ومن قوله

: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وذلك مما أحاط بالعلوم كافة ، وَإِنِ اخْتُصَّ الغيبُ بالذكر في هذا الموضع من آيِ الذِّكْرِ المحكَمِ ، فالشهادة تدخل في حد العلم الإلهي من باب أولى ، وذلك ما نص عليه الوحي في مواضع أخرى قد أَطْنَبَ فِيهَا فَذَكَرَ أجزاء القسمة : الغيب والشهادة ، طباقَ الإيجاب الذي استغرق كلا الوجهين ، كما في قوله

: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، فَثَمَّ من الإشارة إلى بَعِيدٍ صدرَ الآيةِ ما يحكي ، من وجه ، التعظيم ، فهو يشير إلى ما انْقَضَى في السباق المتقدم من وصف الرب الذي أَنْزَلَ الحق : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) ، والإله الذي خلق السماوات والأرض : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وذلك منصب التقدير والإيجاد ، وما زاد من تصوير وبدع لا على مثال تَقَدَّمَ في الخلق ، وما تلا من تدبير الأمر : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) ، فَكُلُّ أولئك من مَعْنًى يَعْظُمُ قد استجمع ، لو تدبر الناظر ، الجلال والجمال كافة ، فكان منه الكمال المطلق ، وهو محل ثَنَاءٍ وَحَمْدٍ ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، إشارة إلى بعيد ، فهو ، جل وعلا ، مما علا بالذات والوصف ، والإشارة في هذا الموضع مما به يستأنس من يُثْبِتُ وصفَ العلو ، علو الخالق ، جل وعلا ، فهو مما ثَبَتَ نَقْلًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً ، فَثَمَّ من مُبَايَنَةِ الخالق لِلْمَخْلُوقِ واجب في النظر ضروري في الحكم ، وإلا لم يكن ثم خلق ، فلا بد له من خالق أول له من وصف الأولية المطلقُ ، فدلالة المحدَث على المحدِث : دلالة العلم الضروري الملجئِ ، وقياس النظر تال ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أن هذا الخالق الأول الذي إليه يَنْتَهِي الأمر ، وعنه تصدر أسبابُ الخلقِ من كلم كوني يَنْفُذُ ، فَاسْتِقْرَاءُ العقلِ أَنَّ هذا الخالق إما أن يكون أسفل الخلق وذلك نقص ، فلا يكون المخلوق أعلى من الخالق بداهة ، وإما أن يكون محاذيا للخلق ، وذلك ، أيضا ، مما يخالف عن القياس الناصح ، إذ يُسَوِّي بين مختلفين ، ولو في اشتقاقِ الوصفِ ، اسم الفاعل "خالق: ، واسم المفعول "مخلوق" ، وهو ما يُفَرِّقُ بين المسميات في الخارج فَرْعًا عن أول في الأسماء المشتقة ، وإما أن يكون أعلى من المخلوق ، وذلك الكمال المطلق الذي يجب ضرورةً للخالق ، جل وعلا ، فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ آنف الذكر ، وهو من طُرُقِ النظر المعتبرة في الأصول ، السبر والتقسيم قد استوفى أجزاء القسمة كَافَّةً ، فَأَبْطَلَ اثنين وَصَحَّحَ الثالث ضرورةً في العقل تُوَاطِئُ ما نَصَحَ من فطرة الخلق إذ يجد صاحبها حاجةَ ضرورةٍ تُلْجِئُ إذا كان دعاء أو كرب أَنْ يَرْفَعَ البصر إلى أعلى ، وهو ما يصدر عن أولى في الجنان تضطر صاحبها أن يَتَوَجَّهَ باطنه إلى خالق أعلى ، فيكون من ظاهر البصر ما يصدق ما كان أولا من فعل الباطن ، فالظاهر عنه يُفْصِحُ وَلَهُ يُصَدِّقُ ، وذلك تلازم ضرورة في الباب ، فكان من إشارة البعيد في "ذَلِكَ" ما يحكي هذه المعاني كافة ، فالبعد قد استغرق الذات والوصف ، وإن قَرُبَ الذكر في سِبَاقٍ تَقَدَّمَ مِنَ الذِّكْرِ ، وكان من تلك الإشارة آخر يُوَاطِئُ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، كَانَ مِنْهَا مَا اطَّرَدَ فِي لسانِ العربِ وَبِهِ قَدْ نَزَلَ الذِّكْرُ ، أَنَّ مَا انْقَضَى ، وَلَوْ قَرُبَ بِهِ العهد فهو كالبعيد ، إذ كلاهما مما انْقَضَى في الذكر ، وَذَانِكَ وجهان بهما تأويل الإشارة في هذا الموضع ، وكلاهما ، لو تدبر الناظر ، صحيح يجزئ ، وبه ، من وجه ، يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، إذ لفظ الإشارة واحد ، وله من الاحتمال ما تَعَدَّدَ ، ولكلٍّ وجهٌ في النطق معتبر ، فحسن الجمع إِثْرَاءً لسياق واحد بِجُمَلٍ من المعاني تَكْثُرُ ، ومن ثم كان الإخبار بما استغرق ، فكان من طباق الإيجاب بين الغيب والشهادة ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج ، قسمة المعلوم ، وإن كان ثم آخر يجاوز فهو يستغرق الواجب والجائز والممتنع ، فالممتنع وإن لم يكن له وجود في الخارج لا في غيب ولا في شهادة فَهُوَ عَدَمٌ ، إلا أن العلم يَتَنَاوَلُهُ ، ولو الفرضَ الذي يُتَنَزَّلُ بِهِ في الجدال مع الخصم ، كما في مواضع من الذكر المحكم ، ومنها قوله

: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وليس له ، جل وعلا ، بداهة ، وَلَدٌ ، فذلك من النقص المطلق الذي تَنَزَّهَ عنه ضرورةً في الخبر والنظر ، فكان فَرْضُهُ الْفَرْضَ المجرَّد تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فإنه مما امتنع الامتناع الذاتي فلا وجود له في الخارج يصدق ، إِنِ المشهودَ أو المغيَّبَ ، فليس إلا العدم الذي لا يجاوز في العلم حَدَّ الفرض المجرد ، فكان من الإخبار في قوله

: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، كان منه ما استغرق بِمَا تقدم من طباق الإيجاب المستغرق لأجزاء القسمة في الخارج ، وثم من القصر بتعريف الجزأين "ذَلِكَ" و "عالمُ الغيبِ والشهادةِ" ، ثم منه ما يحكي الحصر والتوكيد فذلك مما به ينصح التوحيد ، توحيد الله ، جل وعلا ، فمنه توحيد الوصف ، ومن الوصف ما ذُكِرَ مِنَ العلمِ ، العلم المستغرق لِغَيْبٍ وَشَهَادَةٍ ، فَثَمَّ اختصاص قَدْ أَفْرَدَ الرَّبَّ ، جل وعلا ، بالوصف ، وإن كان ثم اشتراك يَثْبُتُ فَفِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، جنسِ العلم ، فَثَمَّ شَرِكَةٌ فِيهِ تَثْبُتُ ، وذلك أصل من المعنى أول ، فلا يكون ثَمَّ كَلَامٌ يُفْهِمُ إِلَّا أن يكون منه جنس أعلى يَسْتَغْرِقُ ، فذلك محل الاشتراك المعنوي وليس يلزم منه ما التزم المعطلة في الإلهيات ، أن الاشتراك في المعنى يجاوز إلى آخر في الخارج فيكون التشبيه أو التمثيل في الذوات أَنْ كَانَ ثَمَّ اشتراك في المعاني المجردة التي اشتقت منها الصفات ، فالمعاني المجردة لا وجود لها يجاوز الذهن ، ولا يلزم من الاشتراك فيها آخر يجاوز في الخارج ، بل نَفْيُهَا يُفْضِي إلى تَعْطِيلٍ يَعُمُّ فهو يُجَاوِزُ الإلهيات إلى سائر الخبريات وَالْحُكْمِيَّاتِ ، بَلِ الْتِزَامُهُ يُبْطِلُ دلالة اللسان إذ يُعَطِّلُ منه الأجناس الدلالية العليا التي يَتَنَاوَلُهَا النطق المركَّب بما يكون من سِيَاقٍ يَنْتَظِمُ الكلمات فَتُفِيدُ بالجمع ما لا تُفِيدُ بِالْفَرْقِ ، ويحصل من ذلك القيد الذي يميز الحقائق في الخارج ، وَإِنْ كَانَ ثم اشتراك في المعنى المجرد في الذهن ، فَيَمْتَازُ عِلْمُ الخالق ، جل وعلا ، من علم المخلوق ، وإن اشْتَرَكَا في الجنس الأعلى المطلق من العلم الذي يجرده الذهن ، وَعَلَى هذا فَقِسْ فِي نصوصِ الإلهيات كافة ، فذلك أصل يَنْصَحُ في الباب ، وبه إبطال التمثيل والتعطيل كافة ، كما يقول بعض من حقق ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى القدرَ المشترك في الذهن فقد عطل المعنى كافة ، ومن نَفَى القدر الفارق في الخارج فقد شَبَّهَ أو مَثَّلَ ، ومن أَثْبَتَ كِلَا الوجهينِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ النَّقِيضَيْنِ : التعطيلِ والتمثيلِ ، فَوَاطَأَ المذهبَ الحقَّ في بابِ الاسم والوصف : الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل ، فحصل من القصر في هذا الموضع : قَصْرٌ حقيقي بالنظر في الخارج ، وصف الرب الخالق ، جل وعلا ، إذ انْفَرَدَ بكمالِ الوصفِ ، وصفِ العلمِ المستغرِقِ لِمَا غَابَ وَمَا شُهِدَ ، ومن ثم كان الإطناب بالإخبار في قوله

: (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو مما يواطئ مذهبا في النحو يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الأخبار ، وهو مما يحسن في باب الثناء بالإثبات ، فالأصل في الباب : إثبات مُفَصَّلُ وَنَفْيٌ على ضد فهو المجمل ، فالإطناب في الثناء بأوصاف الكمال مما به المدح يَزِيدُ ، ومثله لو كان في النفي لكان من العيب إذ نَفْيُ العيب حيث يستحيل العيب عيب ، فلا يكون الإطناب بسرد الأوصاف المذمومة ، ولو في سياق النفي ، فيقال : ليس بكذا وليس بكذا فذلك مما يقبح في مدح آحاد من الخلق فكيف بالخالق ، جل وعلا ، فانتفى ذلك القول في حقه من باب أولى وإنما يكون النفي في حقه إجمالا ، إلا أن يكون ثَمَّ من شبهة أخص ما استوجب الرد ، كما نَفْيُ الصاحبةِ والولد إذ أَثْبَتَهُمَا من كفر ، فكان النص على النفي خاصة دحضا لهذا القول المفحِش .
فكان من الإطناب باسم العزة جمالا والرحمة جمالا ، في قوله

: (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو ، أيضا ، مما به الكمال المطلق يثبت ، مع دلالة الاستغراق في كُلٍّ ، وهو ما رَفَدَ الاثنين بِعَهْدٍ أَخَصَّ ، إذ تَحْكِي "أل" : العموم المستغرِق لوجوه المعنى ، فلا يكون استغراق المعنى عِزَّةً ورحمةً إلا لواحد في الخارج هو : الرب الخالق جل وعلا .
فَثَمَّ من ذلك ما قُرِنَ فيه الغيب بالشهادة ، كما في الموضع آنف الذكر : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وهو ما يَجْرِي فِي الْحَدِّ ، كَمَا ذَكَرَ أهلُ الشأنِ ، مَجْرَى الاسم المقيد بالإضافة ، الإضافة إلى الغيب والشهادة ، وهو ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، مِمَّا يَجْرِي ، أيضا ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن العام في الباب يجاوز الغيب والشهادة ، فَثَمَّ العلم بالمعدوم والموجود ، فليس الغيب يضاهي المعدوم ، كما يظهر بادي الرأي ، بل المغيب ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته آحاد فَمِنْهُ الموجود بالفعل في الخارج ، ومنه الموجود بالقوة في التقدير الأول ، ومنه المعدوم الممتَنِعُ ، سواء أكان الممتَنِع لذاته فَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فَرْضًا مجرَّدا في الذهن إذ لَا يَتَصَوَّرُهُ الناظر مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، أم كان الممتنع لِغَيْرِهِ فَثَمَّ من التقدير الأول ألا يكون فلا وجود له في الخارج إذ رجحت القدرة امتناعه ، وإن جاز بادي الرأي ، فالقدرة قد ترجح الإيجاب فَيُوجَدُ ، وقد ترجح السَّلْبَ فَيُعْدَمُ ويمتنع ، وإن كان ابتداء من الجائز المحتمل ، فكل أولئك مما يَدْخُلُ في العلمِ فهو من العام الذي لا أَعَمَّ منه ، فَيُجَاوِزُ المذكور من الغيب والشهادة إلى كل معلوم وإن كان من المعدوم فليس له وجود ، فكان من الاسم ما قُيِّدَ في هذا الموضِعِ ، فليس من الأسماء الحسنى وإن كان حسنا في المعنى والدلالة ، فشرط الأسماء الحسنى : الإطلاق ، كما الاسم المطلق في مواضع أخرى من الذكر المحكم ، فكان إطلاق اسم "العليم" في مواضع ، كما في قوله

: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التدرج من أدنى وهو العلم الذي يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، فكان التدرج من أدنى إلى أعلى ، فإن الخبير من يَعْلَمُ الدقائق خاصة ، وكما في قوله

: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فَثَمَّ من السياق ما اسْتَغْرَقَ القسمة ، عِلْمًا يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، وحكمة بها تأويلُ المعلوماتِ المقدوراتِ أن توجد على سنن الإتقان فَيُوضَعَ كُلٌّ في الموضع الذي يُوَاطِئُ ، فذلك المطلق من اسم "العليم" ، وثم آخر هو المقيد بِقَيْدٍ هو ، لو تدبر الناظر ، كَلَا قَيْدٍ ، فَقُيِّدَ بالعموم المستغرق نصا ، وهو عموم "كُلِّ" في قوله

: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وهو ، كما تقدم في موضع ، العموم المحفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص ، ولو بالعقل ، كما في باب القدرة ، فإنها مما خُصَّ بالعقل ، فَخُصَّ عمومها في قوله

: (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، خص بالجائز ، فالله ، جل وعلا ، على كل جَائِزٍ قدير ، فليس يدخل في هذا العموم : الممتنع لذاته ، كما يذكر أهل الشأن ، وقد ضربوا له المثل بالموت ، وهو نَقْصٌ مطلق ، وذلك مما امتنع في حق الله ، جل علا ، الحي القيوم ، فلا يقال إنه يقدر أن يموت ، أو يقدر أن يخلق مثله فيكون في الوجود اثنان يحملان اسم الإله ، وهو ، أيضا ، مما امتنع لذاته ، إذ يَنْقُضُ المعلوم الديني الضروري في باب التوحيد ، وَيَنْقُضُ آخر من سنن التكوين ، فإن العقل يقضي ضرورة أن الأمر يَفْسَدُ إِذَا كان ثَمَّ أكثر من واحد يأمر ، فلا يستقيم الأمر إن في التكوين لدى المبدإ أو في التدبير بَعْدًا ، لا يستقيم الأمر إلا أن يُرَدَّ إلى واحد ، له من الوصف اسم الواجب ، واجب الوجود أولا فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فوجوده الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وَلَهُ مِنَ الأولِيَّةِ ما أُطْلِقَ فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حَسْمُ التَّسَلْسُلِ فِي الْعِلَلِ ، فلا يكون ذلك إلا أن تُرَدَّ جميعا إلى علة أولى لا علة قَبْلَهَا ، فكان منها كلم تكوين هو الأول ، وهو من عِلْمٍ أَوَّلَ قَدْ أحاط بِكُلِّ شَيْءٍ ، فعمومه ، كما تقدم ، المحفوظ من كلِّ وجهٍ ، فدخل في حده الواجب ، فهو أعلم بذاته واسمه ووصفه وفعله وحكمه من كل أحد ، كما أن نَبِيَّهُ الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم الخلق به ، فلا يَعْدِلُ علمُه ، مع ذلك ، عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، بنفسه ، وفي الخبر : "فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ" ، فَثَمَّ محامد لا يعلمها أحد من الخلق حتى يعلمها صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ساجد بين يدي رَبِّهِ الأعزِّ الأكرمِ ، جل وعلا ، وَدَخَلَ في علمه ، جل وعلا ، العلم بالجائز من المقدور ، سواء أكان في العدم فذلك علم أول قد أحاط في الأزل أم صَدَّقَهُ وجود تَالٍ في الخارج ، فيكون منه علم تال يصدق ما كان أولا في التقدير المحكم ، فذلك إحصاء ثان بعد تقدير أول ، فالجائز قد صار الواجب بما احتف به من قرينة من خارج ، فكان من الترجيح ما أخرجه من العدم إلى الوجود ، من المقدور إلى الموجود ، فَعَلِمَهُ الله ، جل وعلا ، قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ وَلَمَّا يَزَلِ المعدومَ أولا وَإِنِ الجائزَ في حَدِّهِ ، وَعَلِمَهُ بَعْدَ أَنْ صار واجبا بما احتف به من قرينة من خارج تُرَجِّحُ قَدْ صيرته الواجب ، وإن لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُوجِدَهُ فهو الممتنع ، وإن كان الجائز لدى المبدإ ، فلم يكن ثم مرجِّح من خارج يُوجِدُ ، فَعَلِمَ الله ، جل وعلا ، في الأزل امتناعه ، وإن كان جائزا يحتمل ، وَعَلِمَ أَنْ لَوْ وُجِدَ فصار الواجب بما كان من المرجِّح ، علم ما لو وُجِدَ كيف يوجد ويكون ، وعلمه ، مع ذلك ، قد استغرق ثَالِثًا وهو ما تَقَدَّمَ من الممتَنِعِ لذاته فلا يوجد ، ولو وجود التقدير الأول ، وإنما غايته أن يُفْرَضَ في الذهن ، ويكون من لَوَازِمِهِ ما يجادل به الخصم من باب : سَلَّمْنَا أَنَّ مَا تَفْرِضُ من المحال الممتنع صحيح ، فلازمه كذا وكذا ، وهو ظاهر الفساد ، فينقطع الخصم ، فَعِلْمُ الله ، جل وعلا ، قد استغرق ذلك من باب العلم بِلَازِمٍ ، وإن امتنع ملزومُه الأول ، فذلك العموم المستغرق من كل وجه في قوله

: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فاستغرق ما تقدم من الغيب والشهادة ، واستغرق الموجود والمعدوم ، واستغرق في قسمة النظر : الواجب والجائز والممتنع ، وأما القدرة فلا تُنَاطَ بالممتنع لذاته ، فإنه ليس بجائز ابتداء لِيُنَاطَ بِالْقُدْرَةِ ، وإنما غايته ، كما تقدم ، أن يفرض الفرض المجرد فَيُنَاطَ بالعلم من باب التَّنَزُّلِ في الجدال مع الخصم ، فعموم قوله

: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : عموم محفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص من أي وجه ، وعموم قوله

: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، عموم يدخله التخصيص من وجه ، إذ خُصَّ بالعقل فلا يدخل فيه المحال الممتنع لذاته على التفصيل آنف الذكر ، وهو ما حُدَّ في كُلٍّ حَدَّ الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" و : "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ، مع توكيد بالناسخ "إِنَّ" واسمية الجملة ، فهي تحكي الثبوت والديمومة ، فذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، وصف الكمال المطلق الذي ثبت لدى المبدإ فهو الأول ، وتلك الأولية المطلقة التي ثَبَتَتْ في الأزل فَلَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ أول ، بل وصفها وصف الواجب الأول ، الواجب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارجٍ يَتَقَدَّمُ فيكون له من الأولية ما يسبق أولية الواجب فذلك ما لا يتصور وإلا سُلِبَ الواجب الأول وَصْفَهُ فَصَارَ جَائِزًا تَالِيًا يَحْتَمِلُ ، فلا يُوجَدُ وَيُوجَبُ إلا أن يسبقه أول هو الواجب الموجِد ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَثْبُتُ فلا يحسم مادته الممتنعة في الأزل إلا واجب أول لا أول قبله ، فهو الموجود الحاصل الثابت في الخارج بلا موجِد يَتَقَدَّمُ ، بل كل ما سواه فعنه يصدر ، فهو الموجِد لغيره بوصف الخلق والإيجاد المتعدي ، وله من الوجود الأول الكامل ، الوجود الذاتي الذي لا يفتقر إلى آخر من خارج يوجده ، فهو الغني غِنَى الذات ، المغْنِي لِغَيْرٍ بما يَرْفِدُ من الأسباب ، فيكون منها ما يباشر المحال وبه تستغني بعد أن توجد أولا بإيجاد عنه يصدر ، فهو الواجب في الوجود أولا ، الْغَنِيُّ الْغِنَى المطلقَ أولا ، فذلك وصف ذاته ، وثم آخر هو وصف فعله الذي يَتَعَدَّى ، فهو الموجِب لِغَيْرِهِ بِسَبَبٍ عنه يصدر ، كلمة تكوين تَنْفُذُ ، وهو المغني لِغَيْرٍ بِمَا يَرْفِدُ من أسبابِ الغنى ، فكلُّ وجودٍ سوى وجوده فَمُحْدَثٌ لم يكن في الأزل ، وكل غنى سوى غِنَاهُ فَمُحْدَثٌ قد سُبِقَ بالفقر ، فإليه يفتقر الخلق كافة ، إن في الإيجاد الأول ، أو في إعدادِ المحال أَنْ تَقْبَلَ ، أو إمدادها بأسباب الغنى والصلاح ، فَبِهَا تَسْتَغْنِي ، وبها توجد فَيَكُونُ من إيجابٍ من خارج ما يُرَدُّ إلى موجِد أول لا موجِد قَبْلَهُ ، فَثَمَّ من الأولية : أولية مطلقة قد عمت فاستغرقت الذات والاسم والوصف والفعل والحكم كَافَّةً ، ومنه العلم والقدرة ، وهما محل شاهد تقدم ، فثم من الاسمية في كلتا الآيتين : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، و : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ثَمَّ منها ما يحكي الثبوت والديمومة وهو ما عم فاستغرق الأزل والأبد ، فَلَهُ ، جَلَّ وَعَلَا ، منهما اسم الأول واسم الآخر ، وهو أصلٌ يُسْتَصْحَبُ إِنْ في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، وإن كان من آحاد فعل ما يحدث إذ يُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ ، فَنَوْعُهُ مع ذلك يَقْدُمُ إذ أحاط به علم أول يستغرق ، فَثَمَّ من الاسمية حكاية إطلاق في الوصف لم يَسْتَفِدْ من الكمال ما لم يكن ، بل كماله ، كما تَقَدَّمَ ، أول ذِاتِيٌّ فلا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، وكل كمال في الوجود بَعْدًا فَعَنْ كماله الأول يصدر ، وكل أولئك مما حسن لأجله التوكيد آنف الذكر ، ومنه التوكيد بتقديم ما حقه التأخير في محل القدرة : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وثم آخر في محل العلم : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
والله أعلى وأعلم .