|
#1
|
|||
|
|||
التكذيب والجحود
ومما تَقَرَّرَ في حد الإيمان ، أن المبدأ منه : اعتقاد في الجنان ينصح ، وبه يدين المرء وينقاد في الباطن إذ يكون من التصديق ما يجاوز العرفان المجرد ، فذلك أول يحصل في وجدان كل أحد ، آمن أو جحد ، فمبدأ التصديق علم أول لا يجاوز حد التصور ، فلا ينفك يطلب الحكم الذي يُصَدِّقُ ، وبه المعنى الديني يثبت ، فلا ينتحل أحد نحلة أو فكرة أَنْ عَلِمَ منها شيئا ، صح العلم أو فسد ، وإنما الانتحال اعتقاد يجاوز ، وبه الترجيح في علم أول هو الجائز ، فهو يحتمل القبول أو الرد ، حتى يكون ثم مرجح من خارج يجاوز ، فهو الحكم الذي يرجح ، وإلا كان التحكم المحض ترجيحا بلا مرجح ، فيثبت الإيمان وليس ثم دليل يثبت ، فلم يحصل في القلب إلا تصور جائز يحتمل ، فلا ينفك يطلب مرجحا أخص ، وبه التصديق يثبت ، وتلك حركة في الوجدان تجاوز العرفان المجرد ، فلئن صح أن التصديق هو الاعتقاد ، وهو ما ينصرف إلى صورة في الجنان لا يتبادر منها اسم العمل ، بل هي تطلب دليل تصديق في الخارج من القول والعمل ، فَلَئِنْ صَحَّ في تصديق الجنان أنه الاعتقاد ، وهو ما يميزه من آخر هو القول والعمل ، إلا أن حركة الجنان إذ يُرَجِّحُ مَا يَعْتَقِدُ ، تلك في نفسها حركة يصدق فيها أنها العمل فهي تجاوز التصور المجرد ، كما العرفان آنف الذكر ، فلم يجزئ العرفان في حصول الاسم الديني الأخص إِلَّا أَنْ زِيدَ فيه معنى أخص وهو القبول الذي حصل بالمرجِّح ، فَكَانَ من التصديق قدر زائد ، وبه الترجيح ، وصدق فيه ، من هذا الوجه ، أنه عمل ، فمعنى التصديق والإقرار والإذعان والانقياد والاستسلام ، كل أولئك مما يجاوز العرفان المجرد ، فيكون من القبول ما يَنْصَحُ ، وذلك قدر يَزِيدُ على العرفان المجرد ، فَثَمَّ المرجح الذي به اسم الدين في الوجدان يثبت ، فيكون من ذلك تصور ثم حكم ، والأخير فرع عن الأول ، فلا يكون حكم يَقْبَلُ أو يَرُدُّ إلا أن يكون ثم تصور أول يحد ، سواء أصح أم فسد ، فالحكم الصحيح فرع عن التصور الصحيح ، والحكم الفاسد فرع عن التصور الفاسد ، فَاطَّرَدَ الحكمُ وَانْعَكَسَ ، وكان من التصديق ، وهو محل الشاهد ، ما يجاوز العرفان المجرد الذي لا يثبت به اسم ديني يَنْفَعُ ، وإلا كان من إيمان أبي جهل وعتاة قريش ما يثبت ، فقد حصل لهم التصور الأول ، فلم يُكَذِّبُوا صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ، فَثَمَّ التوكيد بالناسخ ، وهو نص في الباب رَئِيسٌ ، وهو الأم الذي يُقَدَّمُ على غير ، وثم قَبْلًا من العلم ما أحاط فاستغرق ، وهو ما صدرت به الآية من علم محقق ، فـ : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ، فكان من ذلك تأويل يصدق ما كان من علم أول ، فذلك وصف الرب المهيمن ، جل وعلا ، وله من التأويل أول في لوح التقدير المحكم ، وله تال في الخارج يُصَدِّقُ ، إذ يُخْرِجُ المقدورَ من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى فعل في الخارج يُصَدِّقُ ، وَثَمَّ بَعْدُ من علم الظهور والانكشاف ما يُسَجِّلُ الجنايةَ ، وله من سطر آخر في صحف الملَك ما يصدق ، فكان من ذلك كتاب محيط يستنسخ ، فَثَمَّ كتابٌ يَنْطِقُ بِمَا سُطِرَ فيه مِنْ عِلْمٍ ، فهو يُسَجِّلُ كُلَّ مَا عَمِلَ العبادُ ، فَثَمَّ من جنس النطق ، لو تدبر الناظر ، ما يجرده الذهن ، وله من أجزاء القسمة في الخارج ما يصدق ، فَثَمَّ نُطْقٌ يُسْمَعُ ، وثم آخر يُكْتَبُ ، فالقلم أحد اللسانين ، فَيُسْمَعُ ، من هذا الوجه ، وَإِنْ تَجَوُّزًا في الكلام يعالج الغاية ، فالغاية من أي كلام أن يحصل البيان والإفهام ، وأن يسجل المعلوم فيثبت منه ما به الحجة تقوم ، وذلك ما يصدق في المنطوق ، إن المسموعَ أو المكتوبَ ، فلكلٍّ من المدلول ما يُفْهِمُ ، وهو ما يعالج السامع أو الناظر بما استقر في الوجدان من قوة أولى تنصح ، قوة النطق ، وإن لم يكن ثم فعل في الخارج يصدق ، فَثَمَّ خاصة بها امتاز الإنسان المكلَّف ، إذ له من خاصة العقل ما يجاوز الدماغ الذي يعالج الحس ماهيته بالتجريب والبحث ، وإن كان منه ، أيضا ، ما امتاز به الإنسان المكلف من الحيوان الأعجم ، فثم مركز نطق في الدماغ يدرك بالحس إذ عالجه التجريب والبحث ، فأبان عن خصائص منه تَتَنَاوَلُ التَّرْكِيبَ والوظيفةَ ، وثم آلةُ نُطْقٍ عنها يصدر الكلام المسموع ، وهي ، أيضا ، مما امتاز به المكلَّف ، فَلَهُ مِنْهَا ما يكمل ، وإن حصل للحيوان منها آخر يُضَاهِي ، فَلَيْسَ يصدر من الصوت كلامًا يُفْهِمُ ، إذ ليس ثم عقل أول عنه يصدر ، وماهية الآلة لا تعدل أخرى لدى المكلف الناطق ، وإن كان من الببغاء استثناء فلا حكم له ، وما يكون من صوته إذ يقلد فليس يصدق فيه حد الكلام المفهِم ، ولو استوفى حد النظم جُمْلَةً تَتِمُّ مع مخارج لأحرف تجتمع وكلمات تَأْتَلِفُ إذ انْتَظَمَهَا سلك جامع ، وكل أولئك مما يقربها من الكلام في القياس ، وليس ، مع ذلك ، مما يصدق فيه حد الكلام المفهم ، فليس إلا صوتا وإن ضاهى آخر من كلام الإنسان المكلف ، فليس إلا صوتا مجردا لا يصدق فيه حد الكلام إذ شَرْطُهُ إرادةٌ بِهَا المتكلِّم يَنْطِقُ ، فهو يُرَجِّحُ في المدلول ، فيختار اللفظ الذي يواطئ المعنى المعقول الذي يريد ، فإنه لم ينطق هَذَيَانًا ، بل ثم من الإرادة ما حَضَرَ ، فالعقل قد عالج المعاني أولا ، فحصل من ذلك تصور أول ، ولا ينفك يطلب بَعْدُ مِنَ الدليل ما يُظْهِرُ ، فذلك حكم النطق الذي يصدق أولا من التصور والفهم ، فيختار المتكلم من الألفاظ ما يواطئ المعنى الذي قام بالنفس ، وهو مما تفاوت فيه الخلق ، فَثَمَّ الفصيح الذي يختار الكلمات الناصعة ، وَثَمَّ البليغ الذي يَنْظِمُهَا في سلك محكَم ، سواء أَوَاطَأَ القياس في النحو أم خالف عنه ، لا فَسَادًا في النطق ، وإنما تقديما وتأخيرا ، أو حَذْفًا ...... إلخ من أجناس التصرف التي تفيد معنى زَائِدًا يَلْطُفُ ، فلم يكن ذلك خروجا عن الأصل بلا غاية ، ولم يكن منه خروج عن قانون النظم ، فما تصرف إلا بمعهود آخر في اللسان ، وإن لم يشتهر في الاستعمال اشتهار المعهود الأول في القياس ، بل التَّصَرُّفُ فِي أحيان يحسن ، إذ يفيد من المعنى ما يَلْطُفُ ، وله بعض من حقق يضرب المثل بما يكون من شجة في الوجه أو لَثْغَةٍ في النطق فلا ينصح مخرَج الحرف فيكون من الصوت ما لم يعهد ، فالأصل أن كل أولئك من النقص ، وهو ، مع ذلك ، قد يحسن في مواضع ، فقد يكون من الشجة ما به الوجه يجمل ، فحصولها قد زاده حسنا ، وإن خالف ذلك ، بداهة ، عن الأصل الأول المستصحب في باب الجراحات والخدوش ، فالأصل أنها تنقص من جمال الوجوه ، ولكنها في مواضع ، وإن لم يجد الناظر سببا يظهر ، فلا ينفك يَرَى فيها ما يجمل ، وإن كانت في الأصل آية نقص في الهيئة بما طرأ عليها من الضربة أو الخدشة ، فلا تنفك يَعْتَرِيهَا وصف النسبي الذي يتفاوت ، فهو مما يحسن في عين ناظر ولا يحسن في أخرى ، فهو أجمل في عين الأول ، وليس يَعْنِيهِ أَنْ يَسْتَقْبِحَ الثاني ، فالمرجع ذاتي لا يجاوز ، وقد خالف في ذوقه آخر موضوعيا يجاوز ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يصح في باب الكلام ، وإنما المراد تقريب المعنى بمشابهة لا تستوجب المماثلة ، فإن المتكلم إذ يعدل عن الأصل المستصحب تقديما وتأخيرا يواطئ القياس ، وَذِكْرًا فهو الأصل ، فالحذف عارض وَمَا عَرَضَ فلا يثبت إلا بدليل مع قيد أول إذ تَعَذَّرَ حملان الكلام على المذكور دون تقدير المحذوف ، فالمتكلم إذ يعدل عن الأصل المستصحب في الكلام فلا يكون ذلك بمرجع ذاتي لا يجاوز ، فهو مما يفتح ذرائع التأويل الباطن ! ، أن يكون لكلٍّ مرجع ذاتي لا يجاوز ، فلا يصدر عن مرجع موضوعي أول قد جاوز المتكلم بما استقر من قانون الكلام المفهم ، إن المفردَ أو المركَّب ، بما كان من الاستقراء ثم الاستنباط الذي يجرد الكليات الجامعة ، إن في المعجم أو في قانون النحو المركب ، فالمتكلم إذ عدل عن الظاهر المستصحب ، وهو الراجح في دلالة الألفاظ ونظم الكلام ، فلم يكن ذلك لَعِبًا يصدر عن ذات المتكلم ، فهو يزيد في المعجم ما ليس منه ، أو يجحد ما استقر ضرورة في العقل من مقدمات الاستدلال ، إِنْ مفرداتِ النطقِ أو قانونَ النظم ، فإذا خوطب خطاب الزجر فأنكر العقلاء ما يقارف من اللعب والهزل الذي يأتي على أصول الكلام بالإبطال ، ويدحض الحجة في أي مقال ، وذلك ما به فساد الدين والدنيا كافة ، فإذا خوطب بالزجر فهو يحتج أنه يصدر عن مرجع ذاتي لا يجاوز ، فَلَهُ في اللسان ذوق أخص ، وإن خالف عن ضروري أول في العقل ، فمثله كمثل من استحسن الشجة في الوجه وَاللَّثْغَةَ في النطق ، وإن كانا من الفساد والنقص ، فصاحبهما أجمل في الصورة وأعذب في النطق ! ، وذلك إن صدق في مواضع ، فهو نسبي يَتَفَاوَتُ إذ يصدر عن مرجع ذاتي لا يجاوز ، فلا يكون مِثْلُهُ في الكلام ، إذ رَدُّهُ في التأويل والبيان إلى مرجع الذات الذي لا يُجَاوِزُ يُفْضِي إلى الاضطراب والفساد أن يَتَأَوَّلَ كلٌّ النَّصَّ بما يواطئ الهوى والحظ ، فكلٌّ مصيبٌ في حق نفسه ، وإن خالف عن معيار أول في النظر قد أُحْكِمَ ، فليس ذلك من الاجتهاد الذي يسوغ ، فَثَمَّ من التأويل ما يبطل الأصول ، أصول الاستدلال المحكم ، إن في المعجم أو في الاشتقاق أو في النحو أو في البيان ، فخالف عن ضروري أول قد استقر في العقول ، فلا يكون تأويل الكلام التأويلَ المعتبر إلا أَنْ يَصْدُرَ عن مرجعٍ من خارج يجاوز فهو الموضوعي الذي يَقْضِي في ذَاتِيٍّ لا يجاوز ، فقد يحصل في النفس معنى يَلْطُفُ ، فيكون من ذلك إشارة ترمز ، فلا ينكر ذلك فهو مما يعرض في الخاطر ، وإنما استوجب تاليا من المرجع المحكم ، فَعَلَيْهِ تَعْرِضُ النَّفْسُ ما حصل لها من المعنى ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ المعاني في النحو والبيان ، وأخرى في تدبر الآيات والأخبار ، فَيُرَدُّ ما تشابه من معانٍ تَطْرَأُ إِلَى ما أُحْكِمَ من أصولٍ تَضْبِطُ ، فَلَا يُنْكَرُ اجتهادُ الناظرِ أو آخر يَعْرِضُ في الخاطر ، فَلَا يُنْكَرُ ، بادي الرأي ، فهو من المتشابِه المحتمل ، فلا ينفك يَطْلُبُ المرجع الحاكم من خارج ، فهو يقضي فيه قضاء المحكم في المتشابه ، فَيُشْبِهُ ، من وجه ، ما كان من جائز في العقل ، فذلك المحتمل مبدأَ النظرِ ، ووجوه الاحتمال فيه قد استوت فلا يَنْفَكُّ يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجِّح ، فكذا ما يعرض من خطرات ، أو يكون من اجتهاد وهو أخص إذ يصدر عن مقدمات ناصحة في العقل ، فلا يهجم هجمة الخطرة ، وإنما يصدر عن نظر وفكرة ، وكلٌّ ، مع ذلك ، قد احتمل ، فلا ينفك يطلب الدليل المرجِّح من خارج ، وإلا كان الدور الباطل ، أَنْ يَصِيرَ المدلول هو الدليل ، فَيُسْتَدَلَّ به على نفسه ، وهو الطالب دليلا من خارج يجاوز ، فكيف يَصِيرُ هو الدليل والمدلول معا ؟! ، فكلٌّ ، الاجتهاد أو الخاطرة ، كلٌّ يطلب الدليل المرجِّح من خارج ، ولو دَلِيلَ السكوت ألا يخالف عن نَصٍّ أو إجماعٍ ، وإلا فَسَدَ منه الاعتبار ، فلا اجتهاد يَنْصَحُ إِنْ خَالَفَ عَنْ نَصٍّ صحيحٍ يصرح ، أو إجماع ناصح يَنْضَبِطُ ، فالمجتهد الأخص أو الناظر الأعم أو صاحب الخاطرة التي تَفْجَأُ النَّفْسَ ، كل أولئك يطلبون من الوحي رائدا يَنْصَحُ ، فَهُوَ هَادٍ يهديهم الطريق ، كما كَنَّى الصديق ، ، في الهجرة ، فصاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم هادٍ يهدي الخلق بما نَزَلَ عليه من الوحي ، فذلك المرجع المجاوز من خارج الذي يأطر التصور والحكم على جادة من الصدق والعدل ، فَثَمَّ من الوحي قَاضٍ في الخواطر والاجتهادات ، فلا يجزئ المرجع الذاتي الذي لا يجاوز ، لا يجزئ في حَدِّ الحقائق جَزْمًا ، وَإِنْ رُكِزَتْ فيه مبادئ ضرورية في النظر ، كما الكليات الجامعة في باب التحسين والتقبيح ، وما يصدر عنها من إباحة وتحريم ، فمن ذلك جُمَلٌ قد حصلت في النفس أَوَّلًا ، فَهِيَ ذَاتِيَّةٌ لا تُعَلَّلُ ، وهي مقدماتُ ضرورةٍ في أَيِّ استدلالٍ يَنْصَحُ ، وَلَا تَنْفَكُّ ، مع ذلك ، تطلب رائدا من خارج ينصح ، فهو يَهْدِيهَا كما هَدَى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصِّدِّيقَ الأعظمَ ، فَثَمَّ متشابهٌ من الرأي ، لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ مُحْكَمًا من الوحي ، وكذا يُقَالُ في متشابهات اللسان إذ ثم معان من التأويل تحصل في النفس ، وليست مما يُقْبَلُ بَادِيَ النَّظَرِ أَوْ يُرَدُّ ، فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ التَّصَوُّرِ لمعلومٍ قد حصل ، فلا ينفك يطلب بَعْدُ من الدليل ما يُرَجِّحُ ، وهو ما يحصل من خارج بما اسْتَقَرَّ من معجَمِ الألفاظ المفردة ، وآخر من قواعد النحو المركبة ، فذلك مرجع من خارج يجاوز ، وثم آخر قد وَجَبَ ، وهو ما تَقَدَّمَ من إرادةِ المتكلمِّ مَا نَطَقَ ، وبه امتاز الإنسان المتكلم من الببغاء الذي يُقَلِّدُ ، فإن من صوت الببغاء ما جاوز غَيْرًا من أجناس الحيوان الأعجم ، فمنه جمل تواطئ المعجم والنحو ، ولكنها ، مع ذلك ، لا تجزئ في حد الكلام المفهِم معنًى يحسن السكوت عليه ، فقد فاتها شرط الإرادة التي تُرَجِّحُ ، فَتُبَيِّنُ مراد المتكلم مما به قد نَطَقَ ، وذلك ما جَحَدَتِ الحداثة في تأويلاتها إذ أبطلت إرادة المتكلم الأول إذ طويت في أكفانه فَلَحِقَهَا الفناء الذي لَحِقَهُ ، وهو ما سَوَّغَ أَنْ يُحَمَّلَ كلامه ما لا يَحْتَمِلُ ، فقد صَارَ رَمْزًا يَحْتَمِلُ وجوها من المعنى تَتَعَدَّدُ ، ولا مرجِّح من خارج ، فالإرادة قد بطلت ، ومراجع النطق من المعجم والنحو والبيان قد نُسِخَتْ بما كان من العرف المحدث ، فَلَهُ بِنْيَةٌ جديدة تَتَنَاوَلُ النصوص كافة ، وإن أُولَى قد سَبَقَتْ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ من هذه الْبِنْيَةِ ما وُجِدَ ، فَتَحْكُمَ في سابق لها في الوجود إذ بطل العرف الأول ، وذلك من التحكم الذي يفتح ذرائع التأويل الذي يُبْطِلُ كُلَّ عقدٍ أو ذِمَّةٍ ، فلا يكون ثم كلام يفيد مدلولا يعتبر ، فكل قد صار المجمل المحتمل ، وكل يُضَمِّنُ الرَّمْزَ المجرَّد من المدلول ، فليس إلا الأصوات والحروف ، كُلٌّ يُضَمِّنُهُ من المعنى ما يُوَاطِئُ عُرْفَهُ ، أو آخر من هواه وحظه ، وهو ما يُفْضِي إلى اضطراب الكلام بل وسقوط الاستدلال به في أي عقد .
والشاهد أن الإرادة المرجِّحة لمعنى دون آخر : مما افتقر إلى عقل أكمل ، فيكون من المعنى ما قام أولا بالنفس ، وله في الخارج لَفْظٌ يُظْهِرُ بما استقر من مرجعِ الكلام مُفْرَدً أ و مُرَكَّبًا ، فذلك آخر من خارج يجاوز بما كان من استقراء واستنباط يحرر المعاني المفردة وقواعد الجمل المركبة ، وبهما ، المعنى الباطن واللفظ الظاهر ، بهما يحصل حد الكلام معنى يَقُومُ بالنفس وَلَفْظًا يُبِينُ عنه ، فلا يكون ذلك إلا بإرادة تُرَجِّحُ في اختيار الألفاظ التي تواطئ المعاني ، وذلك مما يتفاوت فيه آحاد الناطقين ، وكذا الإرادة تُرَجِّحُ في اختيار النظم الذي يحكي ، وآخر من البيان يَلْطُفُ بما يكون من خروج عن المعهود الذي اطرد ، فيكون من وجوه البيان تقديم وتأخير ، وحذف ، واستعارة وكناية ..... إلخ من أجناسٍ تَلْطُفُ فَهِيَ مما يزيد على ظاهر من النطق أول ، وكل أولئك مما استقر ، أيضا ، في وجدان الناطق الفصيح ، أو آخر بعد فساد وعجمة بما كان من تدوين لمسائل اللسان معجما ونحوا وصرفا وبيانا ، فحصل من ذلك المرجع ، وَاطَأَ الناطقُ المعهودَ الذي يظهر أم عَدَلَ إلى آخر يخالف ، وليس منه ما به المتأوِّل الباطن يتلاعب ، فإنه يخرج عن أصول اللسان ، إن في المعجم أو في الاشتقاق أو في النحو أو في البيان ، فيقترح من جديد النظم ما يخالف عن مقدمات ضرورة قد ثَبَتَتْ في العقل بما رُكِزَ فيه من خاصة النطق ، وإن قوة أولى تُجْمَلُ ، فلا ينفك التقليد والتعليم بَعْدًا يُبَيِّنُ ، فَيُخْرِجُهَا من القوة إلى الفعل ، ويكون منها مناط تكليف بالخبر والحكم ، وهو ما يواطئ أولا من التقدير المحكم ، في علمٍ محيطٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فقد حُدَّتْ فيه المقادير كَافَّةً ، أَعْيَانًا تَسْتَقِلُّ بوجودٍ في الخارج يجاوز ، وأحوالا تقوم بها ، إن اضطرارا أو اختيارا ، فكان من ذلك خلق قد عَمَّ : العامل والعمل ، فـ : (اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ، وكان من تال في الخارج ما يُصَدِّقُ ، فذلك وجود بالفعل يواطئ وجود القوة الأول ، وهو ما يُنَاطُ به علم الظهور والانكشاف ، وذلك المصدِّق لَأَوَّلٍ من العلم قد ثَبَتَ ، وتال من سَطْرٍ في لوح التقدير المحكم ، فَلَهُ ، كما تقدم ، تأويل يَثْبُتُ بِوُجُودٍ في الخارج يُصَدِّقُ ، وجودِ الفعل بعد أول من القوة ، فذلك التقدير الأول ، وبه ، أي وجود الفعل في الخارج ، به يُنَاطُ عِلْمُ الظهورِ والانكشافِ ، فلا يكون منه اسْتِئْنَافٌ لمعلومٍ لم يكن ، بل قد أحاط الله ، جل وعلا ، بكل شيء علما في الأزل ، فذلك تقدير أول ، وثم من العلم بعد ما يُسْتَنْسَخُ حُجَّةً على الخلق بما كسبت الأيدي والجوارح ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فَعَمَّ ذلك حركات الاختيار جميعا ، وثم من قَصَرَ ذلك على مناط التكليف ، فَخَرَجَ بذلك المباحُ ، وإن لم يخرج ، لو تدبر الناظر ، أن يجري مجرى الذريعة إلى آخر ، فَيُلْحَقُ به من هذا الوجه ، فذلك الغالب على المباح ، مع آخر يدخله في قسمة التكليف فهو واسطة في الحد بين الأمر والنهي ، فَثَمَّ من العموم ما استغرق حركات الاختيار كَافَّةً ، على التفصيل آنفِ الذِّكْرِ ، وهو ما جاوز المنصوص من العمل في قوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فَثَمَّ من الاستنساخ ما عَمَّ القول ، وهما ، القول والعمل ، قَسِيمَانِ بها اكتمال الحدِّ ، حَدِّ التكليفِ ، فلا يكون إلا بقول أو بعمل ، إن باطنا أو آخر يظهر ، فَثَمَّ من قول الجنان : اعتقادٌ يَنْصَحُ بما يكون من تصديقٍ يجاوز حد العرفان المجرَّد ، وَثَمَّ من قولِ اللسانِ ما يَشْهَدُ ، وآخر يزيد في العمل فَهُوَ يَتْلُو وَيَذْكُرُ ، وثم من عمل الجنان ما يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ ، وَإِنِ انْصَرَفَ مبدأَ النَّظَرِ إِلَى القولِ ، فإن من التصديق حركةً في الجنان تَزِيدُ وبها الترجيحُ ، ترجيحُ القبولِ على الرَّدِّ ، فذلك في الباب أخص من التصور المحض الذي يحصل لكلٍّ ، آمن أو جحد ، وكذا من عمل الجنان حُبٌّ وَبُغْضٌ ، وهما ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أصل لكلِّ حركةٍ في هذا العالم المحدَث ، ولهما من التأويل أول في الجنان ، وهو ، أيضا ، من العمل الباطن ، فَثَمَّ إرادةُ الفعلِ وهي تأويل ما يحب ، وثم إرادة الترك وهي تأويل ما يُبْغِضُ ، وذلك مما عَمَّ فاستغرق المحسوسات ، من المطاعم والمشارب والمناكح ...... إلخ ، والمعقولات من الأديان والمذاهب والشرائع .... إلخ ، وثم من عمل الجنان آخر بما يكون من رجاء وهو تأويل الرغب ومناطه ما جَمُلَ من وصفِ الخالق الأول ، جل وعلا ، رحمةً ومغفرةً وَسِتْرًا ..... إلخ ، وكذا آخر من الخشية ، وهو تأويل الرَّهَبِ ومناطه ما جَلَّ من وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، جبروتا وقهرا ..... إلخ ، وبهما اكتمالُ قسمةٍ في الباب تَنْصَحُ ، فذلك الكمال المطلق ، جلالا وجمالا ، وَبِهِ انْفَرَدَ الله ، جل وعلا ، أولا وآخرا ، وَثَمَّ من العمل ، أيضا ، ما يحصل في اللسان بما تَقَدَّمَ من الذِّكْرِ والتلاوةِ ، بل منه ما يُصَدِّقُ بِالْفِعْلِ تَارَةً وَالتَّرْكِ أخرى ، فيكون من الصَّمْتِ في مواضعَ ما يحسن ، بل هو الواجب في النَّقْلِ والعقلِ كَافَّةً ، كالسكوت عما يقبح ، أو آخر من السكوت يَنْصَحُ في الاستدلال ، فالسكوت في موضع البيان : بَيَانٌ ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، وكذا يُقَالُ في عمل الجوارح ، فمنه الفعل ومنه الترك ، فحصل من ذلك قسمة قد استغرقت القول والعمل ، وكلٌّ قد اسْتُنْسِخَ ، وإن اقْتَصَرَ السياق على العمل في قوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، فذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى المجاز : خَاصًّا قَدْ أُرِيدَ به عام يجاوز ، فهو يدل على نفسه أصالةً ، ويدل على القول نِيَابَةً ، فذلك مجاز خصوصية ، أو آخر من الجزئية ، إذ أطلق جزءا في الخارج يَثْبُتُ ، وهو العمل ، وَأَرَادَ كُلًّا يَسْتَغْرِقُ القولَ والعملَ ، وذلك مما يَسْتَأْنِسُ به من يُجَوِّزُ المجازَ في الوحي واللسان ، ومن يجحد فهو على أصل له قَدِ اطَّرَدَ أن ذلك مما ذاع في اللسان واشتهر ، فهو من حقيقةِ عُرْفٍ أخص تَقْضِي في أخرى من اللسان أعم ، مع آخر في الباب أخص ، فالعمل ، من وجه ، يصدق في حركات الاختيار كافة ، ومنها النطق ، فهو يدخل في حد العمل ، من هذا الوجه ، فلا مجاز ، بادي الرأي ، وإنما حقيقة تَتَنَاوَلُ حركاتِ الاختيارِ كَافَّةً ، وبها يُنَاطُ التكليف ، وهو المستنسَخ في كتاب جامع ينطق بالحق الشاهد ، وذلك ، أيضا ، من العلم المحيط الذي استغرق ، وكل أولئك مما ثبت لله ، جل وعلا ، فهو العليم الذي أحاط بكل شيء علما ، إن تقديرا في الأزل ، أو تاليا يكشف ، أو ثالثا يحصي ، أو رَابِعًا بين يديه يشهد بما كان من كتاب حق يَسْتَنْسِخُ ، لا جرم حَسُنَ في مواضع إسناد العامل إلى ضمير الجمع ، حكاية تعظيم من وجه ، لا سيما في مواضع السلوى عما لَقِيَ صاحب الشرعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم من إنكار وجحود ، كما في قوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ، ولا يخلو من آخر يحكي كَثْرَةً لا في الذوات ، فالله ، جل وعلا ، واحد في الذات ، أحد في الصفات ، وإن كان ثم اشتراك في جملة من ذلك ، فهو الاشتراك المعنوي الذي يجرده الذهن فلا وجود له في الخارج يَصْدُقُ إلا المقيَّدُ ، فيكون لكلِّ حقيقةٍ في الخارج من ذلك ما يُوَاطِئُ ، وبه ضرورةً يَثْبُتُ القدرُ الفارقُ بين الخالق ، جل وعلا ، وهو الواجب في ذاته الموجِب لِغَيْرٍ بما كان من وصف تقدير أول ، وَتَالٍ من الإيجاد والتدبير يُصَدِّقُ ، فَبِهِ ضرورةً يثبت القدر الفارق بين الخالق ، جل وعلا ، في حد ، والمخلوق الحادث في آخر ، فَهُوَ ، في المقابل ، الجائز الذي يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج ، وبه يصير ذا وجود بالفعل يُصَدِّقُ ما كان أولا من وجود القوة في العلم الأول وما تَلَا من سطرٍ في لوحِ التقدير المحكم ، فكل أولئك من الجائز الذي يطلب المرجِّح بَعْدًا فيكون من الإرادة آحاد تُخَصِّصُ وَتُرَجِّحُ ، وبها المقدور يَخْرُجُ مِنَ العدمِ إلى الوجودِ ، فحصل من الإسناد إلى الجمع في قوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ، حَصَلَ من ذلك ما يحكي كَثْرَةً لا في الذوات ، على التفصيل آنف الذكر ، وإنما الكثرة في وجوه العلم ، فهو ، كما تقدم ، على أنحاء ، فتقدير أول ، وإيجاد بَعْدُ يُصَدِّقُ ، إذ يُظْهِرُ وَيَكْشِفُ ، وإحصاءٌ في صحف الملَك ، وكتابُ حَقٍّ بين يدي الله ، جل وعلا ، يَنْطِقُ بما اسْتُنْسِخَ من القولِ والعملِ ، وكذا يقال في كَثْرَةِ وصفٍ أعم ، وإن من باب التلازم ، فإن العلم لا يقوم بداهة إلا بِحَيٍّ ، فالحياة أصلٌ لصفاتِ الذاتِ خَاصَّةً ، بل والصفات جميعا ، إن صفاتِ الذات أو الفعلِ ، وثم من العلم ما أحاط فَاسْتَغْرَقَ ، فذلك مما لا يَقُومُ ، أيضا ، إلا بِقَيُّومٍ يُدَبِّرُ ، وذلك أصل آخر لصفاتِ الفعلِ خَاصَّةً ، ولا يكون ذلك إلا بحكمة في التقدير ، وقدرة وإرادة بَعْدُ تُرَجِّحُ ، وبها التكوين بما يكون من آحاد منها تحدث ، فهي تخصِّص وترجِّح في جائز من المقدور الأول ، فكل أولئك مما حَسُنَ لأجلِه إسناد العامل إلى ضمير الجمع الذي استكن وجوبا في عامله في قوله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ، على تقدير "نَحْنُ" ، وَثَمَّ من التوكيد آخر في القياس ، وهو "قَدْ" ، وإن دخلت على المضارع ، فهي تفيد التحقيق لقرينة من السياق تشهد ، وأخرى من علم الضرورة تَرْفِدُ أن الله ، جل وعلا ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ عِلْمًا ، فما تشابه من هذا الموضع فهو يُرَدُّ إلى محكَمٍ قد نَصَّ على العلم المحيط المستغرق ، كما في قوله : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) ، وإن كان القياس في الباب أن التحقيق يكون بدخول "قد" على الماضي ، فكان من ذلك آخر يثبت في مواضع ، كما في قوله : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ) ، فهم يعلمون علم يَقِينٍ به الحجة تُقَامٌ ، و : (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) ، و : (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، و : (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) ، وهو ، جل وعلا ، يعلم كل أولئك ، فَقَدْ أحاط بكل شيء عِلْمًا ، فذلك المحكم الذي يُرَدُّ إليه ما تشابه من هذه المواضع ، فكان من التوكيد ما به زيادة في التسلية ، وثم آخر بما استؤنف من القول : (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) ، فَثَمَّ توكيد قياسي أول بما كان من الناسخ ، وهو أم الباب وأصله ، وثم آخر بما كان من ضمير الشأن ، فلا مرجع له يسبق ، فالشأن ، كلُّ الشأنِ ، ما كان من حزن صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولأجله كانت السلوى ، وثم آخر من التوكيد بما كان من لام الابتداء التي تأخرت في "لَيَحْزُنُكَ" إذ اشْتَغَلَ صدرُ الكلامِ بالمؤكِّد الأقوى ، وهو الناسخ "إِنَّ" ، فهو ، كما تقدم ، أُمُّ البابِ وأصله فَاسْتُثْقِلَ الجمع بين اثنين من جنس واحد ، فكلاهما نَصٌّ في التَّوْكِيدِ ، فكان من الحكمة التأخير ، تأخير أحدهما ، فَأُخِّرَ الأضعف ، فليس بالأصل الذي يُقَدَّمُ ، وكان من ذلك ما به اكتسبت لام الابتداء وصفا أخص فهي المزحلقة التي أُخِّرَتْ استصلاحا للنطق ، وثم من المضارعة في العامل "يَحْزُنُكَ" ما به استحضار الصورة . وثم من الوصل في "الَّذِي يَقُولُونَ" ما يحكي التعليل ، من وجه ، فقولهم هو ما يحزن صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما حُدَّ مضارعةً ، وبها ، أيضا ، استحضار الصورة وتسجيل الجناية ، وهو ما أُجْمِلَ في هذا الموضع ، وَأُبِينَ عنه في مواضع أخرى ، كما افترى الوحيد فقال : (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ، وكما افترى من قبله من الأمم ، فـ : (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) . وثم من العطف فاء تفيد الفور والتعقيب في قول الرب الحميد المجيد تبارك و : (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) ، وبه المسارعة في السلوى ، وذلك مما يحسن في المعنى ، وثم آخر من التوكيد القياسي : التوكيد بالناسخ "إِنَّ" ، مع اسمية الجملة التي تحكي الثبوت والاستمرار ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : هم لا يُكَذِّبُونَكَ ، وثم آخر من الإطناب الذي يزيد في المعنى ، إذ حُدَّ الخبر حَدَّ الجملة "لَا يُكَذِّبُونَكَ" ، وثم من ذلك تِكْرَارُ الإسنادِ ، فاعل المعنى وهو المبتدأ "هم" على التقدير آنف الذكر : هم لا يكذبونك ، وفاعل المبنى وهو ضمير الجمع في "يُكَذِّبُونَكَ" ، وذلك ، من وجه آخر ، الرابط بين جملة الخبر والمبتدإ ، وهو ما نُفِيَ عاما إذ تسلط النَّفْيُ على المصدر الكامن في الفعل "يُكَذِّبُونَكَ" ، فأفاد العموم من هذا الوجه ، فليس منهم تكذيب ، وَإِنْ أَظْهَرُوا ، وثم آخر من العموم قد تناول الجمع ، فتلك دلالة الواو في "يُكَذِّبُونَكَ" ، وهو ما جاوز وضعا أول في اللسان ، فَثَمَّ من ذلك تغليب يستغرق آحاد الجمع كافة ، رجالا ونساء ، فلم يكذب أحد ، فقد علموا من حاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نصح ، فـ : (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ، فما جَرَّبُوا عليه الكذب من قبل ، وإنما الحال : جحود يبطن ، فذلك وصف الظالمين ، فَثَمَّ الابتداء بالوصل في قوله : (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ) على تَقْدِيرِ : وَلَكِنَّ الذين ظلموا ، إذ دخلت "أل" على الاسم المشتق "الظَّالِمِينَ" ، وذلك مناط العلة ، إذ الظلم سببٌ في الجحود ، هو ما يُحْمَلُ حال الإطلاق على الظلم الأكبر الذي يَنْقُضُ أصل الدين المحكم ، والسياق في هذا الموضع شاهد يعضد ، فلا يعدل الناظر عن هذا الأصل الظاهر إلا أن تكون ثم قرينة ترجح ضِدًّا ، وذلك مما استصحب في مسائل الأسماء والأحكام كافة ، كما الكفر والفسوق ، فكلٌّ يحمل على الجنس الأكبر الذي يَنْقُضُ أصلَ الدينِ المحكم إلا أن تكون ثم قرينة ترجح ضِدًّا من مُؤَوَّلٍ يخفى فلا يظهر مبدأ النظر ، فذلك الجنس الأصغر الذي يَنْقُضُ الكمال الواجب ، فلا يصار إليه إلا بقرينة أخص تُرَجِّحُ ، وهي مما اعتبر في التأويل الناصح لا آخر يتحكم فيصرف اللفظ عن الظاهر إلى المؤول بلا قرينة من خارج تُرَجِّحُ ، فذلك التحكم الذي يخالف عن الاستدلال الناصح . فكان من الظلم سبب في جحودهم ، وثم من تقديم المتعلق "بِآيَاتِ اللَّهِ" ، وحقه أن يتأخر ، ثم من ذلك ما يزيد في الدلالة وينصح ، فتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والتوكيد ، وبه تسجيل الجناية ، فقد جحدوا آيات الديانة ، بل ثم من العموم ما يجاوز فقد جحدوا أدلة النبوة كافة ، ومنها أدلة كونية تشهد ، كما انشقاق القمر ، فتلك آية كما آيات أخرى من الشرع تُخْبِرُ وَتَحْكُمُ ، وثم من المضارعة في "يَجْحَدُونَ" ، ما به استحضار الصورة ، من وجه ، وبه التنفير من هذا الوصف ، وثم آخر به تسجيل الجناية ، فجحدوا كُلًّا ، آيات التكوين وآيات التشريع ، وإن لم يكذبوا فعلا ، فحصل لهم من العرفان المجرد ما به الحجة تقام ، ولم يحصل التصديق الأخص الذي اشترط في حد الإيمان المجزئ ، فهو ، كما تقدم ، قدر يزيد في الجنان ، فلا يحصل بالتصور المجرد ، بل لا ينفك يطلب من دليل التصديق ما يرجح ، فيكون من ذلك حكم به المعنى الديني يثبت ، ولو المطلق الأول ، وهو ما خالف عنه القوم فجحدوا ، وإن حصل لهم علم أول أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادق ينْصَحُ ، بل ما كان كفرهم إلا أن صَحَّ تصورهم وَنَصَحَ ! ، فَعَلِمُوا حقيقة هذا الدين ، وما يقمع من الأهواء والحظوظ ، وما يقيد من الجاه والرياسة ، وما ينهى عنه من ربا وزنا وفواحش ، وهو ما يُنْقِصُ المكاسبَ ، فلم يجد القوم من الكسب الطيب ما به تجديد البيت المحرَّم ! ، فَغَلَبَ خَبِيثُهُمْ طَيِّبَهُمْ ، وتعلقت به النفوس ، ولو عادةً تَطَّرِدُ ، وذلك من شؤم الإلف أن يصير العصيان والكسب الخبيث هو الأصل ، فإذا خوطب صاحبه أَنْ يَتْرُكَ ، فذلك الشاق الذي يُسْتَثْقلُ ، فلا يطيقه إلا أفذاذ من الرجال ، وليسوا في الغالب من السادة والأشياخ ، فذلك أمر يكرهه الملوك ، وآخر من التَّرَفِ قد اعتادت النفوس فَلَبِثَتْ فيه عمرا يطول ، فَعَسُرَ الانتقال عنه ، فهو يجري من النفس مجرى الدم في الْعِرْقِ ، فحصل من ذلك تصور صحيح لدى خصوم الدين ، بل من أفحش في خصومته من السادة فقد علم يقينا ما يُخَاصِمُ ، فَثَمَّ دين يجاوز حد الاعتقاد المجرد ، فهو في الخارج يُؤَثِّرُ ، وهو لمجالٍ عَامٍّ من الأخلاق والأحكام يأطر على جادة بها فوات حظوظ تعجل ، فذلك من البلاء المبين ، وإن كانت عاقبته صلاح الدنيا والدين ، فَلَوْ تدبره الناظر لوجد من خيره ما يعجل ، وإن بعد ابتلاء يُقَيِّدُ ، فعاقبته خير يَعُمُّ ، فلا يكون دولة بين قليل يحكم . وإنما رَدَّتْ نفوس السادة الحقَّ بما جبلت عليه من الأثرة والشح ، فتلك جبلة كل أحد ، فكيف بمن حصل له المال والملك ؟! ، من حل أو ضِدٍّ ، فلا حاكم من خارج يجاوز ليميز الخبيث من الطيب ، وإنما مرجع ذاتي لا يجاوز ، ورائده وصف نقص ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فتلك جبلة النفس ، فليس إلا الجهل والفقر والأثرة والشح والظلم ..... إلخ ، لا جرم كانت حاجتها إلى الوحي أعظم حاجة ، أن يأطرها على جادة من الوصف تنصح ، وإن حرمت ما تشتهي بَعْضًا ، فحصل من ذلك ألم وَتَوَجُّعٌ ، كما الفطيم إذا مُنِعَ اللبن ، فإذا شب واكتمل لم يجد من ذلك شيئا ، بل علم في الفطام خيرا يعظم ، أن يَتَعَاطَى من أسباب المطعوم ما ينفع ، فالدين أوله ابتلاء بما يَشُقُّ ، وإن كان من ذلك ما احتمل فلم تكلف الشريعة بما لا يطاق ، بل المعتاد إن عرض ما يخرجه عن العادة ، فهو يجلب التيسير ، فأول الدين ابتلاء يشق ، وآخره اصطفاء بما يَسُرُّ ، وذلك ، بداهة ، ما جاوز العرفان المجرد ، فثم من آثاره في المجال العام ما ينصح ، فهو يناجز الملوك إذا ظلموا ، والأغنياء إذا احتكروا ، فلا يكون السلطان والمال دولة بين قليل يملك ، وهو بعد يحتكر على قاعدة شح وأثرة ، فلا يبذل حَقَّ غيرٍ ، بل ما حصل له الملك والمال إلا بظلمِ غيرٍ واستلاب حقه ، مع آخر من الظلم الأكبر الذي ينقض أصل الدين المحكم ، وهما ، لو تدبر الناظر ، مما يتلازم في أحيان تَكْثُرُ ، فَمَا ظلموا فجحدوا الرسالة إلا أنهم ظلموا الخلق واحتكروا الرياسة والمال دولة ، فتلك حظوظ يشح بها صاحبها ، وقد حصلت واستقرت ، فلا يرضى بداهة بما لهذه الحظوظ يبطل ، لا جرم كان الملوك والمترفون في كل أمَّةٍ : خصومَ الوحي والنبوة ، فـ : (كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|