بِمَا تَنَاوَلَ في الأزل بِعِلْمٍ محيطٍ يَسْتَغْرِقُ ، فَالسَّنَنُ مِنَ العلمِ ولا بد له من فاعل أول يَتَقَدَّمُ ، وله من العلم ما به يُقَدِّرُ هذا السنن ، وَلَا يَنْفَكُّ يَصْدُقُ في السنن ، أيضا ، أنه الجائز ، فَثَمَّ منه ما ثَبَتَ قُوَّةً في علمٍ أول يُقَدِّرُ ، وَثَمَّ منه ما ثَبَتَ فعلا بما كان من مرجِّحٍ من خارج وهو المشيئة النافذة وما تلا من كلمات صادرة ، فذلك ما عنه المحال والأسباب تَصْدُرُ ، وما يكون من جريانهما على سنن محكَم ، لا بد له من سَانٍّ محكِم هو الأول ، ولا بد له من فاعل يرجح بالمشيئة والكلمة ، فيكون من ذلك تأويل المقدور الأول من المحال والأسباب والسنن ، فلا بد لها من أول ، إذ لكلِّ محدَث محدِثٌ أَصْلًا قَدِ اطَّرَدَ في الباب ، وهو من الضروري فِي أي استدلال ، فَقَانُونُ السببية والغائية مما أجمع عليه العقلاء كافة إلا من جَحَدَ الخلق الأول فَأَلْجَأَهُ الكبر والعناد أن يخالف عن بدائه العقل الذي يَنْتَحِلُ ، وبه يَتَبَجَّحُ في الجدال وهو يخالف عن مقدماتِ ضرورةٍ قد ثَبَتَتْ فيه أَصْلًا في الجبلة فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ أو استدلالٍ به يُكْتَسَبُ ، بل هو أول في الوجدان قد ثَبَتَ . فكان من الإسناد آنف الذكر ما اتَّصَلَ مِنْ أعلى إلى أدنى ، من واجب الوجود الأول وهو الخالق المهيمن ، جل وعلا ، وقد ثَبَتَ لَهُ من الذات والوصف كمال مطلق عنه هذا الكون يصدر ، صدورَ المخلوقِ عن الخالق ، أو المعلول عن عِلَّتِهِ وهي كلمة التكوين النافذة ، فَثَمَّ من هذا الواجب الأول كمال مطلق ومنه العلم الأول المقدِّر فذلك أولُّ ثُبُوتٍ في باب الخلق : ثُبُوتِ المقدورِ في علم التقدير الأول الذي استغرق الكائنات كَافَّةً ، ومنه ما يكون من الْكَتْبِ ، فتلك كلمات أولى في لَوْحِ تَقْدِيرٍ قد استغرق المقدورات كافة ، وذلك تأويل أول في الخارج لِمَا كان من علم محيط يستغرق ، فكان من سطره ما تَنَاوَلَ الكونيات والشرعيات كَافَّةً ، وثم مشيئة تُرَجِّحُ وكلمةُ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وبها الخلق في الخارج يحدث ، فيكون من ذلك ما يتحمله الملك من كلمات بها يدبر الأمر ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن إذن الرب المهيمن ، جل وعلا ، فـ : (مَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ، ويكون منه ما يُدَبِّرُ الأسباب في الخارج ، إِنِ المغيَّبةَ أو المشهودةَ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ إلى أدنى حتى يبلغ المحل الذي يُبَاشِرُه السبب المدرك بالحس ، كما محل الفم والمعي الذي يُبَاشِرُ سبب المطعوم والمشروب الذي يُؤَثِّرُ بما رُكِزَ فيه من قوى بها يكون الشبع والري ، فلا يكون عندها ! ، ولا يكون بعدها تَعَاقُبًا مُجَرَّدًا من التأثير ، وإنما يكون بَعْدَهَا تَعَاقُبًا بين أول هو السبب المؤثِّر وتال هو المسبَّب الذي عنه يحصل بما اطرد من سنن الكون المحكم ، فتلك آخر حلقات الإسناد في باب التقدير والإيجاد والتدبير من واجب الوجود الأول إلى السبب الذي يباشر المحل ، فاتصل الإسناد من أعلى إلى أدنى ، وذلك الاستدلال بالخالق الأول على المخلوق المحدَث ، فهو من أعلى إلى أدنى . وثم آخر على ضِدٍّ ، وهو من أدلة الربوبية لدى الخلق ، فمنه دليل الحس الذي يُسْتَأْنَفُ من أدنى إلى أعلى ، من المحل الموجود في الخارج وهو المخلوق المدرَك بالحس الظاهر ، إلى ما عَلَا من سَنَنٍ هو المحكَم ، ولا بد له من مُؤَثِّرٍ من خارج كما تقدم من حد الجائز الذي استوى طرفاه فلا ينفك يطلب المرجح من خارج ، فكذا السبب إذ يباشر المحل المدرك بالحس بما ركز فيه من قوى تؤثر ، وما ركز في المحل من قوى تقبل ، فَثَمَّ سَانٌّ أول وثم سنن محكم عنه يصدر وتأويله ما يكون في الخارج ، وذلك ما به الناظر يَنْتَقِلُ إلى طبقة أعلى من طبقات الإسناد ، وهو السبب المغيَّب وإن كانَ من الجنس المخلوقِ المحدَث ، فذلك الْمَلَكُ الذي يَتَحَمَّلُ كلماتِ التكوينِ ، وهي علة أولى يصدق فيها أنها غير مخلوقة وإن كان من آحادها ما يحدث فهو تأويل لِمَا تَقَدَّمَ من علمٍ أول يقدر ، فتلك علة مُغَيَّبَةٌ لم تُخْلَقْ وإن كان من آحادها ما يحدث ، وهو ما يُرَدُّ إلى مشيئةٍ تُرَجِّحُ في جَائِزَاتٍ مسطورات في لوح التقدير المحكم ، وهو ، كما تقدم ، تأويل لما كان من علم أول يستغرق ، وهو ما قام بذات الخالق ، جل وعلا ، الذات الواجبة أولا فَلَا تَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج يجاوزها بل إليها قد انْتَهَتِ الأسباب والمحالُّ كَافَّةً ، فَعَنْهَا تصدرُ صدورَ المخلوقِ عن الخالق الأول ، جل وعلا ، فتلك أعلى طبقات الإسناد ، فكان من الاستدلال ضِدٌّ ، فهو استدلال بالأدنى من المخلوق على الأعلى وهو الخالق ، جل وعلا ، وذلك ما يحكي آخر قد حُدَّ حَدَّ التلازم ، إذ الخالق البارئ المصور بِكَلِمَاتِ تَكْوِينٍ تَنْفُذُ ، هو ، بداهة ، الإله المعبود بما أَنْزَلَ مِنْ كَلِمَاتِ تَشْرِيعٍ تَحْكُمُ ، وذلك مما تناوله صدر الآية قصرا بِتَعْرِيفِ الجزأين في باب الألوهية ، فـ : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فلا ينفك يصدر عن آخر مثله في باب الربوبية ، لا جرم كان التسبيح خِتَامَ الآيةِ عما يشرك أولئك بالباطل ، إذ ثم فساد في الشِّرْعَةِ وآخر في الفكرة ، فَإِنَّ مَنِ انْفَرَدَ بالأوصاف صدرَ الآية ، وهي صفات ربوبية قد غَلَبَ عليها في هذا السياق وصف الجلال من الملك المستغرق ، وهو وصف جامع فهو مالك الأعيان بما خلق وقدر وأجرى من السبب المحكم ، فكان له من الأعيان تقدير وتكوين وتصوير وتدبير محكم بما أجرى من السبب إذ هَيَّأَ له من قوى المحل ما يَقْبَلُ وركز فيه من قوى التأثير ما يُؤَثِّرُ ، فَثَمَّ الْمَلِكُ وهو مالك الأعيان إذ خلقها ، وهو الْمَلِكُ الذي يدبرها بما أجرى من سبب به يحكم ، إِنْ حكومةَ التكوين النافذ أو أخرى من التشريع الحاكم ، فالاسم من هذا الوجه قد استغرق : التقدير والتكوين مَلْكًا ، بفتح الميم ، والتدبير مِلْكًا ، بكسر الميم ، وذلك ما تَنَاوَلَ الأبدان والأديان كَافَّةً ، فكان من ذلك كلمات تكوين بها تدبير الأبدان ، وكلمات تشريع بها تدبير الأديان ، خبرا وإنشاء ، فالخبر يَسْتَصْلِحُ المحَالَّ الباطنة تصورا هو الأول ، والإنشاء يستصلح المحال الظاهرة حكما ، وإن كان منه ما عم فاستغرق المحال كافة ، فالعمل ، كما تقدم في مواضع ، منه عمل الجنان إن التصديقَ الأول الذي يجاوز العرفان المجرد أو ما كان بَعْدًا من حُبٍّ أو بُغْضٍ فإرادةِ فعلٍ أو تَرْكٍ ، ومنه عمل اللسان الذي يجاوز شهادة الحق إلى ما كان من تِلَاوَةٍ وَذِكْرٍ ، ومنه عمل الأركان إِنْ بالفعلِ أو بالتَّرْكِ ، فاسم الملك ، لو تدبر الناظر ، مما يجزئ في باب التوحيد ، ولو بدلالة التلازم بين مَلْكِ الأبدان رُبُوبِيَّةَ تَكْوِينٍ وَمُلْكٍ منه تدبير الأديان بما كان من ألوهية تَشْرِيعٍ قد تَنَزَّلَتْ كلماتها صِدْقًا في الأخبار التي تَنْصَحُ المحلَّ الباطن ، وعدلا في الأحكام التي تَنْصَحُ المحلَّ الظاهر ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، فتلك شريعة قد اسْتَغْرَقَتِ الخلقَ رحمةً قد تناولت العالمين كافة . وبعده كان من الأسماء ما به التَّنْزِيهُ ، فدلالتها سالبة لوصف النقص ، إذ السلام قد سَلِمَ من النقص ، وذلك من الوصف المشبَّه الذي يُلَازِمُ الذَّاتَ الموصوفةَ فلا يُفَارِقُهَا ، وَإِنْ وصفَ سَلْبٍ ، فَلَا يَطْرَأُ النَّقْصُ ، من وجه ، لا يطرأ على الرَّبِّ السلام ، جل وعلا ، وذلك ، في بابِ الإلهيات ، مما يُرَادُ لِغَيْرٍ ، إذ السَّلْبُ ليس بمدحٍ حتى يشفع بإثبات كمالٍ لِضِدٍّ ، فيكون السالم من كُلِّ عيب ، الممدوح بكل كمال مطلق إن في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، فالتخلية من وصف النقص ، وإن كانت في نفسها مما يحمد ، إلا أن الثناء بها لا يكمل حتى يكون ثم إثبات لكمال هو الإيجاب لا السلب ، فلا يَمْدَحُ أحدٌ مَلِكًا ذا شأن ، أو صاحب سلطان ، لا يمدحه بالسلب فيقول : أنت غير ناقص ، بل لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ إلى الذَّمِّ أقرب منه إلى المدح ، فضلا أن يزيد فيطنب في السلوب المرتفعة عن المحل الممدوح ، فيقول : أنت لست بجبان ولا بخيل ! ، فَلَا يكون من ذلك مَدْحٌ يُحْمَدُ إِلَّا أَنْ يُجْمِلَ فِي النَّفْيِ وَيُطْنِبَ في الإثبات ، فَيَصِفَهُ بالشجاعة والكرم فهي من المعاني الثبوتية لا أَنْ يَنْفِيَ عنه أَضْدَادَهَا من أوصاف النقص دُونَ أَنْ يَزِيدَ إِثْبَاتًا لِضِدٍّ بَلْ ولكمالِ ضِدٍّ من أوصاف الكمال ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى إذ وحده من انفرد بالكمال المطلق ، فيكون ثَمَّ من الإجمال في النفي أَنْ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ثم الإطناب في الإثبات نصا على صفات الكمال المطلق ، فـ : (هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، وهو ما يجري على حد التفصيل الذي يستوفي منها ما قد نص عليه الخبر إذ الباب سمعي لا ينال إلا بالتوقيف مِنْ مشكاةِ الوحي الصحيح ، فلا يجاوزها الناظر في التَّوْقِيفِيَّات ، بل يَنْفِي ما نفى الوحي ، إن النفيَ المجمل وهو الأصل أو ما قد نَصَّ عليه بِعَيْنِهِ إذ اقتضى السياق الرَّدَّ المفصل على شبهة مخصوصة كما نَفْيُ الولد في قوله ![]() وكذا يقال في "القدوس" ، وهو الذي تَنَزَّهَ عن العيب ، وبعدها كان من الأسماء ما يثبت ، في قوله ![]() ![]() وثم من الإدراك ما يَتَنَاوَلُ الحال في دارٍ أخرى تجاوز ، فَلَهَا من الأحكام ما يُغَايِرُ وذلك حكم العقل الناصح إذ يقضي ، بداهة ، بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ المختلفين ، فَلِكُلِّ دار من الوصف والحكم ما يغاير أخرى ، فلا تدركه ، جل وعلا ، الأبصارُ في الآخرة دَرَكًا أخص ، إذ لا تحيط به وإن كانت تَرَاهُ ، فَتِلْكَ رؤيةُ تَنَعُّمٍ هي في الباب مطلق ، فَتَثْبُتُ فِي الخارج بأدنى ما يصدق فيه اسم الرؤيةِ ، رؤيةِ العينِ البصرية ، وهو ما يجاوز رؤية الجنان العلمية ، وإلا فهي مما يحصل في الأولى ، فَلَوْ حملت عليها الرؤية ، فذلك ما يكذب الخبر ، فـ : "إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا" ، فلا تعلمون ربكم حتى تموتوا ، إِذًا ما كان ثم عالم واحد بالله ، جل وعلا ، حتى يموت ! ، فجهله الخلق كافة حتى كان الموت ! ، فَبِأَيِّ شيءٍ بُعِثَتِ الرسل ، عليهم السلام ، إلى الخلق ؟! . فَحَصَلَ من مادة الإدراك في الآية جِنْسٌ عَامٌّ يَسْتَغْرِقُ ، فهو يحتملُ مطلقَ الرؤيةِ فَلَا يكون ذلك في الدنيا ، فَيُحْمَلُ النَّفْيُ في الآية على نَفْيٍ مؤقت قد اقتصر على هذه الدار دون ما تلا من دار بعث وحشر فحسابٍ وجزاءٍ ، وأشرفه ما يكون من رؤية المؤمن ربَّه ، جل وعلا ، فَيَكُونُ مِنَ النَّفْيِ : نَفْيٌ مؤقت فلا تَرَاهُ الأبصار في هذه الدنيا ، ولو رؤية بلا إحاطة ، فلا تراه أي رؤية إن المطلقةَ أو المقيدةَ . وهو ، أي جنس الإدراك الذي يجرده الذهن ، هو يَحْتَمِلُ آخر وهو الإحاطة فتلك رؤية وزيادة ، كما يكون من إحاطة المخلوق بمثله فالمبدأ رؤية بالعين ثم إحاطة إِذِ المرئِيُّ مما يَتَنَاوَلُهُ الْإِبْصَارُ تَنَاوُلَ إحاطةٍ ، وذلك ما انْتَفَى فِي حَقِّ الله ، جل وعلا ، بَدَاهَةً ، فلا يحيط به المخلوق ولا يحيط به بصر المخلوق لا في الأولى ولا في الآخرة ، فذلك نَفْيٌ عامٌّ مُؤَبَّدٌ فلا يكون ثم من الإحاطة ما يثبت لا في الأولى ولا في الآخرة بل ذلك لضروري في العقل يَنْقُضُ ، إذ يقضي ، بداهة ، أن المخلوق لا يحيط بالخالق ، بل إن هذا المخلوق لا يحيط بمخلوق مثله أكبر قد جاوز مدارك بصره ، وإن صدق فيه أنه يَرَاهُ رُؤْيَةَ العينِ فَيُبَاشِرُهُ بما ركز فيها من قوى الإبصار ، وهو ، مع ذلك ، لا يحيط بالمرئي ، كما استدل ابن عباس ، ![]() ![]() وثم من تقديم بَعْضٍ فِي الكلامِ ، وهو الظرف "عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ" ، ثم منه ما يحكي أَصْلًا يَطَّرِدُ لَدَى أرباب المعاني إذ تقديم ما حقه التأخير مَئِنَّةُ حَصْرٍ وتوكيدٍ ، مع عناية بالمقدَّم ، وهو اسم الرب ، جل وعلا ، فالمصيبة العظمى لا أن يُحْجَبَ المحجوب مُطْلَقًا ، وإنما أَنْ يُحْجَبَ عَنْ رَبِّهِ ، جل وعلا ، خاصة ، وثم من إطلاق وصف الحجب ما قد عَمَّ فاستغرق ، بادي الرأي ، فذلك مما وَرَدَ في حَقِّ الكافر فأفاد بمفهوم يخالف أَنَّ للمؤمنِ من الجزاء ما يُغَايِرُ فَيَرَى ربه ، جل وعلا ، رؤية تَنَعُّمٍ يحرم منها الكافر ، وهو ، من وجه آخر ، مما استدل به بعض أن الكافر يَرَى الله ، جل وعلا ، أيضا ، فتلك الرؤية المطلقة لا رؤية التَّنَعُّمِ إذ تِلْكَ مِمَّا اخْتُصَّ به القبيل المؤمن وحده . فَإِذِ انْتَفَتْ إحاطة البصر بمخلوق كالسماء ، وإن كانت تَرَاهُ ، فَلَهُ ، جل وعلا ، من ذلك المثل الأعلى ، في دار الحساب والجزاء ، على التفصيل آنف الذكر ، فَتَرَاهُ العيون في الدار الآخرة ، رؤية التنعم لا الإحاطة ، وَذَلِكَ من قياس أولى ينصح في الذهن ، وبه حد يميز الإبصار من الإحاطة ، فكل إحاطة إبصار ولا عكس ، وبينهما ، من هذا الوجه ، عموم وخصوص مطلق . وثم من حِمْلَانِ الإدراك على كِلَيْهِمَا مَا بِهِ استبان الفرق ، فمنه المثبَتُ في حق الله ، جل وعلا ، وهو مطلق الإبصار في الدار الآخرة ، ومنه المنفي وهو مطلق الإبصار في هذه الدار ، مع إحاطة تَنْتَفِي في الدور كافة ، الأولى والآخرة ، فَلَا تَعَارُضَ إذ الجهة قد انْفَكَّتْ ، فجهة الإثبات هي مطلق الإبصار الأعم في الدار الآخرة بلا إحاطة هي في الباب أخص ، وجهة النفي هي الإحاطة التي انْتَفَتْ في الدور كافة على التفصيل آنف الذكر مع نفي الرؤية ، ولو مطلق الرؤية في الدنيا ، فحصل من ذلك ، لو تدبر الناظر ، شاهد به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، إذ ثم لفظ واحد وَمَعَانٍ تَتَعَدَّدُ قد جاز حِمْلَانُ اللَّفْظِ عليها جميعا في سياق واحد إذ احتمل بلا تكلف وهو مما يُثْرِي السياق وَيَرْفِدُ . فكان من النَّفْيِ مَا اسْتَغْرَقَ ، إذ تَسَلَّطَ على المصدر الكامن في الفعل ، فلا تدركه الأبصار أَيَّ إِدْرَاكٍ ، سواء أحمل على مُطْلَقِ الرؤية وذلك ما استوجب القيد أن يكون ذَلِكَ فِي الْأُوَلَى ، فلا رؤية ، ولو مطلق الرؤية التي تحصل بأدنى ما تصدق فيه الرؤية ، لا رؤية في الأولى ، على التفصيل آنف الذكر ، إذ الابتلاء بالتصديق والامتثال قد استوجب من الغيب ما لا يدرك بالحس ، وإن كان مما لا يحيله العقل ، بل هو من الغيب الجائز الذي احتمل ، مع آخر هو الواجب ، فذلك واجب الوجود الأول ، الخالق ، جل وعلا ، ذَاتًا واسما ووصفا وَفِعْلًا وَحُكْمًا ، فالعقلُ يُدْرِكُ من ذلك جملة معان يجردها الذهن ، وهي مناط الابتلاء بالتصديق في باب الخبريات ، والفطرةُ بِذَا تَشْهَدُ ، مع الحس الذي يدل على أول هو المؤَثِّر بكلمات تُوجِدُ وَتُدَبِّرُ لا في محلِّ شَرِكَةٍ بل قَدِ انْفَرَدَ الخالق ، جل وعلا ، بِمَا أَعْجَزَ من آي التكوين والتدبير ، إن فِي الآفاقِ أو فِي الأنفسِ ، فكل أولئك دَالٌّ عَلَى واجبِ وجودٍ أول ، له من ذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فذلك الكمال المطلق الذي لا يَفْتَقِرُ إلى سبب من خارج يَرْفِدُ ، بل كل محلٍّ وَسَبَبٍ فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ أَنْ يُقَدِّرَ وَيُوجِدَ وَيُدَبِّرَ ، وهو ، كما تقدم مرارا ، مما يوجب في العقل ضرورة : واجبَ وجودٍ أول إليه تَنْتَهِي الأسبابُ كَافَّةً ، وعنه تصدر فهو من يُقَدِّرُ وَيُوجِدُ وَيُجْرِي عَلَى سَنَنٍ مُحْكَمٍ ، وليس ذلك مما يُدْرَكُ في عالم الشهادة فالحس لا يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يُطِيقُ له دَرَكًا وإن جَوَّزَهُ العقل بل وأوجبه ضرورةً أولى في الخلقِ والرَّزقِ والتدبيرِ ، وَكَذَا ما كان من الجائز المغيب ، فالعقل يدرك منه ، بادي الرأي ، حكم الجواز العقلي كَمَا يدرك حكم الإيجاب الضروري لواجب أول ، على تَفْصِيلٍ قَدْ تَقَدَّمَ ، فَثَمَّ أول من الحكم ، وهو الإيجاب أو الجواز في العقل ، وثم تال من أخبار غيب لا تُدْرَكُ بالحسِّ ، فالعقل ، وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً ، فذلك الحكم المجمل الذي يجرِّده الذهن ، فلا يجزئ في تَالٍ يُفَصِّلُ في ذِكْرِ الحقائق والصفات ، فَلَا يُنَالُ ذلك إلا من مشكاةِ غَيْبٍ يَصْدُقُ ، وهو ، مع ذلك ، لا يزيد في الحد أَنْ يُدْرَكَ المغيَّبُ بالحسِّ ، فليس ذلك في دار الشهادة وهي مناط الابتلاء بالغيب ، فإذا شَهِدَ فَأَنَّى يَنْصَحُ ابتلاءٌ والخلق كلهم قد شَهِدَ ، فاستوى عندهم الغيب والشهادة ، فَبِمَ امتاز المؤمن من الجاحد ؟! ، لا جرم لم يكن ينفع الكافر إيمانه إذا عاين حِينَ الْغَرْغَرَةِ فانكشف الغطاء وحد البصر ، فكان الابتلاء بتصديق لِمَا وجب أو جاز في العقل من أخبار الغيبيات عامة ، والإلهيات خاصة ، وكان من الخبر ما يُفَصِّلُ ، وإن لم يجاوز حد التجريد الذهني لأجناس دلالية مطلقة ، لا يلزم من إثباتها المجرد تَالٍ يجاوز إلى حقيقة وكيف في الخارج ، بل ذلك مناط الابتلاء بالتصديق ، وإن لم يشهد الحس ، فكان من ذلك واجب الوجود الأول ، الخالق ، جل وعلا ، الذي ثَبَتَ ضرورة في العقل والفطرة والحس وإن لم يكن ثم وحي يخبر فهو مناط حجة أخص ، وإلا فالعلم الضروري يحكي من ذلك إيحابا هو الأول ، وهو ، مع ذلك ، المجمل الذي يفتقر إلى دليل من خارج يصدق أولا ما حصل في العقل من مقدمات الضرورة وما حصل في الفطرة ، وما وجد الحس من آثار التقدير والخلق ، إتقانا في المحل الذي يَقْبَلُ ، وإحكامًا في السبب الذي يُؤَثِّرُ ، فالدليل يُصَدِّقُ أَوَّلًا ، وهو تَالِيًا يفصل ما أجمل في الوجدان عقلا وفطرة وحسا ، وهو ثالثا يُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ من الفطرة إن كان ثَمَّ عارض يطرأ ، فيحرف الوجدان عن جادة الفطرة الأولى ، فكان من الوحي مَنَاطُ بَلَاغٍ وَبَيَانٍ ، وكان منه مناط الابتلاء بالتصديق لما لم يشهد الحس ، فقد قام عليه الدليل من النقل والعقل كافة ، ومنه ، محل الشاهد ، من الخالق ، جل وعلا ، وهو واجب الوجود الأول ، فلا تَرَاهُ العين في الأولى وإلا بَطَلَ التكليف ، وإنما دل عليه النقل الصحيح والعقل الصريح ، فَهُوَ شَطْرٌ من القسمة يَلْزَمُ في العقل وإن لم يكن ثَمَّ وحي يَنْزِلُ ، فَثَمَّ من الضرورة العقلية ما أُجْمِلَ أَنَّ ثَمَّ واجبا هو الأول ، ووجوده الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وله من الذات والوصف ما يدرك العقلُ كمالَه المطلق ، وذلك إدراك مجمل لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الْبَيَانَ ، فَثَمَّ إيمان كُلِّيٌّ مجملٌ بِوَاجِبٍ أول هو الخالق المهيمن ، وله من كمال الذات والوصف ما دل عليه ضِدٌّ من ذات المخلوق المحدَث وما قام بها من الوصف الناقص ، إذ بِضِدِّهَا تَتَمَايَزُ الأشياء ، فإنه لا ينفك يطلب الكامل الذي يدبر ، وثم من التَّدْبِيرِ مَا أُتْقِنَتْ منه المحال وَأُحْكِمَتْ منه السنن التي عليها الأسباب تجري إذ تُبَاشِرُ المحال ، فكان من إتقان المحلِّ بِمَا رُكِزَ فِيهِ من قوى تَقْبَلُ ، وإحكام السبب بما رُكِزَ فِيهِ من قوى تُؤَثِّرُ ، كان من ذلك ما دل على متقِن محكِم هو الأول ، وذلك ما يدل عليه ضرورةً جواب السؤال : سؤالِ الفاعلِ ، فإن السنن الجاري فِعْلٌ لَا بُدَّ لَهُ من فاعل أول ، وهو ما قَطَعَ الشَّكَّ ، ولو في إحكام التقدير والخلق ، أَنْ يستدل به أحد أَنَّ الأمر سنن محكَم لا حاجة فيه لِرَبٍّ يُقَدِّرُ وَيَحْفَظُ من الخللِ والفسادِ ، فَكَانَ مِنَ الفساد ، وذلك جزء يسير ، فهو النادر أو القليل ، كان منه ما يُصَدِّقُ اسمَ الربوبية ، إذ بها خَلْقُ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ ، فَالرَّبُّ يخلقُ الشيءَ وضِدَّه ، فيكون من ذلك كمال في القدرة ، وآخر يلطف في قيومية بها ، كما يقول بعض من حقق ، ذَرَّاتُ الكون تَتَدَافَعُ على وجه لا يَبْغِي بعض على آخر ، فَثَمَّ اختلاف بَيْنَهَا بل وتضاد ، فلا تنفك تَتَدَافَعُ وتلك سنة عامة تستغرق الناس والكائنات كافة ، فيكون من الربوبية عام قد استغرقَ الخلقَ ، ومنه ما يُوَاطِئُ الغالب ، ومنه قليل أو نادر ، واستغرقَ التدبير إذ تَتَدَافَعُ الأضداد على سَنَنِ حكمةٍ ، فلولا المتقِن المحكِم الأول ، جل وعلا ، لاضطرب هذا الكون وَفَسَدَ ، ولو كانَ الأمرُ صُدْفَةً أو خَبْطًا ، لكان من ذلك ما به الخوف يعظم أن يَفْسَدَ هذا الكون فَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُدَبِّرُ ويحفظ ، فَإِذَا اخْتَلَّ السَّنَنُ ، ولو لحظةً ، فَمَنْ ذَا يُحْكِمُ الأمر ، وذلك ما يُنَغِّصُ العيش فلولا الله ، جل وعلا ، لانتحر الخلق كافة ، لا جرم كان من الإلحاد والجحود مَا لَا يَسْتَوْفِي شرطه فَيَتَّسِق صاحبه مع فكرتِه إلا أن يُبَادِرَ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ لِيَنْجُوَ من هذا الاضطراب والخوف الشديد إذ لا ممسك لهذا الكون ، السماوات والأرض ، أن تَزُولًا فَقَدْ يفسد الكون فجأة إذ لا خالق له ولا مدبر ، فكان من الإيمانِ بِهِ ، جل وعلا ، ما يُوَاطِئُ العقل والفكرة والحس ، وهو ، مع ذلك ، مما يَهْنَأُ به العيش أن ثم خالقا يُجْرِي المقادِيرَ عَلَى سَنَنٍ محكَمٍ ، فليست الخبط أو العشواء كما افْتَرَى من أنكر وجحد ، فجاء بما يحكي سفسطة في العقل أن يكون هذا الإيجاد والتدبير المبدَع لا عَلَى مِثَالٍ تَقَدَّمَ ، أن يكون عن خبطٍ وعشواء فلا خالق هو الأول الذي يقدر في الأزل ويوجد بعدا بما يُصَدِّقُ أولا من التقدير المحكم ، وذلك قول يجزئ في إبطاله حكايته مجردا دون تَكَلُّفِ دَلِيلٍ يزيد إِلَّا أن عَمَّتِ البلوى فَصَارَ يَفْتَقِرُ إلى رَدٍّ أخص ، هو في محل النِّزَاعِ النص ، وبه يُدْحَضُ أَنْ ذَاعَ منه وَاشْتُهِرَ ما قد صار فِتْنَةً تَعْظُمُ ، فَثَمَّ من الإتقان والحكمة ما اطرد في المحال والأسباب كافة ، وهو ما يحكي ربوبية أولى : ربوبية الخلق ، وكان ثم تال من تدافع الأضداد ، وذلك من تأويل ينصح لاسم الرب المهيمن ، جل وعلا ، فَهُوَ خَالِقُ الأضدادِ أَوَّلًا وَمُجْرِيهَا على سَنَنٍ مُحْكَمٍ تَالِيًا أن يكون من التدافع ما به الصلاح ، مع آخر يحكي التمايز بين الأضداد ، وما كان من قليل أو نادر من خلق لم يكمل فكان منه خَلْقُ المجنونِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، والعاجز الذي لا يمشي ...... إلخ ، ما كان من ذلك فَلَا يَخْرُجُ ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظر ، عن قانون الخلق المحكم ، إذ استوجب استيفاءً لِشَرْطٍ وانتفاءً لمانعٍ ، فَلَمَّا فَاتَ شرطٌ أو وُجِدَ مانعٌ ، لم يَجْرِ السَّنَنُ عَلَى مَا أُحْكِمَ من الجادة ، فلم يخرج الأمر عنها إذ هي المجموع المركب من المحل والسبب والشرط والمانع ، فإذا تَخَلَّفَ أَحَدٌ ، أو وُجِدَ المانع ، فَوَحْدَهُ ما يَضُرُّ ثبوته إِذْ وَجَبَ انْتِفَاؤُهُ ، فإذا كان ذلك فهو يُوَاطِئُ السَّنَنَ المحكَم ، وَإِنْ ظَهَرَ ، بادي الرأي ، أنه يخالف عنه ، فَإِنَّهُ يُوَاطِئُهُ إذ لا يكون منه شيء إلا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مَا تَقَدَّمَ من الحد ، حَدِّ المجموع المركَّب من المحل والسبب والشرط والمانع ، فحصل من ذلك إيمان مجمل ، سواء أوجد الشيء أم لم يوجد ، حَصَلَ من ذلك إيمان بمحكِم لهذا الكون إذ أَجْرَاهُ على سنن محكَم ، فذلك قياس العقل المصرح أَنَّ لكلِّ محدَثٍ محدِثًا ، فكذا الإحكام فإنه في نفسه دليل أن ثم محكِما هو الأول ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى استوجب آخرَ أمرِه محكِمًا هو الأول فلا محكِم قَبْلَهُ ، فَلَهُ من الوجود واجب هو الأول ، فلا أول قَبْلَهُ ، بل عنه قد صَدَرَ هذا الكون بما أُتْقِنَ مِنْ خَلْقِهِ وَأُحْكِمَ من سَنَنِهِ ، فالمخلوق ضرورة لا بد له من خالق أول يتقدم في الرتبة والوجود ، فَلَهُ فِعْلٌ هو الأول وعنه المفعول يصدر ، كما فعل الخلق ، فلا بد له من خالقٍ يَتَقَدَّمُ ، ولا بد له من أَثَرٍ في الخارج هو المخلوقُ الحادثُ ، فالخالق الأول قد قَامَ بِهِ وصفُ الخلقِ قُوَّةً ، فلا يخلق في كُلِّ آنٍ ، بل يكون من المشيئة ما به يُرَجِّحُ ، فيكون من الخلق بالفعل ما يُصَدِّقُ أَوَّلًا بالقوة ، وبه تأويلٌ ثَانٍ يُخْرِجُ المقدورَ ، وهو المعلوم الأول ، يخرجه إلى حد آخر يُصَدِّقُ في الخارج ، حَدِّ الموجود الحادث ، فالمشيئة تُصَيِّرُ الوصف الفعلي قوةً آخَرَ يُصَدِّقُ بالفعلِ ، والمشيئة تُخْرِجُ المعلوم من المقدور المغيَّب إلى الموجود المصدِّق في الخارج ، وَكَذَا يُقَالُ في الإتقان فلا بد له من متقِن هو الأول ، فالوصف يقوم به قوة ، والمشيئة له تصدق إذ بها تأويل يخرج المقدور من القوة إلى الفعل ، فَثَمَّ مقدور أول في الغيب بما كان من العلم المحيط المستغرق لآحاد المقدورات لا إحاطةَ الخلقِ إِخْرَاجًا من العدم إلى الوجود فَحَسْب ، بل ثم زيادة بها دحض مَقَالٍ من حكمةٍ أولى زَعَمَتْ أَنَّ الخالق قد خلق الكون ، فصدر عنه صدور المحدَث عن المحدِث ، وذلك حق ، ثم ودعه وأهمله ، فكان من بَعْدٍ ما يخبط عشواء حتى أفضى إلى هذا الإتقان والإحكام ! ، أو ودعه إذ رُكِزَ فيه من قوى الفعل ما به تأويل ما تَقَدَّمَ في الأزل من الإتقان والإحكام ، فلا تأثير له بَعْدًا ، وهو ما مَهَّدَ فِي جِيلٍ تَالٍ أَنْ يُعْزَلَ الوحي عن منصب التشريع الأول بعد تال من الخبر يُؤَطِّرُ الوجدان في مسائل الاعتقاد وهو أول في أَيِّ مثال في الخارج إذ مبدأ الحركة وهي تأويل ، مبدؤها الفكرة وهي التأصيل ، فأصل أول من فكرة بها الوجدان يُحَفَّزُ ، وهو سبب لما تلا من حركة في الخارج تُصَدِّقُ ، فكان من الوحي مثال النبوات الصحيحة الذي استغرق الخبر والحكم ، الاعتقاد والشرع ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا أَنْ يَكُونَ أول لا أول قبله ، وهو الأول في التكوين وفي التدبير كَافَّةً ، ومنه التشريع المحكم الذي يَتَنَاوَلُ من الحكومات الأخلاق والأفعال ، ما خَصَّ منها وما عَمَّ ، فَيُجَاوِزُ مَا رُكِزَ في الوجدان ضرورةً أولى من تحسين وَتَقْبِيحٍ مجمَلٍ فلا يَنْفَكُّ يفتقر إلى دليل من خارج يُفَصِّلُ ، مع آخر به الحكم الذي يُوَاطِئُ ، إن بالإباحة أو بالحظر ، فذلك الأول المقدِّر المدبِّر المؤَثِّرُ بمشيئَةٍ تُرَجِّحُ وَكَلِمِ تَكْوِينٍ يَنْفُذُ ، فليس الأول الذي لا أَثَرَ له في الخارج بَعْدًا ، كما اقترحت الحكمة الأولى من العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، أو آخر قد خلق إيجادَا يُصَدِّقُ عِلْمَ تقدير أول ، ولا يكون ثم من التدبير تال يستغرق ، فهو كمن صنع آلة على سنن معلوم ثم باعها ، فلا يعلم ما يكون بَعْدًا من فِعْلِهَا ، ولا يَزَالُ يدرك كلَّ حين بعضا من عيوبها ، فيكون من ذلك علم بعد جهل ، إذ قدر وخلق وَجَرَّبَ ! ، واكتسب من العلم بَعْدًا ما لم يكن يعلم ، وهو ما اصطلح في درس الاعتقاد أنه البداء ، كما يكون من المخلوق المحدَث ، إذ يعلم بعد أن لم يكن يعلم ، وهو ما يحمله أن يبدل وَيُعَدِّلَ في مثال تال ليكون أكمل من أول فلا زَالَ يُجَرِّبُ حتى يحصل له من ذلك أفضل ! ، فكان من يهود ، وهم ينكرون القدر إذ ينكرون العلم ، كان منهم سوء الأدب في قِيَاسٍ مع الفارق ، أي فارق ، قياس الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق الحادث ، فقد خلق الله ، جل وعلا ، الإنسان ، ولا يعلم ما سوف يكون منه ، فلما أفسد في الأرض وسفك بَكَى الخالق دمعا أَنْ خَلَقَ هَذَا الإنسان المفسِد ، فلم يكن ثم علم أول ! ، فَأَيْنَ ذلك من خبر الوحي الخاتم إذ أبان عن المبدإ والغاية ، فكان له في الباب قصة خلق تحكي معدنَ صدق وحكمة في الخلق ، فَخُتِمَ السياق بما يثبت العلم الأول المحيط ، فـ : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، فذلك علم عَامٌّ قد استغرق ، وله من سيادة الخبر والحكم ما أُطْلِقَ ، وهو ما استوجب تحريرَ المصدرِ ، مصدر السيادة ، فإذا صَحَّ الوحي مرجعا يصدق ويعدل فَلَهُ من كمال المعنى ما أطلق إذ نَزَلَ على حد العصمة ، فاستوجب أولا من أدلة الجنس العام وآخر من أدلة هي النص في محل النِّزَاعِ ، أدلة النبوة الخاتمة التي استغرق وَحْيُهَا مَا تَقَدَّمَ وَزَادَ فيه بِيَانًا لِمَا أُجْمِلَ ، وذلك ما قد عَمَّ فاستغرق ، الخلق والشرع كافة ، فكان من ذلك وحدة مرجع قد نَفَتِ الحاجة إلى إصلاح في الدين يحدث ، فذلك ما لا يكون إلا في شَائِهٍ قد بُدِّلَ وَحُرِّفَ ، كما كان من الكتاب الأول ، وهو ما استوجب من حركة الإصلاح في الدين ما اشتهر في العصر الوسيط ، مع آخر هو الإصلاح المضاد ، وذلك ، بداهة ، ما وَجَدَ من المحال ما أصغى إذ كان من الفساد ما استوجب إصلاحا ، فكان من ذلك ما أَفْضَى ، كما يقول بعض من بحث الظاهرة الدينية السياسية المركبة في العصر الوسيط ، كان من ذلك ما أَفْضَى إلى إصلاح قد مهد لحكم حداثة في جيل تلا من نهضة فأنوار يصدق فيها من الاسم بعض إذ كان ثم من ظلمة الطغيان والاستبداد في الدين والسياسة ما أضفى به الدين مسحةَ شرعيةٍ بل وقداسة على حكمِ سياسةٍ جائرٍ أَنِ اقْتَسَمَ كُلٌّ المرجِعَ ، مع نفوذ بارز لدين الكهنة المبدَّل ، فذلك المثال القياسي في العصر الوسيط ، وهو ما مهد لإصلاح في الدين قد نال من سلطانه في مثال الحكم الجائر ، فكان من إصلاحه ما قَلَّمَ أظفار الدين المبدَّل وأفسح لمثال السلطة الزمانية أن يَتَوَسَّعَ في فَضَاءٍ قد شغر إذ انسحب الدين ، فَزَادَ حَيِّزُ الدنيا ، وصار للحاكم سلطة تَتَّسِعُ إذ يشغل من فضاء الحكم ما شغر ، وهو ما يفضي إلى استبداد المثال السياسي الأرضي ، المثال الزماني مُفَوَّضًا من الدين الذي انسحب من مساحة واسعة من النفوذ ، واقتصر على معالجة الشأن الديني التعبدي دون آخر يُؤَثِّرُ في الفضاء العام ، فكان من ذلك ما حدث بَعْدًا من مثال السياسة ذي المرجع الديني ، فلا يجاوز حد الهوية المجملة أَنْ صَارَ الدين : دين القوم أو العنصر أو العرق ، لا دين الحكم ، كما يقول بعض من حقق ، فالإصلاح قد نَزَعَ من الدين سلطة التأثير في المجال العام لا سيما السياسة والمال ثم الاجتماع بَعْدًا في مُثُلِ حَدَاثَةٍ متأخرة قد عمت بها البلوى ، أَيُّ بَلْوَى ! ، وهو ما وجد من الذريعة ما استقر من فساد الدين الأول ، دين الكهنة الذي أجرى القسمة مناصفةً فكان له من احتكار المرجع الديني ما تأوله ، كما يقول بعض من بحث ، ما تأوله في صك الغفران الذي يمنح صاحبه أرضا أو ضيعة في الجنة ، وكان لآخر هو السلطة الزمانية التي يمثلها البلاط الحاكم ، كان له احتكار يضاهي فقد احتكر المرجع السياسي وهو ما تأوله في قيمة العدل ، ولو اسما بلا مسمى ، فَوَحْدَهُ من يقيم العدل في الأرض استنادا إلى مرجع ذاتي لا يجاوزه ، وَوَحْدَهُ مَنْ يُنْفِذُ حكمه في الخارج إذ احتكر القوة التي بها يحكم وصار الجمع تَبَعًا له يخضع ، كما أن الكنيسة وحدها من يغفر في دار أخرى تجاوز ، فلا شأن لها في سلطة زمانية تباشر ، وإن كانت لها في الحظوظ تُقَاسِمُ ، فلا تشاطرها الإجراء السياسي والإدراي المدقق ، وإن نازعتها المغنم والمكسب ، فلا تحظى السياسة بِشَرْعِيَّةٍ إلا أن تُسْبِغَهَا عليها الديانة التي احتكرها الكهنة ، فَلَهُمْ من قوة التأثير في الجمع ما يخشى بأسه الملك ، فقد يجرد من سلطانه الزماني الواسع إن لم يستجب لرغائب الكهنة فَهُمْ نواب المسيح في الأرض أن يغفروا الذنب ويسنوا الشرع ويضفوا شرعيةً بل وقداسةً على الْمَلِكِ الذي يخضع لهم ، وهو ما ظاهره الاتفاق والاقتسام ، وباطنه الافتراق والانقسام ، فـ : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) ، إذ يحقد الْمَلِكُ على أولئك وقد شاطروه الْمُلْكَ ، فَنَفْسُهُ كَنَفْسِ أي ملكٍ جائر قد وجد فرصة تسنح أن يستبد في الحكم فيصير الْمَلِكَ المطلَق بلا شريك من كهنة يُنَغِّصُونَ عيشه ويهددون سلطانه أن يَزُولَ ، فكان من الإصلاح الديني ، من هذا الوجه ، ما وجد عاضدا إن من الْمَلِكِ أو من رأس المال الذي ضَاقَ ، أيضا ، بما يفرض الكهنة من قيد فهم أصحاب مال وضياع ولهم من الثروة حَظٌّ يشاطر الْمَلِكَ ، بل قد بلغ زمامهم في دول وممالك نصفا من الأرض أو ثُلُثًا ، مع ما لهم من سلطان روحي قد احتكروه فَلَهُ يخضع الملك والإقطاع ، فوجد البلاط ورأس المال في الإصلاح الديني المحدث ، وَجَدَا فيه طَوْقَ نَجَاةٍ أن يُحَرِّرَا أمرهما من قيد الكهنة ، إذ دعا الإصلاح إلى تَقْيِيدِ سلطان الكهنة ، وذلك حق ، فقد عالج من فسادهم ما اسْتَشْرَى ، وهو ما ضاقوا به ذرعا ، فكانت الحرب بَعْدًا ، وهي ما ختم بحرب ثلاثين عاما قد أفضت ختاما إلى صلح قد مَهَّدَ لما تلا من حكمِ حَدَاثَةٍ قَدْ تَقَلَّصَ فيه دور الدين ، فكان من ذلك ، كما يذكر بعض من بحث ، دعوة تَرُومُ تقوية السلطان في حد ، وانسحاب الدين في آخر ، وإقامة مثال سياسي محدث ، فهو قانون يَرُومُ غاية عظمى هي الحفاظ على الملك والدولة لا إقامة العدل والشرعة ، فَيُقِيمُ الحكم على قاعدة الغالب إذ البقاء فيها للأقوى وإن لم يكن الأعدل والأصلح بل الصلاح والعدل قد تُؤُوِّلَ أَنَّهُ القوة فهي معيار الحق المحكم ، فذلك مُلْكُ دَوْلَةٍ بحكم الواقع لا بالقانون والشرع الحاكم ، فيكون من ذلك دولة الحاكم لا الجمع ، فالحاكم قد نال من هذا الإصلاح طلاقة في الحكم ، فلا أحد يُنَازِعُهُ الملك ، وقد كان قَبْلًا ذا مُنَازِعٍ على حَدٍّ يضاهي بل ويجاوز ، فكان دين الكهنة أقوى ، فَرَجَّحَ الإصلاح الديني حِزْبَ الملك وصيره الراجح ، بل وأطلق له من يد السلطان ما به اسْتَبَدَّ بَعْدًا ، فَنَازَعَ رأس المال بما يفرض من ضريبة ومكس ، فما كان حِلْفُهُمَا حلفَ فضول يروم العدل ! ، وإنما هو حلف مصالح يروم القضاء على ضِدٍّ يخاصمهما جَمِيعًا ، أو تقليص أثره في مثال السياسة والمال ، فلما نجحا إذ دَعَمَا الإصلاح الديني ذا الوصف الحداثي الذي به يصير الدين تاليا في صناعة المثال ، وهو ما استوجب ، من وجه آخر ، تحول مثال الحكم من جموع كثيرة يَسْتَغْرِقُهَا عقد دين وسياسة واحد مع اختلاف الألسن والعوائد ، فلم يكن إلا الدينُ عَقْدًا يجمع في العصر الوسيط مع ما تَقَدَّمَ من طغيانه واستبداده ، فقد تحمله المثال السياسي آنذاك إذ لا بَقَاءَ له إلا أن يَنَالَ شرعيةً وقداسة من الكهنة ، فذلك وحده ما يحفظ مثاله الواسع فإن ما يُفَرِّقُهُ إذا زال الدين أكثر ، فيكون من ذلك حرب بين أعراق تحتدم إن لم يكن الدين هو الأصل الذي عليه تَجْتَمِعُ ، فيكون له من ذلك رتبة أولى في مثال الحكم والسياسة ، فَتَحَوَّلَ المثال إلى دول وممالك أصغر ، لها من عقد جديد ما ينسخ ، فكان عقد الوطن ، ولا ينفك ، أيضا ، يحتاج الدين ، ولكنه الدين في ثوب جديد ، إذ ناله الإصلاح بما قَلَّصَ سلطان الكهنة ، ولم يخل ذلك ، كَمَا تَقَدَّمَ ، من حق إذ كان من طغيانهم ما عظم شؤمه ، ولكن الإصلاح لم يَنْصَحْ في فعله ، فكان منه انفراط العقد إلى حبات بعد حروب طوال أزهقت نفوس كثير لا يحصى ، فكان من ذلك صلح قد وضع أساسا هو الأول لمثالِ سياسةٍ محدَثٍ قد صار الدين فيه تَابِعًا فهو دين القوم والعنصر ، لا دين عام يجمع الأعراق والعناصر ، فَلَهُ في اسم المثال السياسي رتبة تالية لعقد أول : عقد المثال الوطني المحدَث بما اصطلح في أدبيات السياسة المتأخرة أنه الجامع لشعبٍ بِعَيْنِهِ فِي رُقْعَةٍ من الأرض لها من الحد ما صَيَّرَهَا وحدة صغرى في مثال أُمَمِيٍّ جديد لا يُقِرُّ بِمُثُلٍ جامعة سواه ، فكانت عنايته في الإجهاز على مُثُلِ العصر الوسيط التي تعدت إلى أعراق وعناصر من البشر بما احتملت من عقد الدين المجاوز ، وإن المحرَّف الفاسد ، فكان من الإصلاح آخر هو حق أريد به باطل ! ، فقد نال من دين الكهنة وحده ، وأفسح لمثال السياسة والمال أن يتمدد ، ولو صدق النصح ، لَنَالَ من كلٍّ ، فَكُلٌّ فَاسِدٌ ، وهو ما استدركه بَعْضُ من بحث في ظاهرة الإصلاح الديني في العصر الوسيط ، فلم يكن من الإصلاح عدل في القسمة وَنُصْحٌ في الفكرة أَنْ يُقَوِّمَ مَا فَسَدَ مِنْ كُلٍّ ، وإنما اختص الكنيسة بمطلق الذم ومنح السلطان ما كان يروم من مثال الحكم المطلق الذي يجعل الدولة هي الغاية ، ولو جَائِرَةً تَظْلِمُ ، فهي ضرورة قصوى لأجلها تَنَالُ الاستثناء ، ولو أن تظلم وتطغى ، فَلَمْ يَنَلْهَا الإصلاح كما نال الدين المحدث ، فهي تحكم بأمر واقع لا بقانون وحكم راشد ، فاستفادت من ذلك كما رأس المال إذ تَخَلَّصَا من خصم لدود ، ثم كان من قسمة الأرض على مثال سياسة وحكم جديد ، لا يَصِيرُ فيه الدين هو الأول ، بل هو تال لما كان في المبدإ من اسم الوطن الذي يجمع ، وذلك ما به قد أُصْلِحَ الدين ، ولو بَعْضًا ، إذ نالته حركة إصلاح لم تخل ، كما تقدم ، من مراجعة ونقد ، ولكنها لم تنصح في طلب الحق ، بل كانت في أحسن وصف ، رَدَّ فِعْلٍ قَدْ غَلَا في ضِدٍّ ، فكان بعدا قنطرة جاوزتها الحداثة أن تحكم ، ولو احتفظ الملك بِنُفُوذِهِ الواسع وكذا رأس المال وهو الخصم الماكر الذي تحالف مع الملك ليقضي على خصم الكنيسة ذي الإقطاع الواسع ، مع تحكمه في الأمر بما يكون من أمر ونهي ذي قداسة في الوصف فلا أحد يطيق له خصاما أو استدراكا ، فلما نجح رأس المال في عقد هذا التحالف غير البريء مع الملك مع استعانة كُلٍّ بمثال جديد يُصْلِحُ من دين الكهنة ما قد فسد ! ، كان من ذلك ما مَهَّدَ لحكم زماني مطلق ، يُقْصَى فيه الدين ، وهو ما صنع الإصلاح الأول ، وإن منح الملك سلطانا فَبِاسْمِ الدولة وهي الاسم السياسي الذي يظهر ، ولو على مكث ، ولو ظهور الْمُلْكِ المطلق ، وذلك ما يُنَغِّصُ ، أيضا ، على رأس المال إذ له من القانون ما يقيد ، كما الكنيسة ، وإن على قَاعِدَةِ سُلْطَانٍ زمانيٍّ لا روحيٍّ ، فالملك بما له من منصب ذي سلطان واسع وبما احتكر من أدوات التشريع والقضاء والإنفاذ في مثال أول قد اكتسب القداسة من تفويض الكهنة ، بل كان من ذلك ، كما يقول بعض من بحث ، أن صار له من صَكِّ الغفران ما يصدر ! ، فلم يعد ذلك حكرا على الكهنة ، فذلك حكم قد تَوَاطَأَ طَرَفَاهُ ، عَلَى التَّفْصِيلِ آنِفِ الذِّكْرِ ، ثم كان الإصلاح الديني في عصر النهضة ، وهو ما أفسح المجال لبلاط الملك أن يتوسع في الحكم ، فاستوجب بما جُبِلَتْ عليه النفوس من الطغيان والاستبداد بِالْأَمْرِ إن حصل لها من أسباب القوة ما يَغُرُّ ، استوجب بما تقدم أن يكون ثم نَقْضٌ لتحالف مُؤَقَّتٍ بَيْنَ الملك ورأس المال في سياقِ تحول جذري من المثال الزِّرَاعِيِّ إِلَى المثالِ الصناعي ، فالأخير قد افْتَقَرَ إلى معيار ديني وأخلاقي جديد لا سيما بعد ثورة في السياسة والاجتماع تَلَتْهَا أخرى في أدوات الإنتاج ، فلا تلائمها أخلاق الإقطاع الرزاعي ، سواء أكان المثال الجديد : مثال الإلحاد المصرِّح الذي خاصم الدين والأخلاق كافة ، فالأخلاق قد خرجت من رحم الدين وكل يُخَدِّرُ الجمع ألا يَثُورَ على الاستبداد والقمع ، وَيُدَشِّنُ حقبة جديدة عنوانها الرئيس : نَفْيُ الإله وأي قوة من الغيب تجاوز ، إن في التأثير والخلق أو في التشريع والحكم ، مع تعظيم المادة ، فالإنتاج الذي لا يجاوزها في المصنع هو الغاية والمدرَك ، ولأجله مثال السياسة والاجتماع يُعَدَّلُ بما اصطلح أنه هندسة الاجتماع التي تَتَنَاوَلُ الأفراد كما الأشياء فلا قيمة تجاوز الإنتاج في المصنع مع بحث آخر في المعمل قد اعتقد أولا قبل أن يبحث ! ، فهو يحتال أن يخلق الحياة من المادة لِيُبْطِلَ قصة الخلق الأولى التي جاءت بها النبوات ، فهي من بقايا عصر الإقطاع والاستبداد ! . والله أعلى وأعلم . |
#13
|
|||
|
|||
![]() فكان من فرض التطور ، على قاعدة العشواء والخبط ، كان من ذلك أصل قد صدرت عنه مثل الحداثة كافة ، مَنْ جَحَدَ الدين تصريحا كما دعاوى الشيوع الذي اتخذت المادة أَصْلًا عنه تصدر في صناعة المثال فكرة وشرعة واجتماعا وسياسة وإنتاجا وأخلاقا ..... إلخ ، فهي المثال القياسي في الجحود ، وإن خالف عن المنقول والمعقول والمفطور والمحسوس كَافَّةً ، فَهُوَ المثال الذي ازْدَرَى الإنسان ذلك الكائن المكرَّم فصيره أداة تُنْتِجُ على قاعدة من المادة لا تجاوز الحس الظاهر ، فَمَا وَرَاءَهُ فَلَيْسَ يُعْتَبَرُ أَنْ صَارَ هو مرجع المعرفة الأوحد ، تَحَكُّمًا يُصَيِّرُ الجهل حجة على العلم ، فَمَا جهل الحس وهو القاصر ، فهو حجة على ما جاوز من أخبار صدق تَنْصَحُ فِي الغيوبِ كَافَّةً ، وَأَشْرَفُهَا الغيوب الدينية المجاوزة من خارج العقل ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، وذلك ما اطرد في مواضع الحسن والقبح وما كان من أحكامٍ وأخلاقٍ ، فمادتها المجملة في النفوس قد رُكِزَتْ وَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ دَلِيلًا من خارجٍ يُبَيِّنُ ، فكان من الوحي حكم بين العقول إذا تخاصمت ، وحكم بين الأبدان إذا تدافعت ، وهو ما يَرْقَى بالإنسان وَيَشْرُفُ ، فيجاوز الماهية الطينية الكثيفة إلى أخرى نُورَانِيَّةٍ هي اللطيفة ، فَلَا يَقْتَصِرُ فِي حَدِّ الإنسانِ أنه الكائن المنتج المستهلك على قاعدة مادة لا تجاوز الغرائز فَتُصَيِّرُ لَذَّةَ الحسِّ هِيَ الغاية ولأجلها يَعْمَلُ مَنْ يَعْمَلُ ، فإنما يَعْمَلُ لِيَأْكُلَ وَيَشْرَبَ لَا على قاعدة تَشْرُفُ من تكليف أن يعمر الأرض مع أول يَتَقَدَّمُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ على قاعدة النبوة والخلافة ، فكان منها خلافة داوود ، عليه السلام ، فـ : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) ، وهي في الباب مثال يبين عن عام يستغرق ، فكان منه أمر يجاوز المخاطب الأول ، فَثَمَّ منه جنس يستغرق ، كما قد أبان عنه الوحي في موضع آخر ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ، فعموم "الحق" و "العدل" قد استغرق العلوم والأعمال كافة ، ما خص من حكومات الاعتقاد والفقه ، وما عم من حكومات السياسة والحرب ، وذلك ما عَمَّ كُلَّ حاكمٍ وخليفةٍ سواء أكان النبي الذي تَأَيَّدَ بالعصمة أم الخليفة الذي سَلَكَ الجادة ، فذلك تكليف له تال أَنْ يَتَأَوَّلَ معيار النبوة في الأرض فَيُخْرِجَهُ من النص إلى الحكم ، من القوة إلى الفعل ، فيكون من ذلك ما امتاز به الحكام ، فَثَمَّ من الحكومات ما كَرَّمَ الإنسانَ أَنْ أَنْزَلَهُ منزلة العبد ، عبد الله الذي لا يخضع لغير من الخلق ، فَيَنَالُ من ذلك صك العتق من عبودية الأرض ، ولا يكون ذلك إلا أن تَنْعَتِقَ الروح بما كان من مادة الوحي الناصحة التي نصحت المحال جميعا ، فَنَصَحَتِ الجنان بخبرِ صدقٍ ، ونصحت الأركان بحكم عدل ، إن في شأنٍ يخص أو آخر يَعُمُّ ، كما تقدم من خطاب داوود أن يحكم بالحق ، وذلك ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ حَقَّ الصدق في الأخبار ، وحق العدل في الأحكام ، فهو الثابت في نفس الأمر ، وهو المستصحَب في كلِّ حكمٍ ، إن باطنا فذلك التوحيد ، أو ظاهرا فذلك التشريع الذي عَمَّ الخلق كَافَّةً ، فكان من ذلك قَيْدٌ يَمِيزُ حكم النبوات وَخِلَافَاتِهَا التي رَشَدَتْ من غَيْرٍ يخالف عن جادتها فهو يَسْلُكُ جَادَّةَ ظلمٍ وطغيانٍ ، وهو ما جاوز الحس إلى المعنى ، فمنه طاغوت يجاوز الحد في باب التشريع والحكم ، ومنه ظلم يبطل الأصل بما عَظُمَ من تعطيل الوحي واستبدال غَيْرٍ من الوضع المحدَث به ، إِنْ فِي التَّصَوُّرِ أو في الحكم ، فالأول أصل يكون عنه الثاني فَهُوَ تأويله في الخارج ، وَهُوَ تَالٍ له في الوجود فلا يكون الحكم إلا عَنْ تَصَوُّرٍ ، فهو عنه فَرْعٌ ، كما يقول أهل الشأن ، فالتصور أول وهو ما افْتَقَرَ إِلَى مرجعٍ في الخبر يجاوز إذ يَقُصُّ عَلَى الإنسانِ مَا غَابَ عنه في المبدإ من أول لا أول قبله ، وهو واجب الوجود المطلق ، فذلك مما دل عليه العقل والفطرة والحس ضرورةً لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط كما تقدم من مثال الشيوع الذي خاصم الوحي والنبوة خصام الفاجر المارق .
فكان من الوحي ما يُبِينُ عن هذه الضرورة المجملة في العقل والفطرة ، فجاء الوحي بِخَبَرِ صِدْقٍ عن ذات الحق ، جل وعلا ، وما قام بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، وكان من الخبر مَبْدَأُ هذا الأمر ، كما في الْأَثَرِ : "«كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»" ، فكان الواجب الأول ولا شيء قبله ، فذلك ما ثبت في الأزل فلم يسبق بالعدم ، ولم يكن منه نقص أول ثم اسْتَكْمَلَ بَعْدًا ما لم يكن ، وليس ثم منه ما يَطْرَأُ عَارِضَ جهلٍ أو فَقْرٍ أو مرضٍ أو موتٍ ..... إلخ ، بل ثم أولية وآخرية بِمَا امتاز واجب الوجود الأول ، ضرورةً في النقل والعقل كَافَّةً حَسْمًا لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، ثم كان من الخبر ، أيضا ، ما أبان عن خلق هذا العالم المحدث فهو الجائز لدى المبدإ فلا ينفك يطلب من خارجٍ المرجِّحَ ، وذلك واجب الوجود الأول الذي يُرَجِّحُ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ فِعْلِ إيجادٍ وتصويرٍ وتدبيرٍ ، وذلك مما قَدُمَ في النوع وحدثت منه آحاد في الخارج تصدق فَلَا تَنْفَكُّ تُنَاطُ بِمَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ وَكَلِمَةِ تكوينٍ تَنْفُذُ ، وذلك مما يدل عليه المعقول دلالةَ الجملةِ الأعم ، فلا ينفك يطلب آخر يُفَصِّلُ فِي أعيان المخلوقات خاصة من العرشِ ، سقفِ الخلق ، إلى الكرسي إلى السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وما كان من أجناسِ خَلْقٍ مِنْهَا لَطِيفٌ قد خُلِقَ من نورٍ ، ومنها آخر يخفى قد خُلِقَ من النار ، ومنها ثالثٌ وهو الإنسان الذي جَمَعَ من الروح مادة تلطف ولها تكليف في الاعتقاد والتصور بما يقوم بالجنان من معان تلطف فهي تواطئ ماهية الروح الألطف ، فَجَمَعَ الإنسان من الروح مادَّةً تَلْطُفُ ، على التفصيل آنف الذكر ، وجمع إليها مادة البدن التي تكثف ، ولها ، أيضا ، من التكليف ما يتناول الشرائع والأحكام التي بها انتظام الحال وطلب الأرزاق وقسمتها تأولا لما قدر أزلا ، فما العبد إلا فاعل يتأول ما كان أولا من خلق التقدير المحكم ، فتأويله خلق الإيجاد لأعيان المخلوقات وما يقوم بها من الأوصاف والأفعال ، وثم من خلق تال ما غَلَبَ فيه الطين الروح ، فذلك الحيوان الأعجم ، والإنسان المكلف بَيْنَهُمَا يترجح ، بين كائن أعلى قد خلصت فيه المادة النورانية اللطيفة ، وكائن أدنى من حيوان أعجم قد غلب الطينُ فيه الروحَ ، فَغَرَائِزُهُ هي الرائد ، وَلَذَّتُهُ هي المنتهى ، فلا يجاوز مدارك الحس الظاهر ، فالإنسان بَيْنَهُمَا يَتَرَدَّدُ ، فإذا نَصَحَ للوحيِ فَصَدَّقَ وَامْتَثَلَ ، عَظُمَتْ فِيهِ المادة النورانية فَشَرُفَ في الدرجة ، وإذا غَلَا في المحسوسات فَاشْتَغَلَ بِهَا فصارت غَايَةً تُرَادُ لِذَاتِهَا ، إنتاجا واستهلاكا ، لا وسيلة بها تأول ما تقدم من تكليف العمارة ، عمارة الأرض ، وبها التوسل إلى غاية أشرف ، غاية الدين أَنْ يُقَامَ فَلَا يكون إلا بِدُنْيَا فِيهَا من أسبابٍ وآلات ما يجري مجرى الوسائل ، فهي مباحات لا تُمْدَحُ وَلَا تُذَمُّ لِذَاتِهَا حتى يُنْظَرَ فِي غَايَةِ من يباشرها أَقَصَدَ الوحيَ رَائِدًا ينصح ، أم الحس غريزة تُفْرِطُ في تَعَاطِي اللَّذَّاتِ فَتُصَيِّرُهَا الغايةَ الَّتِي تستوي فيها والحيوان الأعجم ، فيكثف الطبع ويقسو القلب أَنْ مَالَ صاحبه إلى كَثِيفٍ من البدن فَصَيَّرَهُ الغايةَ التي لِأَجْلِهَا يَتَحَرَّكُ ، فلا يجاوز تصورُه بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ ! ، وإن كان من لذة معنى فهي مَا يُتَوَهَّمُ من طلب جاه ورياسة تزول ، مع مخالفة عن رياسة النبوة بما تقدم من حكومة الحق خَبَرًا وإنشاءً ، فيكون من ضد ما يعطل الوحي المحكم ويعدل إلى آخر من وضع هو المتشابه إذ العقول والنفوس تَتَفَاوَتُ في مَبَادِئِهَا تصورا ومقاصدها حكما ، فلا يحسم ذلك فيسلك به جَادَّةَ عدلٍ تَنْصَحُ فلا تهمةَ تَنَالُهَا من نَقْصٍ أو افتقار إلى سبب كما جادة الأرض المحدثة ، فالأولى في الثانية تقضي قضاء العدل المحكم ، وهي ، كما تقدم ، تنصح للإنسان فلا تصيرة آلة استهلاك وإنتاج ، سواء أصرحت فلم تُكَنِّ ! ، كما مذهب الشيوع الذي جَحَدَ ، أو زعمت أنها تَنْتَصِرُ للإنسان ، وهي ، لو تدبر الناظر ، تهدد وجوده بِالزَّوَالِ ، فهي تَنْتَصِرُ للجسد بما رُكِزَ فيه من غرائز الحس فلا تجاوز في التصور والحكم مع تقديس لهذه الماهية الكثيفة ، وتدنيس لأخرى من الماهية اللطيفة ، ماهية الروح فهي المخاطبة بادي النظر بما تنزل من محكم الوحي ، فذلك ما لطف في الخبر والإنشاء ، وإن كان من آثاره ما يظهر في حركات الأركان ، فالمحل الأول : جِنَانٌ يُتَصَوَّرُ فَهُوَ يُصَدِّقُ إذ يُرَجِّحُ في الخبر والاعتقاد القبولَ والرِّضَى ، وذلك أول في الوجدان الباطن وهي لِمَادَّةِ الحبِّ والبغضِ باعثٌ ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، أصل كل حركة في الخارج ، فَثَمَّ وساطة من الإرادة التي تُرَجِّحُ في الفعلِ والتركِ ، وَثَمَّ ماهية الروح التي أهدرتها مذاهب الحداثة كافة ، مَنْ صَرَّحَ فَلَمْ يُكَنِّ كما تقدم من جاحدٍ لخالقٍ هو الأول وحاكم هو المهيمن المشرِّع ، فَلَيْسَ الإنسان فِيهَا إلا جسدا هو آلة إنتاج واستهلاك وإن في مثالٍ خَشِنٍ يَنْتَهِكُ حَقَّ الجسد كما الروح في المبدإ ، فَيُصَدِّقُ القولَ بالفعلِ ، ولا يترك في الإنسان شَيْئًا إلا وقد أضعف وأفسد ، وكذا يُقَالُ في آخر كَنَّى ولم يصرح فحمل مذهبه اسم الحقوق التي تحمد ، بادي الرأي ، حقوق الإنسان ، وليست إلا حقوق الجسد الذي عَظَمَّ هذا المذهبُ ، مع مسحة روح لا تجاوز حد الهوية التي تأطر ، وليست إلا مادة في مواضع النِّزَالِ تُوَظَّفُ أن تَصِيرَ تَبَعًا لا أصلا ، فهي حافز في جدال المخالف وجلاده لا على قاعدة وحي هو الأول ، بل له في الاسم تال يتبع ، فالأول اسم حداثة يحكي معيار الحكم المحدَث الذي تَأَلَّهَ بما استجمع من أدوات القوة ناعمة تأطر وخشنة تَبْطِشُ ، فصار هو المرجع الحاكم الذي يُعَيِّنُ الفكرةَ والشرعة ، فيضع المعيار الواصف حسنا وقبحا ، والمعيار الحاكم إباحة وحظرا , وإن خالف عن الفطرة الأولى ، إن فطرة الأديان أو أخرى من الأبدان ، وهو ما قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، وإن كان مِنْ أصلٍ في التكليف يستصحب ، فـ : "إِنَّمَا هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" ، فلا ينفك يكون من الاستثناء ما يجري مجرى التأويل فهو خلاف الظاهر المستصحب من عموم في خطاب التكليف المنزل بما يواطئ جبلة التكوين المحكم ، فالأصل في خطاب التكليف عموم يستغرق المحال كافة ، فذلك الأصل المستصحب حتى يَرِدَ دليل عنه ينقل فيخص جنسا منهما بالحكم دون الآخر ، وإلا فالأصل استواؤهما فهما في التكليف شقيقان يستويان ، وإن فُضِّلَ الرجال بدليل من خارج ، فمنه الكوني في الجبلة ، ومنه الشرعي بما يكون من النفقة ، فـ : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) ، وتلك اسمية تحكي الثبوت والاستمرار ، وثم من التعليل ما دلت عليه الباء في قوله ![]() ![]() فَثَمَّ من عبودية الشيطان ، الأعم والأخص ، ثَمَّ مِنْهَا ما نهى عنه العهدُ الرَّبَّانِيُّ ، إِنِ الفطرةَ أو ما جاءت به الشرعة ، وثم من الاستئناف ما يجري مجرى التعليل جوابا لسؤال قد دَلَّ عليه السياق اقْتِضَاءً ، فَمَا عِلَّةُ النَّهْيِ المتقدم ؟! ، فكان من الجواب : لأنه لكم عدو مبين ، وهو ما جَرَى عليه رسم التوكيد قِيَاسًا ، فَثَمَّ الناسخ المؤكد "إِنَّ" وهو نَصٌّ فِي الباب هو الأقوى ، وَثَمَّ من الاسمية إثبات وتقرير ، فَتَقْدِيرُ الكلام قَبْلَ دخول الناسخ : هو لكم عدو مبين ، مع تقديم الظرف "لَكُمْ" ، وحقه أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فكان من ذلك مَئِنَّةُ حَصْرٍ وَتَوْكِيدٍ ، مع تَنْكِيرِ "عدو" وذلك مَئِنَّةُ نَوْعِيَّةٍ تحتمل التعظيم أو التحقير ، فَكَانَ من وصف "مبين" ما أَزَالَ إجمال التنكير المتقدم ، فَجَرَى مجرى التأويل إذ احتمل التنكير اثنين يَتَضَادَّانِ : التعظيم والتحقير ، فهو يفتقر إلى قَرِينَةٍ تُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فكان من المرجح وصف "مبين" ، وهو ما أَفَادَ وضوحا فلا يَشْتَبِهُ إلا أن يكون من الغفلة ما يعظم ، فعدوانه مما ظَهَرَ وَاسْتَبَانَ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ يَنْصَحُ . وكان من تغيير الخلقة والنوع تأويل لما قد توعد إبليس الخلق ، فـ : (لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، وهو ما تَنَاوَلَ ناقض الربوبية أن يُغَيَّرُ الخلق بما يحكي السخط والرد ، وإن كان منه كبائر يُزَيِّنُهَا الشيطان بما يكون من تَكَلُّفٍ في طلب الجمال ، فالأصل فيها أنها ناقضة لكمال الإيمان الواجب لا لأصله الجامع إلا أن يكون من ذلك استباحة مع بلوغ الدليل وحصول الحجة لا سيما في دور الإسلام والسنة فإن المعلوم الديني الضروري فيها أكثر من أخرى لم تشرق فيها شمس النبوة ، أو يكون ثم استخفاف بالأحكام يجري مجرى التهكم ، فذانك ، الاستباحة والسخرية ، ذانك ناقضان لأصل الدين الجامع ، باشر صاحبهما الفعل أو لم يباشر ، على التفصيل آنف الذكر ، فَثَمَّ من جاوز ذلك ، فكان منه تَغْيِيرُ الخلق حكاية أخص من الخروج عن أمر الله ، جل وعلا ، مضادة ومضاهاة وَإِيذَانًا بحرب على فطرة التكوين الأولى ، إن في الأبدان والأعضاء أو في الأخلاق والأفعال . وكذا يقال في تَغْيِيرِ الشرع فهو تال يقرن لتغيير في الخلق ، فيكون من نقض التوحيد ما عم اسم الربوبية الخالق واسم الألوهية الشارع ، فإن تغيير الخلق تغيير للشرع فتوعد الشيطان ، ولو لازم قول أَنْ : لآمرنهم فَلَيُغَيِّرُنَّ شرع الله إن في تناول البدن بما يحرم من تغيير الخلقة أو آخر أعم قد استغرق نصوص الشرعة كافة . وهو ، كما يقول بعض مَنْ حَقَّقَ ، نَقْضُ لِعُرَى الإنسان ، ولو المطلق بما ركز فيه من فطرة أولى تجري مجرى الوجدان الضروري الذي لا يفتقر إلى سبب ، فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فكان من نَقْضٍ لعرى الإنسان ما عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، وكان من نَقْضِ المقدَّس لا سيما الرسالي ، كان منه وصف لمذهب من الحداثة قد جاوز ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فقد طفح الكيل ، فصار تقصد ذلك دينا يضاهي دين الاعتقاد والتشريع ، فكان من ذلك مذهب قد اتخذ الجحود اعتقادا هو التصور الذي يصدر عنه الحكم وما جاوز من سلوك يَتَأَوَّل معيارا من الأخلاق والشمائل ، وهي كاشف لِمَا اسْتَقَرَّ في الوجدان من الفكرة ، وما تَأَصَّلَ في النفوس من مَعَانٍ هي بواعث الحركة في الخارج ، وما يأطرها من شرعة أمر ونهي تصدق ما رَسَخَ من المراجع والبواعث ، فَثَمَّ من تأويل الباعث الجاحد ما يَرَى الناظر من اجتهادٍ فِي نَقْضِ كُلِّ مُقَدَّسٍ ، فتلك آية التحرر المطلق الذي يخرج صاحبه من ربقةِ أَمْرٍ ونهيٍ قد جاءت بها الأديان لا سيما الرسالية ، فلا يكون التحرر إِلَّا أَنْ يُكْسَرَ قَيْدُ الأمرِ والنهيِ ذي المرجع المحكم ، فلا ينفك يستبدل به آخر يضطرب من معيار نسبي يَتَفَاوَتُ ، وَإِنْ فِي أصولٍ من العلوم الضرورية ، وذلك فتحٌ لذرائعِ سَفْسَطَةٍ تُصَيِّرُ الفردَ هو معيار الخير والشر ! ، فيكون من الاختلاف ما اتَّسَعَ خَرْقُهُ على رَاتِقٍ عاقل ! ، فكلٌّ يحكم بمرجع ذاتي لا يجاوز في التحسين والتقبيح ، وليس ثم معيار موضوعي من خارج يأطر ، وما كان من عقل الجمع فهو مما يعبث به صاحب الدعاية إذ يصنع الرأي على مكث بما يواطئ معياره ، فذلك قليل يحكم كثيرا وإن أوهمه أنه الحاكم الذي يختار ، فلا يختار إلا ما أُطِرَ عليه من خيارٍ لا يجاوز أولا قد اختاره صاحب المنبر الذي يؤثر في صناعة الرأي ، وهو ، أيضا ، عقل من عقول الأرض ، وإنما يحتكر من أسباب بها يُؤَثِّرُ مَا يَحْمِلُ الجمعَ وَيُؤَطِّرُ ، ولهم مِثْلُ ما له من قوى التَّعَقُّلِ ، وهو ما يفتح باب المخالفة والمدافعة ، فلكلٍّ عقل يحسن ويقبح وله من الهوى والذوق ما عنه يصدر ، فما يحمل زيدا أن يخضع لفكرة عمرو ، وله مِثْلَ ما له من العقل ، ولئن تُرِكَ كُلٌّ وشأنه بدعوى الحرية المطلقة ، فتلك في نفسها جادة تُلْزَمُ ، فهي دين يأطر أتباعه على معيار صارم لا يقبل المخالفة ، فَثَمَّ من مذهب الحرية دين ذو تصور وأحكام ، وله من الحدود الزاجرة ما يَرْدَعُ ! ، وله من مظاهر التدين ما يُمْعِنُ فِي نَقْضِ كُلِّ مُقَدَّسٍ ذِي دلالة تَلْزَمُ ، فالحرية دينٌ يُطْلَقُ ، وهو ، كَأَيِّ دينٍ ، لَا يَنْفَكُّ يُفَنِّدُ آلهة الخصم ، فإن الإيمان بواحد : كُفْرٌ بِضِدِّهِ إِنِ الواحدَ أو الدائرَ ، وذلك من التلازم الضروري في العقل ، فلا ينفك يفند آلهة الخصم بل ويجاوز الحد إلى التدنيس وَالسَّبِّ ، فلا يكون دين إلا بِوَلَاءٍ وَبَرَاءٍ فذلك تأويل أول من الإثبات والنفي ، وما يكون من حب وبغض وهما أصل كل حركة في الكون ، ومنها المدافعة لخصم ثُمُّ المطالبة أَنْ يُبَشِّرَ صاحبُ الدِّينِ بما يعتقد ، ولو استعملَ القوَّةَ أَنْ يُزِيلَ من الحاجز ما يحول دون دينه مِنْ مُخَالِفٍ ذِي دينٍ يُقَبِّحُ مذهبَه وَيُسَفِّهُ فكرتَه وَيُفَنِّدُ حجَّتَه ، فلم يكن من صاحب المذهب الذي يزعم الحرية المطلقة ، لم يكن منه تأويل ينصح لما يزعم من المسامحة واللين ، فليس منه ، بداهة ، مداهنة أو إعطاءُ دَنِيَّةٍ في دينٍ ، دينِ الحرية الذي يَنْتَحِلُ فلا حرية منه تَنَالُ المخالفَ الذي ينكره ! ، فلا حرية لمن يقدح في مذهب الحرية ! ، ولو جِدَالًا يُحَاجِجُ ، فلا مسامحة في أصول الاعتقاد فَتِلْكَ ثَوَابِتُ لَا تَقْبَلُ الخلافَ ، فَلِكُلِّ دينٍ من الأصول أول لا يسوغ الخلاف فيه ، ولو دينَ الحريَّةِ المطلقةِ الَّتِي تُسَوِّغُ كُلَّ خلافٍ إلا الخلاف في أصولها المحكمة ، بل لو استعمل المخالف فسحة من تلك الحرية المقدسة ، فَتَنَاوَلَ صاحبها بالقدح والسب والضرب ، ثم زعم أنه حر ، فما صنع هو الحرية المطلقة التي لا سقف لها ولا حد ، وإن نال الخصمَ بما يَكْرَهُ ، فَلَوْ صَنَعَ ذَلِكَ أَكَانَ يُقْبَلُ منه وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الجسدَ ، فكيف بمن يَتَنَاوَلُ الدِّينَ الذي يشرف لدى صاحبه ما لا يشرف الجسد ، إلا على دين الحداثة التي قَدَّسَتِ الجسدَ المحدَث وَصَيَّرَتْهُ المركزَ المحكم ، فَعَنْهُ تصدر الحواس في حَدِّ المعرفة وصناعة الفكرة التي تُحَفِّزُ وما يكون بَعْدًا من شِرْعَةٍ تَحْكُمُ ، فذلك مركز التشريع في دين الحداثة في مقابل آخر من دين الرسالة فمرجعه وحيٌ يَتَنَزَّلُ ومصدرُه إِلَهٌ يُشَرِّعُ قد جاوز هذا العالم المحدَث فَسَلِمَ من أعراضِ النَّقْصِ والجهلِ والفقرِ ، وكان منه لازم في العقل والفطرة ، أن يكون ثَمَّ أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، لَهُ مِنْ وَصْفِ الوجوبِ الذاتي ما لا يُعَلَّلُ ، وعنه هذا الوجود المحدَث يصدر ، فكذا شرعه الذي تَنَزَّلَ إذ له من الكمال ، أيضا ، ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، كما وصف الواجب الأول وما كان من وصفِ الكمال المطلق ، وهو ما انتهت إليه المحال والأسباب كافة في التكوين ، فَكَذَا تَالٍ يُلَازِمُ فِي التَّشْرِيعِ ، أَنْ يَكُونَ المرجِعَ إلى أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَلَهُ وجوب ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الكمال ما أُطْلِقَ ، وله من وصف السلام أَنْ بَرِئَ مما لم يَبْرَأْ مِنْهُ العقلُ المحدَثُ مِنَ الهوَى والحظِّ ، مع ما يكون من الفصل بين الخصوم ، فَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ أَنْ يَحْتَجَّ بِحُرِّيَّةٍ تُطْلَقُ ، فذلك ما يعود على صاحبها بما يقدح ، إذ يحتج الخصم في انتهاك حقه أنه حُرٌّ فِيمَا يَصْنَعُ إِذْ قد وَجَدَ من القوة والمكنة ما به يَطْعَنُ ، فآل الأمر إلى معيار قوة هي الحق ، وذلك ما يبطلُ كُلَّ شَرْعٍ وَيُهْدِرُ كُلَّ حُرِّيَّةٍ إذ ليس ثم معيار من خارج يجاوز فهو يأطر القوي ألا يظلم ، فلا يكون ذلك لمخلوق بما اعْتَمَلَ فِي نَفْسِهِ من الأهواء والحظوظ ، وَإِنْ زَعَمَ نُصْرَةَ الحقِّ وإطلاق الحرية في الرأي ، فَلَا يَنْفَكُّ يُقَيِّدُهُ ، وَلَوِ احْتِرَازًا لحريَّةٍ يَتَوَهَّمُهَا ، فَهُوَ يَنْقُضُهَا بِمَا وضع من القيد ، وما يُسَوِّغُ مِنْ خَرْقٍ لِمُقَدَّسِ غَيْرٍ ، فَيَتَوَسَّلُ إليه بالأذى والضر ، وَيُهْدِرُ حقَّه ، وإن زعم أنه لحق الإنسان يَنْصُرُ ، فَلَا يَنْصُرُ منه ، لو تدبر الناظر ، إلا حَقَّ الجسدِ الَّذِي يُوَاطِئُ مَذْهَبَهُ إِذْ صَيَّرَ الجسدَ ، كما تقدم ، مرجع الفكرة ومصدر الشرعة بما يَتَنَاوَلُ من هذا العالم بما رُكِزَ فِيهِ من قوى الحس الظاهر . وذلك ، لو تدبر الناظر ، فُرْقَانٌ يَمِيزُ المثال الرِّسَالِيَّ مِنَ المثالِ الحداثِيِّ ، فليس الأمر اختلافا في الوسائل ونظم الإدارة وتراتيب الحكم ، وإن كان ثم من ذلك ما يميز الهوية التي تظهر آثارها في المجال العام ، ولو في أمور أقرب إلى الجبلة منها إلى الشرعة والمنهاج ، فَثَمَّ ، كما يقول بعض من حقق ، ثم روافد تستديم الهوية ، فهي تُسْتَدَامُ فِي دُورِ الوحي بروافد من الآي والخبر ، وما يكون من دَرْسٍ يَصْنَعُ التَّصَوُّرَ ورؤيةَ الحياةِ أنها دار تكليف وابتلاء ، وأنها محل الخلافة والعمران على قاعدة العبودية التي لا تَقْتَرِحُ فَهِيَ بِأَمْرِ السَّيِّدِ تعمل ، وعنه مرجعه تصدر ، فيكون من التصور والحكم ما يَنْصَحُ ، وكل أولئك مما يميز مثال الرسالة من مثال الحداثة ، فالأول يصدر من أعلى ، وهو بالوحي يحكم إِنْ فِي الخبرِ أو فِي الإنشاءِ ، وله من المحال ما لطف من الجنان إِذْ يُصَدِّقُ ، فيكون من التصور أول ، وهو ، كما تقدم في موضع ، مما يجاوز العرفان المجرد الذي يستوي فيه المؤمن والكافر ، فَثَمَّ من التصديق مُرَجِّحٌ من خارجٍ في عِرْفَانٍ أول يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ إذا طالع الخبر والحكم ، فذلك الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مُرَجِّحٍ يزيد القبول والرِّضَى وذلك التصديق الأخص ، فيكون منه ما يُرَجِّحُ القبول والرضى ، وذلك يعدل في الحد : الإقرار والانقياد والاستسلام والإذعان ، وكلُّ أولئك مما يَرْفِدُ في الجنان مادَّةَ الحبِّ والبغضِ ، وَهِيَ مَبْدَأُ الإرادةِ إِنْ فِي الفعلِ أو في التَّرْكِ ، وذلك ما تظهر آثاره في الخارج ، في تكليف الأركان ، إن الخاص أو العام ، وذلك ، كما تقدم ، مما استغرق المجال العام برسم : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، فحصل من العموم ما استغرق الدين صَلَاةً وَنُسُكًا ، والدنيا محيى ومماتا ، فَثَمَّ من الأمر أَنْ "قُلْ" ، وهو إن خُصَّ إِلَّا أنه يَسْتَغْرِقُ كُلَّ مخاطَبٍ ، فَثَمَّ من دلالة الإطلاق ، من وجه ، إذ يجري مجرى الشمول على حد البدل فَيَصْدُقُ في كُلِّ مخاطَب أنه المراد بالخطاب ، وإن كان المحل واحدا لا يَسَعُ إِلَّا واحدا بالنظر في أصل الوضع الأول ، فَثَمَّ من البدل ما به يخاطِب كُلَّ واحدٍ ، إذ ثم من قرينة العموم في خطاب التكليف ما يُسْتَصْحَبُ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ من خارجٍ يَصْرِفُ ، فَهُوَ يُرَجِّحُ ضِدًّا من الاختصاص وَاقِعَةَ عَيْنٍ أو تخصيصًا بصورة لا تستغرق الآحاد جميعا في الخارج . فَثَمَّ من الأمر ما قد عَمَّ فاستغرق ، وثم من العموم ما استوفى الدين والدنيا ، فذلك المجال الخاص والعام وبه ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، استديمت شعب الإيمان ، فليس الشأن أَنْ تَثْبُتَ فحسب ، وإنما أن تُسْتَدَامَ بما يكون من دَرْسٍ وتأويلٍ له في الخارج بما يكون من تصديق وامتثال يَتَنَاوَلُ الحكومات كافة ، فَثَمَّ من الفرقان ما يميز مثالا عن الوحي يصدر ومن السماء ينزل ، وآخر عن الوضع يحدث ومن الأرض يخرج ، فالجسد وهو المادي المدرَك بالحس ، ذلك هو مَرْكَزُ التَّصَوُّرِ والحكمِ لدى المذاهب الحداثية ، وَهُوَ مَا يُعَظِّمُ المادَّة الترابية وَيَزْدَرِي المادة النُّورَانِيَّةَ ، فيكون الحكم للهوى والذوق ، وتكون المخالفة عن أمر الشرعة ومعيار الفطرة الأولى ، ولو في أصل الخلقة ، فَيُخَالِفُ كُلٌّ عما كان من تفضيل أول ، إن في الكون أو في الشرع ، وَيَنْحَطُّ الإنسان المكرَّم إلى دَرَكَةٍ الحيوانِ الأعجم بل وإلى ما دونها ، فـ : (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ، فَثَمَّ من الإضرابِ انتقالٌ مِنْ دَنِيٍّ إلى أدنى إمعانا في الذَّمِّ والتَّقْبِيحِ وما يَلْزَمُ من حكم في التشريع يَنْهَى عن فعلهم لئلا يَنَالَ الفاعلَ وصفُهم ، وَيَأْمُرُ بِضِدٍّ لِيَسْلَمَ من وِزْرِهِمْ . فَخَالَفَ مَنْ خَالَفَ في الجيل المتأخر عن هذا التفضيل الكوني المحكم , وكان من ذلك نَقْضٌ لما تقدم من النهي أَنْ : (لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، فذلك نهي يحرم إذ يحكي الفعل ، ولو لَازِمَهُ ، يحكي اعتراضا يَنْقُضُ قانون الحكمة الأولى في منح الأرزاق وتعيين الأنواع وما يلائم كُلَّ نَوْعٍ من أحكام الأمر والنهي ، فَعَمَّتِ الْبَلْوَى في الجيل المتأخِّر أَنْ كَانَ مِنْ تَمَنِّي بَعْضٍ ما فُضِّلَ بِهِ آخر ، ولو في أصلِ الخلقةِ ، وهو ما يكثر في النساء إذ كان من حكمة الخلق أن يَكُنَّ دون الرجال ، فيكون للرجال عليهن درجة ، وهي ولاية تَأْرِزُ إِلَى أَوَّلٍ من التفضيل في أصل التكوين بما كان لهم من بِنْيَةٍ أقوى وعقل أَرْجَحَ وَجِنَانٍ أَثْبَتَ ، ولو في الجملة ، فذلك ، كما تقدم في مواضع ، تَفْضِيلُ مجموعٍ على آخر ، لا جميعٍ على مِثْلِهِ ، فإن من آحاد النساء ما هو أقوى وأعقل وأثبت ، ولكن ذلك قَلِيلٌ أو نادر ، والحكم ، أبدا ، للغالب ، فَلَا يُقَاسُ عَلَى الاستثنَاءِ ، وَإِنَّمَا غايته أن يكون من الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فالمرأة أكثر إذ تَتَمَنَّى ما به الرجل قد فُضِّلَ ، لا جرم كان مبدأ الوعيد بها أن : "لعنَ اللَّهُ المتشبِّهاتِ منَ النِّساءِ بالرِّجالِ والمتشبِّهينَ منَ الرِّجالِ بالنِّساءِ" ، فالأدنى يميل إلى التشبه بالأعلى لا ضد ، فكان من غالب الحال ما استوجب التصدير ، فالمرأة في هَذَا البابِ أَكْثَرُ ، لا سيما فِي جِيلٍ قد تأخر فكان من مذاهب تُسَوِّغُ ذلك بل وعليه تُحَرِّضُ لِيَخْرُجَ الإنسان عن جادة الفطرةِ ويخالف عن حكومة الشرعة فَتَنْحَلَّ عُرَى الأسرة ويصير أمر الخلق إلى فوضى ، وإن لم تستوف المرأة بَعْدُ الأمر كله ، ولو من بابِ التَّنَزُّلِ في الجدال مع الخصم ، فَثَمَّ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، تَفْضِيلُ التكوين ، وذلك مما لا تطمح إليه امرأةٌ تَعْقِلُ إِلَّا مَا كان من بَلْوَى أخرى أعم قد نجمت في الجيل المتأخر ، فأفسدت الأبدان بما كان من عَسفٍ في الفعل قد أَفْضَى إلى تَشَوُّهٍ وَمَسْخٍ ، مَعَ ما قد تُوُعِّدَ بِهِ من يَعْبَثُ : أَنْ يَكُونَ من المرضِ والدَّاءِ مَا يُفْسِدُ ، فذلك كما اصطلح أهل الأخلاق هو الجزاء الطبيعي ، أو هو الجزاء الرَّبَّانِيُّ بما كان من سنن محكم في الخلق والتصوير والتدبير ، أَنْ أُعِدَّ كُلُّ محلٍّ أَنْ يَقْبَلَ من الأسباب ما يُوَاطِئُ ماهيته التي امتاز بها من غَيْرٍ ، فالمحل المذكَّر له من الخاصة والماهية ما يُوَاطِئُ أسبابا له قد بُذِلَتْ بما كان من تقدير رَبَّانِيٍّ محكَم ، وكذا المؤنث ، فإن خرج أحدهما عن ماهيته في الخلقة وَحَدِّهِ في الفطرة مَيْلًا قد رُكِزَ فِي الْجِبِلَّةِ وَمَا وَاطَأَ مِنْ حُكُومَاتِ الشِّرْعَةِ ، فَإِنْ خَرَجَ أحدُهما عما قُدِّرَ له من ذلك فقد خالف عن معيار الحكمة وتكليف الشرعة فَفَسَدَ الدين والدنيا كَافَّةً ! ، لا جرم كان من ذلك لعن قد تَقَدَّمَ ، فـ : "لعنَ اللَّهُ المتشبِّهاتِ منَ النِّساءِ بالرِّجالِ والمتشبِّهينَ منَ الرِّجالِ بالنِّساءِ" ، وذلك مما يجري مجرى سَدِّ الذَّرَائِعِ ، إذ لو فُتِحَ لَأَفْضَى إلى فساد يعظم في الفطرة والشرعة كافة ، مع فواحش في الفعل لا تَنْفَكُّ تَصْدُرُ عن أول من انحرافٍ في الطبع ، فكان من فساد التصور أول قَدْ أَفْضَى إلى تَالٍ في الحكم ، وهو ما ظهرت آثاره في القول والفعل ، في الهيئة والجبلة والطبع ، فيفسد ناموس الخلق ويقل النسل ويظهر من الداء عقابٌ مُعَجَّلٌ ، كما في الخبر المحقق ، فـ : "لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعْلِنوا بها، إلَّا فشا فيهم الطَّاعونُ والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضَتْ في أسلافِهم الَّذين مَضَوا" ، فَثَمَّ من الخبر وَعِيدٌ يَزْجُرُ ، وهو ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، مَئِنَّةُ كَبِيرَةٍ يَعْظُمُ جُرْمُهَا ، وهو الخبر الذي يحكي بَدَاهَةً إِنْشَاءً يَحْرُمُ التَّحْرِيمَ الجازم ، ولا يَنْفَكُّ يَسُدُّ ذَرِيعَةً إلى أَفْحَشَ ، فلا ينفك الخروج عن جادة الفطرة في الخلق والطبع أَنْ يُفْضِيَ إلى آخر من جحود الرَّبِّ الخالقِ ، جل وعلا ، فَإِنَّ لَهُ سنة في التكوين ، فمن بَارَزَهُ فِيهَا وَرَامَ التَّبْدِيلِ فَهُوَ يبارزه منصب الربوبية فيجحد ما أُحْكِمَ مِنْ خَلْقِهِ بل ويجحد وجوده ، بادي الرأي ، وهو مما يَرَى الناظر له آثارا في الجيل المتأخر بما كان من اقترانِ الإلحادِ والانحلال ، فَيَكْثُرُ فِي القبيلِ المنحَلِّ : جحود الخالق ونكران المعاد ..... إلخ ، وما كان من بَعْضٍ قَدْ يَغُرُّ من تهذيب أو لطف ، فليس إلا بقايا من آثار فطرة أولى هي بِضِدِّ مَا انْتَحَلُوا تَشْهَدُ ، فَلَوْ سُئِلُوا عن معاني التهذيب في الأخلاق ، والرقة في الإحساسِ ، والصدقِ ، وحبِّ الخيرِ ، ومساعدَةَ غَيْرٍ ...... إلخ ، فَلَوْ سُئِلُوا عن سبب ذلك عَلَى قاعدة من الحس لا تجاوز إذ لا يؤمنون بما جَاوَزَ من الوحي ، ولا ما بَطَنَ من الفطرة ، فالفطرة دليل ينقض إذ يجاوز مدارك الحس وَيُفْضِي إلى إثباتِ الغيبِ الذي يُبْطِلُ مذهبهم في الخلقِ ، فَهُوَ يُفْضِي إلى إثباتِ أول من التقدير المحكم ، وذلك من غيب لا يدرك بالحس ، فالفطرة الباطنة التي لا يجد الناظر لها تَفْسِيرًا يكمل من نَظَرِيَّةٍ حِسٍّ تُشْهِدُ ، فالحس لا يجاوز في الباب دَرَكَ الآثار في الخارج ، فلا يجيب عن سؤالات الوجود والمصير ، وإنما يشتغل بالرصد لا بالتفسير ، فلا يشتغل بسؤالات المبدإ والكيف والتعليل ، وسؤالات الغاية ، وَعِنَايَتُهُ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إلى العلة الصورية رَصْدًا لا العلة الغائية فِكْرًا ، بل لا ينفك يجحد الغاية التي تَنْقُضُ أصلا عنه يصدر ، فهي حكاية سَنَنٍ في الأزل قد أُحْكِمَ ، وهو الغيب الذي لَمْ يُشْهَدْ ، فَلَيْسَ العشواء والخبط ، كما يَزْعُمُ ، وإن كان ذلك ، أيضا ، من الغيب الذي لم يشهده ، فآمن بما اقترح من الفرض ، بل هو من المحالِ الذَّاتِيِّ الذي لا يُتَصَوَّرُ ! ، وراح يَتَلَمَّسُ له من الأدلة ، ولو حفر الأرض ونقب لِيَعْثُرَ على أَثَرٍ قد انْدَثَرَ عَلَّهُ يحكي وسائط في التطور قد أعيت الباحث المتحيز الذي تَعَسَّفَ في حملانها على مذهبه ، وهي ، كما يقول بعض من حقق ، تشهد بضد ، وهو ما أَقَرَّ به من أنصف في البحث ، ولو كان ممن انتحل فرض التطور ، فلم يكن من إتقان الخلقة وإحكام السنة إلا شاهد بضد من تقدير في الأزل ، وهو ما عم فاستغرق بما كان من علم محيط هو الأول ، وذلك ما تناول الخلق وآخر من الشرع يأطره على جادة من يعلم ما خَلَقَ فَلَهُ من اسم اللطيف والخبير ما يدق ، فَأَنْزَلَ ما يواطئ من الشرع ، فَثَمَّ استقامة على جادة الفطرة في الخلق ، ولازمها تَالٍ من استقامة على جادَّةِ الشَّرْعِ الذي ابْتَلَى بغيب يُصَدَّقُ وحكم يُمْتَثَلُ ، وهو مِمَّا يواطئ وجدان الفطرة الأولى إذ رُكِزَ فِيهَا من المعلوم الضروري ما يحكي أولا هو الواجب ، فَلَهُ من الوجود ما كَمُلَ أزلا وأبدا ، أولا وآخرا ، وله من دليل الفطرة التي يجتهد الخصم أَنْ يُنْكِرَ ، فَلَوْ أَقَرَّ بها لَأَقَرَّ بالفاطر ، وذلك من حكم الضرورة في العقل الناصح ، فالفطرة لا بد لها من فاطر ، وذلك مما يتسلسل في باب السببية حتى يبلغ أولا لا أول قبله ، له من العلم المحيط ما اسْتَغْرَقَ ، وذلك أصل في التوحيد علما وعملا ، تَوْحِيدِ الخلق بكلماتِ رُبُوبِيَّةٍ ، وآخرَ في الشرع بكلماتِ أُلُوهِيَّةٍ ، فكل يرجع إلى أول من العلم المحيط الذي اسْتَغْرَقَ ، فالفطرة لا بد لها من فَاطِرٍ ، والخلق لا بد له من خالق ، وذلك مِمَّا اطرد في الأحداث كافة ، فكلُّ محدَثٍ فلا بد له من محدِث هو الأول ، فاجتهد الخصم أن يجحد هذه الفطرة فلا يُلْزَمَ بِلَوَازِمِهَا وهو ما طَرَدَهُ ، ولو في أصلِ الخلقة ، فليس ثم أولى من ذكر وأنثى بل خلق مجرد يكتسب من النوع بَعْدًا بما يكون من مؤثِّرٍ من خارج ، فيختارُ كُلٌّ ما يواطئ هواه وذوقه ، وإن جحد أولئك ، من وجه آخر ، الإرادة فهي تنقض ما اقترحوا أولا من عشواء وخبط فلا إِرَادَةَ فِيهَا تُرَجِّحُ وهي إلى عِلْمِ تَقْدِيرٍ أول ترجع ، فجحدوا الإرادة في موضع ، وأثبتوها في آخر . فمثلهم ، ولو من وجه ، مثلهم كمثل بَعْضٍ يَنْتَحِلُ مذهب الجبر إذا عصى فيحتج بالقدر على المعصية ، ويسيئ الظن بالله ، جل وعلا ، وينتحل مذهب القدر إذا أطاع فيحسن الظن بنفسه ! ، وبئست القسمة ، وهي تحكى الاضطراب والتناقض في الفكرة . فكان من جَحْدِ الفطرةِ الأولى ما الْتَزَمَ القومُ ليجحدوا الفاطر الأول ، ولو فطرة الأبدان التي تظهر ، مع أخرى من الأديان تَوْحِيدًا هو الأصل ، لا جرم اقْتَرَنَ الإلحاد والانحلال ، كما تقدم في موضع ، فالأول جحد لفطرة الأديان ، والثاني جحد لفطرة الأبدان ، لا جرم كان من اللعن آنف الذكر ، لعن المتشبهات والمتشبهين ، كان منه سد ذريعة لما هو أفحش أن يطرد الخروج عن فطرة التوحيد ، توحيد الربوبية في الخلق وتوحيد الألوهية في الشرع ، فَحَرُمَ التشبه إذ قد وَرَدَ الخبر الذي يَلْعَنُ ، وهو مما يسد ذريعة إلى نَقْضِ ما أحكم من فطرة الدين والبدن ، وكان من النهي آنف الذكر أن : (لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، وهو ما عم من وجوه ، إذ تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل "تَتَمَنَّوْا" ، مع آخر يحكيه التغليب إذ يجاوز دلالة الوضع الأول في واو الجمع المذكر ، فَثَمَّ ما عَمَّ الجنس المؤنث لقرينة عموم في الخطاب المكلِّف ، مع سبب نُزُولٍ يشهد ، وهو ما يواطئ القياس إذ الأدنى يَرُومُ ، في الغالب ، ما فُضِّلَ به الأعلى ، إذ الرجل في الجملة خير من المرأة ، فَلَهُ تفضيل في الخلقة وآخر من حكومة الشرعة بما نَالَ من قوامة ، وهي ما اسْتُمِدَّ من أول من تَفْضِيلٍ كوني لا يُعَلَّلُ ، فهو كالذاتي الذي لا يُعَلَّلُ لا جرم لم يكن به تكليف إذ يجاوز وسع المكلف فلا يسأل لم خلق ذكرا ؟ ، أو لم خلقت أنثى ؟! ، فتلك آلة التكليف من البدن والروح والمشاعر ..... إلخ ، فالتكليف بما كان من أحكام تواطئ الآلة ، ذكرا أو أنثى ، فلكلٍّ من الأحكام ما يواطئ ماهيته في الخارج ، حكمةً قد اطردت في التكوين والتشريع كَافَّةً ، فَلَا يُسْأَلُ عنه الخالق المهيمن ، جل وعلا ، ولا يُكَلَّفُ به المخلوق مع ما كان من حكمة في الخلق قد رَكَزَتْ في كُلٍّ من الطبع ما يواطئ الخلق ، فكان من تمني المرأة ما فُضِّلَ به الرجل ، كان من ذلك ما يَتَبَادَرُ إذ يوسوس الشيطان لها ، فيخرجها عن حدها الذي فطرت عليه في الخلق والطبع بما يواطئ تكليف الشرع ، وإن كان الأصل فيه التَّسَاوِي ، وذلك ما ينصرف ، مبدأ النظر ، إلى أصلِ التكليفِ عبوديةً يَسْتَوِي فيها الذكر والأنثى كَافَّةً ، فَكُلٌّ بالنظر المجرد في الذهن كلٌّ عَبْدٌ تَكْلِيفُهُ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، والتصديق واحد إذ الخبر مما يباشر المحل الباطن جنانا يَتَصَوَّرُ وَيُصَدِّقُ ، وذلك ما استوى فيه ، بداهة ، المذكر والمؤنث ، فالاعتقاد أمر يُجَرَّدُ في الوجدان وإن كان له آثار في الباطن والظاهر بما يكون من الحب والبغض وإرادة الفعل والترك ، وأعمال في الجنان وأخرى في اللسان والأركان ، فكل أولئك مما يصدر عن اعتقاد أول في الوجدان وذلك المعنى العلمي المجرد الذي لا يُتَصَوَّرُ فيه تفاوت بالنظر في جهة التكليف ، فالتكليف به واحد يتناول المحال كافة ، فردا أو جمعا ، ذكرا أو أنثى ، حاضرا زَمَنَ الخطاب أو غائبا ، موجودا آنذاك أو معدوما ، مؤمنا فهو المكلَّف بالفعل أو كافرا فهو المكلَّف بالقوة وإن لم يتأول قوة الإيمان المركوزة في وجدانه بآخر من الفعل يصدق ، وكذا يُقَالُ في الامتثال ، فالأصل فيه الاشتراك بالنظر في جنس عام هو الأول ، وتحته آحاد من حكومات التكليف ، فكلٌّ قد خوطب بها في الجملة ، وإن كان لكلٍّ من آحاد الحكومات ما يواطئ ماهية أخص ، فذلك الاستثناء لا الأصل ، وإنما الأصل كما تقدم قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "إِنَّمَا هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" ، فذلك أصل عام يستصحب في الحكومات كافة حَتَّى يَرِدَ من القرينة ما يُرَجِّحُ ضِدًّا من الاختصاص ، اختصاصِ عَيْنٍ أو نوعٍ بحكم فلا يجاوزه ، فَثَمَّ وقائع الأعيان التي لا تجاوز الواحد من الخلق ، وثم وقائع الأنواع ، إن صح الاصطلاح ، فلا تجاوز الواحد من الْقَبِيلِ أو الجنسِ ، فَثَمَّ من خاصة الذَّكَرِ ما له حكومات تُوَاطِئُ ، وَكَذَا الأنثى ، فَلَا يَنْفَكُّ يَحْكِي حكمة من التشريع تُصَدِّقُ أولى من التكوين ، وثم من العموم في "ما" في قوله ![]() فتأول الحكمة في هذا الباب أن يُعَلَّمَ الصغير ، كما تقدم ، من الأفعال والأحكام ما يواطئ نوعه ، لا أن يختار نوعه فقد اختاره له مَنْ خلقه ، جل وعلا ، فذلك مما جاوز قُدْرَةَ المخلوق فلا يناط به تكليف أَنْ يُحَصِّلَ ذلك فيختار من النوع ذكرا أو أنثى ، ولو أفسد الفطرة بما فسد أولا من الفكرة ، فتأوله في تَالٍ من حركة قد صَيَّرَتِ العلم الدقيق وبالا على البشر فَبِهِ أفسدوا الْخَلْق وَالْخُلُقَ كَافَّةً ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عم فاستغرق كل مخالفة عن الأمر المحكم ، وذلك من التلازم بمكان يظهر ، فلا يكاد فساد في الْخُلُقِ والدين إلا وآثاره تظهر في الْخَلْقِ والتكوين بما يكون من تَغْيِيرٍ يُفْسِدُ من وَشْمٍ أو نمص أو تفلج أو وصل أو قَزَعٍ ..... إلخ ، وما زَادَ في الجيل المتأخر أَنْ تَنَاوَلَ أصل النوع عَبَثًا في الماهية الأولى التي فطر الله ، جل وعلا ، عليها الخلق ، فهي ، من هذا الوجه ، تدخل في عموم الأمر أَنْ : (أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وذلك من خطابِ واحدٍ هو الْمُواجَه ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو أول مكلَّف بالوحي من وجه ، وهو أول مبلِّغ ومبيِّن من آخر ، وثم من العموم ما تَنَاوَلَ الجمع المكلف ، فذلك الأصل المستصحب في خطاب التكليف حتى تَرِدَ قرينةُ تخصيصٍ إن بعين المخاطَب أو بِنَوْعٍ ، فذلك الاستثناء الذي لا يصار إليه إلا بدليل يرجح المخالفة عن أصل أول يستصحب ، وليس من ذلك في هذا الموضع شَيْءٌ ، بل السياق بِضِدٍّ يشهد إذ يحكي توحيدا هو أول واجب على الجمع المكلف ، فلا يختص به واحد منهم ، وإن خوطب به ابتداء ، فذلك مقام التبليغ والتبيين الذي اختص به أول هو صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيجري ذلك ، من وجه ، مجرى خَاصٍّ يُرَادُ به عام لقرينة في الباب أَبَدًا تُسْتَصْحَبُ وهي العموم في خطاب التكليف المنزل ، فالمنطوق الأخص لفظا : أَقِمْ وجهك للدين حنيفا ، والمفهوم الأعم معنى : أقيموا وجوهكم للدين حنفاء . وإقامة الوجه وهو خاص قد تَنَاوَلَ الماهية جميعا ، خَلْقًا وَخُلُقًا ، هو ، أيضا ، من الخاص الذي يُرَادُ به عام ، وهو ، من وجه آخر ، إقامة ظاهر من وجه هو مرآة تحكي ما يَقُومُ بِالنَّفْسِ ، فتلك إقامة ظاهر تحكي أخرى من باطن هو الجنان فهو معدن الفكرة التي لا تَنْفَكُّ آثارها تَظْهَرُ فِي الوجهِ ، وفي حركات الأركان ، إن فِعْلًا أو تَرْكًا ، وذلك ما قد عم فاستغرق المحال كافة ، الباطن والظاهر ، والأحوال كافة ، الاعتقاد الباطن ، والقول والعمل الظاهر ، فكان من إقامة الوجه ما يحكي إِقَامَةَ كُلٍّ من الباطن والظاهر ، فاستغرق الماهية جميعا ما لَطُفَ مِنْ مَادَّتِهَا جِنَانًا ، وما كَثُفَ منها لِسَانًا وَأَرْكَانًا ، واستغرق الأحوال كافة ، ما بطن من الاعتقاد والتصديق والحب والبغض وَإِرَادَةِ الفعل والتَّرْكِ ... إلخ من حركات الجنان ، وما ظهر من القول والعمل ، وذلك ما تَنَاوَلَ ظاهر الخلقة أن يسلك بها المكلَّف الجادة التي شُرِعَتْ فَلَا يُبَدِّلُ فِيهَا ولا يُغَيِّرُ إلا ما كان من سَنَنِ فطرةٍ تُحْمَدُ ، فذلك تغيير يحمد إذ قد أمر به الشرع في محلِّ تَوْقِيفٍ فلا يزيد فيه المكلَّف ولا يُنْقِصُ مع وجدانِ فطرةٍ تَنْصَحُ قد وَجَدَتْ في الأمر الشرعي ما يواطئ نظافة بدن وهي مِمَّا يَرْغَبُ فيه كل ذي مروءة إذ به تَنْشَرِحُ النفس ، فالقذر يَقْبِضُهَا وَيُحْزِنُهَا ، فَثَمَّ من إقامة الوجه ما استغرق جميع ما تقدم ، فصاحبها قد سلك في الباب جَادَّةً تُحْمَدُ ، وهي مما تناول الفكرة والحركة ، باطن القلب وظاهر الوجه إذ يحكي ما قام بالقلب من العلوم والإرادات ، مَعَ تَالٍ يتأول بالقول والعمل ، وذلك اسم دين يستغرق ، لا جرم قُيِّدَتِ الإقامة بالدين ، وهو ما لا يسلم لصاحبه إلا أن يكون الحنيف المائل عَنْ ضِدٍّ من شرك يقدح في أصل الدين الجامع أو عصيان يقدح في كماله الواجب ، وتلك الفطرة التي بها استأنف على حد التخصيص والتنويه بالذكر في قوله ![]() وقل مثله في الختان ، فهو مما يصدق فيه أنه تغيير في الخلقة ، على تفصيل في الحكم إذ هو الواجب في حق الذكر ، وإن كان من حَدِّ المالكية في الباب أنه سُنَّةٌ ، فذلك ، كما قال أرباب التحقيق في المذهب ، ذلك مما يأثم تَارِكُهُ عندهم ، وهو حد الواجب عند غيرهم ، وقد يكون ذلك نَظَرًا في جنس الدليل ، فهو من السنة التي وردت أخبارها فَلَمْ يَكُنْ منه قرآن يُتْلَى إلا أن يكون ثم إشارات كما اتباع ملة إبراهيم ، عليه السلام ، وهو أول من اختتن ، كما في الأثر ، فذلك حكم في ملته الأولى قد وجب اتباعه في جملة ما وجب اتباعه من ملته الحنيفية السمحة ، وهو من آثار قد بقيت من دين إبراهيم المحكم ، فكان مما تَوَارَثَهُ العرب في جُمْلَةِ خِصَالٍ تحمد ، كما الاغتسال من الجنابة وإزالة فضول الشعر .... إلخ ، فكان من الوحي ما أمر ، إذ : (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وذلك موضع جلال في الوحي وهو أعظم ما يَنَالُ الأرضَ من السماءِ ، حكاية علم أول يحيط ، وما يكون من صدق في الخبر وعدل في الحكم ، وتلك مادة تنصح المحال كافة ، فمنها مادة الخبر الصادق التي تعمر الجنان ، وَعَنْهَا يصدر في تصديق أخص يجاوز العرفان المجرد ، وما يكون من حب وبغض وهو أول في الفعل وَالتَّرْكِ ، وتأويله الأول ما يكون من إرادةِ فِعْلٍ وَتَرْكٍ ، وذلك الباعث المرجح في الجنان ، وله في الخارج تأويل ينصح في اللسان والأركان إذا صحت الآلة واستوفي الشرط وانتفى المانع ، فكان من الوحي خبر يَصْدُقُ ، وهو مادة للجنان تعمر ، وكان تال في الخارج يُصَدِّقُ من القول والعمل ، فكل أولئك مما عظم شأنه فحسن لأجله إسناد إِلَى ضَمِيرِ الْفَاعِلِينَ في "أَوْحَيْنَا" ، فتلك حكاية التعظيم ، من وجه ، والتكثير من آخر ، لا نَظَرًا في ذات الموحِي ، جل وعلا ، فهو الواحد ، وإنما في صفات جمال وجلال تَكْثُرُ وعنها الوحي يَصْدُرُ ، فَثَمَّ من مادة الرغب ما يصدر عن وصف جمال يحمد ، وثم من مادة الرهب ما يصدر عن وصف جلال يمجد ، فيكون من الحمد والمجد إطناب به الكمال المطلق يُسْتَغْرَقُ ، فكان من ذلك إسناد في الباب ينصح ، وثم من انتهاء الغاية ما تناول ضمير المخاطَب في "إليك" ، ومرجعه صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو من أوحي إليه وحي النبوة الأخص ، فَخُوطِبَ مواجهةً في موضع لا يحتمل الشركة ، فَتِلْكَ نُبُوَّةٌ بابها الوهب فلا كسب فيها ولا جهد ، وإن كان من العموم ما يجاوز بِالنَّظَرِ فِي التَّكْلِيفِ ، فَهُوَ مما يعم الجمع كافة ، إِنْ أُمَّةَ الإجابةِ الأخص أو أُمَّةَ الدعوةِ الأعم ، فذلك عموم يجاوز بالنظر في التكليف لا في كسب النبوة ، كما ظهر في كلام غلاة من أهل الرياضة والفلسفة ، فلا يخاطب الخلق ، بَدَاهَةً ، أن يكونوا أنبياء إلا على مذهبٍ قد ضَلَّ في الباب رياضةً غلا أصحابها من التجرد من علائق الحس بما كان من عزلة وطول فكرة مع إقلال من الطعمة والرقدة ، فسهر وجوع وعزلة فتلك أدوات بها النبوة تُكْتَسَبُ ! ، فذلك مذهب رياضي غَالٍ وله من الحكمة الأولى أصل إذ ثم من القوة ما عُدِنَ في العقل الأرضي ، فهو نَبِيٌّ بالقوة ! ، فإذا باشر الأسباب من رياضة وتدبر ، فاضت عليه المعارف من العقل الكلي الفعال ، فهي تَفِيضُ بلا واسطة ، وتلك نبوة ذاتية لا تعلل ، فهي قوة قد ركزت في كل نفس ! ، فلا تفتقر إلى أخرى موضوعية من خارجها ، بل لصاحبها ، لو سُلِّمَ بذلك جدلا ، لصاحبها من الإسناد ما عَلَا إسناد النبوة ! ، فهو يَتَلَقَّى من العقل الكلي بلا واسطة خلاف النبي الذي يتلقى بواسطة الْمَلَكِ ، فَتَأَوَّلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْمَلَكَ أنه قوة التخييل التي بها يجد النبي مَلَكًا من خارج يخاطبه وليس إلا من عقله قد صَدَرَ وَبِقُوَّةِ تَخْيِيلِهِ قد ظهر ، فليس ثم حقيقة تجاوز ذاته الأرضية ، فلا سماء تجاوز عقلها ، فليس ثم وحي يَنْزِلُ من أعلى ، بل الوحي قد خرج من العقل وظهر في صورة تَرْمُزُ ، فلا حقيقة لها في الخارج تَثْبُتُ ، فصار الوحي جُمَلًا من رموز قد استغلقت فَلَهَا ظاهر يتناوله العامة ، وباطن لا يدركه إلا الخاصة ، فهم يَتَلَطَّفُونَ مع الجفاة فَيُجْرُونَ الوحيَ على ظاهره إذا خاطبوا العامة إذ قصرت مداركهم أَنْ تَنَالَ بواطن الحقيقة ، فلهم من التكليف ظاهرُ الشريعة ، فالأنبياء يكذبون على الخلق ! ليستصلحوا منهم النفس ، فَهِيَ كثيفة تجمد على مدركات الحس فلا تجاوز ، فَحَسُنَ خطابها بنعيم يحس في جنة ليست إلا رمزا في معجم تأويل يبطن ! ، وهو ما يُفْضِي إلى انحلال عرى الدين كافة ، بل ذلك مما قد عمت به البلوى في جيل قد تأخر من خطاب حداثة استلهمت أولا من تأويل باطني قد خالف عن جادة النقل والعقل واللسان ، فَأَحْدَثَ من المعجمِ ما لا أصل له في لسان الوحي ، وَإِنْ بَعِيدًا يُهْجَرُ ، فكان من لعب التأويل ما أَتَى بالإبطال على أصل التوحيد والتشريع كَافَّةً ، فليس ثم شيء من السماء يَتَنَزَّلُ ، وإنما كل شيء من الأرض يخرج ! ، كما الحداثة في الجيل المتاخر قد صيرت حواس الجسد هي المبدأ إذ تعالج المدركات في الخارج ، فالمعرفة تبدأ من الجسد حسا يَتَجَدَّدُ لا من السماء وحيا يَتَنَزَّلُ ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، معدن الخصومة المستحكمة أبدا بين تَنْزِيلِ الرسالة وتأويل الحداثة . والشاهد أن كُلًّا قد خوطب بدين النبوات الجامع ، ملة إبراهيم ، عليه السلام ، وهي التوحيد الناصح ، فدخلت الأمة معه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا الوجه إذ ثم من قرينة العموم في خطاب التكليف مَا يُسْتَصْحَبُ ، وذلك ما يعدل في التأويل قوة الجمع إذ أوحينا إليكم أَنِ اتَّبِعُوا ملة إبراهيم ، لا أنكم أنبياء يُوحَى إليكم وحيَ الاصطلاح الأخص وإن كان لكم من وحي الإلهام تَوْفِيقًا وَسَدَادًا ما يرشد ، بَلْ وآخر مِنْ وَسْوَاسٍ بِهِ الابتلاءُ أن يُدَافِعَ بما يكون من استعاذة وانقطاع ، فَيَشْغَرُ المحل من مادة الشر فلا ينفك يطلب شاغلا من الحق وإلا عَاوَدَ الاشتغال بالباطل ، فيكون من وحي الرحمن ما يعمر المحال تلاوةً وذكرًا مع تأويل ينصح فهو يجاوز حَدَّ التفسير لما يظهر من معان هي الأولية التي تدور عَلَيْهَا مادة المعجم وما زِيدَ فيها من حقائق في الشرع تُقَيِّدُ ، وهو ، أيضا ، يُجَاوِزُ حَدَّ التَّدَبُّرِ لِمَا لَطُفَ من معان هي الثانوية التي تُسْتَنْبَطُ إن من مذكورٍ أو محذوف يقدر إذ ثم من قرينة سياق ما يشهد ، وشرطها ، أي المعاني الثانوية ، أن لا تأتي على المعاني الأولية بالإبطال ، فهي فرع عن أصل ، فكيف يقدح الفرع في الأصل ، ولا بقاء لأصل ثانوي وقد زال الأصل الأولي ، فكان من التأويل الناصح ما استغرق التلاوة والذكر ، والتفسير والتدبر ، وهو بَعْدًا يجاوزه إلى آخر في الخارج يصدق من القول والعمل ، فكل أولئك من وحي عام يتناول الخلق جميعا ، فوحي الإلهام رشادا ووحي الوسواس ابتلاء مما عَمَّ الخلق جميعا ، وَإِنْ خُصَّ ، من وجه آخر ، فوحي الوسواس مما سلم منه الأنبياء ، عليهم السلام ، كما في الخبر : "«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِحَقٍّ»" . وإنما كان من الوحي إلى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نَالَكُمْ بما له من منصب البلاغ والبيان الأخص ، وما كان بَعْدًا من بلاغ وبيان أعم ، فذلك تكليف عام يستغرق كل من علم ، ولو آية ، كما في الخبر أَنْ : "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً" ، والشرط فيه يجري مجرى الحقيقة لا المبالغة ، وهو ما زِيدَ في تقديره ما يبين على تقدير : ولو كان ما تُبَلِّغُوَن آية فبلغوها عني ، فكان من حذف بَعْضِ الشَّرْطِ وحذف الجواب ، كان من ذلك ما دل عليه قانون اللسان المطرد لدى النحاة ، إذ منه حذف الناسخ "كَانَ" واسمه "ما تُبَلِّغُونَ" فالخبر "آيَةً" ، دال على المحذوف المتقدم وإن خالف ذلك ، كما تقدم في مواضع ، عما اطرد من معيار التقدير في لسان العرب إذ الأشهر أن يدل المذكور المتقدم ، فيكون منه مرجع ، أن يدل على آخر هو محذوف قد تأخر ، وكذا يقال في الجواب وإن جرى على المشهور فهو متأخر في السياق قد دل عليه ما تقدم صدر الخبر من الأمر أن : "بَلِّغُوا" . وذلك ما أُطْلِقَ فَاسْتَغْرَقَ بَلَاغَ المبنى تلاوةً وبلاغَ المعنى تفسيرًا ، فكان من الأمر ما استغرقهما جميعا ، ولو تخييرا ، فَبَلِّغِ المبنى وحده ولو لم تُدْرِكِ المعنى فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ، وَرُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هو أَفْقَهُ ، فَهُوَ يَسْتَنْبِطُ من اللفظ ما لا يطيق الأول ، وَبَلِّغِ المعنى وحده إذا لم يكن من ذاكرة الحفظ ما يُسْعِفُ ، ولم يكن من الوقت ما يسع ، فَثَمَّ بيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، فبلغ ما تطيق من المعنى ، وهو ، من وجه ، مما يشهد لرواية المعنى في الأخبار لا في الآي فلا يجوز نقلها بالمعنى ، وإن جازت حكاية المعنى المجمل في سياق تفسير يبين قد فات صاحبه لفظ الوحي فلا يحكيه مبنى ، وإنما يحكيه تَفْسِيرًا يُبَيِّنُ المعنى ، وَبَلِّغِ الاثنين مَعًا وذلك أعلى ما يُطْلَبُ في الباب ، فيكون من ذلك تلاوة هي حق التلاوة إذ يَتَتَبَّعُ صاحبها المبنى نطقا والمعنى فقها . وكذا يقال في الأمر أَنِ "اتَّبِعْ" في قوله ![]() فكان من ذلك ما وجب في حق الرجال والنساء كافة ، على قول ، والخلاف في النساء أوسع ، فَثَمَّ من قال بِأَنَّهُ سنة ، وثم من أناط الحكم بالحال ، فقد يحسن فيها الختان وقد يُؤَقَّتُ لِتَالٍ من العمر ، وهو مما يحسن فيه الأخذ إشماما لا يُنْهِكُ ، وقد يكون من الحال ما يمنع ، فلا حاجة إذ المحل لا يحتمل الأخذ ...... إلخ ، وكل أولئك مما يصدق فيه أنه تبديل للخلقة وتغيير فيها ، ولكنه ، بداهة ، أمر الرحمن ، جل وعلا ، لا وسواس الشيطان . فَحَصَلَ من ذلك تَفَاوُتٌ مَرَدُّهُ ، لو تدبر الناظر ، إلى توقيفِ الوحيِ في خطاب التكليف ، وَإِنْ أَدْرَكَ مِنْهُ العقلُ الناصحُ عِلَّةً أخص أو حكمةً أعم ، كما سنن الفطرة ، وهي من مواضع بها امتاز التغيير المشروع الذي أمر به الرب المعبود ، جل وعلا ، من آخر هو المحظور الذي توعد به إبليس المذموم . فلا يكون تبديل الخلق الأول ، فـ : (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، وذلك الخبر الذي أُرِيدَ به الإنشاء إذ ينهى ، وإن كان من المخصص ما تقدم من سنن فطرة بها تبديل لأصل الخلقة فمرد ذلك إلى توقيف الشرعة ، ومن ثم كان الاستئناف على حد الإشارة إلى ما بَعُدَ حِكَايَةَ تَعْظِيمٍ يُحْمَدُ في هذا الموضع ، فـ : (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، فهو المستقيم الْبَيِّنُ ، كما أُثِرَ عن بَعْضِ مَنْ حَقَّقَ ، وثم من دلالة الوصف المشبه "قَيِّم" ما يحكي الثبوت والاستمرار ، وذلك ، أيضا ، آكد في الدلالة إذ الوصف المشبه لا يُفَارِقُ الموصوف إِذِ اشْتُقَّ من فِعْلٍ لازم لا مُتَعَدٍّ ، مع قَصْرٍ بِتَعْرِيفِ الجزأين : "ذَلِكَ" و "الدِّينُ" ، وهو ، أيضا ، حكاية تَقْرِيرٍ وتوكيدٍ للمعنى . وهو ، كما تقدم ، مما عَمَّ الروح والبدن ، فَلِكُلٍّ دين قَيِّمٌ من فطرة أولى تنصح ، ومنها ما تقدم من جبل الخلق على ذكر وأنثى ، فلا يكون تبديل ولا تحول ، فَذَلِكَ دليل سخط ينقض خاصة الإيمان بالقدر ، وهو بعدا يَنْقُضُ أصل الدين الجامع ، ولو إثباتا لخالق هو الأول ، فَلَوْ أَثْبَتَ الخالق الأول ، جل وعلا ، ما سعى في اختيارٍ يَسْتَأْنِفُ ، فالاختيار قد حصل أولا على قاعدة علمِ تقديرٍ يَسْتَغْرِقُ وإرادة بها التخصيص في تَعْيِينِ الأنواعِ ، فلا يكون مِمَّنْ يؤمن بذلك الخالق الأول ، تبارك و ![]() ![]() والله أعلى وأعلم . |
#14
|
|||
|
|||
![]() فَثَمَّ من الفطرة أول ، إن في الدين أو في البدن ، وذلك ما يدخل في حد الأمر آنف الذكر أَنْ : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فهو يجاوز المتبادر من أمر التشريع الحاكم إلى آخر من أمر التكوين النافذ ، لا أن يكون من ذلك ذريعة إلى الجبر في الاعتقاد فيقعد صاحبه عن مباشرة الأسباب الشرعية والكونية تذرعا بالآجال المقضية فَفِيمَ العمل والسعي ؟! ، وهو ما أجاب عنه صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن : "اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، وذلك الأمر الموجب ، وتلك أولى في الدلالة تنصح ، ولا يخلو من آخر يرشد إذ جاء عقيب سؤال يستفهم عَمَّا أَشْكَلَ أَنْ : "فَلِمَ نَعْمَلُ ؟" ، وثم من العطف بالفاء في "فَكُلٌّ" ما ضُمِّنَ معنى التعليل ، فهو جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فَلِمَ كان الأمر بالعمل مبدأ الكلام ؟ ، فكان الجواب : "فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، ولا تخلو الفاء في هذا الموضع من دلالة فَوْرٍ وَتَعْقِيبٍ ، وذلك آكد في البيان إذ لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، وأي حاجة أعظم إلى بَيَانِ رُكْنٍ من أَرْكَانِ الإيمانِ ، الإيمان بالقدر خيره وشره مع آخر يشفع فلا يكون منه ذَرِيعَةُ جَبْرٍ يحظر ، بل ثَمَّ من العمل أَخْذًا بالأسباب المشروعة ، إِنِ الشَّرْعِيَّةَ أو الكونيةَ ، ثَمَّ مِنْ ذلك ما يَنْفِي شبهة الجبر احْتِجَاجًا بالقدرِ على النَّقْصِ ، بل القدر كله خير ، وما كان من شَرِّهِ فهو الجزئي الذي يُفْضِي إلى الخير الكلي ، وذلك معنى في الحكمة يَجْمُلُ ، أن يكون من الترجيح في باب المصالح والمفاسد ما أُحْكِمَ .
فكان من ذلك عموم قد تَنَاوَلَ : "كُلٌّ" ، على تقدير : كُلُّ أحدٍ ، ذَكَرًا أو أُنْثَى ، فَرْدًا أو جَمْعًا ، فَثَمَّ من تنوين العوض ما ناب عن المضاف إليه الذي يُبِينُ عن إجمال "كُلٌّ" ، فَنَابَ عنه التنوين ، وتلك قرينة من المنطوق تحكي المحذوف ، وهو المضاف إليه ، على التقدير آنف الذكر أَنِ : اعْمَلُوا فَكُلُّ أحدٍ مُيَسَّرٌ لما خلق له ، فكان من ذلك تَيْسِيرٌ بالفضل أن يُيَسَّرَ للخير ، وكان آخر بالعدل أن يُيَسَّرَ للشر ، وليس ذلك من الجبر في شيء ، فَقَدْ يُسِّرَ لِمَا يواطئ ماهيته بما قُدِّرَ من علمٍ أول ، فذلك علم التقدير المحكم لا آخر من الجبر يلجئ ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما غُيِّبَ فلا يُحْتَجُّ به على نَقْصٍ يحدث ، بل قد هُيِّئَ من الأسباب ، وَرُكِزَ من الإرادات في نفس المكلَّف ما به يناط التكليف أَنْ يَسْعَى في إكمال ما نقص ، لا أن يُحْتَجَّ عليه بالقدر ، فذلك مِمَّا يُفْضِي إلى إبطال الأسباب وفساد الأحوال ، فكلٌّ يحتج بالقدر على نقصه ، فإن كان من ذلك ما يُنْقِصُ من حقه فهو ينكر الاحتجاج بالقدر ، فَيَحْتَجُّ به إذا كان الحق له ، ولا يرضاه إذا كان الحق عليه ، فيدخل من هذا الوجه في عموم الذم في آي النور المحكم : (إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فتلك مئنة من المرض أو سوء الظن بالوحي . فَكَانَ من العموم في "كُلٌّ" في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، كان منه ما يحكي الاستغراق القطعي فهو يَتَنَاوَلُ كل أحد ، بل لو تدبر الناظر ، لوجد من ذلك ما يصدق في كل شيء ، ولو الحجر والشجر والحيوان الأعجم ، فكل شيءٍ ميسر لما خلق له ، إِنْ خَيْرًا وذلك فضل ، أو شرا وذلك عدل ، ولا يخلو ، كما تقدم ، من حكمة بها اسْتِجْلَابُ خَيْرٍ أَرْجَحَ ، وثم من الخلق ما حُذِفَ فاعله للعلم به بداهة ، فالخالق هو الله ، جل وعلا ، وحده ، وذلك ما أُطْلِقَ ختام الخبر : "فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" ، فاستغرق التقدير والإيجاد والتدبير بما هُيِّئَ له من محال وَأُمِدَّ به من أسباب ، وذلك ما انفرد به الله ، جل وعلا ، إيجادا للمحال وإعدادا وإمدادا بالأسباب ، وهي ، وإن انصرف إلى الأسباب الكونية التي تحفظ الأبدان فلا تنفك تجاوز إلى آخر وهو الأسباب الشرعية التي تحفظ الأديان ، فكل أولئك من أمر الفطرة الأولى ، فطرة التكوين وأخرى من التشريع . فَثَمَّ من الأمر الكوني ، وهو مما لا يناط به التكليف من أمورِ جِبِلَّةٍ لا يطيق فيها المكلَّف فعلا ، ولم يؤمر بذلك فهو من التكليف بما لا يُطَاقُ ، وإن وسوس الشيطان بِمَا زَيَّنَ ، فـ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فَأَطْنَبَ بما توعد به النوع الإنساني كُلَّهُ ، ذكورا وإناثا ، وكان في كُلٍّ من التوكيد ما يُوَاطِئُ السياق ، فَثَمَّ توكيد القسم المقدر بما دلت عليه لام على جوابه تدخل ، ونون توكيد تَثْقُلُ ، وهي مما رفد المضارع في كُلٍّ ، حكاية الديمومة والاستمرار بما أُنْظِرَ إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ، فكان من تغيير الخلقة ، وهو محل الشاهد ، كان منه خاص قد تناول قطع آذان الأنعام وشقها ، وآخر أَعَمُّ قَدْ تَنَاوَلَ الخلق كله ، فأضيف إلى اسم الله ، جل وعلا ، إضاقة المخلوق إلى الخالق ، وهو ما تناول الماهية ، من وجه ، وآحادها في الخارج ، من آخر ، إِنِ الإنسانَ أو غَيْرًا من الأنعام بما لم يشرع الله ، جل وعلا ، من ذلك ، فأطنب بعام بعد خاص ، وكان من ذكر الخاص أولا ما يجري مجرى المثال الذي يُبَيِّنُ وهو بين يدي العام يُوَطِّئُ ، مع ما كان من بلوى آنذاك هي الأعم ، فهي مما افْتَقَرَ إلى بَيَانٍ أخص لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، ثم كان من العام تال يَرْفِدُ ، وهو ما دخله التخصيص من وجوه ، إذ كان ثم من تغيير الخلقة الأولى ما يُشْرَعُ بما نص عليه الوحي المحكم من ختان وقض أطفار واستحداد ونتف آباط .... إلخ ، فكل أولئك مما يصدق فيه أنه تغيير لخلقة أولى ، ولكن الدليل له قد جَوَّزَ ، بل وندب ، بل وأوجب في مواضع كما الختان إن للذكور إجماعا ، أو للإناث ، والخلاف في إيجابه في حقهن قد بُسِطَ في كتاب الطهارة ، فلا يدخل ذلك في العموم آنف الذكر : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فَلَمْ يكن منهم وقد استجابوا لوسواس الشيطان المزيِّن ، لم يكن منهم إلا إفساد الخلقة الأولى ، وإنكارُ الفطرة التي جُبِلَتْ عَلَيْهَا الأبدانُ ، ضرورةً لا اختيارَ فيها ، لا جرم لم يكن ثم تكليف في اكتسابها فهي ذَاتِيَّةٌ في المخلوق لَا تُعَلَّلُ ، كَمَا افْتِقَارُهُ إِلَى الأسباب ، وهو أصل في الخلقة ، وكذا أوصاف الجبلة ، فلا يسأل الطويل يوم الحساب والجزاء لم كان طويلا ؟! ، فذلك من وصف لا اختيار له فيه ، كما لا يُسْأَلُ لم كان يأكل ويشرب ؟! ، فذلك ، أيضا ، من فعل الجبلة وإن كان له فيه اختيار لا كما الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والذكورة والأنوثة ...... إلخ ، فتلك أوصاف جبلة لا اختيار له فيها ، لا كأفعال الجبلة الاختيارية ، وإن لم يكن من الاختيار فيها ما يُدْخِلُهَا في حَدِّ التكليفِ ، إلا أن يكون ذلك من خارج ، فَثَمَّ مأكولٌ ومشروبٌ محرَّمٌ ، فَإِنْ تَنَاوَلَهُمَا فلا يجريان مجرى الجبلة وإنما ثم قدر زائد من حكم الشرعة ، وكذا ما يكون من مقاصد يُتَّخَذُ المباحُ لها ذريعةً ، كما الأكل والشرب ، فالنية والقصد يَزِيدَانِ في فعل الجبلة ما يلحقهما بحكومةِ الشِّرْعَةِ وإن لم يكن ثم وجه أخص ، فالنظر ، كما تقدم ، في الغاية والقصد ، كمن أكل ليستعين بقوة البدن على واجب أو مندوب ، فالوسيلة لها حُكْمُ المقصدِ ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، وكذا من أكل ليستعين بقوة البدن على محرم أو مكروه ، فَلَهُ ، أيضا ، حكمه ، فَزِيدَ في المباح وصفٌ زائد من خارج قد أدخله في باب التكليف وإن لم يكن ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، مُرَادًا لِذَاتِهِ . والأمر في أوصافِ الجبلة أَظْهَرُ ، فَهِيَ من فطرة تكوين أولى ، فلا أمر في التشريع يَتَوَجَّهُ إلى اكتسابها ، فلا يخاطب القصير أن يكون طويلا ، ولا الذكر أن يكون أنثى ، أو ضده ، كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر ، فالسعي في اكتسابها يُفْضِي إلى ضد من فسادها ، مع جحد أولى من الفطرة أن يولد المولود وليس على دِينٍ ولا خَلْقٍ ! ، فَيُولَدَ كَائِنًا لا وصف له ولا نوع فهو يختار بَعْدًا لا في محل اختيار يشرع ، بل ليس أولا في العقل ينصح بما ركز فيه من معلوم ضروري محكم ، فيختار بعدا ما به تأويلُ طغيانٍ ومجاوزةٍ لِلْحَدِّ ، وبها الإنسان أَنْ يَتَأَلَّهَ فَيُنَازِعَ الرب الخالق ، ولو الجبلةَ التي فَطَرَ الخلق عليها ! ، كما قد نَازَعَ الإله الحاكم بما عَطَّلَ من وحيه النازل ، فَعَمَّ بالشرك الناقض للأصل الجامع ، عَمَّ التكوين والتشريع كَافَّةً ، قَدْحًا في توحيد الربوبية ومنها الخلق ، والألوهية ومنها الشرع . فذلك مسلك الطغيان في المخالفة عن فطرة التوحيد والعبث في فطرة التكوين ، فالمعنى قد استغرقهما جميعا ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو ما أبطله صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أبان عن ضِدٍّ ، فـ : "«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»" ، وهي مِمَّا انصرف ، بادي النظر ، إلى فطرة الأديان لِقَرِينَةِ مَا تَلَا من المؤثِّر المغير من خارج ، فَثَمَّ توحيد مجمَل في الوجدان هو أول يَقْرِنُ خلق الأعيان ، فذلك أصل يستصحب في الحكم حتى يَرِدَ دليل من خارج يرجح ، فَيَثْبُتُ حكم الإسلام الأول لمولود لَمَّا يَبْلُغْ بَعْدُ حَدَّ التكليف ، ولو خالف الأبوان عن دين التوحيد ، فإن بلغ فهو على دينهما بما كان من تَبْدِيلِ الفطرةِ بما عَرَضَ من المؤَثِّر المغيِّر من خارج ، فحصل الانتقال عن الأصل الأول بما كان من مرجِّح من خارجٍ يُؤَثِّرُ ، وكان من جديدٍ قد اسْتُصْحِبَ ، وهو حكم الشرك الناقض لأول من توحيد الفطرة ، فلا ينفك يَطْلُبُ آخرَ حال التكليف فيكون منه تال في التصديق يجدد ميثاق الفطرة الأول فقد اسْتُصْحِبَ حَتَّى البلوغ ، فَلَمَّا كان ذلك عَلَى دين يخالف عن التوحيد وَجَبَ التجديد لميثاق التوحيد ، وإلا كان الناقض الذي يصرف المحل عن التوحيد إلى ضد من الشرك ، فيكون هو الأصل المستصحَب لا أنه فطرة تكوين لدى المبدإ ، وإنما اسْتُصْحِبَ لِمَا كان من قرينة من خارج ترجح ، فهي كالدليل الناقل عن الأصل ، فيقبل بما كان من زيادة علم حتى يكون آخر هو نص يَنْقِلُ فَيَرُدُّ المحل إلى الأصل الأول بما يكون من تَوْحِيدٍ تَالٍ يُقِرُّ بالشرعة فهو يصدق ما كان أولا من الفطرة ، وذلك ، كما تقدم ، مما عم الدين والدنيا ، الشرعة والخلقة ، فكما المولود يولد على فطرة من الأديان تَنْصَحُ ، فَثَمَّ أخرى من الأبدان تَقْرِنُ ، فيولد الذكر وله من الفطرة ما استغرق الفكرة الباطنة والماهية الظاهرة ، فَيَسْلُكُ مَسْلَكَ الذَّكَرِ ولو لم يعلم ، وإنما العلم يزيد إذ يُفَصِّلُ مَا أُجْمِلَ من طبائعِ الذَّكَرِ وأخلاقه وهيئته في الملبس والكلام وما يواطئ جبلته من الصنائع والمهام ..... إلخ ، وكذا يقال في الأنثى ، فتميل بما جبلت عليه من رِقَّةٍ أن يكون لها من الأمومة ما ينصح عاطفةً بها تحنو على وليدها وترعى زوجها ، وذلك ما حُمِدَ في وصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءَ قريش ، فـ : "خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نساءُ قريشٍ أرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يَدِه وأحناهُ علَى ولَدٍ في صِغَرِهِ" ، فقد وَاطَأْنَ بالفعل أولا من الخلق ، فَتَأَوَّلْنَ قوة الأنوثة والأمومة اللاتي فُطِرْنَ عليها تَأَوَّلْنَهَا بما كان من فِعْلٍ في الخارج يصدق ، رعاية لزوج وحنانا عَلَى وَلَدٍ . فكان من الفطرة في الخبر إِذْ : "«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»" ، كان منها ما انصرف ، بادي الرأي ، إلى فطرة الأديان ، فطرة التوحيد والإيمان ، بالنظر في السياق ، وذلك ما رجح في "أل" دلالة العهد الأخص ، عهد الدين ، وإن كان ثم من العموم ما يجاوز ، فهو مما استغرق في الدلالة : فطرة الأديان والأبدان كافة ، بما حُدَّ به الإنسان في الخارج ، فهو المجموع المركب من اثنين : روح تَلْطُفُ في حد ، وجسد يَكْثُفُ في آخر ، ولكلٍّ من المدارك ما يواطئ ، وهو ما قد عمت به الْبَلْوَى في الجيل المحدث إذ غلا في اعتبار الجسد فَصَيَّرَهُ هو المبدأَ ، وهو ، عند الغالب في هذا الجيل ، المقدَّسُ الأول ! ، بل له من ذلك وصف الأوحدِ ! ، فلا يقدس إلا الحقيقة الأرضية إذ يناجز بها أخرى هي السماوية حكايةً لما كان من تناقض في المعارف بين وحي قد بُدِّلَ وَحُرِّفَ ، وعقل له من المبادئ ما ينصح ، ولكنه لم يحسن النظر المسدد ، فَيَتَّخِذَ من النبوة رَائِدًا فِيمَا جَاوَزَ مداركه ، ويجتهد في تحرير مادتها الناصحة من شَائِبَةٍ قد كَدَّرَتْ صفوها ، فيكون من نظر أخص ما يتناول دلائل النبوة الأعم وما كان من أخرى أخص قد خُتِمَ بها الوحي فكان منها ذكر قد حُفِظَ ، فلا ينفك يخاطب العقول بما ركز فيها من قوى نظر وتدبر ، فَغَابَ المذهب المحدث عن كل أولئك ، وَتَقَصَّدَ المخالفة عن الوحي المنزل ، وهو ما كان من دين الغالب في الجيل المتأخر أَنْ صَيَّرَ الجسد هو المبدأ في التصور والغاية في الحكم ، بل قد صيره الأوحد فلا مرجع سواه ينصح ! ، فالغالب يفرض ما انتحل من القيم والمبادئ ، وما انشعب عنها من الأحكام والأخلاق التي يتأولها في الخارج على قاعدة حس تجحد الغيب فلا يجاوز مرجعها ما يدرك بالحس ، فالجسد ، كما تقدم ، هو المبدأ ، إذ حواسه هي مستمدات الأدلة حصرا ، دون آخر يجاوز من خارج ، والجوارح ، كما يَنْقِلُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، هي جواسيسُ العقل إذ تَرْفِدُهُ بمدركات تستجمعها من خارج ، ولها في الاستدلال اعتبار ناصح ، ولكنه ليس أولا في الباب ، فكيف بمن صَيَّرَهُ الأوحدَ ؟ ، فلم يعتبر إلا ما يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث مع نَقْصٍ في حده إذ لا يجاوز عالم الحس ، وهو ما استوى فيه العاقل المكلَّف وسائر الأجناس والأنواع الحية ، فلا يمتاز مِنْهَا إلا أَنْ يُجَاوِزَ في الاستدلال ، فيكون من الخبر ما يحكي غَيْبًا يجاوز العقل وجواسيسه ، وإن لم يأت بالإبطال على مبادئ العلم الضروري التي اسْتَقَرَّتْ فِي النفوس رِكْزًا هو الذَّاتِيُّ الَّذِي لَا يُعَلَّلُ ، فَجَحْدُهُ جَحْدُ بَدَائِهَ لَا تفتقر إلى استدلال ، بل هي المبادئ الأولى في أي استدلال نظري فهو المجموع المركب من مقدِّمَاتِ ضرورةٍ تَثْبُتُ بلا دليل ، بل هي الدليل على ما تلا من الأحكام النظرية التي تفتقر إلى الدليل ، فالخبر ، وهو محل شاهد تقدم ، الخبر يحكي ما جاوز مدارك الحس ، فَلَا يَعِيبُهَا ألا تُدْرِكَ ما جاوز طَاقَتَهَا فَلَمْ تُكَلَّفْ بذلك ، وإنما كُلِّفَتِ الحواسُّ أَنْ تَنْظُرَ وَتَتَدَبَّرَ فِيمَا تُدْرِكُ مِنَ الأعيانِ والأحوالِ وما تَرْصُدُ مِنْ إتقانٍ في الماهيات ، وإحكامٍ في السنن الجاريات ، مع ما تَسْتَنْبِطُ من ذلك ، إِنْ في الوجدانِ من علمِ توحيدٍ يَنْفَعُ إذ يحكي من الضرورة ما اسْتَقَرَّ في العقل والفطرة ، فَثَمَّ من دليل العقل والفطرة ما يُوَاطِئُ خَبَرَ الوحيِ ، وهو أول في مصادر المعرفة والعلم ، وإن استوجب الجدال لمن أنكر ، أن يكون مَبْدَأُ الاستدلالِ من الجسد ، من الحواس وما تَتَنَاوَلُهُ مِنْ مُدْرَكَاتٍ في الخارج ، فيكون الاستدلال بالمحسوس المشاهَد على أول يَتَقَدَّمُ فِي الفعلِ والتأثيرِ ، وَمِنْهُ المشهودُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الحسُّ ، فَيُدْرِكُ مَا رُكِزَ فِيهَا مِنْ قوى تُؤَثِّرُ ، مع ما يضاهيها في المحال من قوى تَقْبَلُ ، وذلك في نفسه حكاية أخص من إتقان وحكمة ، فلا يكون بداهة بلا متقن ولا محكِم ، فذلك مما يجافي عن صريح العقل ، إذ ينكر صاحبه الضروري المستقر في وجدان كل عاقل ، مع آخر أعم فهو يتناول مطلق الحدوث في الخارج ، فلا بد لكل حدَث من محدِث يَتَقَدَّمُ ، ومنه ما يُدْرِكُ الحسُّ ، ومنه آخر لا يُدْرِكُ ، وهو لازم في الباب بما يكون من التسلسل الذي يَنْتَقِلُ به الناظر من المشهود إلى المغيَّب حتى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فلا حَدَثَ بلا محدِث ، وذلك أعم ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فهو المحدِث الأول فلا محدِث قَبْلَهُ ، وذلك إثبات الذات الفاعلة ، وإن تَفَاوَتَ فيها النَّظَرُ ، فَثَمَّ من قال إنها فاعلةٌ بالطبعِ مجرَّدة من الوصف ، فَفِعْلُهَا اضطرارٌ لا اختيار كما تقدم في مواضع مِنْ زَعْمِ الحكمةِ الأولى تَخَرُّصًا لا دليل عليه يشهد إِلَّا ما اقترح صاحبه من دعوى بلا بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ ، فَأَجْزَأَ فِي رَدِّهَا أخرى تَنْقُضُ دون تكلُّفِ دليلٍ أخص مع مخالفتها ، بادي الرأي ، لِصَرِيحِ العقلِ والحسِّ ، ولو قياسَ أولى ينصح في هذا الباب ، فالإنسان المحدَث من العدم وهو أدنى في الماهية والوصف بما جُبِلَ عليه من الجهل والفقر وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، ذلك الإنسان يُمْدَحُ بِمَا يَفْعَلُ عَنْ تَصَوُّرٍ أول يُقَدِّرُ قَبْلَ الشروع في الفعل ، مع إرادة يُرَجِّحُ بها في الجائز المحتمل ، فَيُرَجِّحُ منه الإثباتُ ، وهو ما يكون بالاختيار لا بالاضطرار ، فَلَا يُحْمَدُ عَلَى ما يَفْعَلُ مُضطَّرًا بِلَا إرادةٍ تُرَجِّحُ ، بل ذلك فعل المكرَه ولا اعتبارَ به في التكليف ، على تفصيل في حكومات الشرع المنزل بل والوضع المحدَث فذلك ، بداهة ، قَانُونٌ في أي استدلال ينصح ، وَلَا يُحْمَدُ عَلَى مَا يَفْعَلُ طَبْعًا بلا علم فلا تصور يَتَقَدَّمُ الفعلَ ، فَتَنَزَّهَ المحدِث من جنس الإنسان وهو أدنى ، فكيف بَأَوَّلٍ قد صدر عنه هَذَا الخلق المحكَم ، أيكون فِعْلُهُ فِعْلَ طَبْعٍ لا أول له من التقدير والعلم ، مع اضطِّرَارٍ ، هو ، أيضا ، مَئِنَّةُ النقصِ فلا إرادة ترجح في فِعْلٍ أو تَرْكٍ ، وهو مما يُذَمُّ به الإنسان المحدَث وإن في فعله المحدَث الذي لا يَخْلُو مِنْ نَقْصٍ بِمَا تَقَدَّمَ من عوارض الجهل والفقر .... إلخ ، فَمَعَ كُلِّ أولئك لم يُحْمَدْ مِنْ فِعْلِهِ ما اضطُّرَ إليه ، أو كَانَ فِعْلَ طَبْعٍ بِلَا عِلْمٍ وَتَصَوُّرٍ يَتَقَدَّمُ ، ولو في آحاد من المفعولات في الخارج لا تخلو من نقص ، فكيف بهذا العالم بما أُتْقِنَ مِنْ أعيانِه ، وَأُحْكِمَ مِنْ سَنَنِهِ وأحوالِه ، فلا يكون ، من باب أولى ، إلا عن أول له من الوصف ما كَمُلَ ، فهو المحدِث الذي أحدَث هذا العالم بأعيانه وأحواله ، فكان منه أول لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فلا محدِث له يَتَقَدَّمُ ، ولا سبب عنه يصدر ، بل الأسباب كَافَّةً هي ما يصدر عنه بما كان مِنْ عِلْمِ تَقْدِيرٍ أول قد استغرق الكليات والجزئيات كافة ، فلم يكن منه ما كان من آخر قد اقْتَرَحَتْهُ الحكمة الأولى في جملةِ مَا اقْتَرَحَتْ من الفروض المجردة التي لا دليل لها يشهد ، فهي تَخَرُّصٌ وَظَنٌّ في بابِ غَيْبٍ لَا يُتَلَقَّى إلا من مشكاة خبر يصدق ، وهو ما جحدته المذاهب المحدثة بعدا ، فلم يكن من علم التقدير الأول مَا اقْتَرَحَتِ الحكمة الأولى من علمٍ لم يُجَاوِزِ الكلياتِ المجملة دون آخر يَتَنَاوَلُ الجزئيات المفصلة ، وذلك مَئِنَّةُ إِتْقَانٍ وحكمةٍ قَدْ تَنَاوَلَ الجزئياتِ المفصَّلَةَ ، إِنْ فِي الخلقِ أو فِي الشَّرْعِ ، ومحل الشاهد منها في جدال من ينكر الشرع ، محله ما يكون من جُزْئِيَّاتٍ مُفَصَّلَةٍ في التكوين والتصوير والتدبير ، فهي تحكي من الإتقان والإحكام ما هو أخص في الباب ، فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن متقِن ومحكِم أول ، كما أن المحدَث من هذا العالَم لَا بُدَّ لَهُ من محدِث أول فلا محدِث قَبْلَهُ حَسْمًا لِمَادَّةِ التَّسَلْسُلِ ، وهو مما يمتنع في الأزل ، كَمَا تَقَدَّمَ في مواضع تَكْثُرُ ، فكان من مبادئِ الحسِّ ، جواسيسِ العقلِ ، كان مِنْهَا ما يَنْفَعُ في بحثٍ يَتَسَلْسَلُ إذ يطالع من الإحداث الأعم ، والإتقان والإحكام الأخص ، يطالع من ذلك ما يتناوله الحس الظاهر فهو يستقرئ الظواهر في الخارج ، ويكون من نظره تال يتدبر فِيمَا دَقَّ من الماهيات وأحكم من السَّنَنِ الجاريات ، فَيَنْتَقِلُ من الشهادة إلى الغيب ، من الجسد ذي الحواس ، وهو الأدنى إلى الخالق الأعلى الذي قَدَّرَ وَأَوْجَدَ ، وذلك مما يُحْمَدُ لحواسِّ الجسد كما سُئِلَ أعرابي فأجاب الجواب المحكم أَنِ : "البعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام تدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدلّ على العليم الخبير ؟!" ، فَأَطْنَبَ بالأمثلة من الحسِّ ، دلالة اللازم على مَلْزُومٍ أول يتقدم ، فلا بَعْرَةَ بلا بعير يطعم النبت ويهضمه ويخرج من فضلته ما زاد وذلك البعر ، فالبعير سَبَبٌ عنه الْفَضْلَةُ من الْبَعْرِ تَنْشَأُ ، ولا أَثَرَ بِلَا مُؤَثِّرٍ من وَطْإِ قَدَمٍ في الأرض يَحْدُثُ فَهُوَ ، بداهة ، دَالٌّ عَلَى السَّائِرِ الذي مَرَّ مِنْ هذا الطريق ، وذلك مثال ثان من الحس يشهد ، وهو ما اقْتَبَسَ الأعرابي من بِيئَةٍ فيها يَحْيَى ، فإنه يَرْكَبُ البعير ذا البعر ، وبه يستدل على الْقَوَافِلِ والجيوش ، كما استدل أبو سفيان يوم بدر فَوَجَدَ من نوى التمر في بَعْرِ الدواب ما دله على طريق بها ينجو إذ يخالف عن طريق الجمع المؤمن الذي أطعم دوابه نَوَى التمر ، تمر المدينة ، فكان منه في الباب استدلال يَنْصَحُ إذ استدل بالبعر على البعير ، وعلم من ذلك الطريق الذي تُنْجِي القافلةَ ، وكذا السير الذي يُؤَثِّرُ في رمالِ الصحراء فيكون من اجتهاد الْقُصَّاصِ في تَتَبُّعِهِ ما يعجب الناظر في دِقَّتِهِ ، فتلك أمثلة من بِيئَةِ البداوة التي تسكن الصحراء فهي تُبَاشِرُ من رُكُوبِ الدَّوَابِّ والسير على الأقدام ما لا يباشر أهل الحضر ، ولكلٍّ من المثالِ مَا يُوَاطِئُ بِيئَتَهُ ، وَذَلِكَ من حُسْنِ الملاءَمَةِ في الاستدلال أَنْ يَحْكِي كُلٌّ مَا يُوَاطِئُ الحال ، وَكَذَا مَنْ رَامَ إفهام المخاطَب فليخاطبه بما يفقه ، وإلا كان من ذلك فتنة تعظم ، كما في الْأَثَرِ ، فـ : "ما أنت بمحَدِّثٍ قَومًا حديثًا لا تبلُغُه عُقولُهم إلَّا كان لبَعضِهم فِتنةً" ، وكما عند البخاري من قول علي ![]() فَلَا يَكُونُ من اللَّفْظِ أو الصوتِ المجرد ، لا يكون منه حجة تُقَامُ على مخالف حتى يشفع ذلك بما يَزِيدُ مِنَ الْبَيَانِ المفهِم ، فيدرك المخاطَب مدلول هذا اللفظ أو الصوت ، وما كان من سِلْكٍ يَنْتَظِمُ آحادَه فيحكي من الظاهر ما تَرَاكَبَ ، وله من القرائن ما يُرَجِّحُ في حملان الألفاظ على وجوه أخص ، فإن المفرد يفيد بالقيد ما لا يفيد بمجرَّدِ النطقِ ، فَثَمَّ من درجات الاستدلال مَا تَنَاوَلَ : الدلالة المعجمية وهي المطلقات التي يجردها الذهن أجناسا كلية تَتَنَاوَلُ آحادَها في الخارج تَنَاوُلَ الْعَامِّ لأفرادِه ، فَمَا يُحْكَى مِنْهَا فِي المعجَمِ فَهُوَ كالمثالِ الذي يُبِينُ وَيُفْهِمُ ، فَلَمْ يَشْتَرِطِ المعجَمُ حَصْرَ الأمثلةِ من الكلام المفهِم كافة ، بل تناول أجناسا من الدلالة تدور عليها المادة ، وَكَانَ مِنَ الْمُثُلِ مَا يُبِينُ عَنِ العام فلا يخصِّص ، فَمَا يكون من خاص يُضْرَبُ مِثَالًا لعام ، ما يكون منه فَلَيْسَ يُخَصِّصُ العام فَيَقْصُرَ دلالتَه على المذكور ، بل ذلك من المثال الذي يحكي المدلول وَيُقَرِّبُهُ إِلَى ذِهْنِ المخاطَب ، فالمثال يوضح المقال ولا يقصر مدلوله على واحد وإنما له في الخارج كَثِيرٌ يَصْدُقُ فيه صِدْقَ الجنس الأعلى المجرد فهو يحصل في أنواع وآحاد تندرج تحته وَإِنِ اخْتُصَّ كُلٌّ مِنْهَا بِقَيْدٍ يميز من آخر كما اشتراك زيد وعمرو في جنس الإنسان الأعلى فَيَصْدُقُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَلَكِنَّ ذَاتَ كُلٍّ تمتاز من ذاتِ الآخر ، فَلَهَا وجود يستقل فذلك القدر الفارق الذي يميز وجود زيد من وجود عمرو ، وَإِنِ اشْتَرَكَا في الجنس الأعلى المجرد في الذهن ، وهو ، والشيء بالشيء يُذْكَرُ ، مما يثبت من باب أولى إن كانت القسمة بين خالقٍ ومخلوقٍ ، واجب الوجود لذاته وهو الخالق جل وعلا ، وآخر هو المخلوق ، فوجوده ، بادي الأمر ، الجائز فلا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج يُوجِبُ لا كما الواجب الأول ، واجب الوجود لذاته ، فوجوده الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فكان مِنِ افْتِقَارِ الجائزِ إلى مرجِّح من خارج فهو يخرجه من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، فيكتسب من ذلك لَقَبَ وجودٍ أخص ، فهو واجب بعد أن كان الجائز ، ولكن وجوبه ، من وجه آخر وجوبٌ لِغَيْرٍ لا لذاته ، فَوَجَبَ لِمَا احْتَفَّ بِهِ مِنْ قَرِينَةٍ من خارجٍ تُرَجِّحُ الإثباتَ ، فكان من جنس الوجود الأعلى ما يُجَرِّدُهُ المعجم ، أيضا ، فهو يحكي في الخارج : الحصول والثبوت ، فلا يلزم منه الخلق بعد عدم ، بل من الموجود أول قد حصل وثبت في الأزل ، وذلك وصفه الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ومن الموجود تال هو المحدَث بعد عدم فلا ينفك ضرورة في الوجدان الناصح يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلى واجب الوجود الأول ، فَاشْتَرَكَا في الجنس الأعلى : جنس الوجود كما حده المعجم إذ يُجَرِّدُ الكليات ، وَافْتَرَقَا إذ لكلٍّ وجود أخص في الخارج ، فذلك مما به تمتاز الأجناس العليا المطلقة فإنها لا توجد في الخارج إلا مقيدة ، وَلِكُلٍّ من القيد ما يُوَاطِئُ الحقيقة والكيف . فَكَانَ مِنْ تجريد المعجم ما يبين عن المادة أو المعنى المطلق الذي تدور عليه آحاده في الخارج ، فَلَمْ يَشْتَرِطِ المعجَمُ حصرَ الآحاد في الخارج ، وإنما يَذْكُرُ مِنْهَا بَعْضًا في سياق التمثيل الذي يُبِينُ عن العام فلا يُخَصِّصُ ، فَكَانَ من أول في الاستدلال : دلالة المعجم المجردة ، على التفصيل آنف الذكر ، وثم آخر أخص إذ يحكي من مُثُلِ الاشتقاقِ ما يَرْفِدُ الجنس المطلق بدلالاتٍ تُقَيِّدُ بما اسْتُقْرِئَ من وجوهِ التصريفِ في الكلام المفصِح الذي يُحْتَجُّ به في حَدِّ القواعد المجردة ، وثم ثالث من النحو وهو سلك يَنْتَظِمُ المفردات جميعا فَيَحْصُلُ باجتماعها من المعنى المركب ما لا يحصل أولا بآحاد من الألفاظ تُفْرَدُ ، ولسياق النحو معنى أولي ، وهو ما يحكي الظاهر الراجح ، وثم من القرائن : قَرَائِنِ البيانِ والتداول بما اشتهر من عرف أخص ، إن في الكلام الدارج أو في الاصطلاح ، ومنه اصطلاح الوحي النازل وهو العمدة في الأحكام والشرائع ، ومنه آخر حادث في الفنون والصنائع ، فتلك قرائن أخرى ترفد الكلام بمعان ثانوية أدق بعد أولى من النحو هي أَجَلُّ ، فهي الظاهر المستصحب في الدلالة حتى يكون من القرينة المعتبرة ما يصرف إلى آخر هو المرجوح المؤول . وكل أولئك بداهة مما يجاوز مطلق الحكاية : حكاية الحجة صَوْتًا لا يَفْقَهُهُ المخاطَب ، بل اشْتُرِطَ لها حصولُ زِيَادَةٍ من المعنى المفهم ، وبه تقوم الحجة وتنصح ، وهو ما افْتَقَرَ إلى حُسْنِ بَيَانٍ وعرضٍ ، أَنْ يَتَلَطَّفَ صاحب الحجة في القول ، ويخاطب كُلًّا بما يفقه ، فيضرب له من المثل ما يدرك ، كما تقدم من كلام الأعرابي المفصح فقد استعمل من مفردات بِيئَتِهِ ما يحكي المعنى ، وكان من حسن التقسيم أن تَنَاوَلَ ما كان من البعر وآثار السير ، وهو ما حُدَّ اسمية تحكي الثبوت والاستمرار وذلك آكد في البيان والاستدلال ، فَتَنَاوَلَ من المقدمات بين يدي الإثبات ، تَنَاوَلَ اثنين من الآثار التي تدل ضرورة على المؤثِّرِ ، دلالة المعلول وهو لَازِمٌ تَالٍ ، على العلة وهي الملزوم الأول ، ثم أطنب فانتقل إلى تال : " فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدلّ على العليم الخبير ؟!" ، وهو ما استغرق وجوه القسمة : السماء والبر والبحر ، فاستغرق منها ما به حقيقة الوجود حولَه تَثْبُتُ ، وحكى من البحر ما لا يعهد في بِيئَتِهِ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَرْكَبُهُ في رحلات تجارة ، أو يمر بجواره في سَفَرٍ يسلك الساحل ، وثم من السجع ما حسن في البيان إذ قَرَنَ كُلًّا بِبَعْضٍ مِنْ أَجْزَائِهِ ، أبراج السماء وفجاج الأرض وأمواج البحر ، فكان من ذلك خفة في اللفظ تحسن ، وَبِهَا المعنى يروق للمخاطَب ويعجب فيكون آكد في ثبوته ، وذلك من بديع لا يتكلف ، فإن المبنى فيه تابع للمعنى لا عكس ، فَزَادَ في الدلالة ونصح ، وكلُّ أولئك من مقدماتٍ بين يدي نتيجة خُتِمَ بها الكلام استفهاما : "ألا تدلّ على العليم الخبير ؟!" ، فذلك من استفهام التقرير إذ دخل على نَفْيٍ ، فضاهى دخول النفي على مثله حكايةَ الدليل المثبِتِ ، ولا يخلو من استنطاق لخصم يجحد ، أن يُقِرَّ بِلِسَانِهِ فَيُجِيبَ ، ولا يخلو من إنكار على الجاحد وَتْوبِيخٍ له إذ أنكر من ذلك بَدَائِهَ قد دل عليها العقل ضرورة بما تقدم من دلالة التلازم : تلازم الفاعل والمفعول ، فالمخلوق أبدا دال على الخالق الأول ، جل وعلا ، فهو الفاعل بالعلم تقديرا والإرادة والاختيار إيجادا وتصويرا وتدبيرا ، وثم من الختام بأسماء العليم والخبير ما يحكي حسن الملاءمة ، إذ لا يكون ما تقدم من خلق مُتْقَنٍ إلا بعلم محيط يَسْتَغْرِقُ ، وخبرة تَتَنَاوَلُ ما دق من أَعْيَانِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وتلك أوصاف الجمال فلا تنفك تدل ضرورة على أخرى من الجلال مشيئة وقدرة ، وبها تأويل المقدور في العلم الأول إذ تخرجه من العدم إلى الوجود . فاستدل الأعرابي المسدَّد ، استدل بالمشهود على المغيَّب ، بالحدث على المحدِث ، بما أُتْقِنَ من هذه الماهيات وَأُحْكِمَ من سَنَنِهَا ، بما كان من ذلك الإتقان والإحكام على أول هو المتقِن المحكِم بما كان من علم أول يُقَدِّرُ ، وهو ما أحاط فاستغرق ، وما كان من إرادة تنفذ ، وبها تأويل لمقدور أول يَنْصَحُ إذ يخرجه من الغيبِ إلى الشهادةِ ، من القوَّةِ إلى الفعل المصدِّق ، من العدم إلى الوجود المحقَّق ، فَحُمِدَتْ حواس الجسد ، من هذا الوجه ، أن تكون دليلا على الخالق الأول ، وَلَمْ تحمد ، من آخر ، أَنْ يَغْلُوَ الناظر فيها فتكون هي المرجع الأول ، أو يقتصر عليها فتكون هي المرجع الأوحد في درك المعارف ، فلا يثبت الناظر إلا ما تُدْرِكُ ، ولا يشرع إلا ما تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ، مع قصور في قواها أن تجاوز الحس ، وأولٍّ قَدْ جُبِلَتْ عليه من النقص والجهل والفقر ، فلا تَبْرَأُ حكوماتها من الهوى والحظ ، فلا تكون هي المرجع الأول ، ولا الأوحد من باب أولى ، فذلك ما يُهْدِرُ مدارك في الوجدان أشرف إذ تَتَنَاوَلُ من العلم ما غُيِّبَ ، فذلك ما يجاوز العقل والحس كافة ، وإن لم يأت بمحال ذاتي لا يُتَصَوَّرُ ، فَقَدْ يأتي بما يحار العقل في حقيقته من الأعيان أو علته من الأحكام ، فلا ينفك يُجَوِّزُ منها ما يجزئ في أول من النظر ، فيكون من ذلك الجائز المحتمل وهو ما يفتقر إلى مرجِّح من خارج يُثْبِتُ الأعيان المخصوصة في الخارج ، وإن لم يُدْرِكْهَا الحسُّ ، فعدم وجدانه لها لا يستلزم عدم الوجود في نَفْسِ الأمر ، كما أن عدم الدليل الواحد ، وهو في هذا الموضع دليل الحس ، كما أن عدم هذا الدليل لا يدل على عدم أخرى من الأدلة تَنْصَحُ ، فَثَمَّ من دليلِ الغيبِ مَا يُجَاوِزُ الحسَّ ، من مقدمات في العقل تَنْصَحُ ، وقوى فيه قد رُكِزَتْ فَامْتَازَ بِهَا من الحيوان الأعجم الذي تَقْتَصِرُ مَدَارِكُهُ على الحسِّ المحدَث ، وذلك أَعَمُّ فِي الباب إذ به التجويز العقلي المحض لِمَا غاب من الحقائق فلا يُدْرَكُ بالحس ، فلا ينفك يطلب أخص من دليل الخبر الذي ينص على المعنى ويثبت الحقيقة وإن حَارَ العقل والحس في حَدِّهَا في الخارج ، فليس ذلك مما يطيق ، لا جرم لم يخاطب في باب التكليف أَنْ يَحُدَّ من الغيوب ما جَاوَزَ مَدَارِكَهُ ، إِنْ في الإلهيات خَاصَّةً ، أو في الغيبيات عَامَّةً ، وإنما خُوطِبَ فِيهَا أَنْ يُثْبِتَ المعنى المجرَّد في الذهن دون خوض في حقيقة أو كيف ، فذلك ما لا يطيق فلم يكن به تكليف ، وكذا يقال في حكومات من التشريع لا يدرك العقل مناطها الأخص في باب التعليل ، وَإِنْ أَدْرَكَ مِنْهَا حِكْمَةً أَعَمَّ ، فهو يمتثل وإن لم يُدْرِكْ وَجْهَ الْعِلَّةِ ، فيكون من ذلك الابتلاء بالانقياد المطلق ، مع أول في البابِ يُسْتَصْحَبُ من تجويزٍ في العقل وحكمةٍ أعم يجد الناظر آثارها في التصديق والامتثال ، فذلك أول في الاستدلال لا يجزئ حتى يكون من المرجع الأخص ما جاوز العقل والحس كافة ، فَلَهُمَا في الباب وظيفةٌ تُحْمَدُ ، أَنْ يَشْهَدَا بِمَا رُكِزَ فيهما من القوى بما كان من أول في التكوين والتشريع ، على التفصيل آنف الذكر ، فيكون المبدأ منهما في الاستدلال الأعم على أول في الخلق والحكم ، لا أن يكونا المرجع الأول فيكون منهما معيار يتحكم في الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ، والإثبات والنفي ، والأمر والنهي ، مع ما تقدم من وصف النقص والجهل والفقر وما تقدم من العدم وما عَرَضَ مِنْ آفة وما يَلْحَقُ بَعْدًا من الفناءِ والعدمِ ، فكلُّ أولئك مما يَقْضِي ضرورةً بإبطال المذهب المحدَث الذي جعل الجسد هو الأول ، بل قد غَلَا فَصَيَّرَهُ الأوحدَ في الاستدلال ، فهو المركز الذي تصدر عنه التصورات والأحكام دون رَدِّهَا إلى آخر من خارج يجاوزها فَيَقْضِي فِيمَا اضطرب من حكوماتها واختلف من خصوماتها ، وإلا رُدَّ كُلٌّ إلى معيار ذاتي أخص لا يجاوز حقيقته المحدَثة في الخارج مع ما يَعْتَرِيهَا من الآفات آنفة الذكر وهو مما لا يَسْلَمُ مِنْهُ لا الفرد ولا الجمع ، فالعقل الجمعي وإن كان الموضوعي ، من وجه ، إذ جاوز عقل الفرد ، فَلَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى آخر من خارجٍ يجاوز ، فإن الجموع تَتَفَاوَتُ وَلِكُلٍّ منها عقل كَمَا لِكُلِّ فَرْدٍ ، فلا تَنْفَكُّ كما الأفراد ، لَا تَنْفَكُّ تطلب من المرجع المجاوز من خارج ما يَقْضِي في خصوماتها الأعم كما يَقْضِي فِي أخرى من خصومات الأفراد الأخص ، فَلَا يكون الجسدُ أَوَّلًا لَا فِي استدلال لا سيما في الغيوب التي تجاوز ، وهي محل ابتلاءٍ بِهِ امتاز العقل المكلَّف من آخر قد رُكِزَ في الحيوان الأعجم ، ولا يكون أولا فِي تَصَوُّرٍ وحكمٍ يصدر عن معيار ذاتي لا يجاوز ، فَلَا يَسْلَمُ مِنَ الآفاتِ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وإنما محله حيث يَنْفَعُ أن يسلك جادة الأعرابي المسدَّد إذ استدل بما وَجَدَ بِالْحِسِّ من الصنعة ، استدل بها على الصانع المتقِن المحكِم ، فكان من ذلك ما جَاوَزَ في الباب حَدَّ الإثباتِ لِأَوَّلٍ هو المحدِث ، فَثَمَّ تَالٍ في وصفه إتقانًا وإحكامًا قد ظهرت آثارهما في الصنعة المشهودة بالحسِّ ، وَإِنِ افْتَقَرَ ذلك إلى بَيَانٍ من الوحي أخص ، فَهُوَ يَقُصُّ مِنَ الإلهيات ما شَرُفَ من المعلومات ، وهي مما يُوَاطِئُ العقولَ الصريحاتِ بما كان من المنقولات الصحيحات ، فذلك من الاستدلال المحكم بما شَهِدَ الحسُّ على ما غاب من العلم ، وأشرفه ، كما تقدم ، علم الإلهيات ، فيكون الوحي هو المبدأ ، ويكون الله ، جل وعلا ، هو المقصد ، فهو أول في الخلق والشرع كافة ، لا ما اقْتَرَحَتِ الحداثة من أول هو الجسد ، وذلك مناط به امتاز الوحي المنزل من الوضع المحدَث . فكان من الوحي المنزل ما تَنَاوَلَ أَمْرَ الغيبِ المجاوِز ، فإن ذلك ما لا يستقل العقل بِدَرَكِهِ إذ لا تَنَالُهُ الحواسُّ بما ركز فيها من قوى تَسْتَجْمِعُ المعلوم المشهود ، فتحصل صورته في العقل ، ولو المجردة التي تُضَاهِي المادة المعجمية المطلقة ، فكل أولئك مما يطيقه العقل فهو يجرد من أمثلة الخارج جِنْسًا عَامًّا فِي الذِّهْنِ ، وذلك المطلق الذي لا يوجد في الخارج إلا مقيدا ، فَكُلُّ أولئك مما يطيقه العقل لا ما جاوز من مسائل الغيب والتوقيف ، فالعقل ، كما يقول أهل الشأن ، أصل في معرفة الغيبِ لا في إثباته ، فالغيب ثابت قبل أن يدل عليه العقل ، فهو الكاشف لا المؤسِّس ، ولو في الغيوبِ النِّسْبِيَّةِ في هذا العالم المحدث ، فإن ما غاب منها في جيل لم يكن بداهة المعدوم حَتَّى أَدْرَكَهُ العقلُ فَانْقَلَبَ موجودًا ، بل هو ، أولا ، الموجود ، وإن لم يكن المشهود ، فإن الموجود ، لو تدبر الناظر ، جنس عام يستغرق ، فمنه المغيَّب ، ومنه المشهود ، فَلَيْسَ المغيَّب بمعدوم ، بل هو شيء ثابت في الخارج وإن لم تطقه المدارك ، ومن المغيَّب مَا يَتَرَاوَحُ ، فَمِنْهُ النِّسْبِيُّ ومنه المطلق ، فَمِنَ النِّسْبِيِّ ما يشهد ، ولو لَدَى بَعْضٍ دون آخر ، فقد يحصل لناظرٍ في بحثٍ وتجريبٍ ، قد يحصل له من العلم بمغيَّب ما لا يحصل لآخر ، إذ الباحث له من أدوات البحث ما لَيْسَ لِغَيْرٍ ، فيكون الموجود في حقه مشهودا ، وفي حقِّ غَيْرٍ مُغَيَّبًا ، وليس للأخير أن يحتج إذ لم يَعْلَمْ ، فَعَدَمُ العلمِ لَيْسَ عِلْمًا بالعدم ، كما يقول أهل الشأن ، وعدم الدليل المعيَّن كدليل الحس ، ليس دليلا على العدم ، بل قد يكون من الدليل آخر ، وهو فِي الغيبِ الْخَبَرُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ العقل على قاعدة أولى من الإيجاب أو التجويزِ ، فَثَمَّ من المغيَّب ما هُوَ وَاجِبٌ ، فالعقل يدل عليه ضرورةً ، كما تقدم في مواضع من إيجاب العقل ، ولو لم يكن ثَمَّ مرجع من خارج يُجَاوِزُ ، فَثَمَّ إيجابُ ضرورةٍ أول أي عقل ينصح أن المحدَث لا بد له من محدِث وهو ما تحكيه الفطرة آنفة الذكر ، فِطْرَةُ الأديانِ المحكَمة ، إذ يولد عليها المكلف ، وذلك دليل آخر يرفد العقل في باب الغيبِ ، فَثَمَّ من الفطرة ما يُوَاطِئُ مُسَلَّمَةِ العقلِ الضروريةِ أَنَّ المحدَث لا بد له من محدِث ، فكان من فطرة التوحيد : توحيد الخالق الأول ، كان من ذلك ما يُوَاطِئُ مُسَلَّمَةِ العقلِ في امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا إذ لا بد من أول لا أول قبله في باب التَّأْثِيرِ ، فهو الأول المطلق وهو المحدِث لما تَلَا إِذْ أَوْجَدَ المحالَّ وأجرى الأسباب ، وكان من الإتقان والحكمة تَالٍ فِي البابِ يَشْهَدُ ، وهو ، أيضا ، مما يوجبه العقل الناصح ، إِذْ ثَمَّ من إتقان هذا العالم أَعْيَانًا ، وإحكامه سَنَنًا ، ثم من ذلك ما يدل ضرورةً تُوجِبُ فِي النَّظَرِ أَنَّ ثَمَّ مُتْقِنًا ومحكِما هو الأول ، كما هو أول في الإحداث ، فهو المحدِث الذي تصدر عنه المحدَثات كَافَّةً ، وكل أولئك : المحدِث والمتقِن والمحكِم ، كل أولئك مما دَلَّ عليه العقل ضرورةً في الوجدان تَنْصَحُ ، وإن افتقر تاليا إلى خبر الوحي المنزل فهو العمدة في باب الخبريات وإن كان منها معان تدرك بالعقل بل هو يوجبها ضَرُورَةً وإن لم يكن ثم وحي بما استقر من فطرة في الوجدان تشهد بالتلازم بين الملزوم واللازم ، فالإتقان والإحكام ملزومان هما أول في الاستدلال الناصح في العقل الصريح ، فهما أول في الاستدلال يدل ضرورةً على لازم من وصف إتقان وحكمة ، وعنه تصدر الأفعال في الخارج بما تظهر آثاره في هذا العالم ، فَإِتْقَانُ خَلْقِهِ وإحكام سَنَنِهِ ، ذلك ، بداهة ، مما يدل لزوما على إتقان وحكمة ولا يكونان إلا وصفا يقوم بأول له من ذلك نوع يَقْدُمُ مع آحاد في الخارج تحدث فهي تناط بمشيئة تنفذ حكاية تأويل يصدق لما كان من كمال أول هو المطلق ، فَلَهُ من ذلك وصف الأولية المطلق ، وله من ذلك لازم في الدلالة ، فَثَمَّ وجود أول هو الواجب فَلَا يَفْتَقِرُ إلى موجِد يَتَقَدَّمُ حسما لمادة التسلسل ، وثم المتقِن والمحكِم ، وهما لازمان لملزوم في باب الفعل والتأثير يطرد ، وهو العلم الأول المحيط ، وبه تقدير أول ، وهو ما تأويله تَالٍ يَثْبُتُ بِمَشِيئَةٍ تَنْفُذُ ، فيكون من الموجود بَعْدًا مَا هُوَ جَائِزٌ مَبْدَأَ الأمرِ ، فهو مما احتمل طَرَفَاهُ فَاسْتَوَيَا ، فَافْتَقَرَ إِلَى مرجِّح من خارح يَفْعَلُ بالمشيئةِ والاختيارِ لا بالجبرِ والاضطرارِ ، إِذْ ثَمَّ من الإيجاب بالفعل لا بالذات ، وَثَمَّ مِنَ الوصفِ مَا زَادَ ، وصفِ الخلقِ ، وهو ما يَأْرِزُ إلى العلم ، فمن الخلق : خلق التقدير ، وذلك ما استغرق الجزئياتِ المفصَّلَةَ لا الكلياتِ المجملةَ فَقَطْ ، كما تقدم من مقال الحكمة الأولى ، فَكُلُّ أولئك من صفاتِ الواجب الأول ، ولها من مقدماتِ العقلِ وناصحِ الفطرة ما يَشْهَدُ ، وَلَوِ الغيبَ ، فَتِلْكَ شهادة مجملة فِي النَّفْسِ لَا تَنْفَكُّ تطلب من الدليل ما يُبَيِّنُ ، فإنه ، من وجه ، يُثْبِتُ الوصفَ باصطلاح الأدلة ، ولكنه ، من آخر ، ليس الإثبات لما كان قَبْلًا عَدَمًا ، بل هو موجودٌ أَزَلًا ، فالدليل ، من هذا الوجه ، مُبَيِّنٌ يَكْشِفُ لَا مُؤَسِّسٌ يَسْتَأْنِفُ من الوجود ما لم يكن ، بل ثم من وجود الأول القديم وهو الخالق المقدِّر في الغيب أزلا ، ثم منه ما ثبت ضرورة يُوجِبُهَا العقل والفطرة قَبْلَ وُرُودِ الدليل من الوحي والشرعة ، لا جرم كان من بحث الإلهيات ما اصطلح أنه صفات المعاني ، كالحياة والعلم والسمع والبصر ..... إلخ ، فهي مما يدل عليه العقل ضرورةً ، وَكَذَا الفطرةُ لَهُ تَشْهَدُ ، فَكَانَ لَهُ من الدليل أول في الوجدانِ ، وهو ، مع ذلك ، لا يثبت التكليف ، وإن ثبتت الحقيقة في الأزل ، كما تقدم ، فدليل الخبر من هذا الوجه لها يكشف ، فَلَيْسَ يُؤَسِّسُ ما كان عدما ثم وُجِدَ لما ورد به الدليل ، كما أن الغيوب النسبية في علوم البحث والتجريب كدقائق وجزئيات لا تدرك بالعين ، كما أنها كانت ابتداء موجودة ، وإن مغيَّبةً ، فلم يكن العلم بها بَعْدًا بِمَا تَوَافَرَ من آلة تحدث ، لم يكن ذلك في الباب دليلا يُؤَسِّسُ الحقيقةَ فَلَمْ تَكُنْ عدما ثم صارت موجودة في الخارج لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا علم الباحث المجرب ، بل هو لها يكشف ، فلا يجاوز أَنْ يُؤَسِّسَ ، وهو لها يثبت ، لا الإثبات بَعْدَ عَدَمٍ ، وإنما الكشف بما ظهر ، فالعلم كاشف عن حقائقٍ كانت موجودة ، فَلَمْ تَكُنْ عَدَمًا ، وإنما كان من وجودها في باب التجريبِ والبحثِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ ، حتى صار من الآلة ما يُدْرِكُ ، وذلك ما كَشَفَ فَلَمْ يُؤَسِّسْ ، وليس الجهل الأول بِهَا دليلا على علمٍ تَالٍ بها ، فعدم الدليل المعين في باب ، كما البحث والتجريب مثالا ، فعدم الدليل من الحس الذي يباشر بلا واسطة الآلة ، عدمه لا يَسْتَلْزِمُ منه دَلِيلًا على العدم ، بل ثم من زيادة العلم بما حصل من تجريب وبحث ، ثم منها ما يُوجِبُ الانتقالَ عن أصل أول في الباب ، وهو الجهل ، الجهل بالحقيقة وإن كانت موجودة ، فعدم العلم بها لا يستلزم العلم بالعدم ، بل هي الموجودة قَبْلَ ورودِ الدليلِ الكاشف بما كان من آلة تَحْدُثُ لِجِيلٍ تَالٍ فَيُدْرِكُ مَا لَمْ يُدْرِكِ الجيل الأول ، وليس جهل الأول دليلا على الثاني ، فمن علم فهو حُجَّةٌ على من لم يعلم لا عَكْسًا أَنَّ مَنْ جَهِلَ فهو الحجة على العالِم ! ، فعدم الدليل الواحد لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ آخر من دليل دائر ، إذ قد يكون من الأدلة أخرى غير الدليل المنفي ، فَإِذَا انْتَفَى العلم في الغيوب النسبية ، إِذَا انْتَفَى من طريق الحس الظاهر بلا واسطة من الآلة ، فَلَيْسَ ذَلِكَ حُجَّةً على من أدرك هذا الغيب النسبي بواسطة آلةٍ تَحْدُثُ ، فَمَنْ عَلِمَ فَهُوَ حجة على مَنْ جَهِلَ ، والإثبات في هذه الحال ، ليس إثباتَ إيجاد لِتَالٍ لم يكن أولا ، بل هو إثبات الكشف عما كان أولا موجودا ، وإن لم يدرك بالحس الظاهر ، وكذا يقال في الغيب المطلق ، وهو ، كما حده بعض من حقق ، أنه ما لا سبيل للعقل إلى العلم به عن طريق الحواس بحال ما ، فخرج بذلك مَا تَقَدَّمَ مِنَ الغيبِ النِّسْبِيِّ فإن الحواس وإن لم تُطِقْهُ مجرَّدة بِلَا واسطة ، فَقَدْ تُدْرِكُهُ بَعْدًا بما كان من واسطة الآلة المحدَثة التي تُصَيِّرُ ما كان غَيْبًا فِي جِيلٍ سَابِقٍ ، تُصَيِّرُهُ المشهودَ في جِيلٍ تَالٍ ، فلم يكن المعدوم ثم صار موجودا ، بل هو ، أبدا ، الموجود ، وإنما غاب من طريق وَشُهِدَ مِنْ أخرى ، فَثَبَتَ مِنْ هذا الوجه ثُبُوتَ الإدراكِ الزائدِ لا ثُبُوتًا يُوجَدُ بَعْدَ عَدَمٍ ، فَإِنَّ قسيم الغيب في المعنى ليس الوجود ، فيكون الغيب عدما ، وإنما يقاسمه في المعنى : الشهادة ، وكلاهما يندرج في جنس أعلى وهو الوجود ، فالوجود ، من هذا الوجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته : الوجود الواجب ، وهو ، أيضا ، مما انْقَسَمَ في الخارج ، فَتَحْتَهُ الواجب لِذَاتِهِ ، وليس ذلك في قسمة الوجود إلا واحدا فلا نِدَّ له ولا نَظِيرَ ، ولا شريك وإن في المدلول المجرد في الذهن ، فَوَاجِبُ الوجود لذاته لا يكون إلا واحدا ، ولا يكون إلا أولا : الأولية المطلقة حَسْمًا لِمَادَّةِ التَّسَلْسُلِ آنفةِ الذِّكْرِ ، وتحت الواجب أيضا : واجب لغير ، وهو في المبدإ الجائز في علم التقدير الأول ، فَهُوَ عَلَى قَيْدِ العدم الذي يُسْتَصْحَبُ ، لا عدم المحال الذاتي الذي لا يُتَصَوَّرُ ، بادي الرأي ، وإنما الغاية فيه فَرْضٌ محض يُتَنَزَّلُ به في الجدال مع الخصم ، فَعَدَمُ الجائزِ مِمَّا يُسْتَصْحَبُ ، وليس الذاتي كما المحال الممتنع لِذَاتِهِ ، وإنما الجائز على قَيْدِ العدم حتى يكون من الدليل ما يُرَجِّحُ طَرَفَ الإيجاب ، فيكون الإثبات لحقيقة تجاوز في الخارج ، إذ كان من المرجِّحِ ما صَيَّرَ الجائز واجبا لا لذاته وإنما لغير بما احتف به من قرينة ترجيح من خارج ، فَثَمَّ واجبٌ ، وَمِنْهُ ما يكون لذاته ، ومنه ما يكون لغير ، فَوَاجِبٌ فِي مُقَابِلِ الجائزِ ، وثالث هو المحال الممتنع لذاته ، والجائز ، لو تدبر الناظر ، مما به القسمة تَكْمُلُ ، ومآله إلى أحدهما ، وإن لم يكن لذاته ، فَإِنْ كان ثم مرجِّح يوجب فهو الواجب لغيره ، وإن كان ثم مرجِّح يمنع فهو المحال لغيره ، وإن لم يكن ثم دليل في الباب فهو على قيد العدم المستصحَب لا عدم المحال الممتنع لذاته ، كما تقدم ، وإنما عدم الجائز الذي يحتمل من المرجِّح مَا يوجب تارة ويمنع أخرى . فَطَرَفَا القسمةِ : واجب الوجود لذاته ، والمحال الذاتي ، وكلاهما مما لا يُعَلَّلُ ، إذ الذاتي لا يُعَلَّلُ ، خلاف الجائز فإنه ابتداء مما احتمل ، فإن رجح الإيجاب فليس الذاتي بل بمرجح من خارج قد رَجَّحَ في الباب الوجود ، وإن رجح الامتناع فليس ، أيضا ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بل بمرجح من خارج قد رَجَّحَ في الباب العدم . وثم مِنَ القسمةِ ، قسمةِ الوجودِ ، ثم منها آخر إذ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ المغيَّبِ والمشهودِ ، ومن المغيَّب : المطلق والنسبي ، على التفصيل آنف الذكر ، والمطلق فِي تَعَدُّدِ الأدلة المثبِتَةِ ، المطلقُ في ذلك كما النسبي ، فكما النسبي يُثْبِتُ بَعْضٌ من الأدلة العلمَ بحقيقته في الخارج ما لا يُثْبِتُ آخر إذ يكون للأول من دليل آخر يجاوز الحس ما لا يكون للثاني ، وهو دليل الآلة المحدَثة ، على التفصيل آنف الذكر ، فَكَذَا المطلَق ، فإن من الغيب المطلق ما هو واجب وإن لم يُدْرِكْهُ الحس ، فذلك دليل واحد من جُمْلَةِ أَدِلَّةٍ ، بل هو في الباب آخِرٌ وإنما يُسْتَدَلُّ به ، كما تقدم في مواضع ، على لَازِمٍ ضروري في القياس ، فهو ملزوم محدَث يدل لزوما على محدَث أول ، وهو مما يَتَسَلْسَلُ فِي بابِ الأسباب فَيَنْتَقِلُ من الأسباب المشهودة إلى أخرى مُغَيَّبَةٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ضرورةً إلى غيب أول وهو واجب الوجود الأول الذي لا أول قبله ، فَإِلَيْهِ تُرَدُّ الموجودات كَافَّةً ، وإثباته ضرورةٌ فِي العقلِ وإلا كان من هذا العالم عَدَمٌ ، وَهُوَ مَا يَنْفِيهِ دليلُ الحسِّ الشاهدِ ، فكان الحس دليلا من هذا الوجه ، لا أنه يستقل بإثبات العلم بالغيوب المطلقة ، فهو دليل أول يَتَنَاوَلُهُ العقلُ مَلْزُومًا يُفْضِي إلى لَازِمٍ ، وكذا الحال في إتقانِ الخلقَةِ وإحكامِ السُّنَّةِ ، فكل أولئك مما يحكي الإتقان والإحكام وهما مَلْزُومَانِ يَحْكِيَانِ لَازِمًا في الباب ، وهو إثبات المتقِن المحكِم ، وإثبات ما به أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ مِنْ وصفِ الجمالِ عِلْمًا وحكمةً ، ووصفِ الجلالِ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً وَبِهَا تأويلُ المقدورِ المعدومِ أن يخرج إلى الوجود ، فيكون له من حقيقة الفعل ما يُصَدِّقُ أولا من قوة في الغيب . فَمِنَ الغيبِ المطلَق ، كَمَا تَقَدَّمَ ، ما لا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ الظاهرِ ، ولو بواسطةٍ من آلة تحدث كما الغيب النسبي الدقيق ، فمن الغيب المطلق ما لا يدرك بالحس الظاهر ، وليس ذلك دليلا على العدم ، فذلك دليل واحد من جملة أدلة بل هو في باب الغيب الآخِرُ ، فَثَمَّ من دليل الفطرة ما رُكِزَ في الوجدان ضرورةً ، فَتِلْكَ فِطْرَةُ الأديانِ آنفةِ الذِّكْرِ ، وَثَمَّ مِنْ مُسَلَّمَةِ العقل ما يدل ضرورة على جُمَلٍ من مسائل الغيب المطلق ، فمنها مسائل واجبة ، كما تقدم في باب الإيجاد والإتقان والإحكام ، فَالتَّسَلْسُلُ فِيهَا يَمْتَنِعُ إِذْ تَنْتَهِي ضرورةً إلى موجِد ومتقِن ومحكِم أول لا أول قَبْلَهُ لا في الذات ولا في الوصف ، ومنه وصف اصْطَلَحَ أهل الشأن أنه الوصف العقلي أو المعنوي كما الحياة والعلم ..... إلخ ، فالعقل والفطرة قد دَلَّا عليه ، بل والحس كذلك يَدُلُّ ، إذ ينظر في هذا الوجود المتقن المحكم ويتدبر ، وكل أولئك في باب الخبريات ، لا سيما الإلهيات ، لا يجزئ في إثبات العلم ، فلا يَثْبُتُ إلا بدليلِ الخبرِ المجاوز من خارج ، فذلك الوحي الذي يُثْبِتُ العلمَ بالمدلول الخبري المغيب ، لا أنه يُنْشِئُ فَيُخْرِجُهُ من العدم إلى الوجود ، فكان من ذلك دليل يثبت إن في الغيب الواجب كما وصف الرب الخالق ، جل وعلا ، سواء أكان الوصف المعنوي من حياة وعلم .... إلخ ، أم الوصف الخبري كما الوجه واليد ....... إلخ ، وهو الذي لا يستقل العقل فيه بإثباتٍ ولا نَفْيٍ ، فهو كالجائز الذي يتوقف فيه الناظر فلا يُرَجِّحُ إِذْ يَفْتَقِرُ إلى دليلٍ من خارج يُرَجِّحُ ، فَهُوَ مِمَّا افْتَقَرَ إلى الدليل الخبري من باب أولى ، أم الوصف الذاتي الذي يقوم بالذات فلا يناط منه آحاد بالمشيئة ، أم الوصف الفعلي الذي قَدُمَ نوعه فهو يقوم بالذات أولا ، ويَحْدُثُ من آحاده في الخارج بَعْدًا ما يُصَدِّقُ إذ يُنَاطُ بمشيئةٍ في الباب تُرَجِّحُ . وكذا يقال في الجائز من الغيب المطلق كما غيوب جائزة قد أخبر بها الوحي عَنْ خَلْقِ هَذَا العالم وخلق الإنسان من طين وما كان من إسجاد الملائكة له وعصيان إبليس إذ تَوَعَّدَ .... إلخ من غيوب مطلقة فلا يستقل العقل فيها بِإْثَبَاتٍ ولا نَفْيٍ ، فلا بد من دليل يُخْبِرُ ، فَهُوَ يُثْبِتُ مِنَ العلمِ ما يزيد على التجويز العقلي المحض ، وَكَذَا فِي غُيُوبٍ تالية من نهاية هذا العالم وما يَتْبَعُ مِنْ دُورٍ بعد الموت والنشور ..... إلخ ، فذلك ، أيضا ، مما لا يدرك إلا بالخبر مَرْجِعًا يجاوِزُ من خارج ، فلا يستقل العقل بالعلم به وإنما غايته أَنْ يُجَوِّزَ التجويزَ العقلي المحض فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ المرجِّح من خارج وذلك في الباب : دليل الوحي النازل . وذلك مما تَنَاوَلَهُ الوحيُ في مواضع قد احتملت كما ذكر أهل التَّفْسِيرِ في تأويل الغيب في قوله ![]() ![]() وقد اختلف أهل الشأن في هذا التأويل ، من وجه آخر ، كما ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَثَمَّ مَنْ مَنَعَ إطلاقَ الغيب على الله ، جل وعلا ، فذلك لفظ مُجْمَلٌ يُوهِمُ غِيَابَ الرب الخالق ، عَزَّ وَجَلَّ ، عَنْ هَذَا العالم ، فَلَا يُدَبِّرُ ، فيكون من الخلافة في نحو قوله ![]() وخلافة الإنسان في الأرض إما أن تحمل على خلافة بَعْضٍ منه لِبَعْضٍ ، أو تكون خلافة عن الله ، جل وعلا ، خلافة ابتلاء أن يحكم بالوحي ويقيم به العدل لا أَنْ يَسْتَقِلَّ بتدبير الأمر كما مذاهب محدثة في الجيل المتأخر قد طغت وجاوزت الحد ، فخالفت ، كما تقدم ، عن فطرة الأديان والأبدان كافة ، وكان من عموم بلواها ما لم يكن في جيل تقدم ، فخالفت عن فطرة في الأديان والأبدان ، وهي الأولى فَلَمْ تُسْبَقْ في الوجود بل كان منها بَدِيعٌ لا على مثال تقدم ، مع دلالَةِ ضرورةٍ تُلْزِمُ الناظر في باب الفعل أَنْ يُثْبِتَ أَوَّلًا هو الفاطر ، فلا مفطور بلا فاطر ، كما لا مخلوق بلا خالق ، ولا محدَث بلا محدِث أول يَتَقَدَّمُ ، وَلَهُ مِنْ فِعْلِ الإحداث في الخلق ، إِنِ الأعيان أو الأحوال ، له من ذلك ما يجري على سَنَنٍ مُتْقَنٍ أَنْ قُدِّرَتِ الأعيان على مثال يقبل ، وأجريت الأسباب على آخر يؤثر ، وتلك حكاية الحكمة التي تكمل أن يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ، فلا يتكلف الناظر ما يواطئ الحال ، ولو ناقصة أو فاسدة ، أن يجد لها من الوحي ذَرِيعَةً ، فَيَتَأَوَّلَ مِنْهُ مَا يَأْتِي على أصوله الدلالية بالإبطال ، وذلك ، أيضا ، مما قد عَمَّتْ به البلوى في مذاهب قد أُحْدِثَتْ في الوحي متقدمة أو متأخرة ، والبلوى في المتأخرةِ أعظم ، إذ انشعبت تأويلاتها على قاعدة الانهزام ، وهي ما بَطَنَ في الدلالة حتى خالف عن الظاهر المتبادر ، وذلك ما فَشَا في جيل قد تأخر من أهل رياضة وتصوف قد خالفوا عن جيل أول في الباب قد نَصَحَ ، فذكر السري السقطي من حد الصوفي الناصح أنه لا يتكلم بِبَاطِنٍ يخالف عن ظَاهِرِ الوحيِ النَّازِلِ ، فلا يكون من اقتراح تأويلات في المعاني ما يأتي على أصول الدلالات بالإبطال ، وهو ما اطرد في باب المصالح والمقاصد ، وهي كليات اشتغل أصحابها بالتجريد ، وهو حسن جميل ، ولكنه لَا يَنْصَحُ لصاحبه إلا أن يكون ثم من الجزئيات المفصَّلة ما يجري مجرى المثال المبيِّن ، وكلما أكثر الشارح من المثال ، كان الْبَيَانُ أَنْصَعَ ، كما في حَدِّ المعجم وَقَدْ تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ يَشْتَغِلُ بِتَجْرِيدِ المعنى الكلي الذي تدور عليه المادة ، فيكون من حكاية الصوت لفظ مجرد من الزيادات ، فهو الأصل في الدلالات ، وثم من زيادة في ميزان الاشتقاق ما يرفد المجرد فَيَصِيرُ المقيَّد ذَا الدلالة الزائدة ، فالزيادة في المبنى ، كما يقول أهل الشأن ، تحكي أخرى تضاهي من المعنى ، فكان من المادة المجردة أصل وعليه يدور المعنى ، المعنى الأولي أو الكلي المطلق الذي يُقَيَّدُ فِي مُثُلٍ تَنْتَظِمُهَا سِيَاقَاتٌ فَتُفِيدُ بِالْقَيْدِ مَا لَا تُفِيدُ حَالَ التجريد في الذهن ، فكان من المثل التي يتداولها المعجم في كلام قد اشتهر فتداولته الألسن ، كان منها ما يُبِينُ عَنِ المعنى الكلي المجرَّد ، فلا ينصح الاستدلال به إلا بعد جملة وافرة من الجزئيات مِنْهَا يَسْتَنْبِطُ الناظرُ الجامعَ المشترك ، فلا يشتغل الناظر بالكليِّ مِنَ المصالح والمقاصد وهو لا يحيط علما بجملةٍ من الجزئيات يَحْصُلُ بِهَا يَقِينٌ أو ظَنٌّ راجح ، فيكون من الاستقراء لأحكام جزئية منصوصة ما هو في نفسه أصل ، فلا يحتال الناظر في الكليات أن يَنْقُضُ بها النصوص الجزئية تَذَرُّعًا بِمَصْلَحَةٍ كُلِّيَّةٍ مجرَّدة يَزْعُمُ اعتبارها وهي المتوهَّمة ، إِذْ كُلُّ ما خَالَفَ عَنِ النَّصِّ فَهُوَ هَدَرٌ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ ما خالف عن ظاهرِه من تأويل ، فلا اعتبار به إلا أن يكون ثم من القرينة ما يُرَجِّحُ العدول عن الظاهر إلى المؤَوَّل ، والقرينة دليل ناصح من سياقٍ أو حالٍ أو عقلٍ ، ولكلِّ موضعٍ منها ما يُوَاطِئُ ، فلا اعتبار بقرينة عقلية في جُمَلٍ من الغيوب لا تدرك إلا بالأدلة النَّقْلِيَّةِ ، ولا اعتبار بمصالح ومقاصد كُلِّيَّةٍ تَأْتِي عَلَى نصوصٍ من الوحي بالإبطال ، وَإِنْ فِي جُزْئِيَّاتٍ تدق ، فالنص في نَفْسِهِ أصل ، إن فِي جليلٍ أو في دقيقٍ ، فَلَا يُعَارَضُ بمصلحةٍ أو مَقْصَدٍ ، ولو تَوَهَّمَ صاحبُه أَنَّهُ أَرْجَحُ ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ الصحيح فهو أصل لا يُعَارَضُ بِرَأْيٍ أعم أو بِقِيَاسٍ أو باجتهاد من مصلحة أو مقصد أو عرف أو ذريعة تُسَدُّ ..... إلخ ، فَلَا يَغْلُو الناظر في دَرْسِ الكلِّيَّاتِ من المصالحِ والمقاصد وَلَمَّا يُحْكِمْ بَعْدُ الفروعَ والجزئياتِ حِفْظًا لأدلتها النصية وحكوماتها التكليفية وَفِقْهًا أخص يَتَنَاوَلُ العلة أو الحكمة التي يدور معها الحكم ، ومنه يجرد الْكُلِّيَّاتِ الأعم ، على ما اشتهر من اختلافٍ بَيْنَ مَدَارِسَ من الأصول منها ما يَبْدَأُ النَّظَرَ مِنَ الجزئي تَوَسُّلًا إلى الكلي ، ومنها آخر على ضِدًّ فهو يُجَرِّدُ الكلي ثم يَنْتَقِلُ منه إلى الجزئي ، ولا يكون هذا التجريد ، بداهة ، إلا بعد استقراء الجزئيات في الخارج ، فمن أين له هذا التجريد إلا من فروع جزئية يجتهد في اسْتِنْبَاطِ معانيها الكلية الجامعة ، ثُمَّ يُصَيِّرُهَا قَوَاعِدَ وَعَنَاوِينَ أولى بها يسهل حفظ الفروع ، كما قواعد الفقه التي تعم أبوابه كافة ، أو ضوابطه التي تَتَنَاوَلُ كِتَابًا واحدا من كُتُبِهِ ، وكما أصول الفقه التي تتناول الأدلة الكلية الجامعة بما استقرئ من دلالات الألفاظ في كلام العرب المحتج به ، فيكون منها درس ناصح في صياغة قوانين الاستنباط من الأدلة ، وتحرير العلل والمعاني الكلية الجامعة ، ومنها المصالح والمقاصد الكلية ، وهي محل اعتبار ، وإنما عِيبَ فيها ما يكون لدى الانهزام من تكلف في التأويل يضاهي تأويل الباطن فَيَفِرُّ به من لَوَازِمِ شَرِيعَةٍ لَا يُطِيقُ النهوضَ بأعبائِهَا في أحوال الضعف ، ولا يكلف عَبْدٌ منها إلا ما في الوسع ، فَمَا يُلْجِئُهُ إذ عجز أَنْ يَتَنَصَّلَ مِنَ الحقِّ إذ ثَقُلَ ، بَلِ الأولى أن يَعْتَذِرَ بعجزه ، فالنص محكم لم ينسخ ! ، وليس الْعَجْزُ عن التكليف رَافِعًا له الرَّفْعَ التَّامَّ ، وإنما الرخصة مناط جمالٍ به استباحة المحظور مع قيام الدليل الحاظر ، فالدليل محكم لم يُنْسَخْ ، وليس ثم ما إلى ذلك يُلْجِئُ مسارعةً في هوى غالب ، وإن خالف عن الوحيِ النَّازِلِ ، فَلَا يكون الاعتذار بالتأويلِ مخالفةً عن مَنْصُوصٍ أنه مما لا يَرْضَى به الخصم الغالب فَلَنْ يَرْضَى إلا بالانقياد التام والخضوع الكامل ، فَلَا يَتَكَلَّفُ المتأَوِّل من الجمال البارد ما لا يزيده إلا ضِعَةً فِي عَيْنِ الغالب ، وهو ما عمت به البلوى في أعصار متأخرة قد كُسِرَ فِيهَا حديدُ الشريعةِ الناصرِ ، واضمحلت هَيْئَاتُ السياسة الجامعة ، ولم يكن ثم مناط يعصم الوحي من تعطيل الحكم ، وإن حُفِظَ النَّصُّ من التبديل والتحريف ، فَعُطِّلَ منه المقصد والحكم كافة ! ، إلا ما واطأ الهوى والحظ ، أو كان من ذلك عَارِضُ وِفَاقٍ محض أَنْ وَاطَأَ الدليلَ أو المقصد هَوَى المستدل فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ ، فَلَمْ يَسْلُكْ جَادَّةَ الوحيِ قَصْدًا يَنْصَحُ فِي تَعْظِيمِ الوحيِ المنزل ، وإنما وَافَقَ الحقُّ هواه ، فالهوى هو الأصل الذي عنه يصدر وهو واجب وقته في الاستدلال ، فما كان من نَصٍّ فهو نافلة بعد الفرض ، وشاهد لهوى وذوق ، فإن خالفا عن الوحي فَلَيْسَ يعتبر إذ قد خَالَفَ عن المحكَم من قياس العقل اقْتِرَاحًا وَذَوْقِ النَّفْسِ استحسانًا ، وذانك ، أي القياسُ بما رُكِزَ من قوى النظر في العقل ، والاستحسانُ بِمَا رُكِزَ في النفس من معيارِ تحسينٍ وتقبيحٍ مُعْتَبَرٍ لا ينكره من أنصف فَنَظَرَ نَظَرَ العدل بلا إفراط ولا تفريط فَكِلَا طرفي قصد الأمور يُذَمُّ ، فإن من الحسن والقبح ما ثَبَتَ في الذهن معيارا هو المجمل ، وهو يواطئ في قياس العقل : الجائزَ الذي يحتمل ، فَثَمَّ من عمل العقل مبدأَ النَّظَرِ أَنْ يَعْتَبِرَ في الأمرِ أَهُوَ مِنَ الواجب أم من الجائزِ أم من الممتنع ، فَلَهُ في الباب نَظَرٌ أول بما رُكِزَ فِيهِ من قوى بها يميز أجزاءَ القسمة آنفة الذكر ، كما يَمِيزُ الواجبَ مَبْدَأَ النظر في هذا الوجود إذ لا بد له من موجِد ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَبْلُغَ أولا لا أول قَبْلَهُ ، وذلك واجبُ الوجودِ مَعَ تَالٍ يَنْظُرُ في هذا العالم المحدَث فَيَرصد ما أُتْقِنَ من ماهيَّاته وَأُحْكِمَ مِنْ مَسَارَاتِهِ ، فَذَلِكَ آخر يجري مجرى الضرورة الواجبة أَنَّ ثَمَّ مُتْقِنًا محكِمًا لهذا العالم ، وتلك صفات يَدُلُّ عَلَيْهَا العقلُ أَوَّلًا ، فهي معاني الكمال المطلق التي تُصَدِّقُ مَا يَشْهَدُ النَّاظِرُ مِنْ إتقانِ هذا العالَمِ وإحكامِه ، فذلك واجب في العقل ، وثم آخر هو الجائز كَمَا أخبارُ وَحْيٍ مُنَزَّلٍ قَدْ رَفَدَتِ العقلِ بما لا يَمْتَنِعُ فيه الامتناع الذاتي ، وإن لم يوجب في المقابل ، وإنما غايته أن يُجَوِّزَ الجواز المحض الذي استوى طَرَفَاهُ في الحد ، فاستصحب منه العدم الأصلي أولا حتى يكون ثم من الدليل الخبري ناقل عن الأصل العدمي إلى إثبات في الباب أخص ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن مرجع من خارج العقل والحس يجاوز إذ لا استقلال لهما بذلك فغاية العقل ، كما تقدم ، أَنْ يُجَوِّزَ ، وذلك في الباب أول ، وهو ما يَنْفَعُ الناظر إذ يستصحب منه أصلا عدميا لا يوجب ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الإيجابَ إِذَا كان من الدليل المعتبرِ مَا أَجْزَأَ فَرَجَّحَ الإثبات ، فذلك القدر الزائد الذي لا يثبت إلا بمرجِّح من خارج يجاوز ، وليس ذلك في الخبريات المغيَّبَةِ إلا وحي الرسالة المنزَّلة ، فَوَحْدَهُ مَا عُصِمَ من الخطإ في النقل والهوى والذوق في الحكم ، وذلك آخر يدل عليه العقل ، إن في الخبريات أو في الإنشائيات ، فلا بد من رَدِّ العقول والأذواق كَافَّةً إلى مرجعٍ يَحْكُمُ فِيهَا من خارجٍ إذ سَلِمَ مما لم تَسْلَمْ مِنْهُ من أعراضِ النَّقْصِ والحاجةِ والفقرِ ، وهو ، كما تَقَدَّمَ في موضع ، مما جَاوَزَ عَقْلَ الفردِ إلى الجمعِ ، فالعقل الجمعي ، وَإِنْ كَانَ الموضوعي الخارجي فَقَدْ جاوز عقل الفرد إلا أنه لا يَسْلَمُ ، أَيْضًا ، من الهوى والحظ ، فليس إلا المجموع المركب من أهواء وأذواق تَتَعَدَّدُ ، فلا عصمة لها حال الانفرادِ أو الاجتماعِ ، فذلك مما يجزئ في إثبات الأدلة ، كما الظنون الراجحة في خبر الآحاد إذ تَتَعَاضَدُ ، فَتُفِيدُ بالمجموع من العلم النظري ما لا تفيده آحاد الطرق المفردة ، فَيُجْزِئُ في إثبات الأدلة لا في إنشائها . فالأهواء والأذواق إذا اجتمعت لم تجزئ في استئناف حكم أَنْ تَسْتَأْنِفَ منه إباحة أو حظرا إلا إذا طغت وجاوزت الحد بما كان من إعجاب بالرأي وَفَرَحٍ بما أوتي الفرد أو الجمع من علم محدَث ، فالعقل المفرد أو المجموع كلاهما يفتقر إلى دليل من خارج يعضد ، إن في الأخبار إذ يَرْفِدُ العقل بما يرجح في الجائز ، أو يُفَصِّلُ في الواجب ، فَعَمَلُ العقلِ في هذا الباب معتبر إذ مَازَ الواجب والجائز من المحال الذاتي الذي لا يتصور ، بادي الرأي ، فلا يكون منه إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فالعقل ذو عمل ينصح إذ يميز أجزاء القسمة : الواجب والجائز والمحال ، ويتناول من الواجب إثباتا مجملا مع معان يدل عليها العقل ضرورة ، وهي ، مع ذلك ، من الغيوب التي لا يطيق العقل لها دَرَكًا حتى يكون مِنَ المرجع المجاوز من خارج دليلٌ شاهد يُرَجِّحُ ، فهو ، من وجه ، يثبت إِثْبَاتًا أخص ، وهو ، من آخر ، يشهد لما وجب أولا في العقل الصريح ، فلا يخالف عن النقل الصحيح ، وإنما هو له تَابِعٌ إِذْ لَا يُطِيقُ فِي البابِ إِثْبَاتًا أو نَفْيًا هو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، وإنما يجمل في الدلالة إن في الواجب أو في الجائز ، فلا ينفك يطلب من المرجع المجاوز من خارج ما يُصَدِّقُ حكمه إيجابًا أو تجويزًا ، ثم هو بَعْدًا يُفَصِّلُ في الواجب مَعَانٍ قد حصلت في العقل ضرورة ولكنها غَيْبٌ قد حُجِبَ عنه فلا يدرك منه إلا المجمل كما فطرة أولى تُرْكَزُ في الوجدان قُوَّةً فلا تنفك تطلب من الفعل ما يُصَدِّقُ وَيُفَصِّلُ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما استغرق وجوه الفطرة كافة ، إن المحسوسة أو المعقولة ، فإن المولود مبدأ أمره آكل شارب ولو بالقوة ، فَلَمَّا يَحْصُلْ له بعد من كمال الآلة ما به يهضم الطعام الغليظ ، فالمبدأ رضاع يَلْطُفُ ويخف في التناول والهضم فيواطئ الآلة الهاضمة مَبْدَأَ أَمْرِهَا ، فَلَمَّا تَبْلُغْ مِنْ كمال النضج ما به تهضم الطعام الصلب ، فَلَوْ غُذِّيَ به الوليد لمات إذ لا تطيقه الخلقة الضعيفة بعد الولادة ، فَيُغَذَّى بما يَلْطُفُ حتى يُفْطَمَ ، وَيُعَوَّدُ الطعام الصلب شيئا فشيئا ، فيتناول منه ما يواطئ عمره ، حتى يكون من كمال الآلة ما به تأويل القوة الآكلة بفعل تام في الخارج يَتَنَاوَلُ الطعام الصلب ويهضمه ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، حكمة في الباب تَبْلُغُ ، أن يكون لكلِّ هَيْئَةٍ من الغذاء ما يُوَاطِئُ ، فَثَمَّ مِنْ تَقْدِيرٍ أول في علم محيط يَسْتَغْرِقُ ، ثَمَّ مِنْهُ خَلْقٌ هو المجمل المغيَّب ، إذ قَدَّرَ من المحال ما يَقْبَلُ بِمَا رُكِزَ فِيهِ من قوى تَهْضِمُ ، وَقَدَّرَ من الأسباب من المطعومات والمشروبات ما يَنْفَعُ بِمَا رُكِزَ فيه من قوى تُؤَثِّرُ ، فهي تُبَاشِرُ المحالَّ الهاضمة التي تَتَأَوَّلُهَا بَمَا يَنْفَعُ البدنَ ، فيكون من الاغتذاء ما يَنْفَعُ وهو الأصل في المطعومات والمشروبات التي خلقت ، فَلَهَا من أصل أول يستصحب هو الطهارة والإباحة ، فذلك العام الذي يُسْتَصْحَبُ فِي الباب ظَاهِرًا هُوَ الرَّاجِحُ المتبادر حتى يكون من دليل التأويل ما يَصْرِفُ إلى مُؤَوَّلٍ هو المرجوح الذي لا يُسْتَصْحَبُ أَصْلًا ، إلا في مواضع تجري مجرى الاستثناء ضرورةٍ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، كما الأبضاع في النكاح والذبائح في الطعام فَاحْتِيطَ فِيهَا بالتحريم أولا حتى يكون من دليل الاستباحة الشرعية بالكلمة الدينية إن في الذبح أو في العقد ، مع آخر يُحِلُّ العين ، بادي الرأي ، فإن الكلمة الدينية لا تستبيح بضع الأم أو الأخت ..... إلخ من محرمات النكاح ، ولا تبيح ما لا يؤكل لحمه كما الخنزير والكلب والحمار الأهلي وكل ذي ناب من السبع وكل ذي مخلب من الطير .... إلخ ، فَاشْتُرِطَ فِي البابِ حِلُّ العينِ أَوَّلًا ، ثم شرط آخر به تُسْتَبَاحُ بما رُكِزَ فِي الفطرة من قوى تُبَاشِرُ كُلَّ عَيْنٍ بما يلائم ، فهي تُبَاشِرُ العينَ المنكوحة بما رُكِزَ فِيهَا من قوة المباضعة وقد رُكِّبَ في كلٍّ من الذكر والأنثى ما يُوَاطِئُ ذلك مع آخر أدق من طبائع النفس ، وهو ما واطأ حكومة الشرع إذ جعل للرجل من ولاية الأمر ما ليس للمرأة ، إِنْ فِي خَاصِّ الأمرِ أو في عَامٍّهِ ، من ولاية البيت إلى ولاية السياسة والحرب ، فكان من الحكمة أن يكون الأمر للرجال بِمَا جُبِلُوا عليه من شِدَّةٍ ، وأن تكون الطاعة لهم عَلَى النساء بما جُبِلْنَ عليه من لِينٍ وانقيادٍ إلا أَنْ تَفْسَدَ الفطرة فيكون منهن الغلظة والجفاء مع مضاهاة الرجال في الْخُلُقِ بل والْخَلْقِ في أعصار قد عمت بها البلوى ، مع أخر أَفْحَشَ أَنْ تَأَنَّثَ الرجالُ وَلَانَ من طبعهم ما جاوز الحد ، فخالف كلٌّ عن جادَّةِ الحكمةِ في الطبعِ بل والْخَلْقِ بعدا بما كان من عبث في الأبدان وَتَغْيِيرٍ لما أحكم من الأديان ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، وعيد الشيطان لابن آدم أَنْ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، ومحل الشاهد في الباب : أصل يستصحب في المطعوم والمشروب أولا ، فظاهر هو الطهارة والإباحة ، فـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، وذلك ما يستصحب حتى يكون من الدليل الناقل ما يصرف إلى آخر هو المؤول المعتبر إذ له من الدلالة ما تَشْهَدُ لَهُ قَرِينَةٌ من السياق أو الحال أو العقل فِيمَا يصح فيه عمل العقل ، فخرج به ، كما تقدم في مواضع ، ما كان من أمر الغيب الذي لا يتناوله الحس ، فلا يستقل فيه بإثبات ولا نفي . والله أعلى وأعلم . |
#15
|
|||
|
|||
![]() فكان من دليلِ الإباحة في المطعوم والمشروب ما اسْتُصْحِبَ ظاهرا هو الأول الراجح إلا ما تَقَدَّمَ من أمر الذبائح صيانة لجناب التوحيد في باب قد دخله الشرك في النسك مع ما ضر ولم ينفع فهو خبيث لا يُشْرَعُ من ميتة ودم ومنخنقة وموقوذة ..... إلخ ، وَقِيسَ عَلَيْهَا في الأعصارِ المتأخرة ما كان من المصعوق ونحوه ، وكل أولئك ، لو تدبر الناظر ، مما يدخل في حد الميتة ، فَأُجْمِلَ منها لدى المبدإ ، ثم كان مِنَ الْبَيَانِ مَا فَصَّلَ بِذِكْرِ آحادٍ مِنْهَا تجري ، لو تدبر الناظر ، مجرى المثل بالنظر في المعنى الجامع ، معنى الخبيث الضار الذي حُرِّمَ بِنَصِّ الوحي إذ كان من وصف صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه الذي : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) ، وكان من خبره أَنْ : "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" ، وهو الخبر الذي يحكي الإنشاء تحريما لكلِّ ضَارٍّ لَا يَنْفَعُ ، وهو ما عَمَّ الأعيان والأحوال كافة ، ومنها المطعومات آنفة الذِّكْرِ ، فالأصل فيها الإباحة حتى يكون دَلِيلٌ صَارِفٌ إِلَى التحريم ، فهو الاستثناء الذي لا يَثْبُتُ إلا بدليلٍ نَاقِلٍ ، وهو ما وجب فيه الاقتصار عَلَى المنصوصِ ضَرُورَةً تُقَدَّرُ بِالْقَدَرِ ، وَإِنْ تَنَاوَلَهُ القياس في مواضع بما كان من جمل المقاصد الكلية ، كالضر الذي يثبت في مطعوم أو مشروب بما يكون من نظر أخص تَتَنَاوَلُهُ آلة من التجريب والبحث ، أو السُّكْرِ الذي يجاوز أجناس الخمر المحرمة ، فتلك معان تَتَعَدَّى بالقياس ، ولا بد له من أصل أول من نص محكم ذِي عِلَّةٍ يُحَرِّرُهَا النظر الصريح وهي مما يَتَعَدَّى إلى الفرع الجديد ، فكل أولئك مما أُجْمِلَ في العقل فطرةً أولى في النظر ، ولو مجملةً لَا تَنْفَكُّ تطلب البيان بما يكون من التَّعَلُّمِ وبه تفصيل ما أُجْمِلَ في الوجدان من قُوَّةِ التَّعَقُّلِ ، فَضُرِبَ لهذه الفطرة مِثَالٌ تَقَدَّمَ من فطرة الأبدان فِي تَنَاوُلِ المطعومِ والمشروبِ ، فَثَمَّ منها ما قُدِّرَ في الأزلِ ، إن المحال أو الأسباب ، فَرُكِزَ فِي كُلٍّ من القوى ما يُوَاطِئُ ، قوة المحل الذي يقبل ، وقوة السبب الذي يُؤَثِّرُ ، فيكون من مباشرته المحل مَا بِهِ تَأْوِيلٌ يَنْصَحُ بِما يكون من قُوَّةِ اغْتِذَاءٍ يَنْفَعُ ، وكان من ذلك المجمل فِي التَّقْدِيرِ الأول ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب من الإرادة والمشيئة ما يَنْفُذُ ، وبه خروج المقدور من القوة إلى الفعل ، مع آخر يجري سَنَنًا جَارِيًا في التَّدَرُّجِ ، إذ يَتَأَوَّلُ الوليد تلك القوى الضرورية على مكث ، فلا تحصل دفعة ، وإنما يكون منها شيء بعد آخر بما يواطئ كُلَّ حَالٍ من رضاع فَفِطَامٍ فَطَعَامٍ حتى تكتمل منه الآلة ، وما قِيلَ في فطرة الأبدان يقال في أخرى من العقل بما تقدم من رِكْزٍ أول يميز في باب الأخبار : الواجب والجائز والمحال ، فيكون من الواجب ما رُكِزَ فِي الوجدان مُجْمَلًا ، مع آخر يَثْبُتُ من صفات الأول ، جل وعلا ، صفاتِ المعاني أو الصفات العقلية التي يدل عليها العقل أولا ، فذلك محل بَيَانٍ أخص يخالف عما تَقَدَّم من إجمال أعم ، وهو ، مع ذلك ، لا ينفك يطلب الدليل المثبِت ، فبه العلم يحصل يقينا يجزم ، فالدليل الخبري أبدا هو العمدة في الغيوب ، إِنِ المطلقةَ أو النسبيةَ ، فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج الذي يُفَصِّلُ ما ثَبَتَ في الوجدان ضرورةً من الواجب ، وَيُرَجِّحُ في آخر هو الجائز الذي استوى طَرَفَاهُ فَاسْتُصْحِبَ منه العدم الأصلي ، لا أنه المحال الذاتي ، وإنما هو على قيد العدم المحتمل ، فإذا كان من الدليل الموجِد ما يرجح من خارج ، فهو الدليل الناقل عن الأصل ، ومعه من زيادة العلم ما يوجب قبوله وتقديمه في الاستدلال ، فَيُصَيِّرُ الجائز المحتمل واجبا ، وَإِنْ لِغَيْرٍ بما كان من مرجِّح من خارج يجاوز ، فكان من دلالة العقل في الغيبيات ما أُجْمِلَ ، فَلَهُ من ذلك قوى في النظر لا تجحد ، ولكنها ، من وجه آخر ، لا تجزئ حال التفصيل ، فلا ينفك العقل يطلب فيه الدليل ، الدليل المجاوز من خارج ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، دليل الوحي النازل .
وقل مثله في باب المصالح والمقاصد ، وهي محل شاهد تقدم ، فإن من الحسن والقبح ما ثَبَتَ في الذهن معيارًا هو المجمل ، فلا ينفك ، أَيْضًا ، يطلب دليل الإثبات من خارج ، فباب المصالح والمفاسد ، وَإِنِ اعْتُبِرَ في الأصول الكلية وكان من تجريده في الذهن ما ينفع ، إلا أنه لا يقدم على المرجع المجاوز من خارج ، إذ التجريد بلا أول من المرجع والدليل ، ذلك التجريد مظنة الهوى والتشهي إذ لا معيار له من خارج يأطر ، إن عقل الفرد أو عقل الجمع ، فكلاهما لا ينفك يطلب القيد الحاكم من خارج إذ يأطره على جادة عدل قد سَلِمَتْ من الهوى والحظ ، لا جرم كان من اشتراط أهل الشأن في باب المصالح والمفاسد ، ألا تخالف عن وحي نازل ، وذلك أصل يستصحب في الأصول العقلية كافة ، من القياس والمصلحة والعرف والاستحسان وسد الذرائع ، وأن تكون المصلحة ضرورية أو حاجية فَتَرْكُهَا يُفْضِي إلى ضَرَرٍ يَعْظُمُ أو حرج تضيق به النفوس وتكرب ، وأن تكون كُلِّيَّةً لا يَسْتَأْثِرُ بِحَدِّهَا صاحب سلطان يَنَتَفَّذُ أو جَاهٍ وَتَرَفٍ يَتَحَكَّمُ فَيَعْتَبِرُ منها ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه ، وإن خالف عن النص المحكم ، وَيُهْدِرُ منها ما يخالف عن هواه وذوقه ، وإن وَافَقَ النص المحكم ، فصار الهوى والذوق هو المرجع ، وصار الدليل لهما تَبَعًا ، فخالف المستدِلُّ عن النقل والعقل كَافَّةً إذ يَقْضِيَانِ ضرورةً أَنْ يُرَدَّ المتشابِه من الفروع إلى المحكم من الأصول ، لا أَنْ يُعَارَضَ المحكَمُ بما تشابه من أهواء وأذواق تحدث . فكان من آثار الفعل الرباني في الخارج : فطرة الكون لا على مثال تقدم ، وهو ما خُصَّ منه المولود بالذكر في قَوْلِ صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»" ، وإلا فالعموم يجاوزه إلى كل موجود ، فقد فطره الله ، جل وعلا ، على هيئة مخصوصة هي المتقنة وأجرى له من يصلح من الأسباب وهي المحكمة ، وتلك دلالة المادة ، مادة "فَطَرَ" إذ تحكي في الكلام شَقًّا أول في الأرض ، فلا سابق له في الفعل ، فتلك الخلقة الأولى قبل أن تنالها يد تبديل ، فكان منها ما يضاهي فَطْرَ الْبِئْرِ إذ يحفرها السابق فَتَكُونُ له فهو أول مَالِكٍ ، كما أُثِرَ عن الحبر العالم ابن عباس ، ![]() والفطرة الأولى قد نَصَحَتِ الرجال والنساء ، فَسَلَكَتْ بهم جميعا جادة الحكمة أَنْ هُيِّئَ كُلٌّ لِمَا له قد خُلِقَ ، وكان من حكم الشريعة ما يُوَاطِئُ ، فَلِكُلٍّ من الأحكام ما يُوَاطِئُ الماهية والطبع ، فكان من المبدإ في الخلق : آدمُ ، عليه السلام ، فهو الأصل ، وحواء ، عليها السلام ، فَرْعٌ عنه يصدر ، والفرع لا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ أَصْلًا إليه يُرَدُّ ، فيكون له مِنَ النسبةِ والإسنادِ ما يَثْبُتُ فلا بقاء لفرع قد زَالَ أصله ولا قوة في فَرْعٍ لأصل قد ضَعُفَ وتضعضعَ ، وكان من الخطاب أولا ما تناول آدم ، فـ : (قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، فذلك تكليف قد تَوَجَّهَ إليه أصلا ، وإلى زوجه تَبَعًا ، وبه ، من وجه ، به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يَطْردُ خطابَ التكليفِ فَهُوَ جَارٍ عَلَى حَدِّ التَّعْمِيمِ ، إِنْ نَصًّا ، أو آخر يجري مجرى التغليب ، فالأصل أن الخطاب عام يستغرق الرجال والنساء كافة ، كما خطاب التكليف الأول قد استغرق الزوجين ، الذكر والأنثى ، آدم وحواء ، عليهما السلام ، وذلك تَكْلِيفٌ لَمْ يجاوز الأبوين ، آدم وحواء ، وإن شَهِدَ لأصل فِي التكليف يُسْتَصْحَبُ ، وهو العموم الذي يَسْتَغْرِقُ كُلَّ محلٍّ في الخارج صَحَّ تَوَجُّهُ التكليف إليه ذَكَرًا أو أُنْثَى ، فَنَصَّ على الرجل أصلا ، وعلى المرأة تَبَعًا ، فاختلفا في الرتبة لما كان من القوامة التي يُصَدَّرُ بِهَا الرجال في الشَّأْنِ الخاص والعام ، وَاتَّفَقَا في ماهية التكليفِ فذلك الأصل الذي يُسْتَصْحَبُ إلا أَنْ يكون ثم من القرينة صارف يَقْصر الحكم على جنس دون آخر بما يواطئ قانون الحكمة فهو يَتَنَاوَلُ أولا من الفطرة والجبلة أن يُيَسَّرَ كُلٌّ لما خلق له ، وتاليا من الشرعة أن يجري كُلٌّ على حكومة من التكليف تُوَاطِئُ الحقيقة في الخارج . فكان من نداء آدم خاصة إِشَارَةٌ تَلْطُفُ إلى نُبُوَّةٍ أولى قد اخْتُصَّ بِهَا الرجال دون النساء ، كَمَا الإنس دون الجن ، فالنبوات في الإنس ، والنَّذَارَاتَ في الجن ، وإن كان ثَمَّ من عموم في الخطاب ما يُشْكِلُ ، بادي الرأي ، في آي من محكم الذكر ، فـ : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) ، فهو جار مجرى العام من ضمير الجمع المخاطب في "مِنْكُمْ" ، فذلك العام الذي يُرَادُ به خاص وهو قَبِيلٌ مِنْهُمَا دونَ الآخرِ ، فذلك قَبِيلُ الإنسِ ، أو هو مما يجري مجرى المجاز ، مجاز الحذف ، على تقدير : ألم يأتكم رُسُلٌ من أحدكما ، وكلاهما : العام الذي يُرَادُ به الخاص ، أو الحذف ، كلاهما مما يستأنس به من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، ومن ينكر فهو على أصل يطرده في الباب أَنَّ ذلك من معهود الكلام ، كما في موضع آخر من الآي المحكم : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، فيخرج من أحدهما وهو المالح دون العذب ، فَخَرَجَ منهما عامة ، وأريد أحدهما خاصة وهو المالح ، أو هو على تقدير المحذوف إذ : يخرج من أحدهما وهو المالح ، وكل أولئك مما اشتهر في عُرْفِ الكلام المتداول فَجَرَى مجرى الحقيقة ، وَإِنْ عُرْفِيَّةً وَهِيَ الأخص فهي تَقْضِي في لسانية أولى وهي الأعم ، فالخاص قطعي يقضي في العام الظني ، وَمَرَدُّ الأمر إلى مُرَادِ المتكلم الذي يَسْتَعْمِلُ من معهودِ اللسانِ ما يجزئ في حكاية المعنى وإن خالف عن أول من المبنى ، فالباب : حقائق تَتَعَارَضُ ، فَيُقَدِّمُ الخاص منها على العام ، لا حقيقة ومجاز ، بل الكلام كله ، عند صاحب هذا القول ، الكلام كُلُّهُ حقيقةٌ ، وإن كان مِنْهَا لسانية أولى وعرفية تالية بما اشتهر من معيار اللسان المتداول . والشاهد أن من نداء آدم خاصة إِشَارَةٌ تَلْطُفُ إلى نُبُوَّةٍ أولى قد اخْتُصَّ بِهَا الرجال دون النساء ، كَمَا الإنس دون الجان ، فَقَدْ خوطب الرجل دون المرأة ، خُوطِبَ بالتكليف الإلهي الأول ، وثم آخر من الإشارة يَحْكِي قوامة الرجل إذ خُوطِبَ وحدَه خطاب المواجهة الأول ، خُوطِبَ بأمر قد استغرق الزوجين كافة ، فَلَهُ من ذلك تفضيل مركب منه : الكوني بما كان من فطرة الخلق الأولى ، فقد جُبِلَ الرجل على الشدة والبأس ، وَجُبِلَتِ الأنثى على اللين والعطف ، فكان للأول من الوصف ، الشدة والبأس ، ما يواطئ القوامة في الأمر ، فالعقل أول في الفكرة ، والعاطفة تال في الحركة يَتَأَوَّلُ ما كان من تصور أول ، فهي الحكم الذي عنه يصدر ، ولا حكم ينصح في الأثر إلا أن يكون أول من الرأي والنظر ، وهو ما اختص به الرجل وإن كان للمرأة منه حظ فهو أدنى ، كما اختصت المرأة بالعاطفة وإن كان للرجل منها حظ فهو أدنى . والعاطفة مَئِنَّةُ حَرَكَةٍ في الوجدان لا تَنْفَكُّ آثارها تظهر في الخارج بما يكون من شَفَقَةٍ ورحمةٍ وغايةٍ لها المرأة تَنْشَطُ ، فالعاطفة كالفرس إذ تجمح فلا بد لها من قَيْدٍ يُلْجِمُ ، فكان ذلك مما وَضَعَهُ الله ، جل وعلا ، في يد الرجل حَكَمَةً في التقدير والتكوين ، وبه اختص الرجل بالقوامة إذ يَعْقِلُ ما جمح من عاطفة المرأة بِحَكَمَةٍ تأطر ، فيكون من عَقْلِهِ رَائِدُ صدق في الوجهة ، فلا تنبعث العاطفة بلا هدى ، فَتُفْسِدَ وَإِنْ قصدت الإصلاح ، إذ لم يكن لها من الدليل مَا بِهِ الْبَيَانُ والإرشادُ ، فَاقْتَضَتِ الحكمة أن يكلف الرجل بالقوامة لما كان من التكوين الأشد ، وآخر من التشريع يوجب عليه السعي والكد ، فيكون من ذلك إنفاق هو الواجب على الرجل ، وإن عمت البلوى في جيل قد تأخر ، أن فَرَّطَ رجال فِي الأمر ، ومنهم المضطَّر الذي أُطِرَ على جادة تمكر ألا يكون من سعيه ما يجزئ مع غلاء في العيش بما يكون من فساد في الأرض قد احتكر الأرزاق والأقوات ، فَصَارَتْ دُولَةً بين أغنياء يقترون ولو ملكوا خزائن الرحمة ، فتلك طبائع الأنفس إذ جبلت على الشح وأحضرت ، فكان من ذلك المكر الذي حَجَّرَ ما وَسِعَ من الأرزاق والمعايش ، فألجأ النساء أن يعملن ، وذلك أول الوهن في البيوت ، إذ تغلب العاطفة المرأة ذات الكسب أن يكون لها من القوامة حظ فَتَخْرُجَ عن جادة الفطرة والشرعة ، إذ تُنَازِعُ في حكم ليس لها ، وَإِنِ اغْتَرَّتْ بما حصل لها من السبب مع مكر آخر يحرض ، فَيَزُعُمُ لها النصح وهو غاش يُفْسِدُ إذ يَخْرُجُ بها عن أَمْرِ الفطرةِ والشرعة كافة . فذلك سياق محكم قد أَفْضَى إلى فساد يَعْظُمُ ، وبه عمت البلوى الْبُيُوتَ كافة إلا بعضا هو القليل بل والنادر في أحيان فلا حكم له ! ، وصار الأمر للنساء كُلًّا أو بَعْضًا بما اكتسبن من المال وبما حَرَّضَ العاش المفسِد ، فلا يفلح الأمر إذا وليته امرأة إذ ليس لها من أمر الحزم والشدة ما يجزئ إلا أَنْ تَخْرُجَ عَنْ جادة الفطرة فيكون منها الترجل الذي يُفْضِي إلى فساد أعظم ، مع بقاء خاصة الأنثى وإن اجتهدت في نسخها بما تَلْزَمُ من جادة الرجال في الهيئة والطبع ، فيكون من ذلك مجموع أَفْرَادُهُ تَتَنَافَرُ إذ جَمَعَ من الأوصاف ما يَتَعَارَضُ ، مع عجز الرجال في مُثُلِ الاحتكار والاستبداد ، وهو ما كَسَرَ بأسهم ، وأحنى رأسهم ، فَذَلُّوا في عين الأهل والولد ، وكان من ذلك بلاء عظيم ، مع آخر به تَرَكَ رجالٌ الزمام طوعا بما فَسَدَ من الأخلاق والمروءات ، وما كان من دياثة في الطبع ورضى بالدنية والذل ..... إلخ ، فكان من تَأَنُّثِ الرجالِ ما أفسد العقول فلا تطيق سدادا في رأي أو حزما في أمر أو نهي ، ففسدت فطرة الرجال في مواضع كما فطرة النساء في أخرى ، وكان من ذلك عموم بلوى بما كان من عارض يطرأ قد نال من الفطرة الأولى ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استغرق الأديان والأبدان كافة ، ومن الأديان طبائع وأخلاق ، فهي دين المنهاج والمسلك في الخاص والعام من أمور المعاش والمعاد . وَالْفِطْرَةُ ، إن الأديان أو الأبدان ، مما رسخ في الوجدان والحس ، لا جرم قَبُحَتِ المخالفة عنها فَحُرِّمَ ذلك بل هو الكبيرة إِنِ الناقضةَ لأصل الدين الجامع بما يكون من تبديل لفطرة التوحيد الأولى ، أو الناقضةَ لكماله الواجب بما يكون من كبيرة التَّشَبُّهِ ، أن يخرج كلُّ جنسٍ عن حده ، بل منها ، لو تدبر الناظر ، ما يحكي نقض الأصل ، ولو باعتبار اللازم ، إذ يحكي الاعتراض على الحكمة في تَفْضِيلِ الذكر على الأنثى ، وَتَقَصُّدَ المخالفةِ عن تقدير الخالق ، بل والسعي في ضِدٍّ من تغيير الخلقة ولو أفضى إلى فساد الدين والدنيا وذلك ما توعد به إبليس وتلك معان تجاوز في الحد : العصيان والمخالفة عن الحكم ، فلا تنفك تحكي زِيَادَةً من إلحادٍ وجحودٍ لِتَقْدِيرٍ في التكوين أول لا يَنْفَكُّ يقرنه آخر في التشريع يُلَازِمُ ، لا جرم كان من اقْتِرَانِ الإلحادِ والانحلالِ ، ولو إِقْرَارًا لا مُبَاشَرَةً ، كان من ذلك ما اطرد في مواضع تكثر حتى صار هو الأصل المستصحب على تفصيل في باب الأسماء والأحكام يُطْلَبُ ، وكذا العبث في الفطرة فهو يحكي سَخَطًا على تقدير أول ، وطغيانا يروم التأله فيخالف عن الخلقة الأولى ، ويقترح أخرى تخالف على قاعدة الحرية المطلقة التي تَرُومُ الانعتاق من ربقة التكليف فَلَا تَرْضَى أَنْ تَدْخُلَ في عبودية الإله الحق وَتَرُومُ الخروج إلى عبودية آلهة تكثر ، الهوى والذوق لها رائد ، وهو ما به اسْتَعْبَدَ الخلق بعضهم بعضا بما زَيَّنُوا منها وَزَخْرَفُوا ، وكلهم آخر أمره عَبْدٌ لشيطان يوسوس قد توعد بني آدم كافة ، وضاهى الإله الحق كِبْرًا وَكُفْرَانًا . فَثَمَّ مِنَ النَّهْيِ مَا عَمَّ ، على التفصيل آنف الذكر ، فـ : (لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، ومن ثم كانت المقابلة بين شَطْرَيْنِ قَدِ اسْتَوْفَيَا القسمة في الخارجِ ، فـ : (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) ، مع طباق إيجاب بين النوعين : الرجال والنساء ، فلكلٍّ حظ ونصيب بما يُوَاطِئُ ظَاهِرًا مِنَ التكوينِ وَأَوَّلًا مِنَ التقدير ، مع حكمة في التشريع الذي يواطئ كُلًّا بما يصلح الدين والدنيا ، ومن ثم كان الأمر أن : (اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) ، وهو ، أيضا ، مِمَّا عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، فكان مِنْ دلالة الأمر : إِرْشَادٌ وَنَدْبٌ ، وكان من العموم في دلالة الواو في "اسْأَلُوا" تَغْلِيبًا قَدِ استغرق المحال كَافَّةً ، على ما تقدم في مواضع ، وهو المستصحب حتى يكون ثم دليل صارف ، وَقَرِينَةُ السُّؤَالِ ، سُؤَالِ الفضلِ ، ذلك مما يرجح الأصل عُمُومًا بِمَا كان من قَرِينَةٍ تَسْتَغْرِقُ فِي بابِ التكليفِ ، والدعاء ، ومنه دعاء المسألة ، ذلك مما استوى فيه بداهة الذكر والأنثى ، فكان من دعاءِ المسألة أَنِ : (اسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) ، وكان من تَالٍ يَجْرِي ، من وجه ، مجرى التعليل فهو جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فَثَمَّ الاستئناف بالناسخ في قوله ![]() فَثَمَّ ، كما تَقَدَّمَ ، تَبَايُنٌ فِي الْخَلْقِ ، وإن كَانَ من التكليف أصل يَطَّرِدُ فِي الآحادِ كَافَّةً ، ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ، فـ : "إِنَّمَا هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" ، فذلك ما اسْتُصْحِبَ أَصْلًا حَتَّى يَرِدَ دليلٌ نَاقِلٌ يخص أحد الجنسين بحكم ، ولا يخلو ذلك من حكمة في التقدير ، إِنْ فِي التكوينِ أو في التشريعِ ، فَمَاهِيَّةُ الذَّكَرِ لَهَا من التكليف ما يُوَاطِئُ ، وكذا ماهية الأنثى ، فأحكام القتال تُوَاطِئُ طبيعة الرجل ، وأحكام الأمومة والرضاع تواطئ طبيعة المرأة ، فكان من العموم أصل يُسْتَصْحَبُ ، وهو ظاهر أول يرجح حتى يكون من الدليل ناقل ، فَتِلْكَ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ ، وإلا فالعام ظَنِّيٌّ الدلالةِ يُجْزِئُ فِي الاستدلال ، وهو ما حُدَّ حَدَّ الْقَصْرِ مَعَ تَعْرِيفِ الجزأينِ : "هُنَّ" و "شَقَائِقُ الرِّجَالِ" ، وهو ما استوجب الوقوف على حكم الوحي ، فَلَا يجاوز المكلَّفُ الْحَدَّ ، بَلْ يُصَدِّقُ وَيَمْتَثِلُ , وَإِنْ لم يدرك وَجْهَ العلة الأخص ، فكيف بِمَا ظَهَرَ من حكوماتٍ يُدْرِكُ العقل عِلَّتَهَا ويجد من ذلك حِكْمَةً في التقدير والتشريع ، فَلَا يَتَمَنَّى أحد ما وُهِبَ غيرا ، فَثَمَّ مِنَ التقدير وَهْبٌ لَا يُكْتَسَبُ ، كما الماهية والنوع ، فكان مِنَ النَّهْيِ أن : (لَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، وذلك نهي قد عَمَّ فَجَاوَزَ سَبَبَ النُّزُولِ ، فَثَمَّ نهيٌ عَنْ طَلَبِ مَا لَا يُطْلَبُ مِنْ وَهْبٍ لا يُنَالُ بِرِيَاضَةٍ ولا بِكَسْبٍ ، ولا يُنَالُ بِعَبَثٍ في الخلقة أو تَبْدِيلٍ لِلْفِطْرَةِ ، فكان من النهي مَا عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ ، كما مواضع من التنزيل المحكم ، فـ : (قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، فَثَمَّ من القول مَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَضِّ ، وتلك دلالة "لَوْلَا" في هذا السياق ، فَلَا يَظْهَرُ فِيهَا مَعْنَى التَّرَفُّقِ كما في الْعَرْضِ إِكْرَامًا فِي قَوْلِ القائلِ : لَوْلَا تَزُورُنَا ، فالأداة "لَوْلَا" واحدة ، ومدخولها واحد في النوع وهو الفعل المضارع ، ودلالتها ، مع ذلك ، تَتَفَاوَتُ ، بل قد تحكي أضدادا مِنْ حَضٍّ يَشْتَدُّ صاحبه فِي العرض ، وَتَرَفُّقٍ ، عَلَى ضِدٍّ ، فصاحبه يَلِينُ في الْعَرْضِ ، بل قد يكون المدخول واحدا في العين كما الزيارة في قَوْلِ القائلِ : أَلَا تَزُورُنَا ، وهي ، مع ذلك ، تحتمل الوجهين بالنظر في جُمَلٍ من القرائن منها السياق وبساط الحال بَلْ وَالتَّنْغِيمُ فِي النطقِ ، فَبِهِ تمتاز المعاني ، ولو اتَّحَدَتِ المبانِي ، فَتَنْغِيمُ التَّلَطُّفِ يُغَايِرُ عن آخر يَلُومُ من قَصَّرَ ، فقد يكون مِنْ عَرْضِ الزيارةِ مَا يَتَوَدَّدُ إِلَى المخاطَب فَهُوَ يطلب زيارته وَصْلًا ، وَقَدْ يكون من ذلك مَا يَشْتَدُّ في القول فهو يَلُومُ المخاطَب فلا يطلب زيارة وإنما غايته أن يسجل جناية ، جناية التقصير والقطع ، فَلَا يَرُومُ مِنَ المخاطَبِ الوصلَ ، بل لعل ذلك مما يؤذيه وإنما يروم إلحاق التهمة بالمخاطَبِ في سياقِ نِكَايَةٍ وَزَجْرٍ ، فكان من "لَوْلَا" ، من هذا الوجه ، كان منه مشترك لفظي قد أُجْمِلَ ، بل هو في الباب مما أعوص إذ يجري مجرى الأضداد فيدل على المعنى وضده في نفس الآن بالنظر في التجريد الذهني ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ من القرينة ما يُرَجِّحُ وجها دون آخر ، فَيُبِينُ عن مراد المتكلم إذ أُجْمِلَ لَفْظُهُ وَاحْتَمَلَ ، فَافْتَقَرَ إلى دليل من خارج يُرَجِّحُ ، فالمشترك ، من هذا الوجه ، يجري مجرى الجائز الذي يحتمل وجوها من الدلالة ، فلا يصار إلى أحدها ، بادي النظر ، فذلك من التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فلا ينفك الجائزُ يَطْلُبُ دليلا من خارج فهو المرجِّح الزائد ، فلا يكون الترجيح بدعوى مجردة تَفْتَقِرُ إلى دليل يُثْبِتُ ، فكيف تكون في نفسها دليلا يُرَجِّحُ ، وهي ، بادي أمرها ، تفتقر إلى دليل يُرَجِّحُ ؟! ، فكان من المشترك آنف الذكر ما يطلب المرجِّح من خارج ليبين عن مراد المتكلم ، كما أبان في مواضع عن التلطف وفي أخرى عن ضد من التَّشَدُّدِ ، وقد يكون من القرينة ما يُجَوِّزُ الجمع بين الاثنين ، ولو ضدين ، على قول من يُجَوِّزُ العمومَ في دلالة اللفظ المشترك ، فإن طلب الزيارة ، مِثَالًا تَقَدَّمَ ، ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يحتمل في الدلالة عِتَابًا قد مُزِجَ بِاللَّوْمِ ، فَجَمَعَ اللينَ والشدَّةَ مَعًا ، ولكلِّ معنى من السياق ما يَرْفِدُ ، فهو يقيد ما أُطْلِقَ من الدلالة المعجمية المطلقة أن يأطرها على جادة من المعنى تُبِينُ عن مراد المتكلم ، كما في الآية محل الشاهد ، وقد كان من سياقها ما رجح الإنكار والاعتراض ، فـ : (قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ، وذلك من الافتئاتِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ ، جل وعلا ، فهو العليم الذي أحاط عِلْمُهُ فاستغرق ، وهو الحكيم في التقدير والتكوين ، فكان من قولهم ما سجله الوحي ، فَأَسْنَدَ القولَ إلى الجمعِ ، وهو ما انصرف ، بادي الرأي ، إلى الملإ من قريش ، وإن كان من العموم ما يجاوز ، فَهُوَ سُنَّةٌ تَطَّرِدُ فِي كل جيل أن ينفس الملأ على من اصطفاه الله ، جل وعلا بزيادة علم وحكمة مع ديانة هي الأصل ، فَيُوجِبُ له ذلك رياسة في الخلق لا عَنْ حِرْصٍ وَتَقَصُّدٍ أو تأول به يتلطف في الطلب فيكون من التذرع ما لا يحمد أَنْ تَصِيرَ الديانة سَبَبًا بِهِ الْمَغْنَمُ ، وَلَوْ دَقَّتِ الشُّبْهَةُ فَخَفِيَتْ فلا يكون منها ما يَتَمَحَّضُ واحدا في الدلالة والوجهة يَظْهَرُ فيكون الذم به ألصق ، وإنما المحل قد يحتمل من الحق والباطل ما يمتزج ، فيكون الحكم لمن غلب إلا أن يكون من الحقيقة ما يشتبه وتلك دقائق في النفوس تخفى فلا يعلمها إلا الرب العليم الخبير بما دق من خفايا النفوس والمقاصد . فالاصطفاءُ ، لو تدبر الناظر ، فَضْلٌ من الرب الحكيم ، جل وعلا ، يؤتيه من يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ ، وذلك معنى قد حصل لبني إسرائيل لما بُعِثَ لهم طالوت مَلِكًا ، فكان من الاستفهام ما ينكر ، فـ : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) ، فكان من الحال "وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ" ، فذلك قَيْدٌ يُبِينُ عَنْ معيارٍ فاسدٍ في الحكم ، أن يكون الملك لِمَنْ هو أغنى ، وإن كان الأجهل والأضعف ، فكان من المعيار الذي به يختار الرب الحكيم ، جل وعلا ، فَثَمَّ الاصطفاء الأول ، وذلك محض الفضل ، وإن لم يخل من تَالٍ يُعَلِّلُ ، فـ : (زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) ، فكان من العلم والقوة معدن كمال به الاصطفاء الذي يُصْنَعُ به النبي أو الملك أو الولي على عين الرب الحكيم المدبر ، جل وعلا ، وإن كانت صناعة النبي أخص ، فهي الوهب المحض مع إِعْدَادٍ لِلْمَحلِّ بما يكون مِنْ صُنْعٍ عَلَى عَيْنِ الرَّبِّ ، جل وعلا ، فكان من اختصاص موسى الكليم ، عليه السلام ، بالذكر في آي طه : (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ، وَثَمَّ من القيد بالحال "عَلَى عَيْنِي" ، وتلك دلالةُ الرِّعَايَةِ تَأْوِيلًا يَنْصَحُ إِذْ ثَمَّ من القرينة ما يشهد ، مع دلالة أخص في الباب إذ لا يَلْزَمُ مِنْ هذا التأويل نفي الأصل أو الملزوم الأول ، وهو وصف الذات الذي ثَبَتَ في نصوصٍ تَتَوَاتَرُ ، فَوَصْفُ العينِ من وصف الذات الخبري الذي لا يُثْبِتُهُ العقل ولا ينفيه ، بادي النظر ، فَيَجْرِي ، من وجه ، مجرى الجائز الذي يحتمل ، فلا ينفك يطلب مرجحا من خارج العقل ، فذلك من الغيب الذي لا يدرك بالحس ، ولا يستقل فيه العقل بإثبات أو بِنَفْيٍ ، فكان من ذلك وقوف العقل على أَعْتَابِ الوحيِ حَتَّى يَرِدَ الدليل المرجِّح في الجائز من صفات خبرية لا يستقل العقل بِدَرَكِهَا ، ولو المعنى المجرد في الذهن ، فَلَيْسَتْ كالصفات المعنوية التي يدركها العقل ، بادي النظر ، لا سيما أصولا كالحياة ، فالإله لا يكون ، بداهة ، إلا حيا ، إذ الحياة أصل الصفات الذاتية خاصة ، وأصل الصفات عامة ، إِنِ الذاتيةَ أو الفعليةَ ، إِنِ المعنويةَ أو الخبريةَ ، فالعقل يدرك من وصف الحياة ما هو أصل ، وذلك مما يجب ضرورة في الوجدان الناصح ، وله شاهد من الفطرة يُثْبِتُ ، فَثَمَّ علم ضروري في هذا الموضع ، ولكنه المجمل الذي يفتقر إلى إثبات أخص ، فهو من الغيب ، فلا بد له من دليل من الوحي الذي يجاوز العقل والوجدان ، فهو يثبت ما اسْتَقَرَّ في النفس من العلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر ولا استدلال ، وهو ، مع ذلك ، يُبَيِّنُ ما أُجْمِلَ ، وهو ثالثا يُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ ، فكان مِنَ المجملِ في الوجدان ضَرُورِيٌّ أول وهو مع ذلك يَفْتَقِرُ إلى بَيَانٍ أَخَصَّ ، وثم منه الجائز الذي يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، كما تقدم من وصف العين ، فهو من وصف الذَّاتِ الخبريِّ ، وله من المدلول أول وهو الملزوم فذلك الوصف الذي يُثْبِتُهُ العقل إذا ورد الدليل الصحيح الناصح ، وشرطه في العقل الجواز المحض ، وشرطه في النَّقْلِ وهو العمدة في الخبريات ، شرطه في النقل أن يصح الخبر ، فإذا صح فهو المذهب إِنْ في العلم أو في العمل ، سواء أكان منه يقين يجزم أم ظَنٌّ يُرَجِّحُ ، وهو ما يجزئ في الإثبات ، فالظن دليل في العلم والعمل إذ يُرَجِّحُ في الخبر كما المرجِّح في الحائز ، فيكون من ذلك أصل يستصحب فَهُوَ في الباب طرف يرجح ، طرف القبول الذي استوفى الشرط ، فلا يعدل عنه الناظر إلا لقرينة تُرَجِّحُ ضِدًّا ، فمن ادعى البطلان أو الخطأ بعد حصول دليل معتبر يشهد لصحة الخبر ، وَإِنْ خَبَرَ الآحادِ ، فَهُوَ يفيد الظن الراجح ما لم تحتف به القرائن ، فَثَمَّ من شَرْطٍ في الاصطلاحِ يجزئ في حصولِ ظَنٍّ رَاجِحٍ ، وهو ما يجزئ في الاستدلال ، فَحَصَلَ مِنْهُ مُرَجِّحٌ من خارج يصرف الناظر إلى قبول الخبر والاستدلال بِهِ ، إِنْ في العلم أو في العمل ، فذلك أصل جديد قَدِ انْتَقَلَ إليه الناظر لا تَحَكُّمًا في دعوى لا دليل عليها ، وإنما لها من الدليل ما يشهد قَرِينَةً في الباب تصرف عن أصل أول هو الجائز الذي يَتَوَقَّف فيه الناظر ، فَلَيْسَ مِمَّا يُحَالُ لِذَاتِهِ أو يَمْتَنِعُ ، بل هو ، بادي النظر ، جائز ، وذلك أول في الاستدلال ، وَثَمَّ تَالٍ يُرَجِّحُ بما يكون من قرينة معتبرة وبها اسْتِيفَاءٌ لِحَدِّ الصحة في الاصطلاح ، فكان من ذلك أصل جديد قد انْصَرَفَ إِلَيْهِ الناظر ، وَإِنِ احْتَمَلَ ، فاحتماله مرجوحٌ لا يصار إليه إلا بدليل آخر يصرف ، فالخبر الصحيح الذي استوفى الشرط في اصطلاح أهل الشأن ، ذلك الخبر الصحيح يفيد الظن الراجح ، وإن احتمل ضدا مرجوحا فلا يصار إليه إلا بدليل في البابِ أَخَصَّ ، فدعوى البطلان أو الخطإ لا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ الدليلَ الشاهدَ ، فَلَا يجزئ في ذلك إطلاق في الباب ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الصحة بِدَلِيلٍ أَخَصَّ قَدْ نَقَلَ الناظر عَنْ أَصْلٍ أَوَّلَ وهو الجواز العقلي المحض ، إِذَا ثَبَتَتِ الصحة فهي الأصل الجديد ، فذلك ظَنٌّ راجِحٌ يجزئ في الاستدلال مُطْلَقًا ، إن في العلم أو في العمل ، فَلَا يُعْدَلُ عنه إلى مؤول مرجوح إلا أن يكون ثم دليل أخص يثبت البطلان أو الخطأَ من شذوذٍ أو عِلَّةٍ ، فلا يكون مِنَ الدَّلِيلِ تَجْوِيزٌ عقلي محض ، فهو دعوى مجردة في الذهن تَفْتَقِرُ إلى دليل في الباب أخص ، فَمَنِ ادَّعَى بَادِيَ الرأي في خبر جائز ، من ادعى أنه صحيح ، فَعَلَيْهِ دليلُ الصِّحَّةِ الذي يجزئ في الاستدلال بما يكون من شروط الصحة في الاصطلاح ، وَمَنِ ادَّعَى بعد ثبوت الصحة أن ثم بُطْلَانًا أو خَطَأً ، فَتِلْكَ دعوى جديدة تَفْتَقِرُ إلى دليل يَصْرِفُ عن أصل قد ثَبَتَ ، وهو الصحة ، فلا ينتقل عنه الناظر إلا بمرجح معتبر من خارج ، دليلِ شذوذٍ أو عِلَّةٍ تخفى ، فيكون من تَقْسِيمٍ وَسَبْرٍ مَا يجمع طرق الباب وبها يستبين الخطأ ، كما أُثِرَ عَنْ بَعْضِ أهلِ الشأنِ ، فكان من وصف العين ، وهو محلُّ شَاهِدٍ تَقَدَّمَ في قوله ![]() ![]() وذلك ، لو تدبر الناظر ، رحمة من الرب الخالق ، جل وعلا ، لئلا يُفْتَنَ الخلقُ بما أحكم من سَنَنِ الكون فيظن الظان أَلَّا رب يدبر هذا الخلق ، بل هو جار على سنن حكمة لا تتبدل فتجري مجرى الضرورة فلا يطيق أحد لها نقضا ، فالرب إن ثبت وجوده ! ، فهو الخالق لهذا الكون ، الرَّاكِزُ لقوى في الأعيان والأسباب منه ، فلا يجاوز إلى التدبير لها بل قد خَلَقَهَا وَتَرَكَهَا أو نسيها ! ، وهو ما اتخذ بَعْدًا ذريعة بها تأليه الإنسان ، فإن المطلق الأول قد حل فيه أو في التاريخ ، كما يقول بعض المحققين ، وهو حكاية ما يكون من الإنسان الذي احتل المركز وَعَزَلَ الرب المدبر المهيمن ، جل وعلا ، فعزله أولا في باب التكوين والتدبير ثم تاليا في باب الحكم التشريع ، وكان من إثبات الأول ما يُضَاهِي العدم فهو المطلق بشرط الإطلاق مع حلول واتحاد بالمحدَث من التاريخ أو الإنسان في طَوْرٍ تال قد بلغ غاية من الطغيانِ تَعْظُمُ ، وهو مَا آثاره في مبادئ السياسة والحكم تظهر ، فكان من ذلك عنوان يؤله المثال الحاكم وهو ما اصطلح في آداب وتراتيب محدثة أنه الدولة التي احتكرت أسباب القوة والحياة فصارت هي من يَرْزُقُ وَيُدَبِّرُ فَقَدْ حَلَّتْ فيها روح الخالق المدبِّر بل والإله المشرِّع فما تسن من القانون فهو الملزِم وإن خالف عن بدائه من الوحي الصحيح والعقل الصريح والفطرة الناصحة كما قد عمت بَلْوَى أخرى في جيل محدث أن كان مِنْ سِنِّ الشرائع ما يخالف عن البدائه إذ فَتَحَ الذَّرَائِعَ إلى جنايات وفواحش قد علم ضرورةً قُبْحُهَا ، ولو لم يكن ثم وحي يحرِّم ، فدليل العقل والفطرة والحس لها يمنع ، إلا أن يكون من فساد وتبديل ما به البلوى قد عمت الدنيا والدين ! . فكان من الجحود في باب الربوبية ما عمت به البلوى في الجيل المحدَث ، فالرب إن ثبت وجوده ! ، فهو الخالق لهذا الكون ، الرَّاكِزُ لقوى في الأعيان والأسباب منه ، فلا يجاوز إلى التدبير لها بل قد خَلَقَهَا وَتَرَكَهَا أو نَسِيَهَا ، فهي تفعل ضرورة واضطرارا ، لا عن علم أول ومشيئةِ اخْتِيَارٍ تُرَجِّحُ ، فتلك أوصاف تزيد على ذات أولى ، الذات المجردة من الوصف الفاعلة بالطبع التي اقترحها الفلاسفة ، فكان من الرحمة والحكمة أَنْ كَانَ من كَسْرِ هَذَا السَّنَنِ المحكم في آحاد من الخلق ، إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، من وجه ، ومن خلق الأضداد وجريانها على سنن محكم من التدافع ، من ذلك وصف زائد يَثْبُتُ ، وبه تأويل رُبُوبِيَّةٍ تُدَبِّرُ فَلَيْسَتْ ، كما زعمت الفلسفة تَخْلُقُ خَلْقَ الاضطرار فلا تدبير يجاوز بالاختيار بما يكون من مشيئةِ تكوينٍ وكلمات بها التأويلُ ، تأويلُ الخلق والتدبير كافة ، فذلك حد الربوبية في دين النبوات ، ربوبية جامعة قد استغرقت التقدير الأول بِعِلْمٍ محيطٍ يُفَصِّلُ ، والإيجادِ المصدِّق لما تقدم من العلم ، وكذا التدبير الذي يتناول المقادير كافة ، الأعيان بِمَا رُكِزَ فِيهَا مِنْ قوى تَقْبَلُ ، والأسباب بما ركز فيها من قوى تُؤَثِّرُ ، فذلك دليل آخر في الخارج يصدق ، فتلك ربوبية النبوات التي استغرقت ، لا ربوبيةُ فلسفةٍ قد عَطَّلَتْ فلم تجاوز في الإثبات حد الواجب الأول : الفاعل بالطبع اضطرارا لا بِتَقْدِيرٍ محكَمٍ ومشيئةِ اختيارٍ تُرَجِّحُ ، المجرَّد من الوصف إلا العلم الكلي المجمل دون آخر في التقدير يُفَصِّلُ ، فكان من ذلك ما أبان عن قسمةِ ضرورةٍ في بابِ الوجودِ ، فذلك الجنس الدلالي المطلق الذي يجرده الذهن ، فَلَا يَنْفَكُّ ، كما تقدم في مواضع عدة ، لَا يَنْفَكُّ يَنْقَسِمُ في الخارج ، فمنه الواجب ومنه الجائز ، فهو يصدق في المخلوق الحادِث بعد عَدَمٍ ، فذلك الوجود الجائز الذي وجب ضرورة في القياس المصرح أن يمتاز من وجود أول يَقْدُمُ ، وهو الواجب ، فوجود جائز ، وجودُ هذا الكون المحدَث بعد عدم ، فذلك ما يثبت في حَدٍّ أو طرف من القسمة ، قسمة الوجود المطلق في الذهن ، جنسا عاما لا أعم منه ، وآخرُ به القسمة تكتمل ، فهو الوجود الواجب ، وإليه يُرَدُّ هذا الوجود الجائز في تقديره وإيجاده وتدبيره ، فالجائز لا يَنْفَكُّ يَتَسَلْسَلُ حَتَّى يَبْلُغَ أَوَّلًا هو الواجب لذاته فلا يفتقر إلى سبب من خارجٍ يَسْبِقُ ، بل قد كان ولم يكن معه شيء ، ولم يكن قَبْلَهُ شيءٌ ، فتلك الأولية المطلقة التي جاءت بها نصوص النبوة المحكمة ثَنَاءً على الخالق ، جل وعلا ، فـ : "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ" ، فكان من تلك القسمة مادة توحيد تَنْصَحُ ، فهي تَنْفِي أخرى من الواحدية ، وهي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مناط الخصومة بين الوحي المنزل والوضع المحدث ، فالأخير يصدر عن واحدية في الوجود لا تميز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق ، فالوجود فيه واحد بالعين في الخارج ، فليس إلا الجوهر القديم الواحد وما حدث من أعيان في الخارج فَلَيْسَ إلا الصورَ أو الأعراضَ ، وهو ما يفضي إلى مخالفة عن المعقول والمحسوس كافة إذ يدلان ضرورة على امتياز الحقائق في الخارج ، ولو كانت جميعا من الجنس المخلوق المحدَث ، فأعيان زيد وعمرو وبكر تمتاز في الخارج ، بداهة ، وامتيازها لا يقتصر على الصور فيقال إن الجوهر واحد ، بل امتيازها يجاوز الصور إلى الحقائق الثابتة في الخارج أعيانا تستقل في الوجود ، وإن جَمَعَهَا جنس من الوصف أعلى وهو جنس المخلوق المحدَث ، فكيف بالخالق المحدِث ، جل وعلا ، فامتيازه منها يثبت من باب أولى ، وذلك توحيد النبوات إذ يفرد القديم من المحدَث ، كما قال بعض من حقق ، وإن لم يقتصر توحيد النبوات على ذلك ، فهو أصل أول في باب الذات وما يقوم بها من الوصف ، فكان من امتياز الخالق من المخلوق ما يَنْفِي مقال الوحدة ، وحدة الوجود التي لا تميز الخالق من المخلوق ، وقد اتخذت بعدا في مذاهب محدَثَةٍ تَطْرَأُ ، قد اتخذت ذريعة إلى الغلو في الحقيقة الإنسانية المخلوقة ، فمادة الإله فيها موجودة ، إذ لا فرقان يميز ، فكان من الإنسان مرجعُ تشريعٍ مطلق كما مرجع الوحي المنزل ، المرجع المجاوز من خارج ، فالواحدية قد جاوزت في الحد ، إذ تناولت الشرع كما الكون ، وبها تعطيلٌ لأجناسِ التوحيد كافة ، توحيدِ الذَّاتِ والاسمِ والوصفِ ، وتوحيدِ الفعل المؤثِّر في الكون ، وتوحيد الحكم الذي يصدر عنه الشرع ، فَلَيْسَ ثَمَّ توحيد يميز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق ، بل واحدية قد خالفت عن ضروراتِ النقل والعقل واللسان كافة ، ولو معيارَ الاشتقاقِ الذي يَقْضِي ضرورةً بالفارق بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث . والله أعلى وأعلم . |
![]() |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 2 ( الجلساء 0 والعابرون 2) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
![]() |
||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
هل نشر القاموس المحيط مضبوطا و مشكولا ؟ | أحمد عبد اللـه | أخبار الكتب وطبعاتها | 0 | 19-10-2012 05:40 PM |