|
#1
|
|||
|
|||
من دلالات "هل"
ومما اصْطَلَحَ أهل الشأن في بابِ الاستعارةِ : استعارة الإنشاء للخبر ، أو الإنشاء الذي يُرَادُ به الخبر ، فاستعير الأول للثاني ، كما الثاني قد استعير للأول في مواضع من الذكر المحكم ، وله من كلام العرب شواهد تَعْضِدُ ، فكان من ذلك توكيد آخر يُجْرِي الإنشاءَ ، وتأويله تال في الحدوث فَلَمَّا يَقَعْ بَعْدُ ، يجريه مجرى الخبر الذي وقع وَانْقَضَى ، فكأن المخاطب قد بادر بالامتثال ، فكان الإنشاء خبرا إذ لم يمهل المأمور الآمر ، فسرعان ما امْتَثَلَ ، فَصَيَّرَ الإنشاءَ خبرا قد انْقَضَى ، وكذا آخر يُسْتَعَارُ فيه الإنشاء للخبر ، وهو ، أيضا ، حكاية تقرير للمعنى ، فهو يستنطق المخاطَب أن يجيب ، وذلك آكد في تقرير المعنى ، أن يكون من الإقرار به ما يَقْطَعُ ، وله في الوحي مُثُلٌ تشهد ، كما في آي من الذكر المحكم ، ومنه قوله : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) ، فذلك الاستفهام الذي يجري مجرى التقرير ، وهو ما يَعْدِلُ فِي الحدِّ قول القائل : قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، فكان من ذلك أول لم يكن ثم وجود في الخارج له يُصَدِّقُ ، بل ثم أول من التقدير المحكم ، وله من ذلك وجود القوة ، وذلك عدم في الأزل إذ لم يكن منه إلا عِلْمُ التقدير الأول ، وذلك وصف الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فالمخلوق مقدور معلوم أول ، وإن لم يكن ثم بَعْدُ وجودٌ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَثَمَّ عدم في الأزل ، عدم المخلوق إذ لَيْسَ ثَمَّ إلا الخالق المعبود ، جل وعلا ، ذاتا واسما ووصفا وفعلا وحكما ، وذلك ما يَتَرَاوَحُ بَيْنَ وجودِ نوعٍ أول يَقْدُمُ ، وآحادٍ بَعْدُ من وصف الفعل والحكم تحدث ، وبها تأويل يُصَدِّقُ ما كان من علم أول ، علم الإحاطة المستغرق الذي تَنَاوَلَ المقدوراتِ كَافَّةً ، الواجبات ، كما واجب الوجود الأول ، جل وعلا ، فلا يعلم حَقِيقَةَ الذاتِ وكمال الاسم والوصف ، وهو المطلق فلا يحيط به خَلْقٌ ، وذلك القياس المحكم ، فالمخلوق ، بداهة ، لا يحيط بالخالق ، جل وعلا ، وإن عَلِمَ مِنَ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ شَيْئًا ، فذلك ما لا يكون إلا بمعلِّم من خارج ، وذلك نص الوحي النازل ، فذلك الغيب المطلق وإن كان له أول في الوجدان يثبت بما نصح من مقدمات الضرورة في العقل والفطرة ، وثم من الحس دليل شاهد ، فهو يعالج من آثار الخلق المتقن المحكم ما يدل ضرورة على أول قد أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ ، فلا يكون فعل إلا بفاعل أول يسبق ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فَلَا يُعْلَمُ من وصفه شيء إلا بخبرِ الوحيِ ، ولا يجاوز العقل في ذلك ما جُرِّدَ من المعاني في الذهن ، فتلك أجناس دلالية مطلقة قد وُضِعَ لها في اللسان ألفاظ تَدُلُّ ، فَثَمَّ دَالَّةُ نُطْقٍ أول تُسْمَعُ ، وهي تُبَاشِرُ ما عُدِنَ في النَّفْسِ من مدلولٍ يُصَرِّحُ ، فذلك المعنى الذي حصل من لسان الجمع ، وبه قد نَزَلَ الوحي ، فهو المرجع في التأويل الكاشف ، وهو آخر في الإعجاز البالغ ، أَنْ تَحَدَّى مَنْ لهم في الباب قدم تَرْسَخُ ، مع خصومةٍ تَسْتَحْكِمُ ، فَثَمَّ الحافز الذي يَبْعَثُ النفوسَ أَنْ تُعَارِضَ الذكر المحكم بما يُبْطِلُ التحدي به ، وهم أهل الإجماع في هذا الباب ، فإن كلَّ علمٍ وَفَنٍّ ، كما يقول بعض من حقق ، لا بد له من جمع هو المحكَم الذي إليه يُرَدُّ ما تشابهَ من قولِ غَيْرٍ ، فَثَمَّ من إجماع أولئك وهم أهل الشأن ، ثم من إجماعهم ما يَقْطَعُ ، فلا يُعَارَضُ بآخرَ يحدث لا أصل له يَثْبُتُ ، فَلَيْسَ المخالِف من أهل الشأن ، لا سيما في علوم مُسْتَنَدُهَا النَّقْلُ ، لا التجريب والبحث ، فالأولى علوم تُنْقَلُ بالروايةِ ، وَثَمَّ من ذلك نصوص أولى هي الحاكمة ، إن في الخبر والإنشاء وهو التكليف ، أو في آخر من عرف الكلام المشتهر وبه التبيين ، فمنها نَظْمٌ وَنَثْر ٌأول ، وذلك ما يُرْجَعُ فيه إلى الجمع المفصِح الذي نَزَلَ بلسانِه الوحيُ المنزلُ ، فَثَمَّ مجموع في الوجدان قد تَرَاكَمَ ضرورةً ، فحصل منه تَوَاتُرٌ عام بالنظر في الجيل الناطق ، فهو يُبَاشِرُ ذلك مَلَكَةً بلا اكتسابٍ يَتَكَلَّفُ صاحبُه أسبابَ التَّعَلُّمِ ، بَلْ يَنْطِقُ بِذَلِكَ بداهةً ، فحصل من ذلك تَوَاتُرٌ عام في الجيل الأول ، ولما فَسَدَ اللسانُ فَدَخَلَهُ اللَّحْنُ وَالْعُجْمَةُ ، صَارَ من ذلك تَوَاتُرٌ أخص ، تَوَاتُرُ أهلِ الشأنِ الذين باشروا صَنْعَةِ البيان ، فأولئك أخص في الوصف ، فَثَمَّ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَلْحَنُ ، وَثَمَّ قليلٌ يُفْصِحُ ، ومن أَفْصَحَ في الجيل المتأخر فهو عالة على الأول ، فكيف يأتي بما لم يأت به الأول في علم مستنده النقل ؟! ، فالسلف في ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، أولى بالاتباع من الخلف ، فَشَتَّانَ مَنْ تحصل له الفصاحة مَلَكَةً وَمَنْ تحصل له بالاكتساب والتعلم ، فغاية الثاني أَنْ يُقَلِّدَ الأول وَيُقَارِبَ ، فكلام السلف المتقدم محكم يُرَدُّ إليه ما تَشَابَهَ من كلام الخلف المتأخِّر ، ومن فَاقَ من الخلف سَلَفًا له في علم اللسان ، كما يقال إن سيبويه قد فاق العرب في زمانه ، وهو أعجمي الأصل ، فَلَيْسَ أعجمي اللسان ، فالعربية لسان لا عِرْقٌ ، فمن أفصح بها من الأعاجم فَهُوَ من أهلِها ، وَمَنْ لَحَنَ من العرب صَلِيبَةً ، فَنِسْبَتُهُ إليها دونَ نسبةِ الأول ، ولم يَفُقْ سيبويه الفصحاء وهو منهم ، إلا أنه قد طالع من كلام العرب الأوائل ما لم يطالعوا ، فَنَزَلَ البوادي وَشَافَهَ أهلها ، وَهُمْ من اللحن والعجمة أَبْعَدُ ، فَلَمَّا يَزَلْ لسانهم فَصِيحًا يَنْصَحُ ، وَجَمَعَ من كلامهم وروى من أشعارهم ما لم يُحِطْ به غَيْرٌ من أَقْرَانِهِ ، ولو العرب صَلِيبَةً وَقَبِيلَةً ، فمردُّ الأمرِ إلى العلم بوجوه اللسان ، والجمع لشواهد الكلام ، وهو ما فَاقَ به سيبويه الأقران ، لا لقياس مجرَّد في العقل ، فالعربية مستندها النقل عمن تقدم ، وإن كان من القياس ما جَازَ في اللسان ، على تفصيل في الباب ، فهو تال للنقل ، فلم يكن لسيبويه تَقَدُّمٌ في المتأخرين إلا أنه قد جَمَعَ كلامَ المتقدمين ، فهم السلف الذي يُرَدُّ إليه ما اخْتَلَفَ فيه الخلف ، فحصل من إجماع السلف في وجه دلالة في الكلام ، أو طريقة تَنْصَحُ في البيان ، حصل من ذلك ما يفيد القطع ، وذلك جمع التواتر الأعم في جيل أول ، وَثَمَّ آخر قَدْ سلك الجادة من جِيلٍ قد عالج المسائل تَعَلُّمًا وَتَفَصُّحًا ، لا فصاحةَ جِبِلَّةٍ أولى ، كما السلف المتقدم ، فحصل لأولئك من أصحاب المعاجم والنحاة والصرفيين والبيانيين ، حَصَلَ لهم تَوَاتُرٌ أخص ، لَمَّا انْشَعَبَتِ العلوم وصار لكلِّ فَنٍّ أهلُه ، فَلَهُمْ من العناية بمسائلِه ما لَيْسَ لِغَيْرٍ ، فَيَتَوَاتَرُ عندهم ما لا يَتَوَاتَرُ عِنْدِ غَيْرٍ ، وذلك أصلٌ يَتَنَاوَلُ العلومَ كَافَّةً ، نَقْلًا أو تجريبًا وبحثًا ، فَيَتَوَاتَرُ عندِ أهلِ الطبِّ من مسائلِه ما لا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ غَيْرٍ ، فهم المرجع المحكم الذي يُرَدُّ إليه ما تَشَابَهَ من أقوالِ غَيْرٍ ، وإن كان لهم بَعْضُ علمٍ بالطبِّ ، فَلَيْسُوا أَهْلَهُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إليهم في مسائلِه ، وإن أصابوا في بَعْضٍ ، فَلَمْ تعلم إصابتهم إلا أَنْ رُدَّتْ إِلَى قولِ الأطباءِ ، ولولاه ما جاوز قوله حَدَّ التخمينِ والتَّخَرُّصِ ، فَهُوَ كالجائز الذي يَحْتَمِلُ ، وله وجهان قد اسْتَوَيَا في الحدِّ ، فَلَا يَنْفَكُّ يطلب المرجِّح من خارجٍ ، وبه يَثْبُتُ وَيَصِيرُ الواجب ، فَثَمَّ أهل التواتر الأخص في كلِّ علمٍ وفنٍّ ، وهم أهل الإجماع الذين يُرَدُّ إليهم ما اخْتُلِفَ فيه من المسائل ، فإذ أجمع أهل التَّوَاتُرِ الأخص في الجيل المتأخر ، وهم أعلم الناس باللسان في جِيلِهم ، إذ أجمعوا على العجزِ ، العجزِ أن يضاهوا الكتاب المنزَّل ، ولو سورة ، فكيف بمن دونهم من عموم الخلق ، وهم أهل عجمة ولحن ؟! ، فعجزهم يثبت من باب أولى ، وكذا يقال في آخر أظهر ، فالجيل المتقدم ، وهم أهلُ تَوَاتُرٍ أعم ، قد فشت فيه الفصاحة ، فهي مَلَكَةٌ لَا تَكَلُّفَ فِيهَا ولا تَعَلُّمَ ، فذلك الجيل قد عجز أن يأتي بمثله ، فكان من ذلك إجماعٌ عَلَى العجزِ مع حصولِ الْمَلَكَةِ جِبِلَّةً بلا تَكَلُّفٍ ، وحصول الباعث أَنْ يُعَارضَ الوحيُ النازل ، فهم المكذِّبون الذين اجتهدوا ما اجتهدوا أن يطعنوا في النبوة الخاتمة ، فَتَكَلَّفًوا لذلك ، كما يقول بعض من حقق ، الحرب والقتل ، ولو كانوا يقدرون على المعارضة وإبطال الدعوى ، دَعْوَى التحَدِّي ، لكان ذلك ، بداهة ، أيسر من بذل المهج ، فَدَلَّ عجزهم ، وهو محل الإجماع ، ولو الإجماعَ عَلَى تَرْكِ المعارضة ، فهو إجماع التَّرْكِ لا الفعل ، مع حصولِ الباعثِ ضرورةً ، وحصول القدرة فَلَمْ يعجزوا ، ولم يُصْرَفُوا ، كما قال بَعْضٌ بإعجازِ الصُّرْفَةِ ، بل قد أطاقوا وحصل لهم القصد ، وعجزوا فلم يأتوا بالمثل ، وذلك آكد في التحدي والإعجاز ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مناط التحدي الرئيس بآي الكتاب العزيز ، وإن كان من ذلك ، أيضا ، آخر في الإخبار بالصدق والحكم بالعدل ، وثالث قد باشره الحس من تجريب وبحث ، ولا يَزَالُ يعالج منه مسائل ، إن في الآفاق أو في الأنفس ، فَثَمَّ من ذلك دليل شاهد في كلِّ جيلٍ حادثٍ ، ولو إشاراتٍ تُجْمِلُ لا مقالات تُفَصِّلُ ، فإن الوحي لم يَنْزِلْ كتابَ طبٍّ أو فلاحةٍ أو عمرانٍ ، وإنما كتاب هداية وإيمان ، فذلك القصد الأول ، وإنما أعجز في بَيَانِهِ إذ قَدْ نَزَلَ على أهل الإجماع في وجوهِ اللسان ، فلم يكن ذلك ، أيضا ، الغاية والقصد ، فليس كتابَ بَيَانٍ ونحو ، وإن كان مرجعا في مسائل النطق ، فَثَمَّ من الإعجاز ما اسْتُصْحِبَ بَعْدَ أول يهدي ويبين ، وذلك ما إليه المرَدُّ في الاستدلال إلى أول من عرف اللسان ، عرف الجيل الأول الذي نَزَلَ به الوحي المحكم ، وذلك ما أبان عن أول من الدوال اللفظية ، وتال من الأجناس المعنوية ، وهي مدلولات تحصل في العقل ، ولها دوال تُبِينُ في النُّطْقِ ، وذلك حَدُّ الكلامِ ، كما قَرَرَّ أهل الشأن ، فهو اللفظ والمعنى ، وله من درجات الاستدلال ما تَعَدَّدَ ، فَثَمَّ المعجم المفرد الذي يُبِينُ عن الجنس المعنوي المجرد ، وثم الاشتقاق الذي يكسو المادة المعجمية لحاء يزيد ، فيبين عن آخر أخص ، كما الفاعل أو المفعول ...... إلخ ، من وجوه الاشتقاق القياسية ، وثم النحو الذي ينظم المفردات في سلك يجمع ، وبه يحصل المعنى الأول ، المعنى التام الذي يحسن الوقوف عليه ، وثم الْبَيَانُ الذي يبين عن وجوه من الدلالة تَلْطُفُ ، وذلك المعنى الثاني الذي يدق من استعارة وكناية ...... إلخ ، فَثَمَّ من ذلك حد يبين ، فهو اسم لمسمى في الخارج يثبت ، مسمى الكلام ، فهو اللفظ والمعنى ، المنطوق والمعقول ، الدالة والمدلول ، وله أول في الذهن يُجَرَّدُ من أجناس معنوية تطلق ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مناط الإثبات في مسائل الإلهيات ، فلا تجاوز حَدَّ المعنى المجرد في الذهن دون خوض في حقيقة أو كيف ، فذلك ما لا يطيق العقل من الغيب المطلق ، فإنه في أسماء سمعية قد جاءت بها الأدلة الخبرية ، كما الإخبار بوجوه من النعيم والعذاب في دار الخلد ، فإنه في هذه الأسماء أو الدوال اللفظية لا يجاوز في الإثبات حد المعنى المجرد في الذهن ، وإن كان ثم نظائر في هذا الوجود المشهود ، فَلَيْسَ ثَمَّ تَشَابُهٌ في الحقائق الخارجية المقيدة وإن كان ثم اشتراك في الدلالة المعنوية المطلقة ، فثم منها أسماء لها مسميات في عالم الشهادة تُدْرَكُ ، كما النَّارُ والأغلال والسلاسل , والفاكهة والنخل والرمان ...... إلخ ، وليس ثم من التماثل بَيْنَهَا وَبَيْنَ أخرى في الغيب المطلق ، ليس ثَمَّ من ذلك إلا التماثل في الأسماء ، كما أُثِرَ عن الحبر الترجمان ، ابن عباس ما : "ليسَ في الجنَّةِ شيءٌ مِمَّا في الدُّنيا إلَّا الأسماءُ" ، وهو ما وجب فيه بَيَانٌ يزيد ، فثم الاشتراك في الأسماء ، وهي الدوال من الألفاظ ، وثم آخر في المعنى الذي يُجَرِّدُهُ الذهن ، فذلك المسمى المطلق في الوجدان بما اسْتَقَرَّ من عُرْفِ اللِّسَانِ ، فليس المسمى في الخارج المشهود ، فذلك محل النفي ، نفي التماثل أو التشابه في الحقائق ، وهو ما اصطلح بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أنها المتكافئ ، وهو الجامع بين الترادف والتغاير ، وليس ثم تعارض إذ الجهة قد انفكت ، فجهة الاقتران هي المعنى المجرد في الذهن ، وجهة الافتراق هي الحقيقة المقيدة في الخارج ، ولها وجود أخص يجاوز التجريد المحض في الذهن ، فَثَمَّ من الحقيقة في الخارج ما لا يُتَصَوَّرُ الاشتراك فيه ، وبه بطلان الوحدة والاتحاد بين الأعيان في الخارج إِذْ لا بد من قدر فارق ، وهو ما يجاوز الاشتراك في الجنس الدلالي المجرد في الذهن ، فلا وجود له في الخارج يجاوز ، فَثَمَّ معنى في الذهن يطلق ، وثم مادة في الخارج تقيد بما يكون من حقيقة أخص في الخارج ، وهو ما يَتَنَاوَلُ الأجناس الدلالية كَافَّةً ، ومبدؤها في النظر : الوجود ، فهو ، لو تدبر الناظر ، العام الذي لا أعم منه ، فَثَمَّ وجود يجرده الذهن ، وهو واحد لا بالعين ، وإنما بالجنس ، الجنس الدلالي المطلق ، وهو المطلق بشرط الإطلاق ، فلا يكون ثم في الخارج منه شيء إلا أن يُزَادَ فيه القيد ، القيد الذي يميز الأعيان في الخارج ، فيميز الأنواع والآحاد ، وإن كان ثم اشتراك في نَوْعٍ أدنى ، كما الحيوان أو الإنسان ، فلا بد من قدر فارق يميز الآحاد فِي الخارج ، ولو اتحدت فِي الجنس والنوع ، كما الإنسان ، فهو موجود جائز مبدأ النظر ، فامتاز من آخر وهو الواجب ، وذلك ما به قسمة في الوجود تَثْبُتُ ، وبها فُرْقَانٌ في الخارج يميز ، فَثَمَّ الواجب في حد ، والجائز في آخر ، والجائز منه أنواع تستغرق أعيان العالم المحدَث كافة ، فهو على أنواع تَتَمَايَزُ : السماوات والأرض والملك والجن والإنس .... إلخ ، وتحتَ كلٍّ من الآحاد ما يمتاز من غَيْرٍ ، وإن كان ثم اشتراك في الجنس الأعلى ، جنس الوجود المطلق ، والجنس الأدنى ، جنس الجائز ، بل وما تحته من أنواع ، كما الإنسان ، وتحته آخر يميز الذكر من الأنثى ، وبها زوجية في السَّبَبِيَّةِ ، فلا يستقل أحدهما بالفعل ، أن يكون ثم مولود في الخارج به حفظ النوع ، فَلَا يكون ذلك إلا من زَوْجِيَّةٍ تحكي الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وهو ما استوجب ضرورةً أولا لا أول قبله ، وإليه المنتهى في باب السببية ، فلا تُحْسَمُ إلا أن يكون ثم أول لا أول قَبْلَهُ ، وبه امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، فلا بد من صيرورتها إلى أول لا أول قبله ، وهو الواحد في الذات ، الأحد في الوصف ، فله من الوجوب وصف ذات لا يعلل ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج يوجِب ، وهو الموجِب بعدا : وصف فعل له من النوع أولٌّ يَقْدُمُ ، وثم من آحاده بَعْدًا ما يحدث ، وبه الترجيح في مقدور أول ، وهو من علم محيط قد استغرق ، فذلك وجود يثبت ، لا وجود المخلوق المحدَث ، فليس شيء منه يَقْدُمُ ، فإن وصف القدم المطلق ، وهو ما ذكره الوحي أوليَّةً تُطْلَقُ ، فإن ذلك الوصف مما تمتنع فيه الشركة ، وإفراد الخالق الأول ، جل وعلا ، به ، حتم لازم ، وإلا كَانَ الشرك الحادث ، أَنْ يُقْرَنَ به أحد من خلقه ، فتكون التسوية بين أعظم مختلفين ، الخالق الواجب الأول وهو المحدِث الأول بما كان من وصف فعل ، والمخلوق الجائز وهو المحدَث ، وذلك الشرك الذي نَشَأ َفي كل جيل من قياس يَفْسَدُ ، إذ يسوي بين المختلفين ، من وجه ، ويقيس الغائب على الشاهد ، من آخر ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما جاوز الوجود في الخارج ، فَثَمَّ من التسوية ما عَمَّ أفعال الربوبية تكوينا ، وآخر قد تناول أحكام الألوهية تشريعا ، فَقِيسَ الغائب من أول له من العلم ما أحاط فاستغرق ، قِيسَ على المخلوق المحدَث ، والأصل فيه جهلٌ قَبْلَ العلم ، بل وعدم قبل الوجود ، فلم يَكُ شَيْئًا قبل الخلق ، وهو ما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ من الاستفهام في الآي المحكم : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) ، فتقديره : التحقيق ، فقد أتى على الإنسان ذلك الحين ، والاستفهام في هذا الموضع آكد في تقرير المعنى ، إذ يستنطق الإنسان الذي ينكر ويجحد ، فـ : (يَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) ، فَثَمَّ من قياس الأولى في هذا السياق ما ينصح ، فإن من خلق أولا فهو على الإعادة أقدر ، وكل على الخالق ، جل وعلا ، هين ، فلا يعجزه من ذلك شيء ، فكان من الاستفهام ما يحكي الدلالة الخبرية ، من وجه ، وأخرى هي التقريرية التي تلجئ الخصم أن يقر بما جحد من البعث والنشور ، فاستدل على الخلق الأول بما يكون بعدا من الإعادة وهي أهون ، فـ : (هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وتلك ، كما يقول أهل الشأن ، أفعلُ تَفْضِيلٍ قد نُزِعَتْ دلالتها ، فكلٌّ ، كما تقدم ، هَيِّنٌ على الرب المهيمن ، جل وعلا ، فكان من هذا المخلوق المحدَث : عدم أول قَبْلَ وجودٍ في الخارج يصدق ، وإن كان ثم وجود يثبت ، فهو وجود في علم أول يقدر ، وذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، لا المخلوق الحادث ، فَثَمَّ نَقْصُ ضرورةٍ في المخلوق المحدَث ، فالمبدأ عدم قبل الوجود ، فلم يكن إلا الشيء المذكور في علم التقدير الأول ، وما سُطِرَ بعدا في لوح تقدير قد أحكم ، فلا ينفك المقدور الجائز من هذا المخلوق الحادث ، إن الإنسان أو غيره من هذا العالم المحدَث ، فإن المعنى يَصْدُقُ في أعيانِه كَافَّةً ، فذكر الإنسان ، من هذا الوجه ، يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام قد تَنَاوَلَ المخلوقات المحدثات من هذا العالم ، وإنما اختص الإنسان بالذكر أن كان وحده المكلَّف ، فتحمل من الأمانة ما لم يحمل غير ، فـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) .
والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
لا جرم كان من السياق ما تناول أطوار خَلْقِهِ دون غير ، فـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، وثم من جُمَلِ التوكيد القياسية ما يَرْفِدُ ، فكان من ذلك أول هو الناسخ "إِنَّ" ، وهو أم الباب الذي يَقْدُمُ غَيْرًا ، فله من ذلك صدارة تُطْلَقُ ، فكان من هذا السياق ما يُصَدِّقُ ، إذ بالناسخ قد صُدِّرَ ، وثم من اسمية الجملة ما يحكي الثبوت والاستمرار ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : نحن خلقنا الإنسان من نطفة ، وذلك مما حُدَّ حَدَّ الجمع في الضمير في "إِنَّا" و "خَلَقْنَا" ، فتلك "نَا" الدالة على الجمع المتكلم ، وله من معنى الإسناد ما يثبت ، فضمير الجمع المقدر بعد تجريده من الناسخ في : نحن خلقنا الإنسان ، هو المبتدأ المسند إليه ، وكذا عامل الخلق قد أُسْنِدَ إلى ضمير الجمع في "خَلَقْنَا" ، وهو حكاية التعظيم في الوصف ، مع آخر يحكي التعدد ، لا تعدد الموصوف فهو واحد ، فليس إلا الرب الخالق ، جل وعلا ، فَثَمَّ واحدية الذات ، وليس بها اسمٌ التوحيد في النبوات يَنْصَحُ حتى تُشْفَعَ بِتَالٍ من أحدية الوصف ، فَثَمَّ من المعنى مدلول يجرده الذهن ، كما الذات المجردة من الوصف ، وكذا الصفات فهي حال التجريد : أجناس دلالية مجردة في الوجدان ، فلا وجود لها في الخارج يصدق إلا أن يكون ثم من الذات ما يُقَيِّدُ ، فالمعنى يقوم بها قِيَامَ الوصفِ بالموصوف ، فذلك قيد يميز كُلًّا ، فَثَمَّ وصف يميز الذات الموصوفة في الخارج ، فإنها المطلق بشرط الإطلاق ، ولا وجود له في الخارج إلا أن يكون ثم قَيْدٌ يَمِيزُ ، فكان من الوصف ما قام بالذات ، فهو قدر يزيد ، من وجه ، وبهما : الذات والوصف ، بهما تحصل الحقيقة في الخارج ، فامتازت من غَيْرٍ ، وثم من مقدمات الضرورة العلمية ما يُوجِبُ الكمال المطلق ، إِنْ فِي الذاتِ أو في الاسمِ أو في الوصفِ أو في الفعلِ أو في الحكمِ ، ثم من المقدمات ما يوجب ذلك في حَقِّ الرَّبِّ الخالق ، جل وعلا ، فحصل من ذلك ما امْتَازَ به واحد في الخارج من غير ، فلا أول له من وصف الأولية ما يُطْلَقُ ، وله من الذات والاسم والوصف والفعل والحكم يَكْمُلُ ، لا أول ذلك وصفه إلا واحد ، وهو الرَّبُّ الخالقُ ، جل وعلا ، فَامْتَازَ مِنْ غَيْرٍ ، فهو واجب الوجود لذاته ، فلا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ يُوجِدُ أو آخر يُكْمِلُ ، بل كل ما سواه فهو إليه يفتقر في الإيجاد والإعداد والإمداد بالأسباب على سَنَنٍ من الإتقانِ والحكمةِ ، إتقانِ الخلقِ تَقْدِيرًا أول وَتَالٍ من الإيجاد يُصَدِّقُ ، وإحكامِ السَّنَنِ الذي عليه الأفعال تجري ، فذلك التدبير المحكم ، فكل ما سوى الخالق الأول ، جل وعلا ، فَهُوَ الجائز المحدَث الذي يطلب من خارجٍ المرجِّحَ ، وبه يكون من الوجوب تال لم يكن ، فيصير الجائزُ : واجبًا لغيره ، فَثَمَّ الترجيح بالمرجِّح من خارج ، وذلك قياس العقل المحكم ، ألا يكون ثم تحكم في الحكم ، فيكون الترجيح بلا مرجِّح ، فَثَمَّ المرجِّح من خارج ، وهو ما يَنْتَهِي ضرورةً إلى أول هو الرب الخالق ، جل وعلا ، فَلَهُ من الوجودِ مَا امْتَازَ من غيرٍ ، فَهُوَ الواجب لذاته ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى سَبَبٍ من خارجٍ ، فَحَصَلَ من ذلك فرقان يميز : الواجب من الجائز ، وثم من معنى الكمال المطلق الذي يَقُومُ بذاتِ الخالقِ الأوَّلِ ، جل وعلا ، ثم منه ما يميزه من غَيْرٍ من هذا الوجود المحدَث ، فالقسمة أبدا تَنْتَهِي إلى : الواجب والجائز ، وثم من الحد ما يميز ، فوصف الكمال المطلق لا يكون إلا لواحد وهو الخالق المهيمن ، جل وعلا ، وإن حصل الاشتراك ، فهو الاشتراك في الأجناس الدلالية المجردة ، كما الوجود ، فَهُوَ جِنْسٌ عام يجرده الذهن ، وله في الخارج آحادٌ تُصَدِّقُ ، فَثَمَّ الواجب في حَدٍّ ، والجائز في آخر ، وليس اشتراكهما في الجنس الدلالي المجرد يَقْضِي بآخر من الاشتراك في الحقيقة المقيدة في الخارج ، بَلْ لِكُلٍّ من الحقيقة ما يُوَاطِئُ ، فقانون الحكمة في الإسناد ، أَنْ يُسْنَدَ الكمالُ المطلق إلى ذات وجودها واجب في الأزل ، فَلَهَا من الأولية ما يُطْلَقُ ، فلا تَفْتَقِرُ إلى غَيْرٍ يَسْبِقُ ، فَحَصَلَ لها من الوجود : وجود واجب كامل ، وهو ما يواطئه في الحكم : وصف كمال مطلق يقوم بالذات الكاملة ، فذلك حد ، وما سواها من الذوات فلا يخلو من نَقْصٍ ، ولو الافتقارَ الذَّاتِيَّ الذي لا يُعَلَّلُ إلى أول يُرَجِّحُ ، فيوجِدها بعد عدم ، فلم يكن في الأزل إلا واحد ، وهو ما به حسم المادة الممتنعة في الذهن : التسلسل في المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ من الذوات أخرى لها من الوصف ما يُوَاطِئُهَا ، وذلك ، كما تقدم ، قانون الحكمة في الإسناد ، أَنْ يُسْنَدَ الكمالُ المطلق إلى الكامل المطلق ، وأن يسند الكمال المقيد إلى الكامل المقيد ، كما تكريم الإنسان وتفضيله ، ومنه أول قد تناول أفراد الجنس كافة ، ومنه آخر أخص ، قد تناول المؤمن دون غير ، فَثَمَّ من رِفْعَةِ الدرجة ما اختص به المؤمن ومن أوتي العلم ، فـ : (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) ، وَكَذَا يُقَالُ فِي النَّقْضِ المطلق ، فَقَانُونُ الحكمة في الإسناد قَاضٍ أَنْ يُسْنَدَ إلى الناقص ، فَلِكُلٍّ من الوصف ما يواطئ الذات التي يقوم بها ، وثم منه قيد يميز ، فهو الحد الذي يَثْبُتُ ضرورةً بَيْنَ الحقائقِ في الخارجِ كَافَّةً ، فَثَمَّ وصف أخص يميزُ كُلَّ ذاتٍ من غَيْرٍ ، فمعنى الذات إذا جُرِّدَ في الذهن ، فهو الجنس الدلالي المطلق الذي لا وجود له في الخارج يُصَدِّقُ ، إلا أن يكون من القيد ما يميز ، فيكون من الوصف ما يُوَاطِئُ حقيقة الموصوف ، على التَّفْصِيلِ آنفِ الذِّكْرِ ، وَكَذَا الذات تُقَيِّدُ الأجناس الدلالية المجردة من الصفات ، فهي عمومات لا أَعَمَّ مِنْهَا فِي بابِها ، كما الحياة والعلم والحكمة والقدرة ..... إلخ ، فَلَهَا أَوَّلٌ في الذهنِ يَثْبُتُ ، وليس يجاوز حد التصور ، فلا ينفك يطلب القيد من خارج ، ليكون له من الحكم ما يصدق ، فَثَمَّ العام الذي لا أعم منه في جنس الحياة مثالا ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ القيدَ الذي يميز حقيقة هذه الحياة ، وهو ما يحصل بالإسناد أو النسبة إلى الموصوف بها ، فالخالق ، جل وعلا ، حَيٌّ ، والمخلوق حَيٌّ ، فحصل الاشتراك في الجنس الدلالي المجرد ، وحصل الافتراق في الحقيقة المقيدة في الخارج ، فالحياة إذا أُضِيفَتْ إلى الله ، جل وعلا ، فَلَهَا من الوصف الأخص : الكمال المطلق ، وإذا أُضِيفَتْ إلى المخلوق ، فَلَهَا آخر أخص ، فلا تخلو من وجهِ نَقْصٍ ، ولو الافتقارَ إلى موجِد أول ، فهي حياة مسبوقة بالعدم ، وهي بَعْدُ مَلْحُوقَةٌ بالفناء ، مع ما يَعْرِضُ لها مِنْ نَقْصٍ يَطْرَأُ ، المرض وعوارض الجبلة من الجوع والعطش والنصب والنوم والمرض والهرم والخرف والعجز والكسل ...... إلخ ، فَثَمَّ من القيد ما تَقَدَّمَ ، قَيْدُ الإسناد إلى الخالق الأول ، جل وعلا ، تارة ، والإسناد إلى المخلوق المحدَث أخرى ، وكان من ذلك ما تقدم من اسمية الجملة في قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، فالتقدير المجرد قبل دخول الناسخ المؤكد : نحن خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، والجمع دليل التعظيم من وجه ، ودليل التكثير من آخر ، تكثير الوصف الذي يقوم بالموصوف الواحد ، فإن الخلق مما يَصْدُقُ فيه ، أيضا ، الجنس المطلق في الذهن ، عاما لا أعم منه ، ولا ينفك يدل على معان يصدق فيها جميعا اسم الخلق ، وَإِنْ تَفَاوَتَ في الحقيقة والحد ، فَثَمَّ خلق التقدير الأول ، وهو ما ثَبَتَ في علمِ إحاطةٍ يَسْتَغْرِقُ ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، محلُّ خصومةٍ قد استحكمت لدى كُلِّ جاحدٍ وَمُنْكِرٍ ، فَلَوِ استقرأ الناظر في الأديان والمذاهب مقالاتِ الأمم في هذا الباب : باب التقدير ولا يكون إلا بعلم أول يحيط ، لو استقرأها فلا ينفك يجد الإجماع في المقالات المبدَّلة وأخرى هي المحدثة ، لا ينفك يجد الإجماع أن الخالق لَا يَعْلَمُ ، أو أنه يَعْلَمُ ، ولكنه علمَه ليس التام الذي يَسْتَغْرِقُ ، فَيَعْلَمُ الكليات المجملة دون الجزئيات المفصلة ، أو يَعْلَمُ الشيءَ بعد وقوعه ، فلا يعلمه مبدأَ التقديرِ ، فكان من ذلك بداء بعد خفاء ! ، كما أفحشت يَهُودُ في حقِّ الخالقِ ، جل وعلا ، فكان من خَلْقِهِ الإنسانَ ما لم يعلم عَوَاقِبَهُ ، فَبَكَى مما رأى من شَرِّ الإنسان حتى رمدت عيناه ! ، فأنكروا علم التقدير الأول ، وهو ما الْتَزَمَ بَعْدُ غلاةُ القدريةِ ، فَلَهُمْ في الباب : نسبة يهودية ، كما التعطيل له نسبة إليهم تَتَّصِلُ ، فكان من وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، بأوصاف نقص مطلق ، النصب بعد الخلق ، فاستراح في السبت ، والفقر ، وغل اليد .... إلخ ، كان من ذلك ما يعدل التعطيل ، فإن وصف الموصوف بالنقص يَلْزَمُ منه ضرورة تجريده من ضد ، وهو وصف الكمال ، لا جرم اشترط في باب الاسم والوصف ، في نصوص النفي ، كما في قوله : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، اشترط فيها تال يرفد ، فلا يجتزئ في الباب بِالنَّفْيِ المطلَقِ ، بل ثم شطر تال يَلْزَمُ ، وهو إثباتُ كمالِ الضدِّ ، فإن وصف النقص كما الظلم ، له ضد من الكمال ، وهو العدل في هذا المثال ، فلا يجتزئ الناظر أَنْ يَنْفِيَ وصف الظلم ، بل يثبت ضدا وهو العدل ، بل وكمال الضد ، كمال العدل , وَعَلَى هذا فَقِسْ في نُصُوصِ النَّفْيِ كَافَّةً ، وهي في الباب استثناء من أصل أول يثبت ، أصل الإثباتِ لكمالٍ أول هو المطلق ، فلم يُسْبَقْ بالعدمِ أو بالنَّقْصِ ، إذ له وصف الوجوب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَثَمَّ إثباتٌ لكمالٍ مطلَقٍ ، وهو ما استوجب في القياس المصرح : نَفْيَ ضِدٍّ من النَّقْصِ ، وثم نَفْيٌ لِلنَّقْصِ ، وهو ما استوجب في القياس المصرح : إثباتًا لكمالِ الضدِّ ، فَثَمَّ من خصومةِ المذاهبِ المحدَثةِ لوصف العلم الأول المحيط ، ثم من ذلك ما استوجب نظرا أخص يُحَرِّرُ محلَّ الاشتراك على هذا القدر ، فَكُلُّهَا يجفو الخالق الأول ، ولا ينفك ذلك ، لو تدبر الناظر ، يقرنه آخر من الغلو في الإنسان المحدَث ، فهو يظلم ويطغى بما حصل له من السبب ، ومنه سبب العلم بالظاهر بما حَدَثَ له من وسائل ، فكان من ذلك فَرَحُ البطرِ والأشرِ ، فـ : (لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، وهو ما لم يجاوز الظاهر المدرَك بالحسِّ ، مع آخر قد تحكم في الحد ، أَنْ قَصَرَ العلمَ المعتبَرَ على ما يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، فما جاوزه فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، فهو العدم ! ، تحكما آخر في الاستدلال يحكي العجب بالرأي والطغيان في الحكم ، أَنَّ ما لم يدركه الناظر بحواسِّه المحدَثة ، فَلَيْسَ بموجودٍ في الخارج ابتداء ، فعدم الوجدان بالحس المحدَث يَلْزَمُ منه عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ! ، وإن بَدَا له بَعْدًا ما لم يكن يَعْلَمُ ، فذلك دليل جهلٍ بموجود في هذا العالم ، لم يكن يعلمه ثم حصل له من العلم به ما يَرْفَعُ الجهل الأول ، فَلَمْ يَكُنِ الجهلُ دَلِيلًا يَنْفِي ، بل كان المغيَّب النسبي من هذا العالم ، كان موجودا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَهُ الناظر بما طَرَأَ من آلةٍ تَكْشِفُ ، فلم يكن عجز الحس أن يَتَنَاوَلَهُ بقواه المحدودة ، لم يكن ذلك دليلا على العدم في نفس الأمر ، ولم يكن حجة على من عَلِمَ ، بل من عَلِمَ فهو حجة على من جَهِلَ ، والعلم يحصل بِطُرُقٍ وَمَسَالِكَ في الخارج ، فليس الحس إلا أحدها ، سواء أكان المجرد أم آخر بآلة البحث والتجريب قَدْ عُضِّدَ ، فَثَمَّ من دليل الفطرة أول يُلْجِئُ ، وثم من العقل مقدماتُ ضرورةٍ تَنْصَحُ ، وثم من الخبر من خارج ما يَرْفِدُ العقل بما جاوز مَدَارِكَ الحسِّ المحدَث ، ولو في الغيب النسبي من هذا العالم المحدَث ، فخاصة العقل المكلَّف أَنْ يُدْرِكَ ما جاوز العالم المشهود المدرك بالحسِّ المحدَث ، ولو لم يَسْتَقِلَّ بالإثباتِ ، فَلَهُ حكمٌ يَتَرَاوَحُ ، فَثَمَّ الواجب ، كما واجب الوجود الأول ، الخالق المهيمن الذي إليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، فهو الواحدُ في الذات فلا ند ولا نظير ، الأحدُ في الصفات فلا مَثِيلَ ولا شَبِيهَ ، وإن كان ثم اشتراك ، وهو ما يَصْدُقُ فيه من وجه أنه تَشَابُهٌ وإن كان من ذلك إجمالٌ فِي النُّطْقِ يَطْلُبُ بَيَانًا أخص ، فإن كان ثم اشتراك وهو التشابه في المعنى ، فلا يجاوز الجنس الدلالي المجرَّد في الذهن ، وليس يَلْزَمُ منه آخر في الخارج ، أن يكون ثم تماثل أو تشابه في الحقائق المقيدة خارج الذهن فضلا أن يكون ثم حلول أو اتحاد ، وذلك في القياس أبطل ، وفي المقال أفحش ، إذ يجحد الضروري المحكم أن ثَمَّ من الآحاد في الخارج ما وجودُه يَسْتَقِلُّ من آخر ، وإن كان ثم اشتراك يجاوز الجنس الدلالي الأول إلى تَالٍ مِنَ النَّوْعِ ، فَثَمَّ من آحادِ الموجودات المحدَثات في الخارج ما يشترك في جنس أدنى أو نوع أخص ، كما الأسد والإنسان ، فكلاهما يصدق فيه اسم الموجود في الخارج ، فثم اشتراك في جنس الوجود ، وثم آخر ، فكلاهما الجائز لا الواجب ، فلا ينفك يطلب المرجِّح الموجِب من خارج ، وثم ثالث فكلاهما من نوع الحيوان الحي الحساس المتحرك بالإرادة ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ تَفَاوُتٌ في الإرادة فهي تَصْدُرُ عن أوَّلٍ من التصور والعلم ، وعلم الإنسان بداهة أكمل من علم الحيوان البهيم الذي أعجم في النطق ، وليس له من العلم والإرادة ما يجاوز مدارِكَ الحس الظاهر ، فحصل الاشتراك في هذه الدرجات من القسمة ، وحصل الافتراق ضرورةً في الخارج ، فحقيقة الإنسان قد امتازت من حقيقة الأسد ، بل آحاد من حقيقة الإنسان تمتاز في الخارج ، والاشتراك بَيْنَهَا يَزِيدُ ، فهي تشترك في نوع الإنسان ، وتشترك في آخر أخص ، في نَوْعِ الذَّكَرِ ، وهو ما يصدق في زيد وعمرو ، فحصل الاشتراك في درجات تَكْثُرُ ، ولم يكن ثم اتحاد أو وحدة ، بل ثم ضرورةً من الْقَيْدِ ما يميز الحقائق في الخارج ، وإن بلغت ما بلغت من الاشتراك في التصنيف ، والتشابه في الحقيقة في الخارج ، ولو التوأَم الذي يتماثل ، فَثَمَّ من وجودِ كُلٍّ في الخارج ما يغاير وجود الآخر ، وذلك معلوم ضروري يمهد به القياس المصرح أن يميز أجزاء القسمة في الخارج : قسمة الوجود المجرد في الذهن ، فلا وجود له في الخارج بشرط الإطلاق والتجريد ، كما اقترحت الحكمة المحدَثة ومذاهب أخرى قد غَلَتْ في التعطيل ، حتى انْتَهَى بها إلى النفي العام ، فلم تُثْبِتْ إلا العدم ! ، فلا وجود له في الخارج يصدق ، فأدنى الموجودات في الخارج أكمل منه ، إذ لها من الوجود بالفعل ما يجاوز التجريد والإطلاق في الذهن ، وكان من المخالفة لصريح العقل ما يفجع ، أن يكون هذا الخلق المتقن المحكم عن عدم أول يصدر ! ، فيكون العدم هو الخالق ، وهو ما لا يصدق ، ولو في خَلْقٍ مَعِيبٍ شَائِهٍ ، فكيف بخلق هذا العالم المتقَن المحكَم ، فلا يصدق فيه هذا المحال الممتنع لذاته من باب أولى ، أن يكون العدم هو الخالق ، فما أُثْبِتَ في مقال الحكمة الأولى وما تلا من مذاهب التعطيل المحدثة ، فَمَا أُثْبِتَ من وصف الأول فيها هو ، نصا أو لَازِمَ قَوْلٍ يُلْجِئُ ، هو العدم ، فليس ثم في الخارج مطلق بشرط الإطلاق ، فلا يكون ثَمَّ في الخارج إلا المقيَّد بذاتٍ يقوم بها المعنى ، فيكون من الحقيقة ما يجاوز التجريد المحض في الذهن ، وهو ما يعالجه الحس مثالا في الشهادة من أعيان في الخارج يصدق فيها جميعا اسم الوجود الأعلى الذي يجرده الذهن ، وهي ، مع ذلك ، مما امتاز في الخارج ، فَلِكُلٍّ من الوجود ما يُغَايِرُ وجود الآخر ، وإن اشتركا في الجنس الدلالي المجرد ، فكان من ذلك جهة تَنْفَكُّ ، فجهة الاشتراك هي المعنى المجرد في الذهن ، وجهة الافتراق هي ما زاد من الحقيقة المقيدة في الخارج ، وذلك وجدانُ ضرورةٍ في الحس يَرْفِدُ ما استقر بداهة في العقل أن ثم قسمة في الخارج لها أولا من الجنس الدلالي الثابت : جنس الوجود المجرد ، فَثَمَّ الواجب في حد ، وثم الجائز في آخر ، وثم ثالث وهو المحال الممتنِعُ لذاته .
ومن الجائز : هذا العالم المحدَث بعد أن لم يكن ، وآية ذلك ما يعالج الحس والنظر من آحاد منه توجد بعد عدم ، فليست القديمة في الأزل ، وإن كان من الْقِدَمِ ما يصدق في وصفها ، فهو قِدَمُ تَقْدِيرِهَا ، لَا قِدَمُ أعيانها ، فتقديرها من علم أول قد أحاط فاستغرق وجوه القسمة كافة ، الواجب ، وهو ما انتهى إليه القياس ضرورةً حسما لمادة التسلسل في المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ من العلم الأول ما أحاط فاستغرق ، فلا يعلم ذات الخالق ، جل وعلا ، ووصفه ، العلم التام المحيط الذي تناول المعاني والحقائق في الخارج ، لا يعلم ذلك إلا هو ، فـ : "لا أُحصي ثناءً علَيكَ أنتَ كما أثنَيتَ علَى نفسِك" ، فلا يعلم الخلق من ذلك إلا ما قد عُلِّمُوا ، وذلك من الغيب المطلق ، فهو مما جاوز العقل والحس المحدَث ، وإن كان العقل يُثْبِتُ منه بَعْضًا يُلْجِئُ ، فَثَمَّ من الحياة ما ثَبَتَ ضرورةً ، وهي أصل الصفات كافة ، وثم العلم المحيط المستغرِق ، وبه التقدير الأول في العدم إذ لم يكن ثم شيء من هذا العالم مذكورا ، وإن كان في الأزل مقدورا ، وثم من الحكمة وصفٌ أخص وآية ذلك ما يعالج الحس من الإتقان والإحكام في هذا العالم ، أعيانِه وَسَنَنِهِ الذي عليه يَجْرِي ، وَثَمَّ الإرادة الَّتِي تُرَجِّحُ ، فلا يكون الخالق إلا قديرا يخرج المقدور من العدم إلى وجودٍ تالٍ يصدِّق ، فكل أولئك مما يدل عليه العقل ضرورةً ، ولو المجمَل ، فلا ينفك يطلب من الوحي دليلاً يُفَصِّلُ ، فكل أولئك من وصف الأول الذي لا أول قبله ، حسما لما تقدم من مادة التسلسل ، أن يَنْتَهِيَ هذا العالم المحدَث إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، مع آخر يزيد بما يُعَالج الحسُّ من آيِ الإتقانِ والإحكامِ ، فلا يكون ذلك ضرورةً إلا عن عِلْمٍ أول قد أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، فجاوز العلم الكلي المجمل ، وإرادةٍ بَعْدًا تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، فهي تخرجُ المقدورَ من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، الوجود بالفعل ، فَثَمَّ أول من وجود القوة : تقديرا في العلم الأول الذي أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، والعقل ، مع ما تَقَدَّمَ من أدلة الضرورة التي تجري مجرى المقدمات في الاستدلال والجدال ، العقل ، مع ما تقدم ، لا ينفك يوصف أنه المجمل ، فهو يطلب من الدليل أَخَصَّ ، وبه التفصيل في بابِ غَيْبٍ ، ولو كان النسبي في هذا العالم المحدَث فلا يَسْتَقِلُّ بِدَرَكِهِ حتى يكون ثم خبر من خارج يُثْبِتُ ، فكيف بما جاوز من الغيب المطلق ، فحاجته إلى المرجع من خارج آكد ، فَثَمَّ من ذلك وحي قد جاوز العقل والحس ، فَرَفَدَهُ بمادة من الخبر والحكم تُصَدِّقُ فطرةً أولى في الوجدان تَثْبُتُ ، وتُفَصِّلُ ما أجمل منها ، وهي ثالثا تُقَوِّمُ ما اعْوَجَّ منها بما طرأ من تَعْطِيلٍ وشركٍ ، وأصله ، لو تدبر الناظر ، القياس مع الفارق ، ، أَنْ يُقَاسَ الغائبُ على الشاهدِ ، وَأَنْ يُقْصَرَ الاستدلال على مدارك الحس ، فلا يكون علم إلا ما يدرك بها ، وذلك ، كما تقدم ، التحكم في تحجير الواسع ، أن يكون عدم الوجدان بالحس ، وهو أدنى المراتب في باب العلم ، أن يكون عدم الوجدان بالحس دليلا على عدمِ الوجودِ بالفعلِ ، فتبطل خاصة العقل المكلَّف ، أَنْ يُؤْمِنَ بالغيبِ الذي يجاوز ، وَإِنِ افْتَقَرَ بَعْدًا إلى دليل من خارج يُوجِبُ وَيُثْبِتُ ، فخاصَّةُ العقلِ المكلَّف أَنْ يُؤْمِنَ بالغيب ، ولو إيمان الجنس الأعم تجويزا في العقل هو المحض ، فلا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ من الدليل المثبِت أخص ، وهو ما لا يكون إلا بِخَبَرٍ من خارج يجاوز ، وليس ثم في الغيب المطلق ، كما قصة هذا الخلق المحدَث ، وكما وصف الخالق الأول ، ليس ثم في ذلك دليلٌ يُثْبِتُ ، إلا دليلُ الوحيِ الذي يجاوز العقل والحس ، فلا يأتي بالمحال الممتنع لذاته ، وإنما يأتي بالمحار الذي لا يدرك العقل والحس حقيقته في الخارج ، وَإِلَّا انْقَلَبَ شهادةً ، ولاستوت فيه الخلائق كَافَّةً ، مَا نَطَقَ وَمَا أَعْجَمَ ، فالشهادة محلُّ اشتراكٍ بَيْنَ العقولِ كَافَّةً ، وإنما امتاز العقل المكلف بما جاوز من إيمانٍ بالغيب المطلق الذي لا يُدْرَكُ بالحسِّ في مواضع التجريب والبحث ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مما ألزم به صاحب الشرع الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم قومه ، فلجأ إلى المسلك الشحصي الذي عَلِمَتْهُ قريشٌ ضرورةً من حَالِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، فَمَا عهدوا منه الكذب ، بل له من الوصف ضِدٌّ قَدْ صَارَ فيه الْعَلَمَ ، فهو الصادق الأمين ، فَأَلْزَمَهُمْ فِي بابِ الخبرِ : "أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟" ، فقد صدَّقوه فيما يخبر ، ولو غَيْبًا لا يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، وإن كان النسبي لا المطلق ، فقد استدل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالجنس المعنوي المجرَّد ، جنس الغيب ، فَلَئِنْ صَدَّقُوهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ من الغيبِ النِّسْبِيِّ ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِيمَا يُخْبِرُ به من الغيب المطلق : "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" ، فاستدل بالجنس الدلالي المشترك ، التصديق بِخَبَرِ غَيْبٍ يجاوز مدارك الحسِّ المحدَث ، وهو بِذَا يَتَنَاوَلُ مِنْ حقيقةِ التكليفِ ، العقلَ الذي يجاوز عقل الحيوان البهيم ، فَلَا يُدْرِكُ مَا جَاوَزَ الحسَّ المحدَث ، فَثَمَّ من الغيبِ ضرورةٌ تُلْجِئُ كل عاقل يروم الامتياز من الحيوان الأعجم ، ثَمَّ من الغيب ضرورةٌ تُلْجِئُ أَنْ يُثْبِتَهَا العاقل ، وإلا سَامَ نَفْسَهُ اختيارا خطةَ الخسفِ ، فيستوي هو والحيوان الذي لا يجاوز إدراكه حواسه التي تعالج الحقائق المشهودة في الخارج ، وهو ما الْتَزَمَتْهُ مذاهِبُ محدَثة ، إِنْ فِي قِصَّةِ الخلق الأولى ، أو في مناهجِ بَحْثٍ لا تُعَالج مِنَ الإنسانِ إلا الجسد المدرَك بالحسِّ ، فَهُوَ الحقيقة التي تُفْرِدُهَا بالإثباتِ تَحَكُّمًا ، فَتُنْكِرُ مَا جَاوَزَهَا من حقيقةِ رُوحٍ تَلْطُفُ ، فَهِيَ مما يَثْبُتُ ضرورةً ، وإن لم يدرَك بالحسِّ ، فآثاره في الجسد تَدُلُّ ضرورةً على المؤثِّر ، فالتجريب والبحث لَا يَنْفَكُّ يَبْلُغُ من الشهادة السقفَ ، فَيَطْلُبُ مَا يُجَاوِزُ من السبب ، فالشهادة لا تحسم التسلسل في المؤثرين ، فلا بد من غيب يجاوزها ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ ، أَيْضًا ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى أول لا أول قَبْلَهُ ، فجحدت مذاهبُ في البحث والتجريب محدَثة ، جَحَدَتْ هَذَا المعلوم الضروري إذ يَلْزَمُهَا وقد أعياها الحس أَنْ تُفَسِّرَ ظواهرَ في هذا العالم المحدَث ، ولو مَادِيَّةً ، فَلَا تَنْفَكُّ فِي بابِ التسلسل تَبْلُغُ السقفَ الذي لا تجاوِزُه بما حُدَّ من المدارك فلا يُطِيقُ ما جاوز الشهادة مِنْ سَبَبِ غَيْبٍ يَسْبِقُ ، فَيَلْزَمُهَا وقد جحدت هذا السبب المغيَّب ، يَلْزَمُهَا أن يكون الترجيح في الخارج بلا مرجِّح ، فَقَدْ حَصَلَ الخلقُ مِنْ عَدَمٍ أول ، فهي تجحد في الإلهيات الخالق الأول ، وَإِنْ أَثْبَتَتْ من ذلك شَيْئًا ، فإثباتٌ كَلَا إثباتٍ ، فذلك المطلق بشرط الإطلاق وهو في الخارج العدم ، على تَفْصِيلٍ تَقَدَّمَ ، ثم كان هذا التَّنَوُّعُ في الخلقِ ، والتغاير في الوصف ، والاختلاف في السنن ، كَانَ كُلُّ أولئك بلا مرجِّح من خارج ، إرادةً تُخَصِّصُ وهي لما كان من علم أول تُؤَوِّلُ ، أَنْ تُخْرِجَهُ من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فيكون من علم التقدير ، أيضا ، ما يَتَفَاوَتُ ، وله من الاستغراق ما تَنَاوَلَ ، فَجَاوَزَ الكليَّ المجملَ ، بل ثم من العلم الأول ما تَنَاوَلَ الواجب الأول ، الخالق المهيمن ، جل وعلا ، وذلك باب من الإلهيات يصدق فيه وصف الغيب المطلق ، فلا يثبت إلا بخبر من خارج يجاوز ، خبر الوحي الذي قَصَّ من الغيب ما عم ، الواجب من باب الإلهيات ، على التفصيل آنف الذكر ، والجائز من قصة الخلق الأولى ، وغيوب أخرى لا تدرك بالحس ، وإن صدق فيها اسم الغيب ، بل والمطلق منه ، فإن الغيب ، كما سائر الأجناس الدلالية المجردة في الذهن ، له في الخارج قسمة أخص تَتَنَاوَلُ آحادًا منه تَتَعَدَّدُ ، فَيَصْدُقُ فِي بَعْضٍ أنه النسبي كما غيوبٌ في هذا العالم المحدَث قد صارت بَعْدُ شهادةً بما كان من آلةِ تجريبٍ وبحثٍ تَكْشِفُ ، ويصدق في آخر أنه المطلق فَهُوَ ما يجاوز المدارك كَافَّةً ، ومن المطلق ما يَصْدُقُ فيه أنه مخلوقٌ محدَث ، كما الروح ، ومنه ما يصدق فيه أنه الواجب ، واجب الوجود لذاته ، الخالق الأول ، جل وعلا ، فلا يدرك ، من باب أولى ، إلا بخبر من الوحي أخص ، وإن كان ثم أول يثبت من ضَرُورِيِّ العقل بما تقدم من امتناع التسلسل في المؤثرين أزلا . فَحَصَلَ من العلم الأول ما أحاط بالواجب والجائز ، بل والممتنع لذاته ، ولو الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، وثم من ذلك العلم ما يصدق فيه أنه الخلق ، كما في الآي آنف الذكر : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، فَمِنْ عَامِلِ الخلق ما أُطْلِقَ ، وهو الجنس الدلالي الجامع ، فتحته أنواع وآحاد ، فمن الخلق : خلق تقدير أول ، وذلك مما يدخل في حد العلم ، العلم المحيط المستغرق ، فالمخلوق المقدَّر فيه يَثْبُتُ ، لا ثبوت عين في الخارج تقدم ، وإنما ثبوت التقدير في الأزل ، فذلك خلق أول يثبت في العلم المحيط المستغرق ، وَثَمَّ آخر من سَطْرٍ في لوح التقدير ، وثم ثالث يصدق فهو التأويل : خلق الإيجاد ، فهو دليل في الخارج على أول من علم التقدير الجامع ، فَثَمَّ من الخلق بكلمات التكوين ما يصدق أولا من التقدير ، فهو يخرج المقدور من العدم إلى وجودٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، ويكون ثَمَّ بَعْدُ من علم الإحصاء ، علم الظهور والانكشاف ، يكون من ذلك تأويل آخر يُصَدِّقُ ما كان من علم التقدير الأول ، فَحَصَلَ من اسمِ الخلق في الآية ما عم إذ أُطْلِقَ في لَفْظِهِ ، فَهُوَ جِنْسٌ دلالي مجرَّد ، وله في الدلالة آحاد تَخْتَلِفُ ، فَثَمَّ خلق التقدير ، وثم تال من التكوين ، وثم ثالث من التدبير ، وبها اسمُ الرُّبُوبِيَّةِ يَنْصَحُ شطرًا أول من التوحيد يَثْبُتُ ، وله من اللازم ما اطَّرَدَ فِي آيِ الوحي كَافَّةً ، أن يكون ثَمَّ تَوْحِيدُ ألوهيةٍ يُصَدِّقُ ، وهو ما يُوَاطِئُ قِيَاسَ العقل المصرح ، فإن من آمن بالله رَبًّا يخلق ويدبر ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُؤْمِنَ به إِلَهًا يُشَرِّعُ وَيَحْكُمُ ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بعلمٍ محيطٍ قد اسْتَغْرَقَ ، لا جرم كانت عناية الحصوم أن يَتَنَاوَلُوا وصف العلم المحيط بما يَقْدَحُ ، إذ يَلْزَمُهُمْ مِنْ إثباتِه ما يجاوز التصور المجرَّد إلى آخر في الخارج يأطر على جادة من الأحكام تُلْزِمُ ، وهي مما يَكْرَهُ الملوك والمترفون ، فأولئك خصوم النبوات في كلِّ جيلٍ ، وإن خالفوا عن قياس العقل الصريح ، فأثبتوا الملزوم من توحيد الربوبية ونفوا لازمه من توحيد الألوهية ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَنَجَمَ في الجيل المتأخر من طرد القياس ، فأنكر الرب وأنكر الإله ، وإن تَكَلَّفَ لأجل ذلك ما هو أفسد في النظر ، أن يكون من هذا الخلق المتقن المحكم خبط عشواء ، فلا علمَ يُقَدِّرُ ، ولا إرادةَ بَعْدُ تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، وإنما عِلَّةٌ تَفْعَلُ بالطبعِ ، قد جُرِّدَتْ مِنَ الوصفِ ، فذلك ما اقْتَرَحَتِ الحكمةِ الأولى ، وقد زادها الجيل المتأخر باطلًا على باطلِها ، فَصَرَّحَ بما لم تصرح ، ولم يلجأ إلى كناية تُلَطِّفُ ، فقد أثبتت الأول ، وإن كان في الخارج : العدمَ ، مُطْلَقًا بِشَرْطِ الإطلاقِ قد تَقَدَّمَ ، فجاء الجيل المتأخر ليصرح إذ نفى الخالق الأول ، جل وعلا ، والتزم لأجل ذلك جملا من الممتنعات في قياس العقل المحكم إذ تخالف عن ضروري من المقدمات في القياس المصرح ، أن الحادث لا بد له من محدِث أول يسبق ، وأن الفعل لا بد له من فاعل ، فالمخلوق ، بداهة ، لا بد له من خالق أول يَسْبِقُ ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى خالق أول لا خالق قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك : الوصفُ الذي أُطْلِقَ في الآية ، فَتَنَاوَلَ : خلق التقدير في الغيب ، وذلك ما يكون بالعلم ، علم الإحاطة الأول الذي تَنَاوَلَ المقدورات كافة ، إِنِ الأعيانَ ، أو ما يقوم بها من الأوصاف والأحوال والأفعال والأحكام ، وما يُجْرَى لها من الأسباب التي تُبَاشِرُ على سَنَنٍ محكَمٍ ، لا بد له ، أيضا ، من أول يُحْكِمُ وَيُجْرِي ، فيكون من قَدَرِهِ النَّافِذِ فَعْلٌ في هذا الكون الحادث ، فلا يكون ، بداهة ، إلا عن فاعل أول ، فَثَمَّ تقديرٌ يَتَنَاوَلُ المحلَّ بما رُكِزَ فيه من قوى تَقْبَلُ ، وثم آخر يَتَنَاوَلُ السبب بما ركز فيه من قوى تُؤَثِّرُ ، وثم من السنن الجاري ما أُحْكِمَ ، فَكُلُّ أولئك من خلق التقدير الأول ، وثم آخر يشاطره الجنس الدلالي المجرد ، فذلك خلق الإيجاد الذي تَنَاوَلَ الإنسانَ في الآية : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) ، فذلك ، أيضا ، من الخاص الذي يُرَادُ به عام يَتَنَاوَلُ المخلوقات كَافَّةً ، فَقَدْ أَتَى على هذا الكون كُلِّهِ حِينٌ من الدهر لم يكن شيئا في الخارج يُذْكَرُ ، وإن كان من تقديره أول يَثْبُتُ ، في علم محيط قَدِ اسْتَغْرَقَ ، وهو ، كما تقدم في موضع ، وصف الرب المهيمن ، جل وعلا ، وهو ، من وجه آخر ، دليل الحكمة والرحمة ، فَثَمَّ الاختراع لهذا الكون المحدَث بَدْعًا لا على مثالٍ تَقَدَّمَ ، وَثَمَّ العناية بما أجرى الخالق ، جل وعلا ، من أسباب بها صلاح الأديان والأبدان كافة ، فذلك عطاء عام قد استغرق ، عطاء الربوبية ، وهو مَلْزُومٌ أول ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يجحده المنكِر الذي يَرُدُّ الضروري الأول من المعلوم نَقْلًا وَعَقْلًا وَفِطْرَةً وَحِسًّا ، فَثَمَّ من ذلك عقوق لا تمرد ، كما يَزْعُمُ بَعْضُ مَنْ سَوَّغَ الجحود والخروج عن قانون الشرعة والفطرة ، فهو كالابن العاق الذي يُحْسِنُ إليه الأب ، فلا يجد إلا الإساءة والشر ، كما في الأثر : "خيري إلى العباد نازل ، وشرّهم إليّ صاعد ، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم ! ويتبغّضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إليّ" ، فهو صحيح المعنى وإن لم يصح حديثا ، فكان من جحود المخلوق المحدَث أَنْ رَامَ الخروج عن الفطرة والشرعة كَافَّةً ، ولو في أحكامِ الجبلَّةِ ، فَثَمَّ نَزْعَةُ طغيانٍ وَتَأَلُّهٍ بما حصل له من العلم المحدَث أن يكون هو الحاكم ذا الحرية المطلقة ، وهو ما استوجبَ جَحْدَ معلومٍ ضروريٍّ أول ، المعلوم الوجدانيِّ واللسانيِّ ، فَثَمَّ نَزْعَةُ تَأْوِيلٍ يَبْطُنُ ، فَهُوَ يَقْتَرِحُ من الفكرة ما اصطلح في الجيل المتأخر أنه موت الإله ، وذلك ، كما يذكر بعض من حقق ، الحقيقة لا المجاز في قول من ادعاه ، وهو ما يبطل أي إرادة له في نَصٍّ يُؤْثَرُ ، لو سَلَّمَ به الجاحد ، فإن التشكيك والقدح في صحة النقل أول عنه يصدر ، وقد وَجَدَ لذلك في الأديان المبدلة الذريعة والمسلك ، بما بُدِّلَ من لَفْظِهَا وَحُرِّفَ من معناها ، فقال حقا أنها مما بُدِّلَ وَحُرِّفَ ، وأراد باطلا أن يُنْكِرَ الجنس الرسالي المنزَّل ، فيجحد المرجع المجاوز من خارج العقل والحس ، فَثَمَّ الذات الأرضية التي عنها التصور والحكم يصدر ، فلا يجاوز الحس المحدَث أَنْ صَارَ وحدَه مرجِعَ الإثباتِ والنفيِ في الأخبار ، والحسن والقبح في الأوصاف ، والإبادة والحظر في الأحكام ، وما بَقِيَ من آثار أولى من الكتب ، فهي قَيْدٌ قد استوجب الكسر ، فَثَمَّ نَزْعَةُ التَّمَرُّدِ ، وإظهار الاستغناء بالسبب المحدَث ، فلم يعد ثم حاجة تُلْجِئُ أَنْ يُؤْمِنَ الإنسان بإله في السماء يُقَدِّرُ وَيَخْلُقُ وَيُدَبِّرُ ، فذلك دين الضعيف الذي لَمَّا يَحْصُلْ له بَعْدُ سَبَبُ قُوَّةٍ به يُعَالج هذا العالم المحدَث ، فَلَمَّا استغنى بالسبب المحدَث صار هو الإله الذي يحكم ! ، وإن توهم ذلك ، فإن شاهد الحس ضرورةً يَشْهَدُ بِضِدٍّ ، فمن طلب السبب الذي به يستغني ، فهو الفقير فَقْرَ الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فالغنيُّ الغنَى المطلق لا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج ، فهو له يجمع ، فيكون من ذلك غِنًى هو المحدَث بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ، وهو ، مع ذلك ، المقيد لا المطلق ، فَلَا يَنْفَكُّ يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ ، بل ذلك فيه الأصل ، إذ لم يُؤْتَ إلا قليلا من العلم ، وإن فَرِحَ به وَأُعْجِبَ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، شاهدٌ بِضِدٍّ قد جَحَدَ ، فلا ينفك يحكي عَجْزَ العقلِ أَنْ يُدْرِكَ ما جَاوَزَ مداركَ الحسِّ ، وإن الغيب النسبي في هذا العالم المحدَث ، فَلَا يَزَالُ يَظْهَرُ منه كُلَّ يَوْمٍ مَا كان يجهل ، كما المثل يُضْرَبُ بما تَقَدَّمَ من خلقِ الإنسان ، ولم يكن شيئا مذكورا ، فَثَمَّ من التقدير أول في علم محيطٍ قد اسْتَغْرَقَ ، وَثَمَّ تَالٍ يَتَأَوَّلُ ، وله من الخلق الظاهر ما كان غَيْبًا لَا يُدْرَكُ ، فكان من النظر ما اقْتَرَحَ أن الماء الذي يقذف في الرحم ، هو أصل الولد وحده ، ومنه جميعا يكون الجنين في الرحم ، فما الرحم إلا حاضن لما حصل من صورة الجنين قُوَّةً في نُطْفَةِ الرَّجُلِ ، فإذا قُذِفَ فِي الرَّحِمِ وَاسْتَقَرَّ ، صار الجنين بالفعل ، فَلَيْسَ ثم جزء منه يحصل من الأم ، ثم كان من الكشف بعدا ما أبطل هذا الفرض المجرَّد ، فكان من آلة البحث ما أبان عن نُطَفٍ تَسْبَحُ في هذا الماء ، وهو ما ظن التجريب والبحث ، قَرْنَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ ، كما يذكر بعض من حَقَّقَ ، ما ظن أنه كائن دقيق يضر ، كما الجسيم الذي يُمْرِضُ ، ثُمَّ كان من الكشف تال قد أثبت ، أن من الماء المقذوف : نُطَفٌ تدق ، وهي تعالج أخرى من الأنثى تحصل في الرحم ، فيكون من ذلك المشيج المختلط ، وهو ما حكاه الوحي المنزل قَبْلَ ذلك بأعصار ، فكان مِنْ ذلك آخر مِنَ الإعجازِ ، الإعجازِ الخبريِّ الذي يَذْكُرُ مَا كَانَ غَيْبًا زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، بل وآخر قد طال بَعْدُ قُرُونًا ، حتى انتهى التجريب والبحث إلى ما نطق به الوحي ، فَصَدَّقَهُ إذا أبان عما كان موجودا في الخارج قبلِ الكشفِ ، فلم يكن من التجريب والبحث ما أَنْشَأَ وَخَلَقَ من العدم ، وإنما كشف عما كان أولا من الخلقِ ، وإن المغيَّب ، فمنه ، كما تقدم في موضع ، المغيَّب النسبي من هذا الكون المحدَث ، فهو مقدر في الأزل ، كما الإنسان الذي لم يكن شيئا مذكورا ثم صار بعد في الخارج تأويلا يُوَاطِئُ ما تَقَدَّمَ من علم التقدير الأول ، فَثَمَّ من قوى قد ركزت في العناصر المفردة ، وثم سنن محكم عليه تجري ، وثم دقائق من الخلق كما الماء الذي يُقْذَفُ في الرحم ، وما كان من نُطَفٍ تُذَكِّرُ أو تُؤَنِّثُ ، وذلك ، أيضا ، ما التجريب والبحث المحدث قد أثبت ، فنطفة الذكر إذ تُقْذَفُ في رحمِ الأنثى ، فهو الذي يميز نَوْعَ الوليدِ ، فَثَمَّ من القوى ما رُكِزَ في كُلٍّ أن يمازج الآخر فيكون المشيج ، وهو ما يسلك سَنَنًا فِي الامتزاج قد أحكم ، ويكون من المشيج ما يَتَرَكَّبُ ، وليس ثم امتياز بعد الامتزاج ، فهو الممتنع ، وذلك ، أيضا ، من إعجاز التنزيل الخبري ، فكان من لفظِهِ : المشيجُ الذي لا تمتاز أجزاؤه بعد امتزاجها ، فقد استحالت ماهياتها إلى أخرى جديدة ، فكان من ذلك اضمحلال الماهيات الأولى المفردة ، وحصول جديد مركب ، وهو المشيج الذي ائْتَلَفَ ، وليس من الماء كله ما يكون الولد ، بل ثم ، كما تقدم ، نُطَفٌ تدق ، فهي تسبح فيه ، وبه تَغْتَذِي ، فَثَمَّ إتقانٌ في الخلق ، وإحكامٌ في السنن الذي عليه يجري ، فقد رُكِزَ في كلِّ نُطْفَةٍ من القوى ، قوى المباشرة والامتزاج ، قد رُكِزَ فِيهَا من القوى ما يُوَاطِئُ الغاية والقصد ، وكان من ذلك آي إعجاز في الخلق ، إن في الإتقان أو في الإحكام ، وذلك أصل أول في فعل الرب المدبر ، جل وعلا ، فَثَمَّ مادة ربوبية ، وهي ملزوم أول في توحيد النبوات المحكم ، ودليله ما يعالج النظر والحس من آي الآفاق والأنفس ، وهو ما تَنَاوَلَ منها : إِتْقَانَ الخلقِ ، وإحكام السنن الذي عليه يجري ، فهو تأويل يصدق ما رُكِزَ في المخلوق من قوى تُعَالج أو أخرى تُبَاشر ، وله المثل يضرب بما تقدم من النطف ، فإن في نطفة الذكر قوى تعالج أخرى في الأنثى ، ولكلٍّ من الخلق ما يواطئ الغاية والقصد ، فذلك ما عَمَّ الظاهر المدرك بالحس من الأجساد ، وما دَقَّ فَتَنَاوَلَهُ التجريب والبحث من النطف والأمشاج ، فَثَمَّ من كل أولئك : إعجاز في باب الربوبية ، تقديرا أول قد أُحْكِمَ ، وتأويله في الخارج بَعْدًا ما يَظْهَرُ من إتقانِ الخلقِ وإحكام السنن ، فكل أولئك مما لا يكون ، بداهة ، خبط عشواء فلا تقدير يسبق ، بل ثم من زَادَ فجحد الخالق الأول ، فلم يكن ذلك ، وهو المخلوق المحدث الذي يعالجه الحس ، لم يكن عن خالق أول يُوجِب ويرجِّح ، فيخرج المخلوق من العدم إلى وجود تال يصدق ، بل ثم من التحكم ما اطرد في قول الجاحد المنكر ، أن يكون ثم الترجيح بلا مرجح ، فقد وُجِدَ هذا العالم المحدَث ، ومنه الإنسان الذي لم يكن شيئا يذكر ، وُجِدَ بلا موجد ، وكان من الإيجاب الذي أخرجه من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل ، من الجواز إلى إيجاب تال في الخارج يزيد ، فليس الواجب الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، إذ شاهد الحس لذا يَنْفِي ضرورةً بما يَحْدُثُ ولا يَزَالُ من الأعيان في الخارج ، إن الأجنة في الأرحام ، أو ما خرج بعد طفلا ، وما بينهما من أطوار ، فكل أولئك مما يطلب ضرورة أولا هو المقدِّر بعلمٍ محيط قد استغرق ، فتناول الكليات والجزئيات كافة . والله أعلى وأعلم . |
#3
|
|||
|
|||
وهو ما يكره الجاحد المنكر ، فإنه لو سلم بذلك في الخلق ، لَلَزِمَهُ آخر في الأمر ، فإن من له الخلق وحده ، فَلَهُ الحكم وحده ، وذلك قياس العقل المحكم إذ يَعْلَمُ من دقائق الخلق ما لا يَعْلَمُ غَيْرٌ ، فهو الذي قَدَّرَ في الأزل إذ أحاط بِعِلْمِهَ مَا خَفِيَ ودق ، كما آي من الذكر المحكم قد أبان ، فكان من ذلك الاستفهام : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فَثَمَّ من دلالة "مَنْ" ما وضع للعاقل نصا ، كما وَضْعُ لسانٍ أول ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام يجاوز ، فهو يَسْتَغْرِقُ العاقل وغيره ، فَثَمَّ خَلْقٌ عام قد اسْتَغْرَقَ العاقلَ ، كما الإنسان ، وهو ما تَكَرَّرَ ذكره في الوحي المنزل ، كما الآي آنف الذكر : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) ، وكذا آخر من أي الرحمن ، فـ : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) ، وهو ما حُدَّ ماضيا ، إذ يَرْجِعُ إلى علمٍ محيط أول ، وهو ما قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الذَّاتَ ، وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، فكان من ذلك خَلْقُ آدَمَ ، عليه السلام ، وهو الأب ، فَخَلَقَ الأصلَ وَخَلَقَ الفرعَ ، وكان لكلٍّ من التقدير أول قد أحاط فاستغرق ، فكان من التقدير ما أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ ، وكان مِنْ تَالٍ كَلِمُ تكوينٍ يَنْفُذُ ، وبه تأويل ما تَقَدَّمَ من التقدير المتقَن المحكَم ، فَثَمَّ وجود أول ، وجود القوة ، فذلك عدم أول ، إذ لم يكن ثم إلا الخالق الأول ، جل وعلا ، فكان ولم يكن مَعَهُ غَيْرٌ ، وكان من وجود الأول ما تَمَّ ، وجود الذات وما يقوم بها من الوصف ، ومنه العلم آنف الذكر ، عِلْمُ التَّقْدِيرِ المحكَم المتقَن ، فَثَمَّ من المقدور معلوم أول ، فلا زَالَ عَلَى حَدِّ العدمِ إذ لَمَّا يُوجَدْ بعد ، فهو الجائز في قسمة النظر ، ولا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان من ذلك ما تَسَلْسَلَ فَانْتَهَى ضرورةً إلى أول لَا أولَّ قَبْلَهُ ، الربِّ الخالقِ المدبِّرِ ، جل وعلا ، فهو واجب إليه تَنْتَهِي الجائزات من المخلوقات المحدثات كافة ، وله من وصف الوجوب : وصف ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، غنى قد أطلق ، فلا يفتقر إلى سبب يوجد أو آخر يكمل ، بل له من الوجود : وجوب أول ، وله من الكمال أيضا : وجوب أول ، فَلَيْسَ كُلٌّ يَفْتَقِرُ إِلَى سبب من خارج ، بل له وجود أول هو الواجب الذي إليه تَنْتَهِي الموجودات المخلوقات المحدَثات بَعْدًا ، فَهِيَ المقدورات في علمٍ أَوَّلَ قَدْ أحاط ، وذلك وجود لا يصدق فيه إلا وجود القوة العدمي ، إذ لم يكن ثَمَّ أول إلا الرَّبُّ الْعَلِيُّ ، عَزَّ وَجَلَّ ، والمقدورات إنما وُجِدَتْ في علمِه الأول الذي أحاط فاستغرق المقدورات كافة ، بل له من العلم ما جَاوَزَ ، فوحده العام المحفوظ فلا يتناوله التخصيص من وجه ، فالعلم الإلهي الأول : علم محيط قد استغرق الواجبات والجائزات ، بل والممتنعات لغيرها أو لذاتها ، ولو الفرضَ المحضَ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فَثَمَّ من العموم في العلم ما حُفِظَ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ ، لا كما الخلق ، وهو ما تقدم في الذكر ، فـ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فَثَمَّ من أجراه مجرى العام المخصوص بالعقل ، إذ خرج من عموم "كُلِّ" بداهة : الخالق ، جل وعلا ، فليس بمخلوق ، وإلا كان التسلسل الذي لا ينفك يطلب الخالق الأول ، الموجود الواجب لذاته ، فالخالق ، بداهة ، ليس بمخلوق ، فخرج من عموم "كُلِّ شيءٍ" ، وذلك ما اصطلح النظار أنه التخصيص بالعقل ، إذ يدل ضرورةً عَلَى امتيازِ الخالقِ الأوَّلِ ، جل وعلا ، من المخلوق المحدَث ، فَثَمَّ قسمة الضرورة في الوجود : الواجب الأول الذي إليه تَنْتَهِي الموجودات كَافَّةً ، إذ قَدَّرَهَا فِي علمٍ أول قد أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، وذلك خلق التقدير الأول ، وهو من وصفه القديم الذي ثبت في الأزل ، فالعلم وصف ذات لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج به يكون العلم بعد جهل أول ، فيكون الكمال بعد نقص ، فذلك وصف الخلق ، فـ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) ، فكان العدم في التقدير الأول ، وكان الإيجاد المصدِّق ، لا على مثال من الكمال المطلق ، بل ثم منه وجود في الخارج له من النَّقْصِ وصفٌ أول ، وهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، وبه امتازت أجزاء القسمة بداهة : الواجب الكامل في حد ، والجائز الناقص في آخر ، والثاني ، بداهة ، يفتقر إلى الأول ، فالجائز يطلب المرجِّح من خارج ، ووصفه نَقْصٌ أول ، بل وعدم وإن كان ثم وجود في الأزل ، فذلك وجود في العلم المحيط المستغرق ، وذلك وصف الخالق ، جل وعلا ، عِلْمًا قد أحاط فاستغرق المقدورات كَافَّةً ، فهو وصف الخالق ، جل وعلا ، لا المخلوق المحدَث بعدا ، فهو مقدور عدمي في الأزل ، موجود بعدا في الخارج ، وجودا يُصَدِّقُ التقديرَ الأول ، وهو الوجود الناقص ، فكان منه إنسان يجهل ، قد خَرَجَ من البطنِ ، وهو لا يعقل شيئا بالفعل ، وإن كان ثم عقل القوة بما رُكِزَ فيه من الخاصة ، وَبِهَا امتاز من الحيوان الأعجم ، وهي مناط التكليف ، ولو بعدا ، إذا حصل من العقل ما يكمل ، فيكون من ذلك عقلٌ بالفعل قد تَأَوَّلَ عقلَ القوَّةِ الأولِ بِمَا اكْتَسَبَ من العلوم والمعارف بعد جهل أول ، فذلك الأصل ، فَلَئِنْ حصل له العلم بعدا ، فذلك كمال بَعْدَ نَقْصٍ ، من وجه ، فهو المحدَث ، وهو كمالٌ مُقَيَّدٌ فَلَيْسَ علمُه : العلمَ المحيطَ المستغرِقَ ، فلا يكون من وصف الكمال المطلق ، وهو العلم المحيط المستغرق ، لا يكون من ذلك شيء إلا لواحد في الوجود ، وهو واجب الوجود الأول : الخالق ، جل وعلا ، بِمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الأزلِ من العلمِ المحيطِ المستغرقِ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلى سبب به يكون العلم بعد جهل ، أو يكون الكمال بعد النقص ، بل له من العلم أول قد أحاط فاستغرق أجزاء القسمة كافة ، على التفصيل آنف الذكر ، الواجب والجائز والممتنع ، وذلك وصف ذات قد ثبت في الأول ، فلا يُعَلَّلَ من خارج بِسَبَبٍ ، بل هو السبب الأول في الخلق بما كان من تقديرٍ مُتْقِنٍ للأعيان ، مُحْكِمٍ لِسَنَنٍ عليه تجري بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تُبَاشِرُ وأخرى تعالج ، فَثَمَّ خلق التقدير الأول الذي عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المقدوراتِ كَافَّةً ، وثم خلق الإيجاد المصدِّق ، وهو ما يكون بالكلمة ، ولها ، أيضا ، وصف أول يَقْدُمُ ، فهي من العلم ، ولها من الآحاد ما يحدث فهو مما يَتَنَزَّلُ به الملَك ، كَلِمَ تكوينٍ نافذ ، وآخر من التشريع الحاكم ، فالعلم المحيط الجامع قد عَمَّ فاستغرق الكلمات كافة : الكونية النافذة ، والشرعية الحاكمة ، والأولى : مناط توحيد في باب العلم والخبر وذلك الملزوم الأول في قياس العقل المحكم ، والثانية : مناط توحيد في باب العمل والحكم ، وذلك اللازم ضرورةً ، فالعالم بِمَنْ خَلَقَ من الجنس العاقل ، هو الحاكم بما كان من الوحي النازل ، فَثَمَّ خَلْقُ لجنسٍ يَعْقِلُ ، وذلك ما عَمَّ الجن والإنس ، وهما الْقَبِيلُ المكلَّف بالأمر والنهي ، وثم من الجنس العاقل ثالث وهو الملَك ، وله تكليف كما الثقلان ، وإن كان تكليفَ اضطرارٍ فلا اختيار ، فـ : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، ولا يكون امتثال التكليف إلا وَثَمَّ من المحل ما يَعْقِلُ ، وله من العلم ما يَثْبُتُ ، فالعالم الأول بِكُلِّ أولئك ، مَنْ خَلَقَ مِنَ الجنسِ العاقلِ ، وَمَا خَلَقَ من الجنس غيرِ العاقل ، فَقَدْ نَابَتْ "مَنْ" عن "مَا" ، في قوله : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، وكان من ذلك المجاز عند من يُثْبِتُهُ فِي الوحيِ واللسانِ ، إذ ثَمَّ خاص وهو "مَنْ" ، ودلالتها الأولى في المعجم : دلالة العاقل ، وقد أُرِيدَ به عام يُجَاوِزُ ، فَهُوَ يَتَنَاوَلُ المخلوقاتِ كَافَّةً ، العاقل وله من اللسان وضع أول ، وهو "مَنْ" الموصولة ، وذلك الوصل الاسمي المشترك ، فالعام يَتَنَاوَلُهُ ، وهو العاقل ، وَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ العاقلِ ، وله ، أيضا ، من اللسان وضع أول ، وهو "مَا" ، فكان من ذكر "مَنْ" : خَاصٌّ أُرِيدَ بِهِ عام قد تَنَاوَلَ الآحاد في الخارج كَافَّةً ، فكان من ذلك مجاز الخصوصية ، كما حده الْبَيَانِيُّونَ ، وفيه يُذْكَرُ الخاص وَيُرَادُ به العام ، فَثَمَّ من ذلك تأويل للآي آنف الذكر : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فهو يتناول من خلق من العقلاء ، الملَك والجن والإنس ، وثم من خاصة العقل مَنْطِقٌ أول يَبْطُنُ ، وذلك المعنى الذي يقوم بالنفس ، وثم تال في الخارج يصدق ، فذلك بَيَانٌ يُفْصِحُ عَمَّا قام بالنفس أولا من المعنى ، فاللفظ له يُظْهِرُ ، فيخرجه من القوة إلى فعل تال في الخارج يُصَدِّقُ ، وبهما حد الكلام المفهم في اصطلاح النحاة المتأخر ، فهو لفظ ومعنى ، والمعنى أول يحصل في النفس ، وذلك شَطْرُ الْبَيَانِ ، من وجهٍ ، وهو الغاية من آخر ، فَمَا كان اللفظ في الخارج إلا دليلا ، وإن شاطره ، من وجه آخر ، حَدَّ الكلام ، فاللفظ قسيم المعنى في الحد ، وهو ، أيضا ، دليل في الخارج يُظْهِرُ ما بَطَنَ من معنى أول في النفس يَحْصُلُ ، والمعنى : علة غائية ، كما اصطلح النظار ، فهو غاية ما يَقْصِدُ المتكلِّم من نُطْقِهِ ، وإلا كان منه هذيان بأصوات تُزْعِجُ ، أو نَصٌّ لا مدلول له في الخارج يصدق ، وهو ما افْتَقَرَ إِلَى آخر أخص ، قد عمت البلوى أن جحده الجيل المحدَث تَوَسُّلًا إلى فَتْحِ ذَرَائِعَ لتأويلٍ يبطن ، فكان من ذلك إرادة الناطق ، فهي تُرَجِّحُ معنى بِعَيْنِهِ هو الغاية والمقصد ، ولا ينفك يتحرى من الألفاظ ما يواطئ المدلولات المفردة ، ومن الجمل ما يُوَاطِئُ المدلولات المركبة ، وهو ما استوجب مرجعا أول ، وإليه يَرْجِعُ المتكلِّم في نطقه ، وإليه يرجع من جاء بَعْدًا أن يُفَسِّرَ كلامه ، فلا يُفَسِّرُهُ بِعُرْفِهِ المحدَث ، وإنما يَرْجِعُ إلى أول من عُرْفِ المتكلِّم ، وإلا تحكم أن يُرَجِّحَ بلا مُرَجِّحٍ ، وَيُحَمِّلَ كلامَ الناطق ما لا يحتمل ، فَيَقْتَرِحَ من المعجَم الدلالي ، المفرد أو المركب ، ما يخالف عن معجم الناطق الأول ، فليس عن المأثور من النَّظْمِ والنَّثْرِ يَصْدُرُ ، وذلك ما اجتهد أهل الشأن أن يُحَرِّرُوا مَادَّتَهُ ، لفظا ومعنى ، فيكون من ذلك مرجعٌ في الكلام ، إن المعنى أو اللفظ ، فَثَمَّ الاستقراء الذي جمع من شواهد اللسان الأول : اللفظ الفصيح والمعنى البليغ ، وثم من الاستنباط بعدا ما حَرَّرَ المناط المحكم ، فجرد من الأدلة والشواهد ، المواد والقواعد ، مواد المعجم المفرد ، ومنها المجرد ومنها المزيد المشتق بما كان من وجوه اشتقاق قياسية ، وهي ، أيضا ، مما تناوله الاستقراء والاستنباط ، وثم ثالث من قواعد النحو المركب ، ورابع من دقائق البيان المحكم ، وكل أولئك مما يطلب أولا عنه يصدر ، وهو المحرَّر من الأدلة والشواهد ، والمحقَّق من المواد والقواعد المجردة ، فهي ، كما يقول أهل الشأن ، العلوم الواصفة التي تصف ظاهرةَ نُطْقٍ أول قد ثَبَتَ ، فَلَيْسَتْ تُنْشِئُ مِنْ عُرْفِ النُّطْقِ ما تُبْطِلُ به الأول ، وليست تَرُدُّ مَا أُحْكِمَ منه بِتَأْوِيلٍ باطنٍ محدَث ، وليست تَتَحَكَّمُ في الاستدلال أَنْ تَقْتَرِحَ من العرفِ المحدَث بَعْدًا ما به تُؤَوِّلُ كلاما أول ذا عُرْفِ قد سبق واستقر ، فلا يُفَسَّرُ إِلَّا بعرف الجيل الناطق ، الجيل الأول ، فهو يَقْصِدُ مَعْنًى بِعَيْنِهِ ، وَلِأَجْلِهِ قَدْ تَكَلَّمَ ، فلا يَتَحَكَّمُ المتأخِّر أن يَتَنَاوَلَ هذه العلائق المحكمة بين الألفاظ والمعاني ، فيكون منه تفكيك يقطع هذه العلائق ، فيجرد الألفاظ من المعاني المفردة ، ويجرد الجمل من المعاني المركبة ، ويقصر المدلول المستقر على الجيل الأول الذي انقضى ، فمدلوله معه قد مضى ! ، ولم يترك من الإرث إلا نصا مجردا ، فلا إرادة له تُرَجِّحُ في الدلالة ، لا سيما في المجمل الذي يحتمل ، فهو يطلب من القرينة ما يُرَجِّحُ ، فَثَمَّ من ذلك مراد المتكلم ، وعرف اللسان الذي به يَنْطَقُ ، فاحتال المتأول الباطن في جيلٍ تالٍ أَنْ يَنْفِيَ المراد ، فلا مراد لميِّت قد هلك ، فَتَرِكَتُهُ لا تجاوز النص المنطوق أو المكتوب ، وليس منه إلا الرموز التي يضمنها كل جيل ما يواطئ عرفه في النطق ، وإن شِئْتَ فهو الهوى والحظ ، الذي يتكلف له من التأويل ما يبطل مراد المتكلم الأول ، ويبطن في الدلالة إذ نَفَى من الأول : الإرادةَ التي تُرَجِّحُ مُرَادًا بِعَيْنِهِ ، لا سيما في المجملات والمشتركات فَثَمَّ من العرف المتداول زَمَنَ النطقِ مَا يُزِيلُ هذا الإجمال ، فَنَفَى المتأوِّلُ المتأخِّرُ الإرادةَ لَدَى المتكلِّم الأول ، وأبطل معجم النطق الذي به قد نَطَقَ ، فَلَيْسَ إِلَّا تاريخا يُؤْثَرُ ، فلا يجاوز جِيلَهُ الذي انْقَضَى ، فآل الأمر إلى أوعية من النطق قد شَغَرَتْ ، وهي تطلب بَعْدًا من المعنى ما يَشْغَلُ ، فَكُلٌّ يَشْغَلُهَا بِمَا يَقْتَرِحُ من المدلول ، وليس ثم مرجع محكم إليه تُرَدُّ العقول ، فَلَيْسَ إلا الأهواء والحظوظ ، والمبدأ في ذلك : مقال تاريخ يَقْصُرُ المعنى المستقر على الجيل الأول ، فلا يجاوزه في التكليفِ إلى آخر يَعْقُبُ ، فَإِنْ سلم بذلك فَثَمَّ تَالٍ من التفكيك يَبُتُّ العلائقَ ، علائقَ الألفاظِ المفردةِ وما يعدلها في المعجم ، وعلائق الجمل المركبة وما يعدلها في النحو ، وعلائق الْبَيَانِ الذي يدق وَيَلْطُفُ ، وله ، أيضا ، من العرف الأول مَرْجِعٌ قَدِ اسْتَقَرَّ بما كان من الاستقراء والاستنباط ، فذلك علم مستنده النقل الذي يصف ظاهرة من اللسان قد ثَبَتَتْ ، فلا يقترح جديدا من بِنْيَةٍ محدَثة ، وبها يضاهي اللسان الأول في المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ، فَيَرُدُّ ما أُحْكِمَ وَاسْتَقَرَّ بِمَا أُحْدِثَ بَعْدَ فسادِ اللسانِ بما دخله من لحن وعجمة ، فيجرد من ذلك أصولا محدَثة ، لو صح الاستدلال بها ، فهي دليل على جِيلِهَا ، فمنها عرفه في النطق المحدَث بعد ما دخله من العجمة واللحن المفسِد ، فلا يحتج بها بداهة ، على أوَّلٍ صحيحٍ قد سَلِمَ ، فكيف لمريض أن يحتج على صحيح ، فيصير الأول هو الأصل لا العارض ، وإليه يُرَدُّ الثاني وهو المحكم الذي سلم من التشابه ؟! ، وقياس العقل الناصح أن يُرَدَّ ما تشابه من المعاني والتأويلات المحدثة إلى ما أحكم من جادة الكلام الأولى ، إذ سلمت من العجمة واللحن ، وكان منها دليل صدق على عُرْفٍ أول قَدِ اسْتَقَرَّ ، فلا يُفَسَّرُ الكلامُ ، كما تقدم ، إلا بِعُرْفِ جِيلِهِ الذي به قد نَطَقَ ، لا بآخرَ المتأول المحدِث لَهُ قد اقترح بعد أن قصر الدلالة المحكمة على جيلها الذي انْقَضَى ، وَتَكَلَّفَ لذلك إنكارا لما قد عُلِمَ ضرورة من العلائق بين الألفاظ والمعاني ، ثم تأويلا يَرْجِعُ إلى بِنْيَةٍ متشابهة من النطق ، تواطئ عُرْفَهُ المحدَث الذي تَحَكَّمَ فَصَيَّرَهُ المحكَم ، وَصَيَّرَ ما دونه المتشابه ، فآل الأمر إلى فساد عظيم في الاستدلال قد بَلَغَ حَدَّ التلاعب ، وليس يسلم له ذلك إلا أن يُبْطِلَ المرجع الأول من النظم والنثر المحكم ، فَتَارَةً يَتَنَاوَلُهُ بالتشكيك ، وأخرى بالتأويل على قاعدة باطنية تنكر المعلومَ ضرورةً من المدلول المفرد أو المركب ، وهو المأثور من فصيح الألفاظ المفردة وَبَلِيغِ الجمل المركبة ، فذلك القيد المحكم الذي يأطر العقل على جادة من المعنى هي الحق ، فَثَمَّ من ذلك أول يُؤْثَرُ من كلام الجيل المتقدم ، فهو العمدة في الحكم إذا اختلف الجمع ، فَثَمَّ محكم من المأثورِ ، إن المنظومَ أو المأثورَ ، إن المنطوقَ أو المكتوبَ ، ولكلٍّ من طرائق الإثبات في النقل ، والاستنباط في العقل ، لكلٍّ من ذلك ما به يَنْصَحُ النَّظَرُ ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ أولا من الدليل يصح ، على تَفَاوُتٍ في الشرط ، وما ثقل فيه وما خَفَّ ، فَلَا تَسْتَوِي العلوم في ذلك ، فمنها علوم تجريب وبحث ، لا تنفك تطلب أولا من المقدمات ، ومنها مقدمات في العقل ، وأخرى من النقل ، فَثَمَّ قَدْرٌ مخصوص من الأدلة التي تَنَاقَلَهَا أربابُ الْفَنِّ من جِيلٍ إلى آخر ، فَهِيَ مقدمات ضرورة تَتَوَاتَرُ عندهم ، وإن لم تَتَوَاتَرْ عند غَيْرٍ ، فذلك التواتر الخاص ، وإن لم يصب في أحيان ، فكم من المقدمات التي كانت قَبْلًا من المسلَّمات في التجريب والبحث ، فَلَمْ تَخْلُ من الاحتمال ، فإنها ، آخر أمرها ، ليست وَحْيًا قَدْ تَنَزَّلَ عَلَى قُلُوبِ أهلِ الفنِّ ، بل هو ما ثبت بالتجريب والبحث ، فمرجعه الحواس ، ولها من القوى ما يَنْفَعُ ، ولها من الإثبات ما ينصح ، ولكنها لا تجاوز حدا مخصوصا قد تَعَيَّنَ ، فَمَا جَاوَزَهُ فَهُوَ عندها من الغيب ، وَإِنِ النسبيَّ ، فَلَا زَالَ كُلِّ جِيلٍ يَكْشِفُ بما حَصَلَ لَهُ من آلة لم تكن قَبْلًا ، فَيَصِيرُ من الغيب شهادة ، فليس بالمعدوم الذي أوجده البحث ، وإنما كشف ما كان موجودا من قَبْلُ ، فكان منه دليل ناسخ لما كان قَبْلًا من مقدِّماتِ الضرورةِ فِي العلمِ ، فإن مدرَكاتِ الحسِّ مما تَتَفَاوَتُ ، وإن في الجيل الواحد ، فيكونُ لباحثٍ من قوة الملاحظة ما ليس لآخر ، ويكون له من الحدس ما يدق ، فَيُحْسِنُ يَرْبِطُ بين الظاهرة التي يَرْصُدُ ، والقانون الذي يَسْتَنْبِطُ ، ويكون لباحثٍ من الآلة ما لَيْسَ لآخر ، فعنده من العلم ما ليس عند الآخر ، ومن عَلِمَ فَهُوَ حُجَّةٌ على من لم يعلم ، فلا يحتج الجاهل إذ جهل ، أن ليس ثم إلا العدم ، ولو سُلِّمَ له أن الجهل دليل ، فهو دليل لا يجاوز العدم ، أصلا أول يستصحب ، فاستصحب العدم ، وهو ما اصطلح في الأحكام أنه البراءة الأصلية ، براءة الذمة من التكليف ، فكذا براءتها من معلوم يزيد ، وإن في البحث والتجريب ، فالمعنى واحد ، وإن اختلفت آحاده في الخارج ، فهو يَصْدُقُ في الأحكام كافة ، إن التشريعَ أو التجريبَ ، فاستصحب الجاهل عدما أول هو الأصل ، إذ الذمة تَبْرَأُ من معلومٍ زائدٍ يَشْغَلُ ، فذلك ما استصحب حتى كان من العالم الذي زَادَ ، ولم يكن من زيادته دعوى تجرد ، بل ثَمَّ من الدليل نَصٌّ في محل النِّزَاعِ ، وشرطه ، كما تقدم في مواضع ، أن يكون من خارج ، فلا يحتج بصورة الخلاف ، ويصيرها الدليل على مذهبه ، فإن الخصم لَا يُسَلِّمُ بها خاصة ، فهي محلُّ النِّزَاعِ ، فَلَا بُدَّ من دليلٍ من خارجٍ يُسَلِّمُ به الخصوم كَافَّةً ، فَيَلْزَمُ الجميع ، وهو ما استوجب التمييز في الجدال ، أن يكون ثَمَّ تحرير لمحلِّ النِّزَاعِ من وجه ، وآخر يحرر محال الاتفاق في المقدمات التي يصدر عنها كُلٌّ ، فيكون منها القدر المشترك الذي يلزم الجميع ، فلا يُجَادَلُ مَنْ يُنْكِرُ وجودَ الخالقِ الأول بما جاء به الوحي المنزل ، فإنه لا يُقِرُّ ابتداء بوجود من أَنْزَلَ الوحي ، بل ولا يُقِرُّ أن ثم خالقا للسماوات والأرض ، وإن كبرا وعلوا في الأرض بغير الحق ، فيصدق فيه أنه مِمَّنْ : (جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) ، فلا يكون من جداله بالأدلة النقلية ما يَنْفَعُ ، وإنما يُرَدُّ إلى مقدِّمَاتٍ في العقل تَثْبُتُ ضَرُورَةً فَهِيَ محلِّ الإجماعِ لدى العقلاء كَافَّةً ، فيكون الجدال على قاعدة إثبات الخالق ، جل وعلا ، ولو كان من ذلك ما عمت به البلوى ، فإن ذلك مما ألجأ المجادل أن يستدل لمقدمة أولى قد حصلت ضرورة لكلِّ عاقل ، ولو لم يلتزم لازمها من توحيد في الاعتقاد والشرع ، فلم يكن لعاقل في جِيلٍ قد تَقَدَّمَ أن يماري في وجود الخالق الأول ، جل وعلا ، بل ثم من سلامة الفطرة ، ولو بَعْضًا ، ما عنه النبوات الأولى قد صدرت في جدال المخالف ، فاستدلت بهذا الخلق المتقن المحكم ، خلق السماوات والأرض ، فإنها من المحدَث في الخارج ، وهو ، بداهة ، ما لا يَقْدُمُ لا نَوْعًا ولا عَيْنًا ، وإن كان من التقدير أول يسبق ، وذلك ما يثبت ، أيضا ، بقياس الأولى على المخلوق المحدَث ، فإنه ، بداهة ، إن كان من العقلاء ! ، يصدر في القول والفعل عن أول من التقدير في الذهن ، معنى يقوم بالنفس ، فهو العلة الغائية التي يطلب ، وهو آخر الفعل في الخارج إذ تَصَوَّرَ الفاعل قبل أن يشرع في الذريعة التي تُفْضِي إلى المقصد الأول ، فالمعنى المراد ، وهو المقدَّر في الذهن قبل الشروع في الفعل ، ذلك مقصد وغاية ، أو علة غائية تُرَادُ لِذَاتِهَا ، كما اصطلح النظار ، ذلك المعنى المقدَّر في الذهن هو باعث ما يكون في الخارج من ذريعة بها يطلب ، إن في القول أو في الفعل ، فَثَمَّ ابتداء : المعنى وهو الغاية أو المقصد من وجه ، وهو باعثٌ لِمَا تَلَا في الخارج من القول والفعل ، فتلك الذرائع التي يُبَاشِرُهَا القائل أو الفاعل تَوَسُّلًا إلى مَا حَصَلَ قَبْلًا في النَّفْسِ مِنَ الغايةِ التي تُرَادُ لِذَاتِهَا ، لا جرم كان من حَدِّ الكلامِ لدى النحاة وهو أخص ، أنه المعنى الذي يقوم بالنفس ، واللفظ الذي يحصل بالنطق ، فهو يحكي ما قَامَ أَوَّلًا بِالنَّفْسِ من المعنى وهو المدلول ، فذلك الباعث الذي عنه الدماغ يصدر في محسوس يتناوله التجريب والبحث ، فيقيس منه في الخارج الإفراز والنبض ، ويكون من ذلك ما تأويله في جهاز النطق ، حركة أحبال تَتَقَارَبُ وتتباعد ، فهي تهتز وتضطرب مع ما يكون من حركة الهواء في المجرى ، وحصوله عند جُزْءٍ معلوم من الشفة أو اللثة أو الأسنان أو تجويف الفم أو ما تلا من اللهاة والحلق ، فذلك المخرج المخصوص الذي إليه يَنْتَهِي صوت الحرف المنطوق ، مع آخر يجمع الحروف المقطعة ، حروف المعجم ، على اختلاف مخارجها ، وإن كان من الفصاحة ما استوجب الاعتدال والتلاؤم بين المخارج ، فَلَا تَتَبَاعَدُ البعد الواسع ، ولا تضيق فَتَتَقَارَب المخارج التقارب الشديد ، وإن كان من ذلك ما يُرَادُ في مواضع ، فلا يعد عيبا في الفصاحة إذ يؤدي معنى قد حَسُنَ فيه الإغراب ، وله المثل يضرب بما اشتهر في كُتُبِ البلاغة والبيان من قول امرئ القيس :
مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا تَضِلُّ العِقاصَ في مُثَنّىً وَمُرسَلِ . فَثَمَّ من لفظ "مستشزرات" ما صَعُبَ في النُّطْقِ ، وهو ، كما يقول أهل الشأن ، يحكي في الصوت من التداخل بين المخارج ، وبه قد تَعَسَّرَ النطق ، ما يَحْكِي من آخر في الخارج ، فَشَعْرُ الموصوفة قد كَثُفَ وَتَدَاخَلَ ، فكان من تداخل المخارج ، وإن تَعَسَّرَ النطق ، ما يبين عن الصورة البيانية ما لا يبين غيره ، وإن كان أسهل في النطق وأيسر في الفهم ، فقد يكون الإغراب غاية تحمد ، فليس صاحبها يَرُومُ الامتياز المجرد فهو يَتَصَرَّفُ في الألفاظ بما وسع من الحافظة وَفصُحَ من الملكة الناطقة ، بل ثم حسن التلاؤم بين اللفظ والمعنى والسياق ، والجمع المخاطب ، فمن خوطب بالتنزيل أولا قد نطق بالعربية ضرورةً لم يكتسبها بالجلوس إلى مُعَلِّمٍ أو قِرَاءَةِ مَتْنٍ يَضْبِطُ أو شرح يُطْنِبُ ، وإنما سمع الجمع المحيط ، فحصل له من ذلك ما يعدل الفطرة التي يولد المولود عَلَيْهَا ، فَثَمَّ رِكْزٌ أول في وجدانِ كلِّ أحدٍ ، فهو الناطق بالقوة بما رُكِزَ فِيهِ من العقل خاصة بها امتاز من غَيْرٍ ، وبها كان التفضيل والتكريم ، فذلك جنس عام يجاوز خلقة الظاهر ، وما كان من إتقان وإحكام في الْخَلْقِ المدرَك بالحسِّ ، والثابت بالتجريب والبحث ، مع ما خَفِيَ من دقائق لا زالت تظهر جيلا بعد آخر بما يدق من آلات الرصد ، فهي ما كشف عن موجود أول ، قد ثَبَتَ قبل البحث ، فكان من فعل الباحث ما يحمد ، إذ أبان عن سَنَنٍ في الكون قد أحكم ، وعالج من الحقائق والماهيات ما أتقن ، فَثَمَّ من التعقيد والتَّرْكِيبِ في الدماغ ، وهو مستودع الحواس بما دق من المراكز ، وله في الجسد آثار تظهر في السكون والحركة ، في النطق والصمت ، فذلك فعل الآلة الناطقة ، وَهِيَ مما امتاز به المكلَّف ، أَنْ يُبِينَ عما قام بالنفس من المعنى والمبدإ ، فَلَهُ غاية من الحركة تجاوز غريزة الحس ، وليس يكمل التكريم والتفضيل بالخِلقة الظاهرة ، فإن صورة الجهاز الناطق قد وجد عدل لها يضاهي لدى الحيوان ، وإن دونه في التركيب والتعقيد ، فَثَمَّ من الخاصة التي امتاز بها كلُّ جنسٍ حَيٍّ في الخارج ، فذلك مما يجري في قسمة النظر المجرد ، قسمة الجنس العام الذي يَثْبُتُ فِي الذهن مطلقا ، فَثَمَّ جنس اللسان مثالا ، ومنه لسان الإنسان ، ولسان الهر ، ولسان البَبَّغَاءِ .... إلخ ، فلسان الهر لا يحسن يَنْطِقُ ، وإن كان الصوت منه يصدر ، وله من الدلالة أخص بما يكون من خفضٍ أو رَفْعٍ ...... ، فَيُضَاهِي ، من هذا الوجه ، بكاء الصغير الذي لا يحسن يَتَكَلَّمُ ، وإن كان ثم من العقل مناط تكليف أول ، فَلَمَّا يَبْلُغْ بَعْدُ حَدَّ الفعل ، فهو العاقل بالقوة بما ركز فيه من خاصة التعقل التي امتاز بها الجمع المكلف ، إن الجن أو الإنس بعدا ، فالصغير لا يحسن ينطق ، وإن كان يحسن يعقل عقلا أخص من عقل الهر ، ولو عقل القوة الأول ، فدركه للمعاني أكمل ، بل هو لها يستقرئ ويجمع من لدن المولد ، فيحصل له من معجم الألفاظ وقانون التركيب ما به يصير المتكلم ، وإن بالقوة ، فذلك ، كما ينقل بعض من حقق ، ما أثبته التجريب والبحث ، فالطفل الصغير يستكمل قانون الكلام قبل أَنْ يَتَكَلَّمَ ، فيحصل له من ذلك القوة الأخص ، فَثَمَّ قُوَّةُ العقلِ الِّتِي رُكِزَتْ في كلِّ مولود ، وثم قوة أخرى تزيد بما جُمِعَ من الألفاظ والتراكيب إذ يسمع ويختزن في الوجدان ، وإن لم يحسن يبين عن ذلك بالكلام ، فآلة النطق لِمَّا تَكْمُلْ بَعْدُ ، إِنْ مَرْكَزَ نُطْقٍ في الدماغ ، أو جِهَازَ نُطْقٍ في اللسان والحنجرة وأحبال الصوت ...... إلخ ، فحصل له من حد الكلام لدى النحاة شطر ، وهو المعنى الذي قام بالنفس ، ولم يحصل له آخر من اللفظ الذي يُسْمَعُ ، فهو لِمَا قَامَ بِالنَّفْسِ من المعنى يُظْهِرُ ، فكان من بكائِه مبدأَ أمرِه ما يضاهي صوت الهر ، فهو واحد بالنوع ، فليس يمتاز إلى ألفاظ وتراكيب ، وإن كان من القرينة ما يميز الأحوال بما يكون من خفض أو رَفْعٍ ، ولسانُ البَبَّغَاءِ أَخَصُّ ، فإنه يحسن يُقَلِّدُ الصوتَ ، ولو ألفاظًا وتراكيبَ قد اختص بها القبيل العاقل ، ولا يصدق في صوته ، مع ذلك ، أنه كلام ، إذ هو اللفظ بلا معنى ، فلا يدرك معنى ما يَنْطِقُ ، فليس إلا المقلِّد إذ لا إرادة له تُرَجِّحُ فيما ينطق ، فلا يقصد معان مخصوصة تقوم بالنفس ، ثم اللفظ بعدا يبين عنها في النطق ، فيكون من الإرادة ما يرجح في الاستدلال ، أن يزيد في اللفظ من المعنى ما يصيره دليلا على مدلول أخص قد قام بالنفس ، وهو ما استوجب أولا من معجم الألفاظ وقانون التركيب ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، غاية الحداثة في الجيل المتأخر إذ يَؤُولُ فِيهَا الكلام أَنْ يَصِيرَ الرَّمْزَ المبهِم الذي خَلَا من الإرادة ، إرادة المتكلم الأول ، فَقَدْ مَاتَ وَمَاتَتْ معه إرادته ولم يعد ثم سبيل أن يدرك السامع أو القارئ مُرَادَهُ ، وإن علم فهو تَارِيخٌ يُؤْثَرُ ، وليس في الاستدلال بَعْدًا يُؤَثِّرُ ، مع آخر يبت الصلة بالمرجع الأول ، مصادر اللسان الأصلية من النصوص الدينية والأدبية ..... إلخ ، فيكون التفكيك الذي يجرد الدالة اللسانية من مدلولها المعجمي الأول ، فلا مرجع لا من إرادة المتكلم ولا من معجمه الذي به يَنْطِقُ ، أو نحوه الذي به يَنْظِمِ ، فليس ثم إلا رَمْزٌ يُكْتَبُ ، وهو ما يطلب بعدا جديدا من المعجم وقانون النظم الذي يقترحه كل جيل بما يواطئ عرفه المحدَث ، فيحدث من بِنْيَةِ الكلامِ ما به يَشْغَلُ الرمز الشاغر من المدلول ، ولو خالف عن الأول ، مع إرادة بها يتحكم المتأخر فيرجح بها ما يظهر له من المعنى وإن خالف عن مراد الناطق الأول ، فذلك التحكم الذي يبطل الاستدلال بأي نص ، ويفتح باب الاحتمال من كلِّ وجهٍ ، فلا يكون ثم نص محكم الدلالة بل كل قد اشتبه إِذْ دَخَلَهُ الاحتمال ، ولو واهيا لا أصل له ، وما دخله الاحتمال فالاستدلال به يبطل ! ، وذلك ما يُجْرِي قَلَمَ النسخ في كل جيل فهو يَرْفَعُ القديم ، ولا يكون ثم إلا وعاء من المدلول قد فرغ ، وَكُلٌّ يملؤه بما يواطئ الهوى والحظ ، وفي ذلك إفساد للكلام كله ، دينا أو دنيا ، وبه تفسد عقود الخلق جميعا ، فلا كلمة تُضْبَطُ بمعنى قد اسْتَقَرَّ فَهُوَ يُلْزِمُ القائل ، وإنما كل يحتال بالتأويل أن يقترح من المعنى ما هو جديد ! . وأما الأول ، وهو الإنسان العاقل المتكلم ، وبه صار الجنس المكلف ، فمناط التكليف العقل ، وَآيُهُ في الخارج النطق ، إذ له من منطق الباطن أول يرجح في المعاني ، وله آخر يظهر ، بما يصدر من أصوات مخصوصة ، فيحسن ينظم الحروف ذات المخارج والصفات ، في ألفاظ ذات منطوق مركب ، وهي مما استوجب أولا من المرجع ، أن يكون ثم معجم يبين عن المعاني ، فهو قاض يحكم ، فَيَمِيزُ المستعمل من المهمل ، فالأصوات المركبة من حروف مقطعة : ألفاظ تمتاز فِي الخارجِ عَلَى قاعدة الاستعمال والإهمال ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، بلا مرجع من خارج المنطوق يجاوز ، فلا يكون منه التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، بل ثم من المعجم ما يميز ، وهو ما استوجب ، أيضا ، مرجعا يسبق وإليه يحتكم الخصوم في محال الخلاف أَذَلِكَ مستعمل أم مهمل ؟ ، فَثَمَّ من ذلك مأثور أول ، وذلك المنظوم والمنثور من كلام الجيل الأول ، فذلك الإرث الذي تَرَاكَمَ ، وَبِهِ قَدْ نَزَلَ الوحي الخاتم ، فكان من حكمة الاختيار إذ أَنْزَلَهُ من يعلم المحال والأحوال ، فهو الخالق بالعلم الأول المحيط ، علم التقدير الذي تناول المحال وما يقوم بها من الأحوال ، إن الاختيارية أو الاضطرارية ، ومنها حال النطق ، وهو من فعل الاختيار في الكلام والسكوت ، وما يحتف بِكُلٍّ من قَرَائِنَ تُرَجِّحُ ، فَثَمَّ مِنَ التَّنْغِيمِ ظاهرة بها يكسى اللفظ لحاء من النَّغَمِ يبين عن معنى أخص ، فقد يكون منه التعجب أو الاستفهام أو السخرية .... إلخ ، واللفظ واحد في النطق المجرد ، فَثَمَّ من الحروف واحد في النطق والكتب وَالشَّكْلِ ، وثم من النظم ما ائْتَلَفَهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ، فحصل التماثل حال التجريد من القرائن ، فَكُلٌّ في الحد واحد ، وكان من القرينة بَعْدُ ما امتازت به الأغراض الْبَيَانِيَّةُ ، ومنها السياق المركب ، ومنها بساط الحال ، ومنها نَغَمُ الكلامِ وهو بالحال يُلْحَقُ ، فلكلِّ مقام مقال يواطئ ، وهو ما يبين عن حكمة أخص لا تكون إلا لذي عقل ينصح ، فقد جَاوَزَ الحسَّ والغريزةَ ، فَثَمَّ من نَغَمِ الكلام ما يبين عن مدلول لطيف لا يحسن النقل ، مسموعا أو مكتوبا ، أن يبين عنه . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
لعبة "لم الشمل" .. تحضير درس صرفي بالألعاب اللغوية "أوزان الفعل غير الثلاثي" | فريد البيدق | حلقة فقه اللغة ومعانيها | 0 | 07-06-2016 04:14 PM |
ما رأي المشايخ في كتاب " المختار من صحاح اللغة " ؟ ألا يعتبر أفضل من " مختار الصحاح " للرازي ؟ | أبو زارع المدني | أخبار الكتب وطبعاتها | 6 | 06-06-2014 12:50 AM |
مصطلح "استخلاص السمات" مع نصوص أقاصيص القرآن والحديث وقصصهما القصيرة، لا "النقد" | فريد البيدق | حلقة البلاغة والنقد | 0 | 18-12-2011 09:53 PM |
لم ذكر " الحر " ولم يذكر " البرد "، وذكر " الجبال " ولم يذكر " السهل "؟ | عائشة | حلقة البلاغة والنقد | 5 | 25-11-2008 05:39 PM |