ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

 
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 27-03-2023, 08:25 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 37
افتراضي العلم المحيط

ومن قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وذلك مما أحاط بالعلوم كافة ، وَإِنِ اخْتُصَّ الغيبُ بالذكر في هذا الموضع من آيِ الذِّكْرِ المحكَمِ ، فالشهادة تدخل في حد العلم الإلهي من باب أولى ، وذلك ما نص عليه الوحي في مواضع أخرى قد أَطْنَبَ فِيهَا فَذَكَرَ أجزاء القسمة : الغيب والشهادة ، طباقَ الإيجاب الذي استغرق كلا الوجهين ، كما في قوله : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، فَثَمَّ من الإشارة إلى بَعِيدٍ صدرَ الآيةِ ما يحكي ، من وجه ، التعظيم ، فهو يشير إلى ما انْقَضَى في السباق المتقدم من وصف الرب الذي أَنْزَلَ الحق : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) ، والإله الذي خلق السماوات والأرض : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ، وذلك منصب التقدير والإيجاد ، وما زاد من تصوير وبدع لا على مثال تَقَدَّمَ في الخلق ، وما تلا من تدبير الأمر : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) ، فَكُلُّ أولئك من مَعْنًى يَعْظُمُ قد استجمع ، لو تدبر الناظر ، الجلال والجمال كافة ، فكان منه الكمال المطلق ، وهو محل ثَنَاءٍ وَحَمْدٍ ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، إشارة إلى بعيد ، فهو ، جل وعلا ، مما علا بالذات والوصف ، والإشارة في هذا الموضع مما به يستأنس من يُثْبِتُ وصفَ العلو ، علو الخالق ، جل وعلا ، فهو مما ثَبَتَ نَقْلًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً ، فَثَمَّ من مُبَايَنَةِ الخالق لِلْمَخْلُوقِ واجب في النظر ضروري في الحكم ، وإلا لم يكن ثم خلق ، فلا بد له من خالق أول له من وصف الأولية المطلقُ ، فدلالة المحدَث على المحدِث : دلالة العلم الضروري الملجئِ ، وقياس النظر تال ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أن هذا الخالق الأول الذي إليه يَنْتَهِي الأمر ، وعنه تصدر أسبابُ الخلقِ من كلم كوني يَنْفُذُ ، فَاسْتِقْرَاءُ العقلِ أَنَّ هذا الخالق إما أن يكون أسفل الخلق وذلك نقص ، فلا يكون المخلوق أعلى من الخالق بداهة ، وإما أن يكون محاذيا للخلق ، وذلك ، أيضا ، مما يخالف عن القياس الناصح ، إذ يُسَوِّي بين مختلفين ، ولو في اشتقاقِ الوصفِ ، اسم الفاعل "خالق: ، واسم المفعول "مخلوق" ، وهو ما يُفَرِّقُ بين المسميات في الخارج فَرْعًا عن أول في الأسماء المشتقة ، وإما أن يكون أعلى من المخلوق ، وذلك الكمال المطلق الذي يجب ضرورةً للخالق ، جل وعلا ، فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ آنف الذكر ، وهو من طُرُقِ النظر المعتبرة في الأصول ، السبر والتقسيم قد استوفى أجزاء القسمة كَافَّةً ، فَأَبْطَلَ اثنين وَصَحَّحَ الثالث ضرورةً في العقل تُوَاطِئُ ما نَصَحَ من فطرة الخلق إذ يجد صاحبها حاجةَ ضرورةٍ تُلْجِئُ إذا كان دعاء أو كرب أَنْ يَرْفَعَ البصر إلى أعلى ، وهو ما يصدر عن أولى في الجنان تضطر صاحبها أن يَتَوَجَّهَ باطنه إلى خالق أعلى ، فيكون من ظاهر البصر ما يصدق ما كان أولا من فعل الباطن ، فالظاهر عنه يُفْصِحُ وَلَهُ يُصَدِّقُ ، وذلك تلازم ضرورة في الباب ، فكان من إشارة البعيد في "ذَلِكَ" ما يحكي هذه المعاني كافة ، فالبعد قد استغرق الذات والوصف ، وإن قَرُبَ الذكر في سِبَاقٍ تَقَدَّمَ مِنَ الذِّكْرِ ، وكان من تلك الإشارة آخر يُوَاطِئُ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، كَانَ مِنْهَا مَا اطَّرَدَ فِي لسانِ العربِ وَبِهِ قَدْ نَزَلَ الذِّكْرُ ، أَنَّ مَا انْقَضَى ، وَلَوْ قَرُبَ بِهِ العهد فهو كالبعيد ، إذ كلاهما مما انْقَضَى في الذكر ، وَذَانِكَ وجهان بهما تأويل الإشارة في هذا الموضع ، وكلاهما ، لو تدبر الناظر ، صحيح يجزئ ، وبه ، من وجه ، يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، إذ لفظ الإشارة واحد ، وله من الاحتمال ما تَعَدَّدَ ، ولكلٍّ وجهٌ في النطق معتبر ، فحسن الجمع إِثْرَاءً لسياق واحد بِجُمَلٍ من المعاني تَكْثُرُ ، ومن ثم كان الإخبار بما استغرق ، فكان من طباق الإيجاب بين الغيب والشهادة ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج ، قسمة المعلوم ، وإن كان ثم آخر يجاوز فهو يستغرق الواجب والجائز والممتنع ، فالممتنع وإن لم يكن له وجود في الخارج لا في غيب ولا في شهادة فَهُوَ عَدَمٌ ، إلا أن العلم يَتَنَاوَلُهُ ، ولو الفرضَ الذي يُتَنَزَّلُ بِهِ في الجدال مع الخصم ، كما في مواضع من الذكر المحكم ، ومنها قوله : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وليس له ، جل وعلا ، بداهة ، وَلَدٌ ، فذلك من النقص المطلق الذي تَنَزَّهَ عنه ضرورةً في الخبر والنظر ، فكان فَرْضُهُ الْفَرْضَ المجرَّد تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم فإنه مما امتنع الامتناع الذاتي فلا وجود له في الخارج يصدق ، إِنِ المشهودَ أو المغيَّبَ ، فليس إلا العدم الذي لا يجاوز في العلم حَدَّ الفرض المجرد ، فكان من الإخبار في قوله : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، كان منه ما استغرق بِمَا تقدم من طباق الإيجاب المستغرق لأجزاء القسمة في الخارج ، وثم من القصر بتعريف الجزأين "ذَلِكَ" و "عالمُ الغيبِ والشهادةِ" ، ثم منه ما يحكي الحصر والتوكيد فذلك مما به ينصح التوحيد ، توحيد الله ، جل وعلا ، فمنه توحيد الوصف ، ومن الوصف ما ذُكِرَ مِنَ العلمِ ، العلم المستغرق لِغَيْبٍ وَشَهَادَةٍ ، فَثَمَّ اختصاص قَدْ أَفْرَدَ الرَّبَّ ، جل وعلا ، بالوصف ، وإن كان ثم اشتراك يَثْبُتُ فَفِي جِنْسِ المعنى المجرد في الذهن ، جنسِ العلم ، فَثَمَّ شَرِكَةٌ فِيهِ تَثْبُتُ ، وذلك أصل من المعنى أول ، فلا يكون ثَمَّ كَلَامٌ يُفْهِمُ إِلَّا أن يكون منه جنس أعلى يَسْتَغْرِقُ ، فذلك محل الاشتراك المعنوي وليس يلزم منه ما التزم المعطلة في الإلهيات ، أن الاشتراك في المعنى يجاوز إلى آخر في الخارج فيكون التشبيه أو التمثيل في الذوات أَنْ كَانَ ثَمَّ اشتراك في المعاني المجردة التي اشتقت منها الصفات ، فالمعاني المجردة لا وجود لها يجاوز الذهن ، ولا يلزم من الاشتراك فيها آخر يجاوز في الخارج ، بل نَفْيُهَا يُفْضِي إلى تَعْطِيلٍ يَعُمُّ فهو يُجَاوِزُ الإلهيات إلى سائر الخبريات وَالْحُكْمِيَّاتِ ، بَلِ الْتِزَامُهُ يُبْطِلُ دلالة اللسان إذ يُعَطِّلُ منه الأجناس الدلالية العليا التي يَتَنَاوَلُهَا النطق المركَّب بما يكون من سِيَاقٍ يَنْتَظِمُ الكلمات فَتُفِيدُ بالجمع ما لا تُفِيدُ بِالْفَرْقِ ، ويحصل من ذلك القيد الذي يميز الحقائق في الخارج ، وَإِنْ كَانَ ثم اشتراك في المعنى المجرد في الذهن ، فَيَمْتَازُ عِلْمُ الخالق ، جل وعلا ، من علم المخلوق ، وإن اشْتَرَكَا في الجنس الأعلى المطلق من العلم الذي يجرده الذهن ، وَعَلَى هذا فَقِسْ فِي نصوصِ الإلهيات كافة ، فذلك أصل يَنْصَحُ في الباب ، وبه إبطال التمثيل والتعطيل كافة ، كما يقول بعض من حقق ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى القدرَ المشترك في الذهن فقد عطل المعنى كافة ، ومن نَفَى القدر الفارق في الخارج فقد شَبَّهَ أو مَثَّلَ ، ومن أَثْبَتَ كِلَا الوجهينِ فَقَدْ سَلِمَ مِنَ النَّقِيضَيْنِ : التعطيلِ والتمثيلِ ، فَوَاطَأَ المذهبَ الحقَّ في بابِ الاسم والوصف : الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل ، فحصل من القصر في هذا الموضع : قَصْرٌ حقيقي بالنظر في الخارج ، وصف الرب الخالق ، جل وعلا ، إذ انْفَرَدَ بكمالِ الوصفِ ، وصفِ العلمِ المستغرِقِ لِمَا غَابَ وَمَا شُهِدَ ، ومن ثم كان الإطناب بالإخبار في قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو مما يواطئ مذهبا في النحو يُجَوِّزُ تَعَدُّدَ الأخبار ، وهو مما يحسن في باب الثناء بالإثبات ، فالأصل في الباب : إثبات مُفَصَّلُ وَنَفْيٌ على ضد فهو المجمل ، فالإطناب في الثناء بأوصاف الكمال مما به المدح يَزِيدُ ، ومثله لو كان في النفي لكان من العيب إذ نَفْيُ العيب حيث يستحيل العيب عيب ، فلا يكون الإطناب بسرد الأوصاف المذمومة ، ولو في سياق النفي ، فيقال : ليس بكذا وليس بكذا فذلك مما يقبح في مدح آحاد من الخلق فكيف بالخالق ، جل وعلا ، فانتفى ذلك القول في حقه من باب أولى وإنما يكون النفي في حقه إجمالا ، إلا أن يكون ثَمَّ من شبهة أخص ما استوجب الرد ، كما نَفْيُ الصاحبةِ والولد إذ أَثْبَتَهُمَا من كفر ، فكان النص على النفي خاصة دحضا لهذا القول المفحِش .
فكان من الإطناب باسم العزة جمالا والرحمة جمالا ، في قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ، وهو ، أيضا ، مما به الكمال المطلق يثبت ، مع دلالة الاستغراق في كُلٍّ ، وهو ما رَفَدَ الاثنين بِعَهْدٍ أَخَصَّ ، إذ تَحْكِي "أل" : العموم المستغرِق لوجوه المعنى ، فلا يكون استغراق المعنى عِزَّةً ورحمةً إلا لواحد في الخارج هو : الرب الخالق جل وعلا .
فَثَمَّ من ذلك ما قُرِنَ فيه الغيب بالشهادة ، كما في الموضع آنف الذكر : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وهو ما يَجْرِي فِي الْحَدِّ ، كَمَا ذَكَرَ أهلُ الشأنِ ، مَجْرَى الاسم المقيد بالإضافة ، الإضافة إلى الغيب والشهادة ، وهو ، مِنْ هَذَا الوجهِ ، مِمَّا يَجْرِي ، أيضا ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن العام في الباب يجاوز الغيب والشهادة ، فَثَمَّ العلم بالمعدوم والموجود ، فليس الغيب يضاهي المعدوم ، كما يظهر بادي الرأي ، بل المغيب ، من وجه ، جنس عام يستغرق ، وتحته آحاد فَمِنْهُ الموجود بالفعل في الخارج ، ومنه الموجود بالقوة في التقدير الأول ، ومنه المعدوم الممتَنِعُ ، سواء أكان الممتَنِع لذاته فَهُوَ لَا يُوجَدُ إِلَّا فَرْضًا مجرَّدا في الذهن إذ لَا يَتَصَوَّرُهُ الناظر مَبْدَأَ أَمْرِهِ ، أم كان الممتنع لِغَيْرِهِ فَثَمَّ من التقدير الأول ألا يكون فلا وجود له في الخارج إذ رجحت القدرة امتناعه ، وإن جاز بادي الرأي ، فالقدرة قد ترجح الإيجاب فَيُوجَدُ ، وقد ترجح السَّلْبَ فَيُعْدَمُ ويمتنع ، وإن كان ابتداء من الجائز المحتمل ، فكل أولئك مما يَدْخُلُ في العلمِ فهو من العام الذي لا أَعَمَّ منه ، فَيُجَاوِزُ المذكور من الغيب والشهادة إلى كل معلوم وإن كان من المعدوم فليس له وجود ، فكان من الاسم ما قُيِّدَ في هذا الموضِعِ ، فليس من الأسماء الحسنى وإن كان حسنا في المعنى والدلالة ، فشرط الأسماء الحسنى : الإطلاق ، كما الاسم المطلق في مواضع أخرى من الذكر المحكم ، فكان إطلاق اسم "العليم" في مواضع ، كما في قوله : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التدرج من أدنى وهو العلم الذي يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، فكان التدرج من أدنى إلى أعلى ، فإن الخبير من يَعْلَمُ الدقائق خاصة ، وكما في قوله : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، فَثَمَّ من السياق ما اسْتَغْرَقَ القسمة ، عِلْمًا يَتَنَاوَلُ المعلومات كافة ، وحكمة بها تأويلُ المعلوماتِ المقدوراتِ أن توجد على سنن الإتقان فَيُوضَعَ كُلٌّ في الموضع الذي يُوَاطِئُ ، فذلك المطلق من اسم "العليم" ، وثم آخر هو المقيد بِقَيْدٍ هو ، لو تدبر الناظر ، كَلَا قَيْدٍ ، فَقُيِّدَ بالعموم المستغرق نصا ، وهو عموم "كُلِّ" في قوله : (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وهو ، كما تقدم في موضع ، العموم المحفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص ، ولو بالعقل ، كما في باب القدرة ، فإنها مما خُصَّ بالعقل ، فَخُصَّ عمومها في قوله : (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، خص بالجائز ، فالله ، جل وعلا ، على كل جَائِزٍ قدير ، فليس يدخل في هذا العموم : الممتنع لذاته ، كما يذكر أهل الشأن ، وقد ضربوا له المثل بالموت ، وهو نَقْصٌ مطلق ، وذلك مما امتنع في حق الله ، جل علا ، الحي القيوم ، فلا يقال إنه يقدر أن يموت ، أو يقدر أن يخلق مثله فيكون في الوجود اثنان يحملان اسم الإله ، وهو ، أيضا ، مما امتنع لذاته ، إذ يَنْقُضُ المعلوم الديني الضروري في باب التوحيد ، وَيَنْقُضُ آخر من سنن التكوين ، فإن العقل يقضي ضرورة أن الأمر يَفْسَدُ إِذَا كان ثَمَّ أكثر من واحد يأمر ، فلا يستقيم الأمر إن في التكوين لدى المبدإ أو في التدبير بَعْدًا ، لا يستقيم الأمر إلا أن يُرَدَّ إلى واحد ، له من الوصف اسم الواجب ، واجب الوجود أولا فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، فوجوده الوجود الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وَلَهُ مِنَ الأولِيَّةِ ما أُطْلِقَ فَلَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، وبه حَسْمُ التَّسَلْسُلِ فِي الْعِلَلِ ، فلا يكون ذلك إلا أن تُرَدَّ جميعا إلى علة أولى لا علة قَبْلَهَا ، فكان منها كلم تكوين هو الأول ، وهو من عِلْمٍ أَوَّلَ قَدْ أحاط بِكُلِّ شَيْءٍ ، فعمومه ، كما تقدم ، المحفوظ من كلِّ وجهٍ ، فدخل في حده الواجب ، فهو أعلم بذاته واسمه ووصفه وفعله وحكمه من كل أحد ، كما أن نَبِيَّهُ الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم الخلق به ، فلا يَعْدِلُ علمُه ، مع ذلك ، عِلْمَ اللهِ ، جل وعلا ، بنفسه ، وفي الخبر : "فأسْتَأْذِنُ علَى رَبِّي، فيُؤْذَنُ لِي، ويُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أحْمَدُهُ بهَا لا تَحْضُرُنِي الآنَ، فأحْمَدُهُ بتِلْكَ المَحَامِدِ" ، فَثَمَّ محامد لا يعلمها أحد من الخلق حتى يعلمها صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ساجد بين يدي رَبِّهِ الأعزِّ الأكرمِ ، جل وعلا ، وَدَخَلَ في علمه ، جل وعلا ، العلم بالجائز من المقدور ، سواء أكان في العدم فذلك علم أول قد أحاط في الأزل أم صَدَّقَهُ وجود تَالٍ في الخارج ، فيكون منه علم تال يصدق ما كان أولا في التقدير المحكم ، فذلك إحصاء ثان بعد تقدير أول ، فالجائز قد صار الواجب بما احتف به من قرينة من خارج ، فكان من الترجيح ما أخرجه من العدم إلى الوجود ، من المقدور إلى الموجود ، فَعَلِمَهُ الله ، جل وعلا ، قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ وَلَمَّا يَزَلِ المعدومَ أولا وَإِنِ الجائزَ في حَدِّهِ ، وَعَلِمَهُ بَعْدَ أَنْ صار واجبا بما احتف به من قرينة من خارج تُرَجِّحُ قَدْ صيرته الواجب ، وإن لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يُوجِدَهُ فهو الممتنع ، وإن كان الجائز لدى المبدإ ، فلم يكن ثم مرجِّح من خارج يُوجِدُ ، فَعَلِمَ الله ، جل وعلا ، في الأزل امتناعه ، وإن كان جائزا يحتمل ، وَعَلِمَ أَنْ لَوْ وُجِدَ فصار الواجب بما كان من المرجِّح ، علم ما لو وُجِدَ كيف يوجد ويكون ، وعلمه ، مع ذلك ، قد استغرق ثَالِثًا وهو ما تَقَدَّمَ من الممتَنِعِ لذاته فلا يوجد ، ولو وجود التقدير الأول ، وإنما غايته أن يُفْرَضَ في الذهن ، ويكون من لَوَازِمِهِ ما يجادل به الخصم من باب : سَلَّمْنَا أَنَّ مَا تَفْرِضُ من المحال الممتنع صحيح ، فلازمه كذا وكذا ، وهو ظاهر الفساد ، فينقطع الخصم ، فَعِلْمُ الله ، جل وعلا ، قد استغرق ذلك من باب العلم بِلَازِمٍ ، وإن امتنع ملزومُه الأول ، فذلك العموم المستغرق من كل وجه في قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فاستغرق ما تقدم من الغيب والشهادة ، واستغرق الموجود والمعدوم ، واستغرق في قسمة النظر : الواجب والجائز والممتنع ، وأما القدرة فلا تُنَاطَ بالممتنع لذاته ، فإنه ليس بجائز ابتداء لِيُنَاطَ بِالْقُدْرَةِ ، وإنما غايته ، كما تقدم ، أن يفرض الفرض المجرد فَيُنَاطَ بالعلم من باب التَّنَزُّلِ في الجدال مع الخصم ، فعموم قوله : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : عموم محفوظ من كل وجه ، فلا يدخله التخصيص من أي وجه ، وعموم قوله : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، عموم يدخله التخصيص من وجه ، إذ خُصَّ بالعقل فلا يدخل فيه المحال الممتنع لذاته على التفصيل آنف الذكر ، وهو ما حُدَّ في كُلٍّ حَدَّ الحصر والتوكيد بتقديم ما حقه التأخير في "عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" و : "بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ، مع توكيد بالناسخ "إِنَّ" واسمية الجملة ، فهي تحكي الثبوت والديمومة ، فذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، وصف الكمال المطلق الذي ثبت لدى المبدإ فهو الأول ، وتلك الأولية المطلقة التي ثَبَتَتْ في الأزل فَلَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ أول ، بل وصفها وصف الواجب الأول ، الواجب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ من خارجٍ يَتَقَدَّمُ فيكون له من الأولية ما يسبق أولية الواجب فذلك ما لا يتصور وإلا سُلِبَ الواجب الأول وَصْفَهُ فَصَارَ جَائِزًا تَالِيًا يَحْتَمِلُ ، فلا يُوجَدُ وَيُوجَبُ إلا أن يسبقه أول هو الواجب الموجِد ، فَلَا يَنْفَكُّ التسلسل يَثْبُتُ فلا يحسم مادته الممتنعة في الأزل إلا واجب أول لا أول قبله ، فهو الموجود الحاصل الثابت في الخارج بلا موجِد يَتَقَدَّمُ ، بل كل ما سواه فعنه يصدر ، فهو الموجِد لغيره بوصف الخلق والإيجاد المتعدي ، وله من الوجود الأول الكامل ، الوجود الذاتي الذي لا يفتقر إلى آخر من خارج يوجده ، فهو الغني غِنَى الذات ، المغْنِي لِغَيْرٍ بما يَرْفِدُ من الأسباب ، فيكون منها ما يباشر المحال وبه تستغني بعد أن توجد أولا بإيجاد عنه يصدر ، فهو الواجب في الوجود أولا ، الْغَنِيُّ الْغِنَى المطلقَ أولا ، فذلك وصف ذاته ، وثم آخر هو وصف فعله الذي يَتَعَدَّى ، فهو الموجِب لِغَيْرِهِ بِسَبَبٍ عنه يصدر ، كلمة تكوين تَنْفُذُ ، وهو المغني لِغَيْرٍ بِمَا يَرْفِدُ من أسبابِ الغنى ، فكلُّ وجودٍ سوى وجوده فَمُحْدَثٌ لم يكن في الأزل ، وكل غنى سوى غِنَاهُ فَمُحْدَثٌ قد سُبِقَ بالفقر ، فإليه يفتقر الخلق كافة ، إن في الإيجاد الأول ، أو في إعدادِ المحال أَنْ تَقْبَلَ ، أو إمدادها بأسباب الغنى والصلاح ، فَبِهَا تَسْتَغْنِي ، وبها توجد فَيَكُونُ من إيجابٍ من خارج ما يُرَدُّ إلى موجِد أول لا موجِد قَبْلَهُ ، فَثَمَّ من الأولية : أولية مطلقة قد عمت فاستغرقت الذات والاسم والوصف والفعل والحكم كَافَّةً ، ومنه العلم والقدرة ، وهما محل شاهد تقدم ، فثم من الاسمية في كلتا الآيتين : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، و : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ثَمَّ منها ما يحكي الثبوت والديمومة وهو ما عم فاستغرق الأزل والأبد ، فَلَهُ ، جَلَّ وَعَلَا ، منهما اسم الأول واسم الآخر ، وهو أصلٌ يُسْتَصْحَبُ إِنْ في الذات أو في الاسم أو في الوصف أو في الفعل أو في الحكم ، وإن كان من آحاد فعل ما يحدث إذ يُنَاطُ بمشيئةٍ تَنْفُذُ ، فَنَوْعُهُ مع ذلك يَقْدُمُ إذ أحاط به علم أول يستغرق ، فَثَمَّ من الاسمية حكاية إطلاق في الوصف لم يَسْتَفِدْ من الكمال ما لم يكن ، بل كماله ، كما تَقَدَّمَ ، أول ذِاتِيٌّ فلا يُعَلَّلُ بِسَبَبٍ يَتَقَدَّمُ ، وكل كمال في الوجود بَعْدًا فَعَنْ كماله الأول يصدر ، وكل أولئك مما حسن لأجله التوكيد آنف الذكر ، ومنه التوكيد بتقديم ما حقه التأخير في محل القدرة : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وثم آخر في محل العلم : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
 


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

BB code is متاحة
رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
هل نشر القاموس المحيط مضبوطا و مشكولا ؟ أحمد عبد اللـه أخبار الكتب وطبعاتها 0 19-10-2012 05:40 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 11:07 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ