ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية  

العودة   ملتقى أهل اللغة لعلوم اللغة العربية > الحلَقات > حلقة البلاغة والنقد
الانضمام الوصايا محظورات الملتقى   المذاكرة مشاركات اليوم اجعل الحلَقات كافّة محضورة

منازعة
 
أدوات الحديث طرائق الاستماع إلى الحديث
  #1  
قديم 02-08-2024, 07:13 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 35
افتراضي عرف اللسان

ومما يَنْصَحُ مبدأَ الاستدلالِ بالكلام العربي المفصِح ما كان من المعنى المجرَّد في درسِ المعجمِ ، وهو ما يحصلُ باستقراءٍ لكلامِ العرب المفهِم الذي نَزَلَ به الوحي المحكم ، فلا يكون من ذلك ما يُعْتَبَرُ في التفسير إلا عرف الجيل الأول الذي شهد التنزيل المحكم ، فَبِلِسَانِهِ قد نَزَلَ ، ومن جاء فهو له تَبَعٌ ، فكان من ذلك دَرْسٌ قَدِ اجتهدَ في حدِّ الاحتجاجِ ، وَهُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ إذ تَفَاوَتَ ، فَثَمَّ مِنْ عُرْفِ الْبَادِيَةِ مَا نَصَحَ ، وإن كان في التصورِّ أَضْيَقَ ، إذ ليس في الْبَادِيَةِ مِنْ ضروب الحضارة ما يكثر ، فيكون من ذلك اسْتِنْبَاطٌ لجديدٍ من المشتَقِّ يَنْصَحُ في الحكاية ، ولا يخالف عن جادة الْبَيَانِ الناصع ، فهو يُضَاهِي سماء البادية في الصفو ، فكل أولئك مما زَادَ في زَمَنِ الاحتجاج بِلِسَانِ الباديةِ ، فَبَلَغَ به أهل الشأن منتصفَ القرن الثالث من الهجرة ، وليس ذلك في الحضر يُسْتَصْحَبُ إِذْ كان من مخالطة الأعاجم ما أَفْسَدَ اللِّسَانَ ، فلا يُحْتَجُّ بكلامِ المحدَثين ، وإن كان منه بعض قَدْ وَرَدَ في دَوَاوِينِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ ، فهو من الشاهد الذي به المصنِّف يَسْتَأْنِسُ ، فَلَيْسَ مِنَ الدليل الذي يَثْبُتُ ، بل منه ما طَرُفَ في الذكر ، ، كما يذكر بعض من حَقَّقَ ، إِذْ دَارَى سِيبَوَيْهِ بشارَّ بن بُرْد ، فقد هجاه الأخير إذ لم يُضَمِّنَ "الكتاب" شواهد من نظمه ، فَأَوْرَدَ سِيبَوَيْهِ بَعْضَهُ ، لا احتجاجا وإنما استشهادا ، والباب في الأخير أوسع ، كما استشهد بَعْضٌ بشعر أبي الطيب لما له من علم بالعربية قد وسع ، وإن كان من جِيلٍ قد تأخر ، وكذا قِيلَ في استشهاد صاحب "الكشاف" بشعر أبي تمام ، فذكر من العلة أن أبا تمام من علماء اللسان ، فَاجْعَلْ مَا يَقُولُ بمنزلةِ ما يَرْوِي ، وذلك ، كما يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مذهبٌ له ليس عليه يُتَابَعُ ، فظاهر كلامه : صحة الاحتجاج بكلام المحدَث إذا كان من أئمة اللسان ، فعلمه بطرائق البيان أمانٌ من الخطإ ، إذ يَتَحَرَّى في نظمِه ونثرِه ما لا يَتَحَرَّى غَيْرٌ ، وهو ما لم يُسَلِّمُ بِهِ أهل الشأن ، فَلَيْسَ العالِمَ باللسان وإن امْتَازَ مِنَ الْعَامِيَّ الذي يَلْحَنُ ، ليس العالم بالعربيةِ كمن ينطق بِهَا سَلِيقَةً ، وإن كان في زمانه عَامِيًّا لا حظ له من العلم ، فَنُطْقُهُ المجرَّد ، ولو في عامَّةِ شأنِهِ ، ذلك دليل يَفْزَعُ إليه العالم ، بل ويرحل في طلبه ، كما نَزَلَ من نَزَلَ من أهل الكوفة بَوَادِيَ العرب فسمعوا من كلامهم ما نَصَحَ وَدَوَّنُوا منه أدلَّةً تُعْتَبَرُ ، فلا يَسْلَمُ العالِمُ المتأخِّر ، وإن كان إلى الصواب أَقْرَبَ مِنْ غَيْرٍ ، لا يسلم من الخطإِ واللَّحْنِ ، وإن تَحَرَّى الصوابَ في النظمِ وَالنَّثْرِ ، وهو ما أُحْصِيَ من شعرِ أبي تمام ، إذ أَخْطَأَ فِي أَبْيَات ، وهو مَنْ هو في الفصاحة والبيان ، فَمَلَكَتُهُ لَيْسَتْ مَلَكَةَ الجيلِ الأوَّلِ الذي أَفْصَحَ ضرورةً بما عَالَجَ من عُرْفِ زمانِه المتداوَلِ ، وإنما مَلَكَةُ أَبِي تمام مما اكْتُسِبَ بِالنَّظَرِ ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ ، من وجه ، التَّفَاوُتَ بَيْنَ التواتر العام الذي يفيد العلم الضروري ، وهو ما استوى فيه العالم والعامي ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ أَخَصَّ ، فَكَذَا كانت ملكةُ الجيلِ الأوَّل قَبْلَ فَسَادِ اللِّسَانِ ، لا كما آخر قد حدث ، وإن كان منه عِلْمٌ ، فَهُوَ العلم النَّظَرِيُّ الَّذِي يُكْتَسَبُ ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ تَوَاتُرٌ أخص قد اقْتَصَرَ على أهل الشأن ممن عالج العربية استقراءً وسبرًا ، فَحَرَّرَ من قواعدِها فِي الْبَيَانِ وَالنُّطْقِ مَا يَنْصَحُ ، فَعِلْمُهُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ نَظَرٍ لا كما أول قد نطق بالفصحى عِلْمَ ضرورةٍ لَا يُكْتَسَبُ بِنَظَرٍ أو استدلال أَخَصَّ ، فقد استوى فيه كُلٌّ ، العالم والعامي ، فحصل من قانون اللسان العربي المفصِح ما استقر في وجدان الجيل الأول الذي نَزَلَ الوحي بِلِسَانِهِ ، فكان من مادة العرف المشتَهِر لدى أولئك ما تَرَاكَمَ فِي الوجدان ، وهو مَا ائْتَلَفَ مِنْ عُرْفٍ أَوَّلَ قَدْ تَقَدَّمَ وآخرَ قَدْ حَضَرَ لدى التَّنَزُّلِ ، والأخير ، لو تدبر الناظر ، نِتَاجُ الْأَوَّلِ ، فَكَاَن مِنْ ذَلِكَ رِكْزٌ فِي وجدانِ العربيِّ الذي نَطَقَ بالعربيةِ سَلِيقَةً ، فإذا سُئِلَ عَنِ الرَّفْعِ والنصبِ والجرِّ والجزمِ المحدَث لم يحسن ذلك بل عده عجمة في النطق ، كما أعرابي قد وفد على حاضرة من حواضر الإسلام ، فدخل مسجدا من مساجدها ، وقعد يسمع عالما والتلاميذ حوله قعود ، وكان دَرْسَ عربيةٍ وَنَحْوٍ ، فسمع ما يُغْرِبُ مِنَ الاصطلاح فلا يُفْقَهُ ، فذلك من كلام الجن أو نحوه ! ، وهو ، مع ذلك ، يفقه ما يسمع من شواهد النظم والنثر ، فتلك العربية الناصحة التي يَنْطِقُ بِهَا بداهةً دُونَ تَكَلُّفِ دَرْسٍ ، بل لو عَلِمُوا حالَه لَانْفَضُّوا عن شيخهم وقعدوا يدونون كلامه ، وهو الأعرابي الذي لا يحسن يقرأ ويكتب ، ولكنه يحسن يُفْصِحُ بِمَا رُكِزَ في وجدانِه ضرورةً من مجموعِ العرفِ المستَقِرِّ الذي تَلَقَّاهٌ أَبًا عن جًدٍّ ، فَلَهُ من ذلك إسنادٌ قَدِ اتَّصَلَ ، لا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا طَلَبَ ، بل قد جاءه من طريق يسيرة إذ سمع وَقَلَّدَ ، وَبَاشَرَ لسانَ الجمعِ الذي فيه قد نَشَأَ ، وكان من عَامَّةِ كلامِه في أمورِ المعاشِ مَا يَتَلَقَّفُهُ أَئِمَّةُ البيانِ ! ، فتلك الْمَلَكَةُ الَّتِي لا تُكْتَسَبُ بِالتَّعَلُّمِ ، تَعَلُّمِ الاصطلاحِ المحدَثِ الَّذِي اسْتَقْرَأَ كلامَ الأوائلِ نَظْمًا وَنَثْرًا ، ثُمَّ اسْتَنْبَطَ وَجَرَّدَ مَا دُوِّنَ بَعْدًا من اصطلاحِ المعجَم والاشتقاقِ والنحوِ والبيانِ ، فكل أولئك مما لا اجتهاد فيه يَسْتَأْنِفُ اصطلاحًا بلا مأثور يعالجه ، فمدار ذلك التوقيفُ ، فَلَا اجْتِهَادَ فِيهِ إلا ضرورة تُقَدَّرٌ بِالْقَدَرِ ، فالقياسُ لَا يَنْهَضُ إِلَى مخالَفَةِ النَّصِّ ، فذلك من فساد الاعتبار ، كما قَرَّرَ أهل الشأن من الأصوليين ، وذلك مما عَمَّ اللسان كما الأحكام ، فكلاهما مداره التوقيف ، وإن صح فِيهِمَا القياس ، فلا يكون من ذلك ما يخالف عن النص ، وإنما شرط القياس في كلٍّ أَنْ يُرَدَّ إِلَى أصلٍ منصوصٍ عليه ، لا جرم كان من الاستدراك على القول : إِنَّ مَا قَلَّ في السماع إن كان مقبولا فِي القياس صَحَّ القياس عليه ، وذلك مما يسلم به فلا اسْتِدْرَاكَ ، وَإِنْ وُجِدَ ما يعارضه في القياس ، فَالْوَاجِبُ الوقوفُ على السماع دون التوسع في القياس عليه ، وذلك مما قَدْ يُخَالِفُ فيه بعضٌ ، كما ذكر مَنْ حَقَّقَ ، فَثَمَّ مَنْ يُجْرِي السماعَ في هذه الحال مَجْرَى الحكم التَّوْقِيفِيَّ الذي لَا تُعْلَمُ عِلَّتُهُ لِيُقَاسَ عليه غَيْرٌ ، فيشبه ، من وجه ، حكم التعبد المحض ، فإن له حكمة بَلْ وَعِلَّةً ، ولكنَّ العقل لا يُدْرِكُهَا ، وليس عدم وجدانِها بالعقل دليلا على عدم الوجود في نَفْسِ الأمرِ ، بل هي الموجودة الثابتة ، وإن لم تدركها العقول ، إذ ابْتُلِيَتْ فِي مَوَاضِعَ أَنْ تُؤْمِنَ وَتُسَلِّمَ ، فَتُصَدِّقُ وَتَمْتَثِلُ ما لا تُدْرَكُ عِلَّتُهُ ، وَإِنْ وُجِدَتْ آثارُ حكمتِه ، فَالتَّعَبُّدُ فِي نَفْسِهِ مما بِهِ استصلاحُ النَّفْسِ ، ولكنَّ الحكمةَ فِي النَّظَرِ أَعَمُّ فَلَا يُنَاطُ بِهَا تَعْلِيلُ حُكْمٍ أَخَصَّ ، وَلَيْسَتْ تُجْزِئُ فِي تَعْدِيَةِ الحكمِ من الأصلِ إلى الفرعِ ، بل لا بد من معنى أخص ، وهو ما يجرِّده الذهن ، فيكون من ذلك معنى يُعْقَلُ ، وهو في الحكم يُؤَثِّرُ وُجُودًا وَعَدَمًا ، فذلك الدَّوَرَانُ الوجوديُّ العدميُّ الذي اشترطه أهل الشأن في تحريرِ الْعِلَّةِ الَّتِي يُنَاطُ بِهَا الحكم ، وَثَمَّ من المعنى أعم لا يُنَاطُ به الحكم ، وهو معنى الحكمة ، فلا تجزئ في قياس ، على تفصيل ذكره أهل الشأن ، فَثَمَّ من أناط بها جُمَلًا من الأحكام ، فَجَاوَزَ الْعِلَّةَ المنصوصَ عَلَيْهَا ، وهو ما يُضَاهِي فِي الحدِّ ، ولو في الجملة ، ما كان من الاستحسانِ ، وهو من الأدلة الكلية الجامعة ، فَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَوَسَّعَ ، كما المالكية رحمهم الله ، ولهم ، والشيء بالشيء يذكر ، غِنًى في الأصول ، فهم ، كما يَسْتَقْرِئُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أكثر المذاهب المدونة أصولا ، ولهم في باب الذرائع والمصالح والاستحسان قَدَمٌ تَرْسَخُ ، ومحل الشاهد منه الاستحسان ، فهو عندهم كالمخصِّص أو المقيِّد لما يَطَّرِدُ من القياس ، فطرد القياس في مواضع قد يوقع الناظر في التَّكَلُّفِ ، فَيُخَالِفُ عن السنة أو مقاصد الشريعة ، فكان من الاستحسان ، من هذا الوجه ، قَيْدٌ يأطر القياس على جادة السنة ، وما قَصَدَتْ إِلَيْهِ الشريعة من الكليات الجامعة ، وَذَلِكَ فَضَاءٌ تَنْصَحُ فِيهِ الحكمة الأعم ما لا تَنْصَحُ عِلَّةُ القياس الأخص ، فَيُنَاطُ الحكم بالحكمة في هذه المواضع ، ولو ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فالأصل أن تُنَاطُ الأحكام بالعلل معقولة المعنى التي تدور معها الأحكام وجودا وعدما ، وبه الأحكام تَنْضَبِطُ أن تُرَدَّ إلى أصول ثابتة بالنص في مسائل مَبْنَاهَا التوقيفُ ، فاللسان ، في الجملة ، مما يَطْلُبُ أَوَّلًا من المادة ، نَظْمًا وَنَثْرًا ، فالحوافظ تستجمعها ، والدواوين بَعْدُ تَسْتَوْعِبُهَا ، أو تَسْتَوْعِبُ منها جملة وافرة بها الاستقراء المعتبر في الباب ، فلا يشترط فيه ، كما تقدم في مواضع ، تمام يقطع به الناظر أنه قد استوعب كُلَّ شَاهِدٍ من النظمِ أو النَّثْرِ ، فَلَا يَفُوتُهُ بَيْتُ شعرٍ ، ولا سَطْرُ نَثْرٍ ، فَأَنَّى يكون ذلك لأحد ؟! ، وَإِنْ أَطَاقَهُ زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فكيف بما كان من أجيالٍ تَسْبِقُ ، وهي ، كما تقدم ، طباق في الوجدان قد تَرَاكَمَ حَتَّى انْتَهَىَ إلى صورة الفصحى ، وهي الطريقة المثلى التي نَزَلَ بها الوحي ، فليست مما نَجَمَ دفعةً بلا سابقٍ من الأثرِ ، بل هي طِبَاقٌ أخير يحكي ما تَرَاكَمَ قَبْلًا في وجدانِ الجمعِ ، فحصل من ذلك سَلِيقَةٌ تُفْصِحُ ضَرُورَةً ، فلا تُعالجُ من النظر والدرس ما يُعالجُ المتأخر ، فالاستقراء أول في تحرير الأصول التي يُقَاسُ عليها ، فَثَمَّ استقراء يجتهد في الجمعِ ، سواء أصاب التام الذي يُفِيدُ القطع الجازم أم الناقص الذي يفيد الظن الغالب ، فكلاهما يُجْزِئُ في الاستدلال ، وإن رَجَحَ الأوَّلُ الثانِي ، فكلاهما حُجَّةٌ إذا انْفَرَدَ ، على تفاوت في الرتبة ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما حَرَّرَهُ أهل الرواية في الحكم على الأخبار ، فَإِنَّ مِنْهَا طَيْفًا من الصحيح المحتَج به قد وَسِعَ ، مِنَ المتواترِ الذي يفيد القطع الجازم إلى آحاد تفاوتها أعظم ، من صحيح قد احتفت به قرائن ، فأفاد أولا من الظن الغالب ، ثُمَّ كان من القرائن ما زَادَ في الحد ، فَانْتَهَى به إلى العلم النظري ، وهو دُونَ الضروريِّ الذي يُفِيدُهُ المتواتر ، فكان من الصحيح الَّذِي احتفت به القرائن ما عَلَا في الرتبة ، فهو أَصَحُّ الصحيحِ ، سواء أذكره صَاحِبَا الصحيحين ، وقد اشترطاه ، أم فاتهما فَاسْتُدْرِكَ عليهما ، فَلَيْسَ أَصَحُّ الصحيح ما وَرَدَ في كِتَابَيْهِمَا حصرًا ، وإن اسْتَوْعَبَا منه الجمهرة العظمى ، وليس الصحيح ، من باب أولى ، ما ورد في كتابيهما حصرا ، بل ثم من الصحيح آخر قد وَرَدَ في دواوين السنة ، كما السنن والمسانيد والموطأ والمعاجم والمشيخات ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي قَدْرِ الصحيحِ مِنْهَا ، فَثَمَّ كثيرٌ في الباب ، وهو ما تَفَاوَتَ في الرُّتْبَةِ ، وإن كان الاشتراك في الجنس الأعم ، جنس الصحة ، فَلَيْسَ واحدا في الخارج بالعين ، بل ثم وحدة النوع الذي تَتَفَاوَتُ أعيانه في الخارج ، فَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ ، وذلك الطيف الذي وسع ، فمنه أصح الصحيح ، ومنه ما دونه ، ومنه ما صَحَّ لِغَيْرٍ ، فليس ذلك وصفه مبدأ الأمر ، بل هو من الحسن الذي كَثُرَتْ طرقه ، فأفاد بمجموعها ما لا تفيد آحادها ، وكذا الحسن يدخل في حد الصحة بالنظر في كونه حُجَّةً تَسْتَقِلُّ ، فهو صحيح في الاستدلال ، وإن كان دون الصحيحِ في الاصطلاح ، ومنه الحسن لِغَيْرٍ ، فهو مجموع قد اعتضد من طُرُقٍ ضعيفةٍ تَنْجَبِرُ ، فليس ضعفها مما اشتد ، كما الشاذ والمنكر والمتروك والموضوع المكذوب ..... إلخ ، على تَفْصِيلٍ في حدِّها قد تَنَاوَلَهُ أهل الشأن في كتب الاصطلاح ، فالحسن لغيره ، أيضا ، مما يحتج به ابتداء ، وإن كان أدنى الصحيح ، على اصطلاح من يُدْخِلُ الحسن في حد الصحيح ، فالخبر عنده : صحيح أو ضعيف ، وهو ، أيضا ، مما يَسْتَأْنِسُ به على قَوْلِ مَنْ يسلكُ القسمة الثنائية آنفة الذكر ، ولكنه يدخل الحسن في حد الضعيف ، فَيُوصَفُ الحسن بأن فيه ضَعْفًا ، كَخِفَّةِ ضبطِ راوِيهِ الذي يَنْقِلُ ، ولكنه الضعف المحتمل ، أو المنجبِر ، فيستأنس به شاهدا ، ويحتج به إذا وَرَدَ من طرق تَكْثُرُ ، فمخارجها تختلف ، وبعضها يَعْضِدُ بَعْضًا ، وهو ما يبلغ بها رتبة الاحتجاج ، وإن الأدنى ، وثم مَنْ جاوز بها الحسن ، فكثرة طرق الضعيف المنجبر كَثْرَةً ظاهرة مما يزيد في قدره ، فيبلغ به حد الصحيح لغير لا الحسن لغير ....... إلخ من تفاوت في الرتبة ، وإن كان كل ما تَقَدَّمَ حُجَّةً ، على تفصيل ، وإنما يفيد التفاوت في الرتبةِ : الترجيحَ إذا كان ثم تعارض ولم ينصح في الباب وجه جمع يُعْمِلُ الأدلة جميعا ، فإعمالها خير من إهمالها ، فإن تَعَذَّرَ الجمع إذ الجهة واحدة لا تنفك ليصح حملانُ كلٍّ على وجه ، وإن تعذر بَعْدُ النسخ فَلَيْسَ ثم تاريخ يميز المتأخِّرَ من المتقدِّم ، فيكون الأول ناسخا ، والثاني منسوخا يَرْفَعُ ، فإن تَعَذَّرَ كلاهما ، فليس إلا التَّرْجِيحُ ، وله من الطرق والوجوه ما كَثُرَ ، إن في الإسنادِ أو في المتنِ ، إن في صحةِ الدليلِ أو صراحةِ الاستدلالِ ، ومنها ما تَقَدَّمَ من الترجيح في الصحة ، ومبدأ البحث فيها ، أيضا ، الاستقراء آنف الذكر ، فالاستقراء التام لِطُرُقِ البابِ يفيد يقينا يجزم ، وهو ما يُرَجِّحُ آخر هو الناقص ، وإن أفاد ظَنًّا يَغْلِبُ ، وهو ، أيضا ، يجزئ في الاحتجاج ، وإنما حصل من التفاوت بين التام القطعي والناقص الظني ، حصل من ذلك ما ينصح المستدل حال الترجيح ، على التفصيل آنف الذكر ، ومحل الشاهد منه في شواهد اللسان ، أن أكثرها مما استقرئ الاستقراء الناقص ، جملا ناصحة من الشواهد تجزئ في تحرير الأصل الذي يقاس عليه الفرع ، عند من يجوز القياس في اللسان ، بل ثم من زَادَ فيه فَصَيَّرَهُ عوضا من قِيَاِس الشرع يجزئ ، فإن اشتقاقَ الموصوفِ الذي يُنَاطُ به حكم مخصوص يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق ، وذلك بحث في اللسان ، كما المثال يضرب بمادة السكر التي اشتق منها اسم "الْمُسْكِرِ" في الخبر : "كل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكل مُسْكِرٍ حرام" ، فذلك من قياس الشمول الذي يتناول الكليات ، إذ ثم معنى كلي جامع وهو ما يجرده الذهن من مادة الإسكار ، فهي وصف قد اشتق منه اسم المسكر ، وهو معنى معتبر في حصول الحكم ، فَيَتَعَدَّى إلى آحاد في الخارج تكثر ، ولا زالت في كلِّ جيلٍ تَظْهَرُ ، فَأَجْزَأَ قياس الشمول الذي حَرَّرَ الكلي الجامع ، أَجْزأَ فِي تَعْدِيَةِ الحكم إلى كلِّ ما يَصْدُقُ فيه المعنى الذي يناط به الحكم ، سواء أكان السائل أم الجامد أم ذا أبخرة تُسْتَنْشَقُ ..... إلخ ، فأجزأَ في ذلك بِنَظَرٍ مجرد في اللسان ، فأغنى ذلك عن قياس الشرع الأخص ، وهو قياس التمثيل على الجزئي المنصوص عليه في خبر عمر ، ، إذ قال على المنبر : "إن تحريمَ الخمرِ نزلَ وهي من خمسةٍ : العنبِ والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ" ، فَثَمَّ مَعْنًى قَدْ نَصَّ عليه الخبر الأول ، وهو ما أجزأ في تعدية الحكم إلى كلِّ حادثٍ في الباب دون حاجة إلى قِيَاسٍ على أخص في الخبر الذي نص على مثل مخصوصة من الخمر ، فَذِكْرُهَا ، من هذا الوجه ، يجري مجرى المثال لعام ، فلا يخصِّصه ، وإنما يُبِينُ عنه ، أو هو الاستقراء لما كان من الخمر زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فلم يكن من ذلك قَصْرٌ للخمرِ على المذكورات ، وإنما أَرَادَ الحصر لِخَمْرِ زمانِه لَا حَصْرَ الخمرِ في كلِّ زمانٍ تَالٍ .
والشاهد أن من الاستقراء في اللسان ما غلب عليه النَّقْصُ الذي يفيد الظن الراجح ، بل لو قال قائل بل كله من النَّاقِصِ لكان لقولِه وجه معتبر بما تقدم من تَعَذُّرِ الجمعِ لكلِّ ما تَكَلَّمَتْ به العرب ، فذلك ما استوجب استقراء يجاوز زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، فيكون من ذلك ما تَنَاوَلَ طِبَاًقا تَسْبِقُ ، وهو ما كَثُرَ فَأَنَّى لأحدٍ أَنْ يَجْمَعَ ، فَمَنْ نَزَلَ بَوَادِيَ العربِ فَاسْتَقْرَأَ من كلامِهم ، نَظْمًا وَنَثْرًا ، ما أجزأ في الاستدلال لمسائل النحو ، فليس يقطع أن ذلك كلُّ مَا وَرَدَ في البابِ ، بل قد حصل منه جملة معتبرة تجزئ في تحرير الأصل والاستدلالِ لَهُ دون اشتراطِ الجمعِ ، وإلا كان الحرج الذي يَعْظُمُ في الاستدلال لأيِّ حكمٍ ، إن في اللسانِ أو في الشرعِ ، فكان من ذلك الحرج ما رُفِعَ ، إذ ضاق الأمر فَاتَّسَعَ ، فالمشقة تجلب التيسير بَعْدًا ، فكان من ذلك الاجتزاءُ بالظنِّ الراجحِ ، إن في الحكمِ على الأسانيدِ ، أو في تحرير المعاني ، فالاستقراء في كلٍّ يَنْصَحُ ، وليس في كلٍّ من اليقين ما يجزم ، بل ثم الناقص الذي يجمع طرقا في الباب تَكْثُرُ ، وبها تحرير الأصل ، وإن ظاهرا يرجح ، فذلك مما أجزأ في الاستدلال إذ يُسْتَصْحَبُ حتى يكون ثم قرينة معتبرة تَصْرِفُ إِلَى ضِدٍّ مرجوحٍ ، فَلَيْسَ يُصَارُ إِلَيْهِ ، بَادِيَ النَّظَرِ ، دون دليل يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، بل ثم منه ما يزيد في التحكم ، فهو تَرْجِيحُ المرجوحِ بلا مرجِّح ، فترجيح المساوي لآخر مثله كما طرفي الجائز لدى النظار ، فترجيح هذا المساوي على مساويه بلا دليل من خارج يُرَجِّحُ : تَرْجِيحٌ بِلَا مرجِّحٍ ، فكيف بترجيحِ المرجوحِ بلا مرجِّح ، فذلك في الحكم أَبْطَلُ .
فَأَجْزَأَ الاستقراء الناقص في مسائل اللسان ، وهو ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ، فلا يطيق أحدٌ جَمْعَ الطُّرُقِ كَافَّةً ليحصلَ له من ذلك استقراء تام يفيد اليقين والجزم ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ما به مِنَّةُ الوحيِ على لسان العرب تَعْظُمُ ، فهو الذي حفظه من التغير ، ولم يحل دون آخر من التطوُّرِ يَنْصَحُ أن يكون من مادة اللسان ما يَسْتَوْعِبُ المحدثات في العلوم والفنون ، والوحي ، مع ذلك ، قد أَتَاحَ لِلِسَانِ العربِ جُمَلًا من الأدلةِ المتواترةِ الَّتِي تُفِيدُ اليقينَ الجازِمَ الذي تَعَذَّرَ بالاستقراءِ لِمَا انْتَشَرَ من شواهد النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، واندثر من آخر لم يُنْقَلْ أو يُدَوَّنْ ، فَلَيْسَ كلُّ مَا نَطَقَتْ به طباق العرب قد نُقِلَ فَبَلَغَ المتأخِّرَ ، فكان منه استقراء تَامٌّ يَقْطَعُ ، فَلَا يَقِينَ مِنْ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ ، بل غايته ظَنٌّ يَرْجُحُ ، وهو المعتبر في الاستدلال ، ولكنه لا يَبْلُغُ حَدَّ اليقين الجازم ، فكان من الوحي ما أفاد ذلك ، فَمَنَحَ اللِّسَانَ أَصْلًا هو الأول ، فأدلته في النَّقْلِ متواترةٌ قَطْعًا ، فأفادت من اليقين ما يَجْزِمُ ، وكان من القياس عليها ما رَجَحَ القياس على غَيْرٍ من كلام العرب المأثور ، وذلك مَلْمَحٌ يَلْطُفُ قَدْ أَبَانَ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَلَئِنْ صَحَّ فِي شواهدِ اللسان ما تَقَدَّمَ من القول : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وذلك مما يُسَلَّمْ به فلا استدراك ، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس ، فَيُوقَفُ على السماع ، وذلك مما لم يُسَلِّمُ بِهِ بَعْضٌ ، بل السماع في نفسه أصل يحتج به وَيُقَاسُ عليه ، فلا يُعَارَضُ بِفَرْعٍ ، ولا يشترط له موافقة لقياس ، إذ القياس من النص ، كالفرع من الأصل ، وإن كان من القياس في نفسه : أصل من أصول الاستدلال ، فَشَاهِدٌ واحد من السمع في مسائل اللسان يجزئ في حصول أصلٍ يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وإن خالف عن القياس المطَّرد ، فكان من عمل بعض النحاة أَنْ يُقَيِّدُوا أصولهم بما يحصل لهم من الشاهد العربي المعتبر ، فيكون من زَمَنِ الاحتجاج ، ولو صَدَقَ فيه أنه لغة قليلة ، أو لغة بعيدة ، وذلك ، كما ينقل بعض من حقق ، من اختيار ابن مالك ، ، فقد اعتمد لغات قبائل في أطراف الحجاز قد جاورت العجم ، فليست تَنْصَحُ في النطقِ كما أخرى عن بلاد العجم أَبْعَدُ ، وبها نصحت لغة قريش التي نَزَلَ بها الوحي ، مع آخر من مجامعها في الموسم ، فهي سوق في اللسان تُنْصَبُ ، وكلٌّ يُجَوِّدُ بضاعته التي يَعْرِضُ ، وَقُرَيْشٌ بما لها من السيادة فهي تختار من البضاعة الجيِّدَ المستحسَنَ ، فكان من لسانهم لسانٌ جامع كما اللغة الأم ، وكان من لغاتِ غَيْرٍ ما يُشْبِهُ اللَّهْجَاتِ في هذا العصر ، فأصحاب اللَّهْجَاتِ يَتَحَادَثُونَ باللسان الجامع ، فكلٌّ يُحْسِنُهُ ، وليس كلٌّ يَفْقَهُ لهجةَ غيرِه ، وذلك وجه من جُمْلَةِ وجوهٍ قد فُسِّرَتْ بها الأحرف السبعة التي نَزَلَ عليها الكتاب الخاتم ، فكانت الرخصة حتى يُتْقِنَ الجميعُ لِسَانَ قريشٍ الجامِعَ ، وهي الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فَلَمَّا زَالَ سَبَبُهَا ، بل قد صَارَ مظنَّةَ ضِدٍّ من حَرَجٍ يَعْظُمُ أَنْ يُنْكِرَ بَعْضٌ عَلَى بَعْضٍ ، وكلٌّ قد صح له من التَّنْزِيلِ وجهٌ ، فيكون من ذلك الفتنة إذ ليسوا من أهل الفطنَةِ ، فَجُلُّهُمْ حَدَثٌ في الدين ولا سابقة له كما الأولين ، وهو ما وجد حذيفة ، ، مبادئه في الغزوِ ، فكان من ذلك سبب فِي ثَانٍ من الجمع ، أَنْ جُمِعَ كُلٌّ عَلَى حرفٍ واحد يُجْزِئُ فِي نَقْلٍ مُتَوَاتِرٍ به الحجة تَنْصَحُ ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ حَرْفُ قُرَيْشٍ ، وهو محل الشاهد ، فذلك الحرف الجامع الذي تُرَدُّ إليه الحروف الأخرى من لهجات القبائل ، رَدَّ المتشابِهِ إلى المحكَمِ .
فاختار ابن مالك من لسان لخم التي سكنت العراق ، ومنهم كان المناذرة الذين اتخذهم الفرس حاجزا دون جزيرة العرب ليكفوهم مؤنة من وراءهم من عرب الجزيرة ، وجذام التي سكنت جنوب الشام فتاخمت شمال الحجاز ، وقضاعة ولها ، أيضا ، بطون قد سكنت الشام ، وغسان ، وقد كانت لهم المملكة المشهورة التي اتخذها الروم حاجزا آخر دون جَزِيرَةِ العربِ ، لِتَكْفِيَهَا مُؤْنَةَ مَنْ وراءها من عَرَبِ الجزيرةِ ، فاختار ابن مالك من لسان أولئك ما لم يَخْتَرْ غَيْرٌ إذ اشترطوا ما بَعُدَ عن مواطن العجم دون ما قَرُبَ ، فما بَعُدَ من الأمصار ، فلم يجاور العجم في تخوم الجزيرة ، فهو من العجمةِ أَبْعَدُ ، وما قَرُبَ مِنْهَا فهو إلى العجمةِ أَقْرَبُ .

والشاهد أَنَّ قول القائل : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وَإِنْ وُجِدَ ما يُعَارِضُهُ في القياس ، فَيُوقَفُ على السماع دون القياس عليه ، ذلك ، وإن لم يُسَلَّمْ لِقَائِلِهِ مِنْ كُلِّ وجهٍ ، على التفصيل آنفِ الذِّكْرِ ، إلا أنه لا يَطَّرِدُ في التَّنْزِيلِ المتواترِ ، فإنه أصل في الفصاحة والبيان ، ولو شاهدًا واحدا في آي لم يتكرر ، فهو في نفسه الأصل المحكم ، فلا يشترط منه كثرة ، فقد نَزَلَ بالأفصح أو الفصيح ، وكلاهما يجزئ في الاستدلال ، وهو أصل ناصح يقاس عليه الحادث ، فلا يجتَزِئُ المستدل على المذكور منه ، وله قد ضَرَبَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثل بقوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، فَحُذِفَ حَرْفُ المصدَرِ "أَنْ" ، وَرُفِعَ المضارع بعده "يُرِيكُمْ" ، على تقدير : ومن آياته أَنْ يُرِيَكُمْ ، فيكون من ذلك المصدر المؤَوَّل من "أَنْ" المقدَّرَةِ وما دخلت عليه من المضارع ، فحذفت في النطق ، وَارْتَفَعَ المضارع إذ زَالَ العامل الناصب ، وإن قُدِّرَ قياسا على ما تقدم في السياق من قوله : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ) ، فالمضارع ، من هذا الوجه ، مرفوع بِنَزْعِ الناصب ، منصوب إذ قُدِّرَ النَّاصِبُ قِيَاسًا على ما تَقَدَّمَ في السياق ، فيكون من ذلك تأويل معتبر ، إذ ثم من القرينة ما يَشْهَدُ ، وهو ما تَقَدَّمَ من المذكور ، فَدَلَّ عَلَى مَا تَأَخَّرَ من المحذوف ، وذلك المطرد المشتهر في باب التقدير ، فَثَمَّ أول مذكور وبه المرجع قد ثَبَتَ في العقول ، فَقِيسَ عليه المحذوف المتأخر إذ رُدَّ إلى مرجع أول قد تقدم ، وهو ما يشبه من وجه ما اشتهر في كتب النحو من قول القائلِ : تَسْمَعُ بالمعِيدِيِّ خير من أن تَرَاهُ ، وقد روي بالرفع على نَزْعِ الناصب ، وإن قُدِّرَ في المعنى ليكون من ذلك مصدرٌ مؤول به الابتداء على تقدير : سماعك بالمعيدي خير من أن تَرَاهُ ، وفي هذا السياق يكون المذكور المتأخر من "أَنْ تَرَاهُ" دليلا على المحذوف المتقدم ، وهو مما جاز في الاستدلال ، وإن خالف عن الأصل آنف الذكر ، أن يدل المذكور المتقدم على المحذوف المتأخر لا ضده ، وروي ، أيضا ، بالنصب : تَسْمَعَ بالمعيدي خير من أَنْ تَرَاهُ ، وهو أظهر في الدلالة ، فلا بد من ناصب لهذا المضارع ، وإن اسْتُدْرِكَ عليه أن الناصب عامل ضعيف ، فلا يعمل حال الحذف ، فرواية الرفع أرجح من هذا الوجه ، وهو ما جاء به التنزيل في الآي آنف الذكر : (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، فجاء على الوجه الأقوى ، وإن خالف الأفصح ، من وجه آخر ، إذ نُزِعَ الناصب ، مع ما تقدم من سعة في الأمر ، فإن من السياق المتقدم ما دَلَّ ، وكل أولئك مما أجراه بعض مجرى التَّوَقُّفِ على المسموع كما هذا الموضع من الذكر المحكم ، فلا يقاس عليه ، فأجرى عليه الأصل آنف الذكر : إن ما قَلَّ في السماع إن كان مقبولا في القياس صح القياس عليه ، وَإِنْ وُجِدَ ما يُعَارِضُهُ في القياس ، فَيُتَوَقَّفُ على المسموعِ ولا يقاس عليه ، وثم من خالف ، كما تَقَدَّمَ مِنْ كلامِ بَعْضِ مَنْ حَقَّقَ ، فَقَدْ وُضِعَ هذا القيد في كلام العرب لاحتمال الخطإ أن يزيغ لسانهم عن القصد ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يطرد في التنزيل المحكم ، فلا خطأ فيه ولا باطل ، فـ : (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .

فهو أصل الأصول في النحو ، وثم تال من السنة ، على الخلاف المشتهر في جواز الاحتجاج بها ، وإن كان من الخلاف يسير في مواضع توقيف كما الأذكار المخصوصة ..... إلخ ، فالراوي يَنْقِلُ ما سمع من صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما تحرى في لفظه ، إذ به محل تَوْقِيفٍ مِنَ التَّعَبُّدِ ، كما رُوِيَ عن ابن عباس ، ما ، في التشهد ، فـ : "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ" ، وكما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم البراء ، ، دعاءَه إذا أخذ مضجعه ، وفيه : "فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: " قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" .
وإنما تَوَقَّفَ مَنْ تَوَقَّفَ في الاستدلال بالسنة في مسائل اللسان أن كان التصرف في الألفاظ ، إذ جازت الرواية بالمعنى ، على تفصيل في ذلك ، فَثَمَّ من قَصَرَهَا على الجيل الأول ، إذ لهم من اللسان ما يَنْصَحُ ، فَأُمِنَ تصرفهم في الرواية بالمعنى ، مع ما قد شهدوا من التَّنْزِيلِ فهو ، كما يقول بعض من حقق ، مما أفادهم من عقل المعنى ما لم يُفِدْ غَيْرًا قد جاء بعدهم ، فَجَازَ لهم من التصرف في حكايته بِلَفْظٍ آخر ما لا يَجُزْ لِغَيْرٍ قد أتى بَعْدًا ، ولو جَزَمَ الناظر أَنَّ التصرف في اللفظ منهم ما كان ثم خلاف فإنهم قَرْنُ الاحتجاج المعتبر في مسائل اللسان ، وإنما تَوَقَّفَ بَعْضٌ لاحتمالِ التصرف من غَيْرٍ قد تلا ، وليس من أهل الاحتجاج كما هم .
فَثَمَّ عُرْفُ الْبَوَادِي ، على التفصيل آنف الذكر ، وَثَمَّ آخر في المقابل من عُرْفِ الْحَوَاضِرِ ، وهو ما سَارَعَ إِلَيْهِ الفسادُ بما كان من خُلْطَةٍ تُفْسِدُ اللِّسَانَ الناصح ، فكان من العجمة واللحن ما اسْتَوْجَبَ الاحتياط فِي الحد ، فَلَمْ يجاوز منتصف القرن الثاني من الهجرة ، وإن كان لأهل الحضر ، كما يقول بَعْضُ من حقق ، معان شتى ، ومنها يَنْتَزِعُ الذهن هيئات جديدة في الحد تحكي ما غَرُبَ من الحديث المستَجَدِّ ، وهو ما يُثْرِي اللسان إذ يجتهد في اشتقاق أسماء جديدة لها ، فذلك التطور الذي يَنْصَحُ اللِّسَانَ الأول دون أن يأتي على أصوله بالإبطال ، فلا يكون منه آخر هو التغير ، فالتسوية بَيْنَهُمَا من مكر الخصمِ ، أو فاحشِ الجهلِ ، أَنْ يُصَيِّرَ الناطق ما يَطْرَأُ من عجمة اللهجات ولحنها تَطَوُّرًا يُحْمَدُ ، وليس إلا التَّغَيُّرَ الَّذِي يُفْسِدُ ، فيكون من ذلك لهجات ذاتُ نسبةٍ إلى اللسان الأم تَثْبُتُ ، ولو في الجملةِ ، وسرعان ما تَضْعُفُ بما يكون من أجيالٍ تَتَعَاقَبُ ، والسلف يُوَرِّثُ الخلف لسانا ناقصا ، حتى يكون من ذلك تبديل تام ، فلا يدرك المتأخر بَعْدَ أجيالٍ ما كَانَ من أصل اللسان الذي انْدَثَرَ ، أو قد صَارَ لِسَانَ شَعَائِرَ وطقوسٍ ، فلا يحسنه إلا آحاد قد احتكروا أسرار الكهنوت المحدَث ، فَحَلَّتِ اللهجةُ المحدَثة محل اللسان الأول ، فَلَيْسَ إِلَّا أَثَرًا بعد عين ، فلا يُحْسِنُ المتأخِّر قِرَاءَةَ نَصٍّ قَدْ تَقَدَّمَ ، وإن كان له من أصولِه بعضٌ في الوجدان يَثْبُتُ ، فيقال : لغات كذا وكذا قد اشتقت من لغةٍ أُمٍّ تَقْدُمُ ، وليس لها الآن من الاستعمال ما يَثْبُتُ ، فليس يَفْقَهُهَا وَيَتَنَاوَلُ مسائِلَها بالحفظ والدَّرس إلا آحاد من الخاصة ، فَلَيْسَ مِنْهَا لسان يُتَدَاوَلُ ، وبه تُقَامُ الحجَّةُ فِي العلومِ والمعارفِ ، فذلك مَكْرُ مَنِ اقْتَرَحَ أن يكون من لهجات العربية المتأخرة ما يُسْتَبْدَلُ بِاللِّسَانِ العربي الأول ، ذريعة التيسير وحكاية التطوير ، وليس إلا التغيير والتحريف الذي يأتي على الأصل بالهجر والنسيان ، فلا يحسن الجيل المتأخر قراءة الكتاب الأول ، ولا يحسن يدرك المعنى لما نطق به صاحب الشرعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إذ لهجة العامة قد صارت الأصل في النطق وفي الكتب ، في المعجم وفي النحو ، فاقترح بَعْضٌ جَدِيدًا من معاجم اللهجة ونحوِها وإملائِها ، بل قَدْ زَادَ بَعْضٌ فَاقْتَرَحَ استبدالَ حرفٍ أعجمي بآخر عربي ، وهو ما يبت الصلة بالإرث الأول ، من الكتاب والخبر ، فلا يفقهه إلا آحاد قد تفرغوا لدرسه ، فقد صار ، أيضا ، دين شعائر وطقوس ، وصار رجالاته كالأحبار والرهبان ، فوحدهم من يدرك أسرار الديانة ، فقد استغلق نصها الذي كان قَبْلًا المبين ، فشرطه العربية ، لا لهجة العامة التي لا تسلك جادة أولى تُفْصِحُ وَتُبَيِّنُ ، فَالتَّذَرُّعُ بِالتَّيْسِيرِ على الخلق في الْبَيَانِ والنطقِ مِمَّا عَظُمَ به المكر في الجيل المتأخر ، وهو ما يُوَاطِئُ ، من وجه ، منهاج التاريخانية الذي يقصر الاستدلال بالمأثور على الجيل الأول الذي انقرض فانقرض معه لسانه ، ولم يعد منه حجة تثبت على آخر قد جاء بعده ، وهو ما استوجب التفكيك الذي يبت الصلة بين دوال اللسان الأول ، وما تحكي من المدلول ، فلا يُوَرِّثُ السلفُ الخلفَ إلا جملة أصوات ورموز ، وهو ما ذكر بعض من حقق ، فحكى من غلو الحداثة في آدابها أن كَتَبَ مَنْ كَتَبَ شعرا ليس إلا أصواتا خالصة بلا معنى ، فلا تواطئ معجم من الألفاظ ، بل قد عجزت اللغة أن تحكي ما يقوم بنفسه من الاضطراب والاغتراب ، فَثَمَّ عدمية وعبثية ، فلا هدف ولا غاية ، وهو ما صرح به بَعْضٌ له في الحداثة قدم ترسخ ، فحد الحضارة في هذا الجيل أنها الأولى في التاريخ بلا غاية ولا هدف ، فليس ثم معنى يثبت ، بل ليس إلا النسبي المضطرب الذي نال منه التأويل الباطن ، فلا حقائق تثبت ، ولو أصولا أولى في المعجم ، وإنما تأويلات تضطرب ، فلكلٍّ من المرجع هوى وذوق محدث ، وهو أفضى بَعْدُ إلى تفكيك آخر قد جاوز اللسان إلى الإنسان ، فاللسان ، كما يقول بعض من حقق ، قد أخفق في الْبَيَانِ والتواصل بين البشر ، فاندثرت المعايير والقيم التي يحكيها اللسان ، فَلَيْسَ أداةَ التواصل المجرَّدة من القيمة والمبدإ ، بَلْ لَا يَنْفَكُّ يُضَمَّنُ في منطوقِه مرجِعَ أحكامٍ وأخلاق عنه يَصْدُرُ ، فكان من الغلو في التأويل ، أَنْ جُرِّدَ اللفظ من المعنى ، وَجُرِّدَ السياق من المدلول ، ولم يعد ثم من المأثور إلا الرموز التي تحتمل ، ولو كان من نَظْمِهَا ما يواطئ معلوما أول قد ثبت من دَرْسِ المعجم المفرد ، فَلَيْسَ ثم من ذلك إلا الاشتراك في اللفظ دون آخر في المعنى ، ولو المجرد في الذهن ، فَلَيْسَ إلا الرمز الذي جُرِّدَ من المدلول ، وَجُرِّدَ من إرادة الناطق ، وهي دليل يرجح من خارج ، فَيُبِينُ عن مراد المتكلم الذي يخفى إذ قَامَ بِالنَّفْسِ ، فَنَابَ عنه في الْبَيَانِ ما استقر من عرف اللسان ، ومنه المعجم المركب والسياق المركب ، فالمتكلم يستعمل منه ما يُوَاطِئُ المعنى الذي يريد ، فهو يُظْهِرُ ما قام بالنفس من المراد والمدلول ، فَرَجَّحَ بالإرادة إذ اختار هذا اللفظ دون غيره ، وسلك به جادة من النظم دون غيرها ، فَوَحْدَهَا ما يبين عن مراده ، إن نصا يجزم ، أو ظاهرا من الدلالة يُسْتَصْحَبُ ، وهو الراجح الذي يصدر عنه الناظر في دَرَكِ المرادِ ، إلا أن يكون ثم قرينة معتبرة تُرَجِّحُ ضِدًّا يخفى من المؤول ، فهو المرجوح ، وإن كان المحتمَل في العقول ، فلا ينصرف إليه المستدل ، بادي النظر ، فَلَيْسَ رَاجِحًا يظهر ، بل ثم من خفائه ما استوجب القرينة المرجحة ، فهي تُبِينُ عَنْهُ وَتُظْهِرُ ، وَتُصَيِّرُهُ الرَّاجِحَ ، وإن كان المرجوحَ لَدَى المبدإِ ، وذلك مما استوجب نظرا آخر أخص فهو يَتَنَاوَلُ ما دَقَّ من العرف المتداول ، فَثَمَّ منه طرق في البيان تَلْطُفُ ، وهي ما استوجب آخر من الاستقراء والجمع ، ثم النظر والسبر الذي يُحَرِّرُ طُرُقَ البيانِ والاستدلالِ ، فَمِنْهَا مَا يُفِيدُ المعنى الأول الذي يَظْهَرُ ، كما مدلولُ النحوِ ، ومنها ما يزيد معنى ثَانِيًا يدق ، كما مدلول البيان الأخص ، وَكُلُّ أولئك ما يحكي أولا قَدْ قَامَ بِالنَّفْسِ ، فذلك المعنى الذي أَرَادَ المتكلِّم ، وليس لِإِدْرَاكِهِ سَبِيلٌ تُسْلَكُ إلا معالجة العرفِ الذي به نطق المتكلم ، فلا يُفَسَّرُ كلامه بآخر قد حدث بعدا ، فذلك ما لا يكون إلا أن يقصر المعنى الأول على الجيل المتقدم الذي وَرَدَ النص بِلِسَانِهِ ، فلا يجاوزه إلى آخر قد خلف ، لَمْ يَرِثْ من السلف إلا الرمز المحتمل ، ولو كان ظاهر الدلالة في المعجم الأول بل منه نص يجزم ، فالتأويل الباطن قد أتى على كلٍّ ، الظاهر والنص ، قد أتى على كلٍّ بالإبطال ، فَثَمَّ تفكيك يَبُتُّ الصلة بين الدوال والمدلولات ، فصار الكلام ذو الدلالة الراجحة ، صَارَ المحايد الذي يحتمل ، فهو الدالة بِلَا دَلِيلٍ ، فليس إلا الصوت أو الحرف الذي يُكْتَبْ ، وليس ثم من المدلول ما يثبت ، إذ العرف الأول قد نُسِخَ ، فَانْقَرَضَ بانقراضِ جيله ، وهو ما عَمَّ معجمه واشتقاقه ونحوه وبيانه ، فلم يرث الخلفُ إلا رمزا قد استغلق ، فلا مدلول له في الكلام يَرْجُحُ ، ولو المطلق المجرد في الذهن ، فليس إلا النسبية التي تحتمل ، ولها من التأويلات ما اختلف ، فَكُلُّ جِيلٍ يُضَمِّنُ الدالة مدلولا يواطئ عرفه المحدَث ، وإن أتى على الأصل الأول بالإبطال ، فكان من ذلك تفكيك قَبْلَ التضمين ، تضمينِ الكلام وقد صَارَ الرمز أو الدالة المجردة من المدلول ، تَضْمِينَهُ جديدا يواطئ عرف المتأخر ، فلا يكون ذلك إلا يَبْطُلَ عرف المتقدم ، وإن ورث عنه نصا ، فهو الرمز أو الصوت المجرد ، فلا إرادة لصاحبه في الاستدلال ، ولا معجم ولا نحو ولا بَيَانَ إِلَيْهِ المأثور يُرَدُّ ، بل ليس ثم ، كما تقدم ، إلا الصوت والرمز ، وهو ما اقترح له المتأخر بِنْيَةً من الكلام تواطئ عرفه المحدَث ، فاقترح جديدا من المعجم والاشتقاق والنحو والبيان وطريقة في الكتب والإملاء ، وهو ما يُفْضِي إلى اندثار اللسان الأول ، وَصَيْرُورَتِهِ أَثَرًا بعد عين ، فهو سِرٌّ يُكْتَمُ ! ، فلا يعلمه إلا الحبر والكاهن ، ومن اشتغل بِدَرْسِ اللسان المنقرِض ، فلا يكون منه لسانٌ حِيٌّ يُتَدَاوَلُ ، فليس إلا لهجات محدثة ، لها نسبة أولى إلى اللغة تثبت ، ولكنها في كلِّ تالٍ من الجيل تضعف حتى تُبَتَّ فَتَنْقَطِعَ ، فلا يكون من عموم الجمع ما يفقه اللسان الأول ، فليس ذلك ، كما تقدم ، إلا درس الخاصة في المكتب ، أو آخر في المتحف من المخطوط ! ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، غاية لمنهاج الحداثة ، سواء أصرح أم كان من ذلك لَوَازِمُ من مذهبه تثبت .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #2  
قديم 15-08-2024, 11:59 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 35
افتراضي

وهو ما يُفْسِدُ النَّظَرَ في الأدلة ، فإنها نصوص تُؤَثِّرُ على قاعدة أولى من اللسان تَثْبُتُ بما استقر من مستويات الكلام : المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ، أو ما يعرف بالتداول ، فإن لكلِّ لسانٍ صِيَغَ تَدَاوُلٍ في الكلام قد اشتهرت ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، مجموع في الوجدان قد تَرَاكَمَ حتى حصلت صورة الكلام في جيل أول ، فكان من كلامه ما يُوَاطِئُ عرفه المشتهر ، وذلك أمر يحكي جُمَلًا من الاعتقادات والمبادئ والأخلاق التي يقوم عليها الجمع ، فَثَمَّ مَعَانٍ هِيَ مَرْكِزُ الفكرةِ ، وعنها تصدر الحركة ، فالكليات الجامعة التي تحصل في النفس ضرورةً ، تلك الكليات مِنْهَا المركوزُ مبدأَ الخلقِ بما استقر أولا من جبلة الطبع ، فَثَمَّ كُلِّيَّاتٌ يستوي فيها الخلق كَافَّةً ، إِنْ فِي المعقولِ أو فِي المحسوسِ ، فَالنَّفْسُ تَرْغَبُ في الطيب ، والنفوس تُعَظِّمُ المعنى الشريف ، كما الصدق وحفظ الجميل والفداء والوفاء بالعهد والعفة في القول والفعل ...... إلخ ، وثم أخرى تُكْتَسَبُ ، فإن من الوالدين أول يُخْرِجُ الفطرةَ من القوة إلى الفعل بما اعتاد الصغير من قولهما وفعلهما ، ولو في دَقَائِقِ العيشِ ، فَلَا تَنْفَكُّ تحمل معنى يَلْطُفُ ، فهو يحكي عرف الجمع الذي فيه يَنْشَأُ ، فَثَمَّ طَرَائِقُ في المطعم والمشرب والملبس ..... إلخ ، وثم عوائد في القول والفعل ، وبها تأويل ما اسْتَقَرَّ مِنْ عُرْفِ الجمعِ ، فالوالدان قد احتملاه عن جِيلٍ يَسْبِقُ ، وَكُلُّ خَلَفٍ عن سَلَفٍ يَنْقِلُ ، فيكون من ذلك إسناد قد اتصل في الوجدان ، فصاحبه يتأول معناه في الخارج بلا كلفة ، فيعالج منه مقدمات ضرورة لا تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ أو استدلالٍ ، وبها أول من صياغة المعجم الذي عنه يصدر في التصور والحكم ، ومن ذلك الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ ، وما يصدر عنهما من إباحة وحظر ، فَثَمَّ رافدُ الفطرة الأولى ، وَثَمَّ رافدُ العرفِ الَّذِي يَنْشَأُ عَلَيْهِ الفتى ، ومبدؤه ما يكون من الأبوين ، وثم تال من الجمع الذي يُبَاشِرُ ، ومنه خروج القوة الناطقة من القوة إلى الفعل ، وهو ما يجاوز النطق المجرد ، فَثَمَّ آخر أدق ، إذ يحمل دلالةَ الاعتقادِ وَالتَّصَوُّرِ ، ولو في معالجةِ أفعالٍ من الجبلة تُبَاشِرُ المحسوسات وهي ، بادي النظر ، مما استوى فيه الخلق كَافَّةً ، فكلٌّ يُعَالج من أسبابِ الحسِّ ما يحفظُ النَّفْسَ وَالنَّوْعَ .... إلخ ، وليس كلٌّ يَصْدُرُ عن مرجعٍ واحدٍ يجاوز السبب ، فيكون من ذلك باعث أول ، وهو محل الإجماع ، بل ثم الاختلاف ، وإنما اتَّفَقَ الخلقُ فِي مباشرةِ السببِ ، فهو كالآلة ، وهي الفاعلة بالطبع المركوز فيها ، فَلَا امْتِيَازَ فِي فِعْلِهَا ، وإنما امْتَازَ الفاعلون بما لهم من تَصَوُّرٍ أول فَهُوَ يحكي العلة الغائية من الفعل ، فَلَيْسَ الإنسان الحي الحساس المتحرك بالإرادة آلةً مجردة فلا بواعث أولى عنها يصدر ، ولا إرادة لها تُرَجِّحُ ، فيكون منه فاعل بالطبع اضطرارا ، فلا معنى يجاوز من خارج الحواس ، فذلك وصفٌ يَنْحَطُّ بالإنسان إلى دَرَكَةٍ دونَ دركة الحيوان الأعجم ، فإن له بواعث بها يتحرك ، وإرادة بها يختار ، ولو في أفعال الجبلة ، بل ثم من معنى الوفاء ما يحصل لأجناس من الحيوان بما يكون من الإحسانِ وَالتَّلَطُّفِ ، والوفاءُ معنى يجاوز مَدَارِكَ الحسِّ المحدَث ، وقد حصل لبعضٍ من الحيوان الأعجم ، فكيف بالإنسان العاقل المكلف ذِي التصور المكتمل بما كَانَ مِنْ قُوَّةِ النُّطْقِ ، فَلَيْسَتْ ، كما تقدم ، صورة اللفظ ، بل ثم معنى أول يحصل بالنفس ، ومنه البسيط ومنه المركب ، وهو الغاية من النطق ، وهو السابق في النفس ، فيقوم بها أولا ، وهو شَطْرٌ يَخْفَى فَلَا يَعْلَمُ مَا فِي النَّفْسِ إلا خالقها الذي قَدَّرَ وَأَوْجَدَ ، فكان من اللفظ المسموع تَالٍ يُظْهِرُ ، وهو لحدِّ الكلامِ فِي الاصطلاحِ يُكْمِلُ ، فيكون من ذلك المعنى واللفظ ، فالمعنى غاية أولى تَسْبِقُ ، وهي ما اصطلح النظار أنه العلة الغائية ، فحصولها في النفس أول قَبْلَ الشروعِ في قول أو فعل يَتَأَوَّلُ ، واللفظ بَعْدُ عِلَّةٌ فاعلة تُخْرِجُ المعنى من القوة إلى الفعل ، فيكون من اللفظ المسموع دليل على المعنى المعقول ، وكلُّ أولئك ما استوجب مرجعا أول من الاعتقاد والتصور ، فهو يحكي من غايات القول والفعل ما يُجَاوِزُ مُدْرَكَاتِ الحسِّ ، فَثَمَّ قولٌ أو فعلٌ واحد في الخارج ، فَصُورَتُهُ تَتَمَاثَلُ ، وَحَقِيقَتُهُ تَتَغَايَرُ ، بل وَتَتَنَاقَضُ في مواضع ، إذ لكلٍّ غايةٌ عَنْهَا يَصْدُرُ ، ومرجعٌ إليه يَأْرِزُ ، فَلَيْسَ كُلٌّ على دين واحد من الاعتقاد والتصور ، فآثاره لا تَنْفَكُّ تَظْهَرُ ، ولو فِي أفعالِ جِبِلَّةٍ تَحْدُثُ ، وله ، كما تقدم ، رِكْزُ فطرةٍ أولى تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ ضرورةً بِمَا اسْتَقَرَّ في الماهية الإنسانية المطلقة ، وآخر يُكْتَسَبُ من خارج ، وهو ما يُصَدِّقُ الفطرةَ الأولى في مواضع ، وَيَنْقُضُهَا في أخرى ، فَلِكُلِّ جَمْعٍ من العرف ما استقر ، فهو الدين والخلق ، وهو أمر يجاوز التصور المجرد في الذهن ، فَثَمَّ من تأويله في الخارج ما يأطر الجمع على طرائق من العيش تميزه من آخر ، ولو في أفعال الجبلة ، فلا تنفك تحمل معانٍ تختلف ، وبها الغايات تَفْتَرِقُ ، فَثَمَّ مَنْ يأكل وينكح ، وليس ثم غاية تجاوز لذة الحس المحدَث ، وهي رِكْزٌ أول في النفس لا يُجْحَدُ ، ولكنه لا يجزئ في تفضيل الإنسان المتكلم على الحيوان الأعجم ، فَلَيْسَتِ اللَّذَّةُ غاية أولى تُرَادُ لذاتها من كل وجه ، فذلك مما يُفْسِدُ التصور إذ ينحط بالإنسان المكرَّم إلى دركة الحيوان الأعجم ، فَيَفْسَدُ الحكم تَبَعًا ، كَمَا يُعَالج الناظر في الجيل المتأخر من قيم الإنتاج والاستهلاك طلبا للذة ، فذلك مجموع لا يجاوز حد المادة ، فلا مرجع من خارج يجاوز ، إذ اشْتَغَلَ الناظر بالعلة الصورية التي يُبَاشِرُ ، فَلَيْسَ ثم أخرى غائية تجاوز ، بل البحث فيها نقصان في العقل وتبديد للجهد ، وَرِدَّةٌ إلى ما وراء الحس ، فليس ثم إلا الجسد الذي اخْتُزِلَ فيه حد الإنسان ، فَلَيْسَ إِلَّا المادة التي يعالجها الحس ، فما سواها فهو العدم ، لا الغيب المجاوز الذي لا تُدْرِكُهُ الحواسُّ ، فهي تطلب حَقِيقَةً تُجَاوِزُ ، فَثَمَّ الروح ، وهي ما جاوز الجسد ، ولها من أسباب المعنى ما يجاوز مدارك الحس الظاهر ، فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج ، وَبِهِ تُعْقَلُ مَعَانٍ من الغيب تجيب عن سؤالات ضرورة في الخلق والشرع ، في التصور والحكم ، في الحسن والقبح ، فَإِنَّ رِكْزَ النَّفْسِ الأول لا ينفك يدخله الإجمال الذي يطلب الدليل المبين ، بل لو تدبره الناظر ، ولو مجملا في الوجدان الباطن ، لأقام منه دليلا ينقض دعوى الحداثة إذ تقصر العلم على مدارك الحس ، فإن معنى الحسن والقبح الذي يحصل ضرورة في النفس لا يدخل في مدركات الحس ، وإن كان منها ما يعالج آثاره في الخارج ، كما الحس يعالج آي الإتقان والإحكام في الخلق ، فيستدل بها ضرورة على خالق أول ، له من وَصْفِ العلمِ مَا أَحَاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، وَبِهِ الإتقانُ والإحكامُ في الخلقِ يَظْهَرُ ، فَكَذَا الحسُّ لا يُجْزِئُ دليلا على معان من الحسن والقبح قد حَصَلَتْ فِي النفس ضرورةً أولى لا تُعَلَّلُ ، كما حُسْنُ الصدقِ والأمانةِ والوفاءِ ..... إلخ ، فَأَنَّى يكون لناظر آلة تجريب وبحث بها يقيس هذه المعاني ، فهي مما جاوز الحس ، وإن أَدْرَكَ آثارها في الخارج ، إذ يُصَيِّرُهَا أخلاقَ نَفْعٍ مجرَّد ، فالصدق والأمانة يزيدان من ثقة المستهلك في المنتج ، فيكون من رَوَاجِ السِّلْعَةِ مَا يَزِيدُ في الكسبِ ، وهو الغاية التي تدرك بالحس ، فلا يطيق ، مع ذلك ، حد المعنى الذي قام بالنفس ضرورة أولى لا سبب لها من الحس ، فالأخلاق والمبادئ لا تصدر عن مادة تُدْرَكُ بالحسِّ ، من إفراز أو نبض ، بل ذلك الأثر المحسوس مما يحصل تَالِيًا ، كما الفرح والحزن ، فَرَحُ من يفعل الحسن ، وَحُزْنُ من يفعل القبيح ، وما يكون من آثار في الجسد تظهر ، كما أثر عن ابن عباس ، ما ، فـ : "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق" ، وذلك مما اطرد وانعكس ، حسنةً تَنْفَعُ وَسَيِّئَةً على ضِدٍّ فهي تَضُرُّ ، فَثَمَّ جَسَدٌ يَنْفَعِلُ بما يكون من معنى أول في النفس يَبْعَثُ ، فهو العمدة في الاعتقاد والتصور ، وباعث الفعل أو الترك المصدِّق ، فيكون من حركاتِ الجسد لُغَةٌ أخرى تُبِينُ في مواضع ما لا تُبِينُ لغة النطق والكتب ، فقد تكذب ، فيكون من الجسد ما لها يفضح ، كما حد أهل الفراسة وصف الكاذب ، بل كان من ذلك الاختبار الذي يكشف ، فهو يعالج آثار الكذب في الجسد بما يكون من الاضطراب والتعرق ...... إلخ ، فلا يعالج حقيقة الكذب ، فذلك معنى لا يُرْصَدُ بالحسِّ ، وإنما يُعَالج الحسُّ آثارَه على التفصيل آنف الذكر ، فالحسن والقبح مما أُجْمِلَ في وجدان المكلَّف ، فذلك قدر من العلم ضروري لا يكتسب ، فهو مما رُكِزَ في الجبلة مبدأَ الخلقِ ، فتلك فطرة أولى تَنْصَحُ ، فلا جواب من الحس يجزئ في التفسير ، بل قياس العقل الصريح يوجب رَدَّ هذه الفطرة الأولى ، إن المحسوسة أو المعقولة ، إلى فاطر أول لا فاطر قَبْلَهُ ، وبه حسم ما امتنع ضرورةً من التسلسل في المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ جُمَلٌ من فطرةِ الحسِّ قد رُكِزَتْ فِي الجسدِ ، وثم أخرى أَلْطَفُ قد رُكِزَتْ في العقل أو النفس أو الروح ، فهي الحقيقة المجاوزة ، فليس لها في الخارج جِرْمٌ يُحَدُّ ، بل ثَمَّ من أَمْرِهَا ما اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ الخالق الأول ، جل وعلا ، فـ : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، فلا تُدْرَكُ بالحسِّ ، وإن عالج الحسُّ آثارها في الخارج بما يكون من حركات البدن ، اضطرارا أو اختيارا ، وهو ما جاوز أفعال الجبلة إلى أخرى تميز الجموع في الدين والملة ، فَثَمَّ منها قوى في النفس تحسن وتقبح ، وذلك ، كما تقدم ، أول في حد الكلام ، فثم المعنى الذي يحصل في الجنان قَبْلَ تَالٍ له يصدق من اللسان ، وآخر من لسان الحال ، وهو الأصدق في مَوَاضِعَ ، فالعاقل يَكْذِبُ في أحيان منها الجائز ، ومنها المحرَّم ، وهو الأكثر ، فيكون من الحال ما تَفْضَحُ ، فحصل من المعاني بواعث أولى في الجنان ، وهي شطر أول من الكلام ، فالمعنى سَابِقٌ في النفس ، واللفظ تال يُصَدِّقُ في النطق ، وليس الحس ، كما تقدم ، يحد المعنى الذي يقوم بالنفس ، فَثَمَّ معادن أولى من الوصف ، حُسْنًا أو قُبْحًا ، وذلك المجمل الذي حصل ضرورة أولى لا تُعَلَّلُ ، ولا تنفك تطلب آخر يُصَدِّقُ ، وهو عما أُجْمِلَ من الفطرة يُبَيِّنُ ، ولما اعوج منها يُقَوِّمُ ، فذلك مَحِلُّ إجماعٍ لدى العقلاء كافة ، وإنما افْتَرَقَتْ بهم السبل في المرجع الذي يُصَدِّقُ وَيُبَيِّنُ وَيُقَوِّمُ ، فكان من ذلك مرجع لا يجاوز ، وهو مرجع الحداثة الذي تَفَاوَتَ في الحد ، وَتَسَلْسَلَ في الفعل ، إذ نَقَلَ الناظر عَلَى مُكْثٍ ، فمن المرجع المجاوز من خارج الإنسان إلى آخر يصدر عن الإنسان إلى ثَالِثٍ لا يجاوز المادة ، فَجَرَّدَ الحياة مِنْ كُلِّ معنى ، ولو بواعثَ فطرة أولى في الإنسان ، وهي المجملة التي تطلب الْبَيَانَ من خارج ، ولها من وصف المعنى ما جَاوَزَ المادة ، ولو المعنى المجمل ، فَانْتَقَلَ الوسواس وَتَدَرَّجَ ، فمن الوحي مرجعا يجاوز من خارج إلى الإنسان الذي صار المركز ، ولئن طغى ، فلا زال ثم بقية فطرة في النفس تحجز ، ومن الإنسان إلى المادة ، ولا حياة فيها ولا حس ، ولا معدن أخلاق به تميز الحسن من القبح ، ولها ، مع ذلك قوانين في الحركة والسكون ، وذلك ما جاوزته الحداثة في دَوْرٍ تَالٍ ، فآل الأمر ، كما قال بعض من حقق ، إلى عبث لا حاكم له يأطر ، إن مِنْ معنى أو مادة ، وذلك الضلال الذي لا منتهى له ، إن لم يكن الوحي رائدا ، فمن دركة إلى أخرى أدنى ، وليس ثم قاع فيه يَسْتَقِرُّ الضال الذي حاد عن جادة النبوات الَّتِي أَثْبَتَتْ قسمة الروح والجسد ، المعنى والمادة ، فَلَمْ يَصْدُرْ مقالها عن قاعدةٍ تَتَحَكَّمُ فِي الحدِّ ، فتصدر عن واحد في الخارج لا يَتَعَدَّدَ ، فَتِلْكَ قاعدةٌ فِي التَّصَوُّرِ تَصْدُرُ عَنْ بُعْدٍ وَاحِدٍ ، فلا تجاوز الحس المحدَث ، فليس ثم في الخارج إلا واحد بالعين ، وهو المدرَك بالحسِّ ، وليس ثم امتياز معنى من مادة ، جائز من واجب ، مخلوق من خالق ، فَثَمَّ واحدية في التصور والحكم ، قد جَحَدَتْ مَا جاء به الوحي من مادة التوحيد الناصح الذي يميز الخالق الأول من المخلوق المحدَث ، فَثَمَّ مرجع لا يجاوز ، قد اكْتَفَى بِذَاتِهِ في التصور والحكم ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى مَرْجِعٍ من خارج يجاوز ، وهو ما انحط بالعقل من مرجع الوحي المجاوز ، ولو مبدأ الأمر ! ، فكان من الحق ما تَوَسَّلَ به الوسواس إذ يستدرج ، فقد بُدِّلَ الوحي وَحُرِّفَ ، وصار على ضِدٍّ من القصد والخبر والحكم ، إِذْ نَزَلَ بمادة توحيد وتحرير ، فهي تخرج الخلق من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق ، جل وعلا ، وذلك القياس الناصح ، وهو موجِبُ النظر المصرَّح ، إذ امْتَنَعَ التَّسَلْسُلُ في المؤثرين أزلا ، فَوَجَبَ رَدُّ هذا العالم المحدَث إلى أول لا أول قَبْلَهُ ، فكان من ذلك توحيد يميز المحدَث من القديم ، الجائز من هذا العالم الحادث فلا بد من أول هو الواجب ، وله من ذلك وصف الذات الَّذِي لَا يُعَلَّلُ ، فَوُجُوبُهُ ذَاتِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلى سببٍ من خارج ، كما آخر من وصف المحدَث من هذا العالم ، فهو ، ابتداءً ، الجائز ، وذلك ، أيضا ، وصف الذات الذي لا يُعَلَّلُ ، فافتقار الجائز إلى موجِب مرجِّح من خارج ، ذلك وَصْفُ ذَاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، فَكَمَا الافتقار في المخلوق وصف ذات لا يعلل ، فذلك مما يفتح ذَرَائِعَ التَّسَلْسُلِ ، إذ لا ينفك يطلب سَبَبًا من خارج يرفد ، فَثَمَّ سبب يرجح في الجائز فيصيره الواجب ، الواجب لغير بما احتف به من قرينة من خارج ، قرينة الموجِب المرجِّح ، وذلك قياس النظر المحكم ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عَمَّ كُلَّ قانونٍ في هذا العالم المحدَث ، واعتبر بقانون النطق ، فاشتهر من كلام النحاة أن المضارع يُرْفَعُ ، فذلك الأصل الذي يُسْتَصْحَبُ ، فَقِيلَ في إعراب المضارع صَدْرَ الكلامِ أنه المرفوع لِتَجَرُّدِهِ من الناصب والجازم ، فَثَمَّ أول يُسْتَصْحَبُ ، وذلك الرَّفْعُ ، فَلَا يَعْدِلُ عنه الناظر تَحَكُّمًا بلا دليل يُرَجِّحُ ، بل لا يكون ثَمَّ نَصْبٌ ولا جَزْمٌ ، وذلك عدول عن الأصل ، لا يكون ذلك إلا بدليل مُرَجِّحٍ من ناصب أو جازم ، إِنِ المذكورَ أو المقدَّر ، كما قال من قال في قول القائل : تسمعَ بالمعيدي خير من أن تراه ، فإن ثَمَّ عدولا عن الأصل الأول الذي يُسْتَصْحَبُ في المضارع صدرَ الكلام إذ لم يُسْبَقْ بِنَاصِبٍ أو جازمٍ ظاهر ، فالأصل هو الرَّفْعُ ، فلا يُعْدَلُ عنه إلى نصب أو جزم إلا أن يكون ثم دليل ناقل ، وهو الناصب أو الجازم ، وإلا كان التَّحَكُّمُ تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، فالخروج عن الأصل لا يكون إلا بدليل ، وعلى الناقل الدليل لا على المستمسِك بالأصل ، فَمَنِ اسْتَمْسَكَ بالأصل في المثال آنف الذكر ، فهو يرجح رواية الرفع : تسمعُ بالمعيدي خير من أن تَرَاهُ ، إذ ليس ثم دليل ناقل ، فَمَنْ نَقَلَ الحكم من الأصل المستصحب إلى آخر يطرأ ، ولم يكن ثم دليل يَنْقِلُ ؟! ، فالأصل في المضارع الرَّفْعُ إذا تَجَرَّدَ من عامل النصب والجزم ، فإذا نُقِلَ عن الأصل ، فلا بد من دليل ناقل ، وهو ما قُدِّرَ مِنْ "أَنْ" الناصبة ، وإن ضُعِّفَ هذا التخريج ، من وجه ، فالعامل الناصب مما يَضْعُفُ فِي العملِ فَلَا يَقْوَى أَنْ يعملَ حالَ الحذفِ ، لا جرم رَجَّحَ بعضٌ رواية فيها ذكر الناصب : أن تسمع بالمعيدي خير من أن تَرَاهُ ، فيكون هو ومدخوله من المضارع المنصوب في تأويل المصدر الذي يُبْتَدُأ به الكلام على تقدير : سماعُك من المعيدي خير من أن تَرَاهُ ، أو أخرى تبدأ بالمضارع المرفوع : تسمعُ بالمعيدي خير من أن تَرَاهُ ، وذلك ، كما تقدم ، الأصل الأول في المضارع المعرب ، فالأصل فيه الرَّفْعُ إذا تَجَرَّدَ من الناصب والجازم ، فلا يعدل عنه الناظر إلا بدليل يُرَجِّحُ ، وإلا كان التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح ، فصاحبه قد عدل عن المستقر في قانون النطق ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما حَصَلَ بالاستقراء والجمع ، جمع الأدلة من كلامِ مَنْ يُحْتَجُّ بِلِسَانِهِ ، ثم نَظِرٍ تَالٍ يَسْتَنْبِطُ ، فَيُجَرِّدُ من هذه المادة المجموعة أَصْلًا يَطَّرِدُ فِي الحكمِ ، فَهُوَ معنى جامع قد حصل في كلِّ شاهدٍ ، فَحَصَلَ من ذلك ظَنٌّ يغلب ، لا يَقِينٌ يجزم ، فَجَمْعُ الْمَادَّةِ كُلِّهَا بالاستقراء التام ، ذلك مما يَتَعَذَّرُ في مواضع تَكْثُرُ ، بل يكاد ذلك يَغْلِبُ ، لا سيما في شواهد النطق المفصِح ، فإن ذلك مما كَثُرَ وَانْتَشَرَ فلا يكاد يُحْصَى يَقِينًا ، فَأَجْزَأَ فِيهِ الاستقراء الناقص الذي يَتَنَاوَلُ جملةً معتبرةً من الأدلة ، وإن لم يَسْتَوْعِبُ ، فَحَصَلَ مِنَ المادة المجموعة ما أَجْزَأَ فِي الاستنباط ، وإن أَفَادَ مِنْ ذلك ظَنًّا يَغْلِبُ ، فذلك مما يجزئ في النظر ، وبه قد رُفِعَ الحرجُ ، فَلَوْ اشْتُرِطَ اليقينُ الجازم في جميع المسائل ، لكان من الحرج ما يعظم ، وهو ما عم العلوم كافة وَاسْتَغْرَقَ ، إِنِ النَّقْلَ أو العقلَ أو التجريبَ والبحثَ ، فأجزأ الظن الراجح ، وكان من ذلك نَظَرٌ فِي العقل يُجَرِّدُ المعنى الجامع الذي اشْتَرَكَتْ فِيهِ الآحادُ في الخارج ، وإن لم يَخْلُ من الاستثناء ، فذلك مما سلك به النحاة في مسائل الإعراب مَسْلَكَ النَّصِّ ، فتلك لغة فلان أو فلان من العرب إذ خالفوا عن الأصل المطرد ، فَيَحْكِي ذلك لغة تسمع ، أو أخرى قليلة ، أو ضرورة في النظم خاصة ....... إلخ من وجوهِ التخريجِ ، فَلَا يُهْمَلُ مَا ثَبَتَ في النقل المصحَّح ، ولو شاهدًا واحدا من الكلام المفصِح ، بل ثَمَّ مَنْ عَدَلَ بالأصلِ الذي جَرَّدَ ، أَنْ يُوَاطِئَ هذا الشاهد الأوحد ، فذلك باب مداره التوقيف ، والسمع فيه أول من الدليل ، فإذا سَمِعَ من كلام مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ تُوجِبُ فِي الأصل المجرد زيادة تُخَصِّصُ ، فيجري ذلك ، من وجه ، مجرى العام ، فدلالته ابتداء : دلالة الظن الراجح ، وهو ما حصل ، أيضا ، بالاستقراء الناقص أو الغالب ، فحصل منه ظَاهِرٌ يُسْتَصْحَبُ ، ودلالتُه دلالةُ راجحٍ قد احتمل غيرا ، فلا يُصَارُ إلى غيرٍ في الباب إلا أن يكون ثم دليلٌ ناقلٌ ، قَرِينَةً من خارجٍ تُرَجِّحُ مَا لَا يَظْهَرُ مبدأَ النظرِ ، كما قرينة المخصص للعام ، فإنها تعدل به عن الأصل الأول ، وهو استغراق العام لآحاده كَافَّةً بِوَضْعٍ أول فِي اللِّسَانِ ، وضعِ الشمولِ الذي يَتَنَاوَلُهَا دفعةً ، فقرينة المخصِّص تخرج بعضَ آحادٍ من العام ، وذلك عدول عن الأصل الأول ، فلا يُصَارُ إليه إلا بدليلٍ يَصْرِفُ ، فلا يكون من ذلك دعوى تُخَالِفُ عنِ الأصلِ ، وهو ما اطَّرَدَ فِي العرف ، ولا مستند لها إلا التجويز المحض ، فذلك ما بَطَلَ في مواضع الجدال كَافَّةً ، إذ يصادر على المطلوب ، وَيُصَيِّرُ الدعوى دليلا ، وهي الطالبةُ لدليلٍ من خارجها ، فلا يكون المدلول دليلا ، فذلك الدور الباطل ، أن يُسْتَدَلَّ بالشيء على نفسِه ، فَإِنَّ ثُبُوتَهُ ابتداءً مَحِلُّ خلافٍ ، وليس يَرْتَفِعُ إلا بدليل من خارج المحل ، محل النِّزَاعِ ، فالخصم لا يُسَلِّمُ ابتداءً بالدعوى لتكون دليلا في الباب يثبت ، فلا يكون تخصيص إلا بدليل ، فَثَمَّ عام هو الظاهر المستصحب مبدأ النظر ، ودلالته دلالة الراجح المحتملِ ضِدًّا هو المرجوح ، فاستصحب الراجح حتى يرد دليل يوجب العدول إلى المرجوح ، وهو في باب العموم : العموم المخصوص ، فَثَمَّ عام أول قد حَصَلَ في الخارج باستقراءٍ غالبٍ ، فأفاد الظن الراجح ، وهو ما يُجْزِئُ في الاستدلال ، فالمضارع ، وهو محل شاهد تقدم ، المضارع قد استقر من حكمه : أصلٌ أول يُسْتَصْحَبُ ، وهو الرَّفْعُ إذا تجرد من الناصب والجازم ، فحصل من الاستقراء ما تَنَاوَلَ جُمْلَةً معتبرة من الكلام المحتَجِّ به حَتَّى اسْتَقَرَّ في الوجدانِ أَنَّ المضارع المجرد من الناصب والجازم حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، فذلك الأصل فيه ، وإن خالفَ عَنْ أصلٍ أول في باب الأفعال ، فالأصل فيها البناء إلا كان من المضارع إِذْ ضَارَعَ الاسمَ وَشَابَهَ أَنَّهُ مما يَقَعُ في محالٍّ لا تَسْتَبِينُ دلالاتها إلا بالإعراب الذي استوجب تَغْيِيرًا في أواخر الكلم ، مذكُورًا أو مقدَّرًا ، فكان من ذلك ، أيضا ، أصل في الأفعالِ ، وهو البناء ، فذلك مما حَصَلَ بالاستقراءِ ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ لدى النحاة أن الفعل على ثلاثة أضرب : الماضي والمضارع والأمر ، ولكلٍّ دلالةٌ من الحدث وَالزَّمَنِ ، مع اختلاف في الدلالة : خَبَريَّةً كما الماضي والمضارع ، وإنشائيةً تَسْتَقْبِلُ كما الحال في الأمر ، فدلالته دلالة الاستقبال حصرا إذ يحكي من الطَّلَبِ ما لم يَقَعْ بَعْدُ ، وإلا كان لَغْوًا من القول ، أَنْ يُطْلَبَ ما قد وقع ، فذلك تحصيل الحاصل ، وإنما يُطْلَبُ ما لم يَقَعْ بَعْدُ ، فَثَمَّ قسمةٌ في المعنى ، وهو أصل عنه الإعراب يَصْدُرُ ، فَثَمَّ قسمة المعنى في باب الأفعال وهي على ضَرْبَيْنِ : الخبر الذي يحكي ما وقع وانقضى ، وتلك دلالة الماضي ، وما وَقَعَ وَاتَّصَلَ زمانه فَلَمَّا يَنْقَضِ بَعْدُ ، بل له أول قد انْقَضَى ، وَثَانٍ يُباَشِرُهُ الفاعل زمنَ التكلمِ ، وثالثٌ يُسْتَقْبَلُ ، فهو يَصْدُقُ في كلِّ فاعلٍ يُبَاشِرُ ، فَلَا يَنْفَكُّ يجاوز الحاضر إلى الاستقبال ، ولو بَعْضًا يَسِيرًا به يَفْرُغُ من الفعل ، فدلالة المضارع تجاوز الحال إلى الاستقبال ، وثم ثالث ، وهو الأمرُ ، ودلالته الإنشاء الذي يطلب حَدَثًا يُسْتَقْبَلُ ، فَلَمْ يَقَعْ وَيَنْقَضِ ، ولم يباشره المأمور ، فيكون منه بعض قد انقضى وآت يباشره الفاعل في زمنٍ يُسْتَقْبَلُ ، فالأمر ثالث في القسمة ، ودلالته دلالة الإنشاء الذي يطلب حَدَثًا يُسْتَقْبَلُ .
وكل أولئك مما استقر في الوجدان بما استقرأ من كلام العرب المحتج به ، فاطرد في عرفهم أن الكلام على ضربين : خبر وإنشاء ، وله في قسمة الفعل أَثَرٌ يظهر ، فَقِسْمَتُهَا : خبرية وإنشائية ، على التفصيل آنف الذكر ، وذلك ، أيضا ، من الظاهر المستصحب ، فَثَمَّ ظاهرٌ في الماضي والمضارع أَنَّ الدلالة خَبَرِيَّةٌ محضة ، وثم ظاهر في الأمر أَنَّ الدلالة إِنْشَائِيَّةٌ محضة ، وذلك مما حصل بالاستقراء الغالب ، فَلَيْسَ النَّصَّ الجازم الذي يَسْتَغْرِقُ عمومُه جميع الآحاد قَطْعًا ، بل ثم من الاستثناء ما ثَبَتَ ، فكان من ذلك تخصيص لعام أول يُسْتَصْحَبُ ، فمن الخبر الماضي ما يحكي دلالة تخالف عن الأصل الأول ، فَثَمَّ دلالة لِمَا يُسْتَقْبَلُ ، وَإِنْ خَبَرًا لا إنشاءً يَطْلُبُ ، كما في قوله : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، فَلَمَّا يَأْتِ بَعْدُ ، بل ذلك مما يأتي تأويله في المستقبل ، وهو خَبَرٌ لَا إِنْشَاءٌ ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الحاصل الذي انْقَضَى مَئِنَّةَ التوكيد المحقق ، وكذا الماضي قد يُرَادُ به إنشاءٌ ، كَمَا القائل إذ يَسْتَفْهِمُ : أتى زيد ؟ ، فإن السياق إذا جُرِّدَ في النطق أو الكتب ، فدلالته دلالة الخبر المحض ، فلا ينفك يطلب قرينة من النطق أو الكتب تُرَجِّحُ ما لا يظهر بادي النظر ، فيكون من ذلك قرينة ترجح العدول عن الظاهر ، وبه تقدير المحذوف من أداة الاستفهام ، كما حمل عليه قول الكميت :
طربت وَمَا شوقا إِلَى الْبيض أطرب وَلَا لعبا مني وَذُو الشيب يلْعَب .
فَثَمَّ من قرينة السياقِ ما رجح الاستفهام المحذوف ، على تقدير : أَوَذُو الشيب يلعب ؟! ، وَقُدِّمَ الهمز إذ له الصدارة مطلقا ، فَخُصَّ من غير من أدوات الاستفهام أن له صدارة مطلقة ، ولو على العاطفِ ، فالقياس أن يَتَقَدَّمَ العاطف فهو يعطف جملة على أخرى ، فيسبق المعطوف إلا إن كان صدره استفهاما بالهمز ، كما في هذا الموضع ، فَخُصَّ الهمز أن تَقَدَّم على العاطف ، فَقُدِّمَ بعض المعطوف على أداة العطف ، وثم آخر يُقَدِّرُ مَعْطُوفًا عليه يواطئ السياق ، على تقدير : أغفلتم عن حالي وقد علاني الشيب وَأَذُو الشيب يلعب ؟! ، وهو ما أُشْرِبَ معنى الإنكار المشوب بالعتابِ ، ولا ينفك يَطْلُبُ من نَغَمَةِ الصوتِ ما يَرْفِدُ ، فهو قرينة من خارج تبين عن مراد القائل ، وفيه يَصْدُقُ أنه لسان الحال ، وإن كان ثم صوت يصدر ، فهو يجاوز النطق المجرَّد ، وتلك دلالة حالية تجاوز ، فَنَبْرَةُ الصوت قرينة من خارج ، ولا يعلم ذلك إلا من باشر الحدث ، فسمع الكلام في سياق مخصوص ، فَثَمَّ معنى ثَانٍ يجاوز النطق ، فذلك ما زاد من نبرة الصوت ، وذلك مما لا يُكْتَبُ ، لَا جَرَمَ كَانَ من شهود الحدث ما يُرَجِّحُ حَالَ التَّعَارُضِ وَتَعَذُّرِ الجمعِ ، فالشاهد مَعَهُ علم زائد يُوجِبُ الانتقالَ إِلَى قَوْلِهِ ، إذ شَهِدَ وَغَابَ غَيْرٌ ، والشاهد حَكَمٌ على الغائب لا ضد ، فكان من دلالة الصوت مَا زَادَ فِي التَّقْدِيرِ : أداة الاستفهام ، وذلك ما يفتح باب التقدير ، فإن من الاستفهام أدوات تكثر ، فَقُدِّرَ الهمز خاصة ، إذ هو أم الباب الذي يَتَبَادَرُ ، من وجه ، وله من ذلك خاصة التقدير حَالَ الحذفِ ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يَتَبَادَرُ ، كما قِيلَ في حذف النداء ، فالمتبادر في تقديره هو أم الباب "يَا" ، وبذا قد جَاءَ التَّنْزِيلُ في مواضع ، كما في نداء الرب ، جل وعلا ، في دعاء الكليم ، عليه السلام ، وهو يسأل الخير فَقَدَّمَ بين يديه الثناء باسم الرب ، جل وعلا ، فـ : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ، فَثَمَّ نداء يُقَدَّرُ لِبَعِيدٍ ، وتلك حكاية العلو الذي استغرق الذات والشأن والقهر ، فذلك مما ضُمِّنَ الجلال والجمال معا ، وإن كان الجلال أغلب ، فَثَمَّ جَمَالُ الطَّلَبِ فلا يكون إلا من كَرِيمٍ يُجِيبُ السُّؤْلَ ، والعطاء عنده أَحَبُّ من المنع ، بل لا يمنع إلا لحكمة ، فيكون من رحمته في المنع ما يعظم ، إذ قد عَلِمَ المصلِح من المفسِد ، فقد يكون في المنع ما يحجب العبد أَنْ يَطْغَى وَيَظْلِمَ ، فيكون من ذلك ما يحجز ، وإن كان من هَمِّ الإرادة ما يُلْحِقُ العاجز بالقادر إِنْ في الخير أو في الشر ، كما في الخبر المصدق ، فكان من قرينة الدعاء ما حَسُنَ فيه النداء تعظيما ، فَقُدِّرَ من ذلك أُمُّ البابِ "يَا" ، فَتَقْدِيرُهَا مما يواطئ قانون النحو المطرد ، أَنْ يُقَدَّرَ فِي كُلِّ حَذْفٍ ، أُمُّ البابِ ، فَقُدِّرَ نداءُ البعيدِ في مواضع من الذكر الحكيم ، وذلك ما اطَّرَدَ فِي مواضعِ الدعاءِ ، وهو مَظِنَّةُ الطلب ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، ذِكْرُ الرُّبُوبِيَّةِ ، فَهِيَ مَنَاطُ الإجابةِ والعطاءِ ، فمنها ربوبية الجمال إذ يُدَبِّرُ المدْعُوُّ أَمْرَ مَنْ يدعو ، والتدبير مما استوجب أولا من العلم الذي يُقَدِّرُ ، والإرادة التي تُرَجِّحُ ، فلا يخلو من جلالٍ في الفعل ، فاجتمع في مادة الربوبية أجزاء قسمةٍ في الإلهيات تُسْتَصْحَبُ ، قسمةِ الكمال المطلق ، فهو جمالٌ في التدبير ، جلالٌ في التكوين ، فيكون من التدبير أول بالعلم ، ويكون من التكوين ثان بالإرادة ، فَثَمَّ أول في الأزل قد قُدِّرَ ، وذلك العلم المحيط المستغرق ، وثم ثان به التأويل ، تأويل المقدور الأول أن يخرج من القوة إلى الفعل ، من العدم إلى وجود تال يُصَدِّقُ ، فذلك الترجيح المعتبر ، الترجيح بالمرجِّح من خارج المقدور ، فَثَمَّ حكم يواطئ صريح المعقول ، إذ الترجيح المعتبر ما يكون بمرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فَثَمَّ جمال التقدير الأول إذ ثم حكمة أخص ، وقد تستوجب المنع لا الإعطاء ، رحمةً ، وإن كان ثَمَّ أول من الابتلاء ، وهو ما استعاذ منه الخلق ، فلا يطلبه عاقل ، ولا يَسْتَجْلِبُهُ إلا مجازف في الدعوى ، قد فُضِحَ أَمْرُهُ لَمَّا ابْتُلِيَ ، إذ انفسخت الهمة وانحل العزم ، فَاسْأَلِ الله ، جل وعلا ، السلامة في الدين والدنيا ، فالعافية مع الشكر ، وهو واجب وقته ، خير لعامة الخلق من البلاء مع الصبر ، وهو واجب وقته ، كما الشكر في موضعه ، وتلك ، أيضا ، من حكمة التشريع أن وُضِعَ لكلِّ حالٍ من الحكم ما يُوَاطِئُ ، وَتَوْفِيقُ العبدِ وسدادِه أَنْ يُتَأَوَّلَ لِكُلِّ حالٍ من الحكم ما يُوَاطِئُ ، فَيَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى ما تَكْرَهُ في الشدة ، ويحملها على شكر ما تحب من النعمة ، وكل أولئك مما حَسُنَ لأجلِه نداء اسم الرب ، جل وعلا ، فهو مظنة العطاء الذي يَجْمُلُ ، وذلك مما استوجب تَعْظِيمَ المنادى ، فذلك من حسن التأدب في الدعاء ، فيكون بين يدي المسألة : الثناء ، وكل ذلك مما رَجَّحَ تقدير المحذوف الذي يواطئ ، فذلك مما اطرد في مواضع من التَّنْزِيلِ المحكم ، وله من القرينة ما تَرَجَّحَ في الإلهيات ، فَثَمَّ من ذلك روح تَلْطُفُ ، روح الشريعة التي صدقت ما اسْتَقَرَّ في الغريزة ، غريزة النفس إذ جُبِلَتْ ضَرُورَةً أَنْ تَتَوَجَّهَ إلى رَبٍّ يُدَبِّرُ أمرَها ، وَإِلَهٍ إِلَيْهِ تَتَوَجَّهُ بقولها وفعلها ، فيكون من ذلك توحيد قد اسْتَوْفَى أجزاءَه ، وذلك ، أيضا ، مما يَطَّرِدُ في عرف الجمع ، فشتان الجموع في الفكرة ، وإن استوت الجسوم في الخلقة ، فَثَمَّ من المرجع ما يميز ، فأمة تصدر عن مرجع أرضي محدَث قد نَقَلَ مركز التصور والحكم من السماء إلى الأرض ، أمة ذلك وصفها لا تعرف ، بداهة ، إلى الدعاء سَبِيلًا تَسْلُكُ ، فإنها لا تؤمن بِرَبٍّ يخلق ويدبر ، فسؤالها من لا تؤمن بوجوده سَفَهٌ ، وإن كان تصورها أشد سفاهة إذ جحدت المعلوم الضروري الذي استقر في النَّفْسِ إذا تجردت من الهوى والحظ ، فذلك أعظم ما صَدَّ الخلق عن الحق ، لا جرم سارع الملأ الذي يحكم ويملك في الإنكار والجحود ، وَسَارَعَ غَيْرٌ قد تَجَرَّدَ في النظر ، سَارَعَ في الإقرار والقبول ، وحصل من ذلك امتياز في الفهوم ، فَلِكُلٍّ من مبادئ الفكرة ما عنه يصدر في قول أو فعل ، فَمَنْ يُؤْمِنُ بِالرَّبِّ ، جل وعلا ، إيمانا يجاوز حد التجريد في الذهن ، بل له من الحقيقة ما جاوز في الخارج ، وله من وصف الجلال والجمال ما أُطْلِقَ ، وبهما حصل آخر من الكمال المطلق ، فَيَدْعُو من يعتقد رحمته وحكمته ، وقدرته ونفاذ أمره ، فلا رَادَّ لكلماته ، إن بالعطاء أو بالمنع ، فـ : "اعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّ الْخَلَائِقَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَصْرِفُوا عَنْكَ شَيْئًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعْطِيَكَهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ" ، فذلك مبدأ في الدعاء يجاوز حد النطق ، فَكُلٌّ يدعو ، وليس كُلٌّ يُسْتَجَابُ له ، وإن كان من جنس الاستجابة ما ثَبَتَ ضرورةً في الخارج ، وبه استدل بعض من حقق ، أن ثم رَبًّا يجيب ، فذلك من أدلة الحس في إثبات وجود أول ، وجود الخالق المهيمن ، جل وعلا ، فوجد الداعي في مواضع تكثر ، وجد من إجابة الدعاء ، حالا أو مآلا ، ما به العقل الناصح يجزم أن ثم فاعلا هو الأول ، فالمفعول الذي طلب وقوعه ، لا بد له من فاعل يسبق ، فإذا جَمَعَ من فقه الاعتقاد والشرع ما به باشر السبب الذي يسر ، ثم شفع ذلك بآخر من الدعاء يعضد ، فذلك حَدُّ الشريعة المحكم ، تَوَكُّلٌ وأخذ بالأسباب ، فلا يحسن تَوَكُّلٌ في باب إلا أن يَسْتَوْفِيَ صاحبه الأسباب ، لا على حد التعلق ، وإنما هو التأول ، تأول السنن المحكم الذي جرى عليه هذا العالم المحدَث ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، دليل إثبات آخر يشهد ضرورة بوجود الخالق ، فإن السنن المحكَمَ لا عقل له ولا إرادة ، فليس له من العلم ما يُقَدِّرُ ، بل هو من تأويل العلم الأول ، فهو مفعول في الخارج ، معلوم بَعْدُ بما العبد يباشر من العلوم والمعارف ، فتلك الكاشفة في الباب لا المؤسسة ، فلم يكن من علم التجريب والبحث ما أحدث من العدم الخلقَ ، وإنما أبان عن سنن محكم يجري عليه العالم المحدَث ، فوجود العالم المحدَث في نفسه دليل على محدِث أول يَسْبِقُ ، وذلك قياس الضرورة الذي يُسَلِّمُ به العقلاء إذا تجردوا من الحظوظ والأهواء ، فَكَمْ صُدَّ عقلاء أن يقبلوا الحق وينقادوا لحكومته ، فَلَهُمْ مآرب عاجلة ، ورياسات زائلة قد زُيِّنَتْ لأربابها ، مع يقين قد استقر بزوالها ، فحصل من الغفلة والختم ما صد النفوس أن تقبل الحق ، فإنها إذ رضيت بالحظ العاجل ، فاطمأنت بحياة لا تدوم ، ورجحت في الباب المرجوحَ ، فالقياس ، لو نصحت في النظر ، أن تقدم الراجح من بَاقٍ بعد الموت على عاجل مرجوح من حياة ختامها الموت ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا أن تؤمن بحياة تَعْقُبُ ، وهو ما استوجب نظرا يدق ، والمبدء ، أبدا ، رِكْزٌ أول في الوجدان يَلْطُفُ ، فَيَجِدُهُ الناظر ضرورةً لا تَفْتَقِرُ إلى استدلال ، فتلك مقدمة الضرورة في القياس ، فكان من ذلك معالجةُ وَقَائِعَ في الأولى تَفْجَعُ ، وهي مما يحرك في النفس طلب حكومة تعدل ، فالعدل مما استقر في النفس ضرورةً حُسْنُهُ ، فإن لم يكن ثم عدل في الأولى يَتَأَوَّلُ ، وإن شُرِعَ من أسبابه ما يُحَصَّلُ , وليس التكليف أَنْ يَقَعَ المراد الشرعي حتما ، وإنما التكليف أَنْ يُبَاشِرَ المكلَّف سَبَبَهُ ، فإن حصل فذلك عاجل خير ، وإن لم يحصل ، فَثَمَّ من الحكمة أن يُؤَخَّرَ ما لا يدركه العقل حالا ، فكم من مواضع قد حرم فيها خيرا لما اكتسبت النفوس ، ولم تخل من رحمة في الحرمان ، فكان من ذلك خير يؤخر ، وإن كان من الشر أول ، فهو المرجوح في مقابل راجح ، وليس مع ذلك الشر الخالص ، بل قد ضُمِّنَ من الخير ما يَلْطُفُ ، وتأويله بَعْدُ يُصَدِّقُ ، فلولا الأول ما كان الثاني بما اطرد من سنن محكم في الخلق ، فيكون من المظالم ما يخرق ناموس الشرع ، وليس ، مع ذلك ، يخرق ناموس الكون .
فكان من التشريع أسباب بها يُرْفَعُ الظلم ، وكان من التقدير ما أُخِّرَ به الحكم ، فحصل من أجر المدافِع الذي تأول أسباب الشرع ما به خير أول ، وحصل من المكر بمن ظلم أَنْ أُمْهِلَ في الأجل ، حصل من ذلك آخر يحسن ، فذلك وصف به الثناء على الرب المهيمن ، جل وعلا ، وإن المقيَّدَ ، فلا يُطْلَقُ المدح بالمكر ، وإنما حَسُنَ منه ما نَالَ أهل الشر ، فكان من ذلك ملأ قد تَجَبَّرَ ، وناظر في حالهم قد تَحَيَّرَ ، إن لم يكن ثم دِينٌ يَعْصِمُ ، فلا يذهل العقل إذا عالج مظالم تَقَعُ ، وهو عن دَفْعِهَا أو رَفْعِهَا يعجز ، فلم يكن من التكليف ما لا يطاق ، وإنما شُرِعَ له ما أطاق من أسباب ، مع آخر به يُسَلِّمُ ، وليس ذلك مما يحسن إلا أَنْ يَتَوَكَّلَ على الله ، جل وعلا ، حق التوكل ، فَيُبَاشِرَ السبب ما أطاق ، ثم يفوض الأمر لمن بيده مقاليد السماء والأرض ، فإن لم يكن ثم تأويل لحكومة العدل في الأولى ، وهو ما يعالج الناظر منه كثيرا في الخارج ، فَلَا يَنْفَكُّ يثبت ضرورةً دارا أخرى تعقب ، وفيها استيفاء مظالم لم تُسْتَوْفَ ، فيكون من ذلك تأويل المعلوم الضروري الأول ، أن العدل حسن والظلم قبيح ، فتلك مبادئ فطرة أولى في النفس ، وليس العاقل يُنْكِرُهَا ، وإلا سَفْسَطَ ، فجحد مقدمات أولى في أي نظر سالم من الآفة ، فَمَرَدُّهُ إلى أوليات قد أجمع عليها العقلاء كافة ، وتلك معان تجاوز الحس ، لا جرم شهدت على الجاحد المنكر ، فَمِنْ شُبُهَاتِهِ ما يعالج في هذا العالم المحدَث من مظالم ، فيحتج بها ألا خالق يدبر هذا الكون ، وإلا ما كان هذا الشر ، وإثباته أولا ما استقر في النفس من مبادئ الحسن والقبح ، ومنها حُسْنُ العدلِ وَقُبْحُ الظلمِ ، ذلك مما ييطل مذهبه الذي يجحد الخلق الأول ، ومنه فطرة في الباطن تُلْجِئُ ، فمنها مقدمات الضرورة في التحسين والتقبيح ، ولو المجملَ الذي يطلب المبيِّن من حكومات تشريع تجاوز ، فجاحد الخلق الأول ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، خَلْقِ الظاهرِ في أحسن تقويم ، وَخَلْقِ الباطنِ على مثال محكم في التحسين والتقبيح ، ذلك الجاحد قد جَحَدَ كُلَّ معنى يجاوز المادة التي تُدْرَكُ بالحسِّ ، فالقياس ألا يَنْظُرَ في معنى عدل أو ظلم ، فَنَظَرُهُ لا يجاوز حد الحسِّ ، فليس إلا الكسب واللذة ، ولو استوجب ذلك الظلم فهو مما يَحْسُنُ في هذه الحال إذ به حصول الغاية من المادة التي لا معنى يجاوزها ، فحصول الكسب وهو مادة تُقَاسُ في الخارج ، وحصول اللذة وهي مما تعالج الحواس ، ذلك في نفسه أصل معه الحسن والقبح يدور ، دون نَظَرٍ في عَدْلٍ أو ظُلْمٍ أو آخر من المعقول أو المفطور في النفوس ضرورةً ، وهو ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، ما آثاره في اللسان تظهر ، فكان من عرف الجمع الذي يَأْرِزُ إلى القوة في فَصْلِ الخصومات فهي الحق المحكم ، وإن خَالَفَتْ عَنِ الشرع المصحَّح والعقل المصرَّح وَأُولَى من الفطرة تَنْصَحُ ، فكان من عُرْفِ هذا الجمع ما آثاره في دوال اللسان تظهر ، ولو تأولت ما اسْتَقَرَّ ضرورة من معجم اللسان أَنْ يُوَاطِئَ مذهبها الذي لا يجاوز مدارك الحس ، والقوة أداة رَئِيسَةٌ وبها حصول المكاسب واللذات الوفيرة ، دون نظر في معنى يجاوز ، فَيَقْضِي فيها بِحِلٍّ أو بِحُرْمَةٍ ، بل قد صارت المكاسب واللذات في نَفْسِهَا مَنَاطَ الحسنِ والقبحِ ، وما تلا من إباحة وحظر .
فليس لمن جَحَدَ فصير المادة هي الأصل ، فَلَا وجود في الخارج لمعنى يجاوزها ، فليس له أن يحتج بِتِلْكَ المعاني المجاوزة ، كَمَا العدل والظلم ، بل احتجاجه بذلك حكاية فطرة أولى ، ولو آثارا في النفس لا زالت ! ، أو زلة لسان تَفْضَحً مَا اسْتَقَرَّ فِي الوجدان ضرورةً ، وَإِنْ جَحَدَ الظاهرُ ، فالباطنُ قد اسْتَيْقَنَ ، فاحتجاجُه بذلك يأتي على أصل مذهبه بالإبطال إذ لا اعتبار إلا لمدرَكَاتِ الحس التي تقبل القياس في الخارج ، فليس ثم معيار يجاوزها ، وهو ما أوجزه بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، في إنسانِ الاقتصاد فَلَيْسَ إلا المنفعة والكسب ، وإنسان الجثمان فليس إلا اللذة التي لا تجاوز مدارك الحس ، وهو ما استوجب أولا من النظر يَبُتُّ الصلة بما جاوز الحس من معنى ، فَثَمَّ نَظَرٌ في أصل الخلق الأول قد اقْتُرِحَ له من فَرْضِ التَّطَوُّرِ ما أفسد التصور ، إذ قد خالف عن مقدماتِ ضرورةٍ في العقل السالم من آفات الجحود والسفسطة ، بل وخالف عن أخرى في الحس قد عالجت من التجريب والبحث دلائل إتقان وإحكام في الخارج ، لا تكون بداهة إلا عن أول ، فإن المحدَث من هذا العالم في الخارج لا بد له من محدِث أول هو السابق ، وذلك ما تَسَلْسَلَ حتى انْتَهَى ضرورةً إِلَى سَبَبٍ أول لا سَبَبَ قَبْلَهُ ، فإثباتُ الأوليَّةِ في الخلق ضرورةٌ أولى في العقل ، وإلا ما كان هذا العالم المحدَث ، وثم آخر أخص في الاستدلال ، وبه إبطال الخبط والعشواء ، فإن من الإتقان في الْخِلْقَةِ والإحكام في السُّنَّةِ ، فإن من ذلك أخص في الباب فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا عن علمٍ أول يُقَدِّرُ ، وإرادةٍ بَعْدُ تُرَجِّحُ ، فلا يكون من ذلك عشواء تَخْبِطُ ، أو عَبَثًا بلا غاية تَشْرُفُ ، وذلك ما انحط إليه الخلق في الجيل المتأخر أن صارت الحداثة مرجع التصور والحكم ، فلا غاية تجاوز مدارك الحس ، إذ لا حقيقة تجاوزها ، فالغيب عدم ، إذ لم يدركه الحس ، وهو مرجع الإثبات والنفي في مذاهب تجحد المرجع المجاوز من خارج العقل والحس ، فلا وحي يجاوز ، وهو المخبر بما جاوز الحس الظاهر ، فَثَمَّ معان تلطف ، وبها حد الكلام قد افترق ، وإن اتحدت الألفاظ والجمل ، فثم تصور أول يسبق ، وهو ما افتقر إلى المرجع والمصدر ، فَمَنْ لم يؤمن بالغيب فحده للأشياء لا يجاوز مدارك الحس ، فإذا عَرَّفَ القوة ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَلَيْسَ إلا أداة القوة التي تَتَبَادَرُ ، وإن كان أخرى تَزِيدُ ، فهي مما يُدْرَكُ بالحسِّ ، كما المال والدعاية التي تُزَخْرِفُ ، ولها أصل من التأويل يبطن إذ يعيد الحد ، حد الحقائق بما يواطئ الحس ، فليس إلا المادة معيارا في الإثبات والنفي ، في الحسن والقبح ، في الإباحة والحظر ، وكذا يقال في حد العامل "نَجَحَ" ، فهو في المذهب المادي لا يجاوز كَسْبَ المالِ ومباشرة اللذة ، فالنجاح الآن وليس بعد ، هنا وليس في دار أخرى تعقب ، فليس بعد هذه الحياة أخرى ، فإذا جُودِلَ من يَنْتَحِلُ هذا العقد ، أَنْ يَرْجُوَ نَجَاحًا يجاوز مدارك الحس في دار أخرى تعقب ، فلا ينفك يَسْتَنْكِرُ وَيَسْخَرُ ، وذلك ما قد يعجب منه المؤمن ، بادي النظر ، فإذا أَعْمَلَ الفكرةِ لم يعجب ، بل ذلك لَازِمُ ما انْتَحَلَ الخصمُ من المذهب ، فكيف يخاطب بِشَيْءٍ لا يؤمن به بادي الرأي ؟! ، فلا يعتقد وجوده في نَفْسِ الأمر ، ولا يَتَصَوَّرُهُ ، فليس في وجدانه إلا الفرض المحض الذي يُتَنَزَّلُ به في جدال خصم لا زال يؤمن بخرافة الغيب المجاوز ! .
وإن لم ينكره فهو لا يثبته ، فليس الأمر مما يستحق البحث ، وغاية ما يقال إنه جائز فقد يكون بعد هذا العالم عالم وقد لا يكون ، وليس العاقل يترك الثابت الذي يعالجه بالحس لآخر قد اختلف فيه بَيْنَ إثبات ونفي ! ، فذلك قياسه إذ ليس ثَمَّ دليلُ إثباتٍ في الخارج إلا الحس ، لا جرم وجب في حقه إعادة الحد وتصحيح المعجم ، أن يُعَادَ حَدُّ الموَادِّ فيه ، وَأَنْ يُزَادَ فيها ما يجاوز مدارك الحس الظاهر ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا أن تُصَحَّحَ مصادر العلم والمعرفة ، فالحس واحد من أدلة العلم لا أوحد ، وليس مع ذلك الأول ، فَثَمَّ أول من الخبر ، وَهُوَ مَا جَاوَزَ الحس فَكَسَا المعاني لحاء أحكام وأخلاق تجاوز اللذة والكسب ، وثم مقدمات العقل التي تسلك جادة القياس المحكم ، فلا يعالج الوجدانُ المسائلَ على قاعدة من الغيب دون نظر في أسباب الشهادة ، فالعقل يدرك منها سَنَنًا ومعايير محكمة ، فَيُمَهِّدُ بالمقدمات بين يدي النَّتَائِجِ ، وهو ما عم المعنى فكرةً ، والحس حركةً ، فالعقل آلة صحيحة في الفهم والنظر ، وهي ، مع ذلك ، لَا تَنْفَكُّ تطلب المرجع المجاوز من خارج ، فَهِيَ فِي مواضع الغيب والتوقيف لا تَزِيدُ في الحكم أَنْ تُجَوِّزَ التجويزَ المحضَ ، والجائز مما استوى طرفاه في الاحتمال فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وإلا كان التحكم ، فكان من الوحي مَرْجِعٌ من خارج يَنْصَحُ ، ومبدأ النظر الصحيح في هذا الباب ، باب العلم والمعرفة ، ومنه آثار في معجم النطق ، مَبْدَأُ النظرِ أن يدرك المستدل عجز العقل والحس أَنْ يُدْرِكَ كُلَّ شيءٍ ، فليس يطيق حد الحقائق في نفس الأمر ، إذ ثم معان تَلْطُفُ ، فَلَا تُقَاسُ بالحسِّ المحدَث ، كما العامل "نَجَحَ" ، لا جرم كان من الحداثة إعادة الحد ، حد المواد في المعجم ، فلا تجاوز الحس المحدَث ، أن صار المعيار في الإثبات أو النفي ما يكون من آثاره في الخارج ، كَسْبًا في سياسة وحرب ، أو تجارة وصفق ، مع لَذَّاتٍ يَفُوزُ بها المغامِر ، فليس ثم غايةٌ تجاوز ، فإذا نَالَهَا فهو المنتصر العظيم ، وإن فَاتَتْهُ فهو الخاسر المبين ، ولو كان منه فعل الفداء والتضحية .... إلخ ، فتلك معان لا تقاس بالحس ، وليس يحسنها معجم لا يجاوز المادة ، فَثَمَّ من مادة الفرح والفوز والكسب ..... إلخ ، ثم منها ما وَرَدَ في الوحي المنزل ، على مثال من المعجم يجاوز المادة ، فأي فرح في القتل ، فـ : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وأي فوز في القتال وهو كُرْهٌ ، فـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ، فكان من ذلك خير قد أبان عنه الوحي في موضع آخر أنه الفوز ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، فذلك مُعْجَمٌ يجاوز الحس في حد المعاني ، وإن كان مادة "فَوَزَ" و "فَرِحَ" واحد في النطق والكتب ، وكذا ما يَعْدِلُ من ذلك في معجم اللسان الأعجمي ، فَثَمَّ حكاية واحدة في اللفظ المجرد ، وليس اللفظ مما يُرَادُ لِذَاتِهِ ، فلا ينفك يطلب معنى أول عنه يصدر ، وذلك ما يَقُومُ بالوجدان لدى المبدإ ، والوجدان محل يَلْطُفُ ، وله من المدارك ما يجاوز الحس المحدَث إلا إن كان المرجع حداثة لا تجاوز ، فهي تحد ما تَقَدَّمَ من مَوَادِّ الفوز والفرح بالمحسوس المعجل في هذا العالم ، فإذا خُوطِبَتْ أَنْ تَصْبِرَ ، ولها من ذلك أعظم في عالم تال لا يُدْرَكُ بالحسِّ المعجَّل ، فإنه يَسْخَرُ وَيَتَهَكَّمُ ، إذ ليس معجمه يطيق هذه المعاني ، وإن كان ثم اشتراك في المباني ، فيصدق فيها أنها المشترك اللفظي ، فالمنطوق واحد ، وكذا المفهوم الأول الذي يَتَبَادَرُ من حَدِّ المعنى ، فلا ينفك يُشْرَبُ مِنَ القيمةِ والمبدإ ما يصيره على أضداد ، فشتان فرح بمحسوس مُعَجَّلٍ ، وآخر يصبر صاحبه فهو يطلب وعدا أعظم ، وإن كان منه فرح في الأولى فهو عاجل البشرى ، فتأويلها المحقق ما يكون في عالم آخر يعقب ، فإن لم يُصَدِّقْ بِهِ مبدأَ النظرِ ، وَهُوَ الغيب الذي لم يَشْهَدْ ، فجداله لا يجدي نَفْعًا ، إذ ثم اختلاف في المرجع الذي يحد المعاني والقيم الحاكمة ، فَحَسُنَ ، كما تقدم في مواضع ، مجادلةُ كُلٍّ بما يَفْقَهُ ، فلا يجادل منكر الوحي مبدأَ القولِ فِي : حَدِّ المبادئ والقيم الحاكمة من الأخلاق والشرائع ، وإنما يخاطب أولا بإثبات الخالق الأول ، جل وعلا ، فيكون من الاستدلال بالمشهود في هذا الموضع ما يَنْفَعُ ، إذ المجادَل لا يؤمن إلا بمدركات الحس ، فَيُخَاطَبُ بدلالة الحس إتقانا في الخلق وإحكاما في السَّنَنِ الذي عليه يجري ، مع آخر يَلْزَمُ من مقدمات العقل الناصح أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وهو ما تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى أول له من وصف العلم والإرادة ما به تأويل المقدور أن يخرج من العدم إلى الوجود ، من القوة إلى الفعل المصدِّق في الخارج ، فإن أَقَرَّ فذلك مبدأٌ من الربوبية لا ينفك يطلب بَعْدُ قَسِيمَهُ من الألوهية ، أن يكون من ذلك الخالق الذي أحاط علمه بالأشياء كَافَّةً واستغرق ، أن يكون منه إله يحكم بما أَنْزَلَ من وحي ذي دلالات أخص ، وإن استعمل المتداول من دوال اللفظ ، فلا ينفك يكسوها لحاء يجاوز الحس ، فيكون من ذلك إيمان بالغيب ، وتلك خاصة التكليف الذي يُنَاطُ بالعقل التام ، عقل الإنسان الذي امتاز من غَيْرٍ من الأنواعِ ، فيكون من حكومة الوحي المنَزَّل ما يواطئ العقل المصرَّح ، وَيُفَصِّلُ ما أُجْمِلَ من مادة الفطرة ، فهي معدن أول في باب الحسن والقبح ، وما يكون من مبادئ الأخلاق والأحكام فتلك مادة قد رُكِزَتْ في كُلِّ وجدان ، ولكلٍّ منها حظ ، قَلَّ أو كَثُرَ ، ولو بقايا في الوجدان قد علاها رَانُ الحس الذي كَثُفَ فَحَجَبَ من مادة الوجدان ما لَطُفَ ، فإذا أقر الخصم بذلك ، فَقَدْ أعاد حَدَّ المعجم الذي عنه يَصْدُرُ ، إِذْ كَانَ من العرف جديد قد أَدْخَلَ معان تَرْفِدُ ، فذلك عرف الوحي المنزل الذي يجاوز مدارك الحس المحدَث ، وهي مصدر المعجم الدلالي الذي عليه نشأ ، فكان من الجديد المنزَّل ما رَفَدَ ، إذ الوحي مادة خبر وحكم قد نصح ، فصار أقرب إلى الحق أن يثبت النبوة والوحي ، وهي واسطة البلاغ والبيان بين الحق والخلق ، فكان من ذلك مَعَانٍ تجاوز مدارك الحس التي زُيِّنَ العلم بها وَزُخْرِفَ ، وله في النظر ما اعتبر ، وإنما جاوز به صاحبه الحد أَنْ صَيَّرَهُ المتبوع الذي يقود الجموع ، فلا تجاوز في إثباتها ونفيها المحسوسَ ، ولا تُحْسِنُ وَتُقَبِّحُ إلا العاجل من الكسب والفوز على مثال لا يجاوز المادة ، فلا معنى يجاوزها ، وذلك ، أيضا ، مما يصدق فيه الاشتراك في الألفاظ ، كَمَا حَدُّ اللذة ، فقد تحكم المذهب المحدَث فلم يجاوز بها الحس بما ركز في الجسد من الغرائز دون آخر من غريزة العقل التي تجاوز ، إذ محلها روح لطيف ، وهي ما جاوز الجسد الكثيف ، وليس سواه مرجع في التحسين والتقيبح ! ، فلم يكن من اللذة إلا المحسوس الذي يَتَأَوَّلُ غَرَائِزَ الجسد ، فلا يجاوزها إلى آخر من روح لها من العقل ما لطف وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جاوز الدماغ المدرك بالحس بما استقر فيه من مراكز الحاسة والنطق فتلك أدوات بها تأويل يُظْهِرُ ما قام أولا بالعقل المفكِّر ، فَلَمْ يُجَاوَزِ المذهبُ المحدَث في باب اللذة حَدَّ اللذة المدركة بالحس ، وهي لذة لا ينكرها عاقل إذ يجد آثارها في الخارج من مطعوم أو مشروب أو منكوح ... إلخ ، ولكنها ، أيضا ، لا تصح أولى في التصور والحكم ، فتكون رائد القول والفعل ، بل ثَمَّ من اللذات ما شَرُفَ ، فَلَذَّةُ النَّفْسِ أن تَأْمُرَ فَتُطَاعَ ، ويكون لها في الجمع رياسة وجاه ، وذلك مما يميز الوحي المنزل من الوضع المحدث ، فأتباع الوحي المنزل يَغْلِبُوَن فلا يفرحون فرح البطر والأشر ، وإنما فرح من تواضع وخضع ، كما حال صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الفتح الأكبر ، وقد دخل دخول المتواضع الشاكر لِرَبِّهِ ، جل وعلا ، حتى كادت رأسه تمس رَحْلَهُ إذ خفضها لربه ، جل وعلا ، فذلك فرح من غَلَبَ بالوحي ، وهو ما خالف ، بداهة ، عن آخر يفرح فَرَحَ البطر والأشر إذ لم يكن من المثال إلا مثال القوة ، فهي الحق الذي يُسَوِّغُ تأويل المعجم ، أن يكون من دواله لغة لا تعرف إلا قوة المادة حاكما في الفرح والحزن ، في الحسن والقبح ، في الإباحة والحظر ...... إلخ ، وثم لذة العلم ، ولها ، أيضا ، ما ينفع في التجريب والبحث ، وإن قَبُحَ في التصور والحكم أن تكون هي الأصل ، فهي ظَاهِرٌ لَا يَصْدُقُ في صاحبه أنه العالم إلا إن فَتَّشَ في الغاية والمبدإ ، فلم يقتصر على الصورة والمظهر كما المذاهب المحدث ، فيكون من لذة الإيمان بالغيب والنبوات ما يجاوز لذة العلم بظاهر من هذا العالم المحدَث ، وأعظم لذات العلم : لذة النظر إلى وجه الخالق المهيمن ، جل وعلا ، وهو ما سألت النبوة أن : "أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" ، فَسَأَلَتْ أَعْظَمَ ما يُطْلَبُ ، فذلك أعظم معلوم في الوجود ، وأشرف ما تطلبه النفوس ، فكان العلم به أعظم علم ، وحصوله أشرف غاية ، وليس ذلك ، بداهة ، مما يُعْتَبَرُ في معجم حداثة لا تجاوز مواده الحس ، فعرفه في النطق لا يجاوز المحسوس ، وما سواه من المغيب ، فلا تنفك تجحده ، بل وَتَسْخَرُ ، ومنه صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد تَعَجَّبَ : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) ، فتلك ، زعم الجاحد ، خرافة الغيب التي تعطل مدارك الحس والعقل ، وهي ، لو تدبر الناظر ، مادة لهما تَرْفِدُ ، وعن مقدمات ضرورة منهما تصدر ، فإنها لا تأتي بالمحال الذي لا يُتَصَوَّرُ ، وإنما صدرت عن أول في العقل هو الجائز ، وإن حار النظر والحس في دركه الماهية والكيف ، فلا يحكم فيها بالامتناع الذاتي ، وإنما يحكم بالجواز المحض الذي يطلب الدليل المثبت من خارج العقل والحس ، فهو يرجح طرف الإثبات في الجائز ، لا جرم كان من الوحي شاهد يصدق ما رُكِزَ فِيهِمَا من مقدمات ضرورة أولى وهو بَعْدُ يُبِينُ عما أجمل منها ، فيرفدها بما جاوز من معاني الغيب دون خوض في ماهية أو كيف ، فذلك ما تعالج تأويله إذا وقع في دار الحساب والجزاء ، فُيُصَدِّقُ ما به آمنت في المبدإ ، فلا يكون ابتلاء بإيمان لا يجاوز الحس ، بل ذلك ، ابتداء ، مما لا يصدق فيه الحد ، حد الإيمان فإنه لا يكون إلا بمغيب لا يحيله العقل ولا يمنع ، وإنما يطلب من الدليل فيه ما يُرَجِّحُ ، فإذا صح فهو المذهب ، لا جرم كان من النبوات ما نَصَحَ المعجم ، فَرَفَدَ العرف بزيادة تَنْفَعُ أن يكون من ذلك تصور معان تجاوز الحس المحدث ، وإن كان من مادة المعجم واحد في الحد ، فَثَمَّ من المعنى ما تفاوت في الحد ، إذ اختلف المرجع ، فكان من ذلك آخر في التصور ، كما تقدم من مادة اللذة والفرح والفوز ...... إلخ ، فمادة واحدة في النطق والكتب ، ومدلول قد اختلف في الحد ، إذ ثم مرجع أول في الوجدان يَصْنَعُ المعنى الذي تحكيه دالة الكلام ، إن المفرد أو المركب ، فَثَمَّ من العرف ما جاوز المتبادر من عرف التداول في البيع والشراء والعقد ..... إلخ ، فَثَمَّ عرف التصور الذي يصوغ الأحكام والأخلاق .... إلخ من المعاني التي لا تقاس بالحس ، فلا تنفك الحداثة ، كما يقول بعض من حقق ، تعيد تعريف الثابت والمبدإ أن يواطئ ما صدرت عنه من حس محدث ، فَعُرْفُهُ قَدْ قَصُرَ فلا يجاوز ، فكان من عرف الوحي ما رَفَدَ ، وإن كان المبنى واحدا ، فالمعنى قد اختلف إذ اختلف المرجع الذي عنه يصدر ، فاللسان ، من هذا الوجه ، ليس نطقا مجردا أو حكاية لحاجة في النفس قد اشترك فيها الخلق كَافَّةً ، بل ثم معنى يميز كل جمع ، بما استقر في الوجدان من التصورات والغايات ، ولو في مدركات من الحس ، كما يضرب بعض من حقق المثال بَدَوَالِّ الألفاظِ التي تحكي الألوان ، فَثَمَّ من الأمم من ينطق في لسانه بِلَفْظِ الأخضرِ ، وهو يريد لونا آخر في معجم المخاطَب ، فذلك الأحمر ، فالحقيقة واحدة ، وهي الأخضر ، وإنما اختلف اللفظ عن العرف المستقر في وجدان المخاطب ، فَفَهِمَ منه لونا آخر .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #3  
قديم 25-08-2024, 11:19 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 35
افتراضي

ولا ينفك العرف يَقْضِي في حَدِّ دلالاتٍ يَدْخُلُهَا الاشتراك ، بادي النظر ، فهي مما أجمع عليه العقلاء كافة بالنظر في الماهية المجردة في الذهن ، وإنما حصل الافتراق في الحد ، بما كان أولا من النية والقصد ، كما مثال التعلم ، وهو مما تحمده العقول كافة ، وإن افترقت النوايا والقصود ، بل وكان منها أضداد ونقائض ، فالفعل في الخارج واحد ، والباعث الأول قد اختلف ، والقصد قد افْتَرَقَ ، فَثَمَّ من يطلب مسائل العلوم لغاية تجاوز الحس ، إذ مرجع التصور قد زَادَ فِي الحدِّ ، فَثَمَّ من ذلك غَيْبُ يصدر عن الدليل الخبري الصحيح لَفْظًا الصريح مَعْنًى ، وليس بَدَاهَةً ، مما يعتبره المذهب المادي ، إذ لا يجاوز مدركات الحس ، فمن تلك حاله ، فهو يضع الكفاءة غاية ، فمنهاج التعلم يزيد في الكفاءة ، وهي تَزِيدُ بَعْدًا في الإنتاج ، فيزيد في الكسب الذي يُبْذَلُ ثَمَنًا لِلَذَّةٍ لا تجاوز الحس ، وهو عمدة الاستدلال لدى الحداثة ، ومنه مواد جديدة قد اقترحت في معجم اللسان ، ولها أصول أولى في النطق ، وثم آخر أخص بما كان من اصطلاح جديد يحكي عهدا أخص في معجم الحداثة الذي لا يجاوز مدارك الحس ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ ما اسْتَقْرَأَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، وهو حكاية نظر لا يجاوز في حد الفطرة ، فطرة الجسد الذي لا يجاوز ، فلا يدرك إلا ما يشهد بالحس المحدث ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، التحكم إذ يَقْصُرُ المحدودَ المعرَّف على بعضِ آحادِه دون بَعْضٍ ، فإن الفطرة ، كما تقدم في مواضع ، جنس عام يتناول آحادا في الخارج تَتَفَاوَتُ فِي الحدِّ بِمَا يكونُ مِنَ الْقَيْدِ ، وهو الفصل في التعريف والحد ، إذ ثَمَّ قَيْدُ الحسِّ ، فتلك فطرة الأبدان التي لا تجاوز ، وثم أخرى من فطرة الأديان ، ومحلها العقل الذي يجاوز الدماغ المدرَك بالحسِّ ، كما الروح ، وهي معدن التَّعَقُّلِ فَهِيَ مِنْ خَلْقٍ لطيفٍ لا يُشْهَدُ ، فجوهرها نُورَانِيٌّ لا آخر جسماني يشهد بالحس المحدث ، فتحكم من تحكم ، إذ صدر عن المذهب الأرضي المحدَث ، فلا حقيقة له تجاوز ، وهو ما ظهرت آثاره في التعاريف والحدود ، ومنها حد الفطرة ، فَثَمَّ من لم يجاوز بها الحس ، ولو مَلَكَةً هي إلى التَّعَقُّلِ أَقْرَبُ ، كما حَدَّ مَنْ حَدَّ الكلام أنه فطرة أولى في البدن قد رُكِزَتْ ، وَصَيَّرَهَا من الحسِّ فِرَارًا من المعنى الذي يجاوز ، ودرس اللسانيات ، كما يقول بعض من حقق ، قد صار درس البحث والتجريب الخالص ، فلا يعالج من الكلام إلا آلة النطق وما يصدر من الصوت ، وما يحد من المخارج والصفات ..... إلخ ، دون نظر يجاوز في المعنى الذي يحصل في النفس وهو مما لطف في الحد ، فلا يدرك بالحس المجرد ، فَثَمَّ معان تَلْطُفُ ، وهي مما يجاوز الحس المحدَث ، وذلك مما يلجئ الناظر أن يثبت ما جاوز الحس ، وذلك الغيب الذي تَفِرُّ منه الحداثة فِرَارَ السَّلِيمِ مِنَ المجذوم ، مع ما فيه من زِيَادَةٍ في العقل وَزَكَاةٍ ، فتلك خاصة العاقل الذي تُجَاوِزُ مَدَارِكُهُ الحسَّ الظاهر ، فامتاز من غَيْرٍ من الأنواع الحية الحساسة المتحركة بالإرادة ، امتاز منها بخاصة التعقل لما جاوز الحس ، إن الواجب ، كما واجب الوجود الأول الذي إليه تَنْتَهِي الأسباب كافة ، وبه حَسْمُ المحالِ الممتنعِ لذاته من التسلسل في المؤثرين أزلا ، فامتاز الإنسان العاقل بخاصة التعقل لما جاوز الحس ، إِنِ الواجبَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، أو الجائز ، فالعقل يتناول من المغيبات ما جاز مبدأ النظر ، وإن حار الناظر في الحقيقة والكيف ، فَثَمَّ تصور أول للمغيَّب ، وبه امتاز الإنسان المتكلم من الحيوان الأعجم ، فالفطرة ، لو تدبر الناظر ، جِنْسٌ أعم قَدْ تَنَاوَلَ في الحدِّ : المحسوسَ والمعقولَ ، فكان من ذلك التحكم تخصيصا بلا مخصِّص إذ يَقْصُرُ الحدَّ العام على فَرْدٍ من الأفرادِ ، وَيُخْرِجُ غَيْرًا بلا دليل يخصص ، فذلك التحكم تخصِيصا بلا مخصِّص ، فَيُضَاهِي ، من هذا الوجه ، الترجيح بلا مرجِّح ، فكان من الفطرة ما لم يجاوز الحس ، وذلك انحطاط إلى دركة أدنى ، وَإِنْ عَلَى مُكْثٍ يَتَدَرَّجُ ، فكان الانحطاط أولا من الإلهي إلى الإنساني ، ولا زال ثم بقية فطرة ، فَثَمَّ جُمَلُ ضرورةٍ من الأخلاق ، وإن تأولتها الحداثة بما يواطئ معيار الحس من اللذة والكسب ، فهما باعثا الحركة ، حركة الوجدان في المعقولات ، وحركة الأبدان في المحسوسات ، وثم أخرى من فطرة الحس لا تَزَالُ تميز الأنواع في الخارج ، وإن على قاعدة أخرى من الغريزة واللذة ، فلم تسلك بعد السلوك الشائن الذي يخالف عن الطبائع ، ثم كان الانحطاط بعدا ، فلم يَعُدْ ثَمَّ فطرةٌ لدى المبدإ ، فليس إلا المادة ، وليس لها وعي يجاوز ، فكان من ذلك نفي لمرجع الأخلاق ، الدينية أو الإنسانية ، فَلَيْسَ إلا مادة وصفها الحياد ، فلا تصلح إلا للاستعمال المجرد على قاعدة من الكسب المحدَث ، وليس ثم جزاء يجاوز ، إذ ليس ثم إلا المحسوس الشاهد ، فالغائب لا وجود له في نفس الأمر ، فليس إلا التخرص والظن الذي يقترح ما لا دليل عليه يشهد ، فلا دَلِيلَ معتبر يجاوز ، وهو ما استوجب جحد فطرة أولى من الأديان التي تشهد بالتوحيد ضرورةً ، ولها من العقل شاهد بما رُكِزَ فِيهِ من مقدِّماتِ ضرورةٍ تميز الجائز من هذا العالمِ المحدَثِ من الواجب الأول الذي يُرَدُّ إليه الجائز ، فَثَمَّ واجب الوجود الأول ، وله من وصف الفعل ما يُرَجِّحُ ، فهو الموجِب المرجِّح من خارج بما يواطئ علمَ تَقْدِيرٍ أول ، وله من دليل الإتقان والإحكام في الخارج ما يَشْهَدُ ، فَثَمَّ الترجيح بمرجِّح من خارج ، وذلك مما يُوَاطِئُ فطرة أولى من التعقل ، فكان المرجح الذي يجاوز ، فهو يرجح في الجائز إثباتا أخص ، فيكون من ذلك وجوبٌ لِغَيْرٍ ، لا وجوبٌ ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، فذلك وصف الخالق الأول حصرا ، وهو حتم لازم في القياس المصرح ، بل والحس له شاهد من خارج يثبت ، فوجود هذا العالم المحدَث ، وهو ، بادي النظر : الجائز ، وجودُه دَلِيلٌ يَشْهَدُ ضرورةً بمرجِّح من خارجٍ ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِي إلى مرجِّح لا مرجِّح قَبْلَهُ ، فَلَهُ من ذلك وصف أولية يُطْلَقُ ، وله من وصف الوجوب : وجوب ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وله من وصف الفعل : الإيجاب الذي يُعَلِّلُ ، فهو في الجائز يُرَجِّحُ ، وَيُصَيِّرُهُ ذَا وجودٍ في الخارج يثبت ، فكان من دليل الفطرة ما يشهد ضرورة بالتوحيد الذي يميز المحدَث من القديم ، المحدَث من هذا العالم من القديمِ وهو الخالق الأول ، جل وعلا ، فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ وصفُ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، أَوَّلِيَّةٌ تُطْلَقُ ، فَلَا أَوَّلَ له يَسْبِقُ ، وكان من دليل العقل آخر بما تَقَدَّم من امْتِنَاعِ التسلسلِ في المؤثِّرين أَزَلًا ، فهي تَنْتَهِي إلى أول في الترجيح لا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَهُوَ الواجب في نَفْسِهِ ، الموجِب لِغَيْرٍ ، بما يصدق التقدير الأول ، وثم واسطة الإرادة التي تُرَجِّحُ ، بما كان من آحادٍ من الفعل تحدث ، ولها من الجنس نَوْعٌ أَوَّلُ يَقْدُمُ ، فتلك الفطرة التي لا زالت لها بَقَايَا في الوجدان ، ولو كان المرجعُ هو الإنسانَ دُونَ مرجعٍ من خارج يجاوز ، فلا يكون ثم وحي يفصل في خصومات العقول المحدثة ، إن المفردة أو المجموعة ، فكان من الفطرة بقايا أخلاق ، ولو رُدَّتْ إلى اللذة والكسب ، وكان من فطرة الأبدان ما يعالج الأسباب ، أسباب الحس بما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى تواطئ ، قوى في المحال تَقْبَلُ ، وأخرى في الأسباب تُؤَثِّرُ ، وَكُلٌّ عَلَى سَنَنٍ محكم يَجْرِي ، وذلك ، أيضا ، مما يطلب الفاعل الأول الذي لا فاعل قَبْلَهُ ، ثم كان السقوط الذي جحد المعقول والمفطور والمحسوس ، فليس ثم فطرة أولى في الوجدان تَثْبُتُ ، وإن لم تجاوز الحد الإنساني المحدَث ، إذ ثم مركز جديد ناسخ في التصور والحكم ، مركز المادة التي لا تجاوز مدارك الحس ، فهو دليل الإثبات والنفي على قاعدة تستأنف ، فلا فطرة أولى تَنْصَحُ ، ولا مبادئ ، ولو الجملَ الكليَّةَ الضروريةَ في النَّفْسِ ، وهو ما أفضى إلى جديد محدث من مواد المعجم المطلق ، فَثَمَّ عُرْفٌ جديدٌ في التصور والحكم ، فكان من ذلك ما اصْطَلَحَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أنه التسلع أو التسليع الذي يُصَيِّرُ الإنسان مادة من جُمْلَةِ مَوَادَّ في كَوْنٍ قد صدر عن عشواء وخبط ، فَثَمَّ عَبَثٌ في الحركة فلا غاية ، إذ الحركة حركة مادة لا روح فيها تجاوز ، فيكون من الغاية رَائِدٌ ناصح في الفكرة والحركة ، فانحط وجدان الإنسان ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَهُوَ شيء من جملة أشياء ، فلا تفضيل ولا تكريم لدى المبدإ ، فالخلق من أصل واحد ، أصل بسيط غير مركب ، وليس يعقل ، بل لا حياة له تثبت ، فحصل الوجود بلا موجد ، فتلك مادة قديمة قدم الأزل ، وذلك شرك في التصور ، وهو ، بادي النظر ، مما لا يُتَصَوَّرُ ، فَلَيْسَ إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فاقترح لذلك من فرض التطور ما لا دليل عليه إلا هو ! ، دَوْرًا في الاستدلال يبطل ، لو سُلِّمَ ، بادي الرأي ، أن الأمر جائز ، فكيف وهو المحال الممتنع لذاته ، فليس إلا التحكم الذي يُصَادِرُ على المطلوب ، وَلَيْتَهُ يَسْتَنِدُ إلى جائز يُتَصَوَّرُ ! ، فيكون دليلُ وجودِه جوازَه مبدأَ النظرِ ، فذلك ما لا ينصح في الاستدلال ، إذ الوجوب قدر يزيد على الجواز المحض ، فلا ينفك يطلب الموجِب المرجِّح من خارج ، فكيف والأمر ، كما تقدم ، محال يمتنع لذاته ، فلا يجاوز حَدَّ الفرضِ المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فحصل من ذلك البسيطِ الأوَّلِ : جمل من المحالات الذاتية التي تمتنع ! ، فوجود مادة بسيطة لا حياة فيها ولا علم ولا إرادة ، وجودها في الأزل بلا مُوجِد ، ثم حَرَكَتُهَا بَعْدُ بلا محرِّك ، ثم انقسامها بلا مقسِّم ، ثم تَرَاكُبُهَا بِلَا مركِّب ، ثم حياة فيها قد بُثَّتْ بلا مُحْيٍ ، ثُمَّ امْتِيَازٌ وَافْتِرَاقٌ في الخارج على أجناسٍ وأنواعٍ شَتَّى من الكائنات ، بلا مميِّز ولا مفرِّق يُقَدِّرُ من ذلك ما أُتْقِنَ ، ويجريه على سَنَنٍ هو المحكم ، كما الحس بِذَا يَشْهَدُ ، فذلك تصور المذهب المادي الذي يعالج الحقائق على قاعدة من الحس لا تجاوز ، فليس إلا المادة المدركَة بالحسِّ ، ومنها الإنسان ، فَهُوَ شيءٌ من جُمْلَةِ أشياء ! ، وَتَصَوُّرُهُ ، كما يقول بعض من حقق ، لا يجاوز الأشياء ، فهو شيء منها ، فَبِمَ امْتَازَ منها ؟! ، إذ لا تكريم لدى المبدإ ولا تفضيل ، ولا قصة من الخلق تميز ، فذلك آخر الدركات ، دركة المادة بَعْدَ نَسْخِ المرجع الإلهي المجاوز ، وَنَسْخِ المرجع الإنساني ، وله ، كما تقدم ، بقايا من فطرة تَنْصَحُ ، فَنُسِخَ كُلٌّ بالمرجع المادي المحدَث ، وهو ما استوجب زيادةً فِي المعجم الدلالي ، فكان من ذلك ما اصطلح أنه التَّشْيِيءُ ، فالإنسان شيء لا أكثر ، ولا يجاوز في التصور أشياء أخرى حوله ، وهو ما أفضى إلى تجريد الحد ، حد الإنسان ، فهو ، كما يقول بعض من حقق ، ذو بُعْدٍ واحدٍ لا يَتَعَدَّدُ ، بُعْدِ المادَّةِ المدركةِ بالحسِّ ، فلا فطرة من الدين والأخلاق تجاوز ، وحقيقته المادية المحضة قد رفدها منهاجُ تَعَلُّمٍ لا يجاوز غايات اللذة والكسب ، فَثَمَّ تَعْلِيمٌ يَزِيدُ في الكفاءة ، كفاءةِ الاستخدام والإنتاج الذي لا يجاوز حَدَّ المادة ، وذلك مما اعتبر في الشرائع كافة ، السماوية المنزلة والأرضية المحدثة ، وإنما امتاز الوحي أَنْ مَازَ الوسيلةَ من القصدِ ، فكفاءة الاستخدام والإنتاج لا تصح في الأذهان غَايَةً تُطْلَقُ ، فَيَصِيرَ الحسُّ هو المرجع المحكم ، فلا غاية للاستخدام والإنتاج تجاوز الحس ، فليس إلا اللذة والكسب ! ، وآخر من القوة يُحْتَكَرُ أَنْ يَقْهَرَ به المحتكِر غَيْرًا ، إذ امتلك الحق ، فليس له ما يجاوز في الحد ، فلا يجاوز حد الحس ، فالقوة هي الحق الذي يُبَرِّرُ الاحتلال والاستعباد والانتهاب على قاعدة أخرى من التطور ، فليس ثم بَقَاءٌ إلا للأقوى ، وإن لم يكن الأصلح ، فلا معيار له من أحكام أو أخلاق يجاوز ، فليس إلا مرجع المادة ، وإنما العزة للكاثر ! ، وإن لم يكن الناصح العادل ، فانحط الإنسان في الحد أن صار : الشيء ! ، فليس ذلك الإنسان المكرَّم المفضَّل في الخلق ، المكلَّف بَعْدُ بالوحيِ أَنْ يَخْلُفَ في الأرض وَيَحْكُمَ بالعدل ، وهو ما استوجبَ اختزالَ الحقيقةِ الإنسانيةِ المركبة ، فَاخْتُزِلَتْ فِي بُعْدٍ واحدٍ ، بُعْدِ المادَّةِ ، فهو يحسن يَتَعَاطَى مع الأشياء بمثل رياضية بسيطة لا تَتَنَاوَلُ إلا المادة بما اسْتَقَرَّ من خصائِصِها المدرَكَةِ بالحسِّ ، وقد ضرب له بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثل بآخر من الاصطلاح الجديد في معجم الحداثة ، فَثَمَّ نمط يحكي الأداء الرَّتيِبَ المتكرر الذي يجاوز حَدَّ التَّرْتِيبِ فذلك أمر يحمد ، وإنما جُرِّدَ من المعنى المجاوز ، فكان من ذلك التَّنْمِيطُ الذي يُفْقِدُ الناظر خاصة الذوق ، فإن السلع المحدثة التي أطرتها الآلة على مِثَالٍ بَسِيطٍ : لا تَظْهَر فيها خاصة الإبداع والتجديد كما صناعات أولى قد صدرت عن فاعل بَشَرِيٍّ ذي ذوق لا تَنْفَكُّ آثاره في الشيء تَظْهَرُ ، فَيَكوُنُ مِنَ التفاوت ما يحكي مَهَارَةَ الصانعِ البشري ذي الفعل الإرادي الصادر عن تصور يجاوز حد الآلة التي تَسْتَنْسِخُ الأشياء فلا يمتاز بَعْضٌ مِنْ بَعْضٍ ، وهو ما جَاوَزَتْهُ بَعْدُ إلى الإنسان الذي صار مُثُلًا تَتَسَاوَى ، وهي على قاعدة من التَّنْمِيطِ تجري ، فلا يمتاز بَعْضٌ مِنْ بَعْضٍ ، فلا مشاعر ولا معان تجاوز الحس ، وبها يمتاز زيد من عمرو من بكر ، وإنما الجميع أشياء كالقطع التي تخرجها الآلة الصانعة ، وليس ثم مرجع من الذوق يجاوز الحس ، فصار الحس هو مركز التصور والحكم ، وهو ما زَادَ المعجم الحداثي آخر من الاصطلاح ، فَثَمَّ تَوَثُّنٌ ، فالمادة قد صارت الوثن الذي يُعْبَدُ ، ولو لم يصرح العابد ، فالوثن حاكم من خارج النفس ، وقد اخْتُزِلَتْ فِي بُعْدٍ واحد لا يجاوز الحس ، فلا معبود لها يجاوز الحس ، وهو ، كما يذكر بعض من حقق ، ما حَدَّتْهُ بَعْضُ المثل المادية فِي "السلعة" أو "الشيء" ، فَهِيَ تَتَحَكَّمُ في الصانع ، إذ طغت وجاوزت الحد ، فالإنسان لها يخضع ، فهو المنفعِل وإن كان الفاعل الأول الذي صنعها ، ثُمَّ اتَّخَذَهَا بَعْدُ معبودا إذ لم يجاوز في الحدِّ مدركاتِ الحسِّ ، فالجسد هو المركز في الإدراك على قاعدة لا تجاوز اللذة والكسب ، فَاتَّخَذَ من أوثانِ المادَّةِ آلهةً تُعْبَدُ ، وذلك ، والشيء بالشيء يُذْكَرُ ، مما تَنَاوَلَهُ معجم الطب المحدث ، طب النفوس ، وقد ناله ، أيضا ، من معجم الحداثة ما نَالَهُ إِذْ لم يجاوز في العلاج أَنْ يُخَفِّفَ الأعراضَ المدركة بالحس ، فَرَدَّ اضطرابات النفوس إلى أخرى في الإفراز أو النبض ، فلا يكون من العلاج إلا مادة يَتَعَاطَاهَا المريض فهي تخفف الأعراض بما تزيد في الإفراز أو تُنْقِصُ دون أَنْ تُجَاوِزَ في النظر فَتُعَالِجَ مِنْ خَارِجٍ السَّبَبَ الذي أدى إلى هذا الاضطراب ، وهو معنى يجاوز المادة ، فَأَنَّى لمذهَب لا يجاوز المادة أَنْ يُدْرِكَ مَا لَطُفَ من المعاني التي تَقُومُ بِالنَّفْسِ ، ولها ما جاوز الجسد في الحد ، فكان من ذلك ما اصطلح أنه التَّوَثُّنُ في غَرِيزَةِ المنكح ، فيكون من ذلك اتخاذ تمائم من المحسوس بها قوى الشبق تُسْتَثَارُ ، وذلك اضطراب في السلوك يحكي آخر يَسْبِقُ ، فَثَمَّ الاضطراب في التصور إذ ليس ثم مرجع يجاوز الحس ، فوحده معيار اللذة والكسب ، فَيَتَكَلَّفُ لأجل ذلك ما يخالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، بل قد يَقْدَحُ في مروءةِ الفاعل ، وإن كان منه بَعْضٌ يجوز ، فذلك نظر في الفقه يُجَرِّدُ الفعل من القرائن ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، لا ينفك يطلب آخر من تحقيق المناط في الخارج ، فاستوجب مراعاة الحال وما عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي كلِّ زمانٍ ، فقد يحسن في مواضع حَدُّ المباح ، ولو من بابِ سدِّ الذرائع ، وذلك أصل في استنباط الحكومات نَاصِحٌ ، فلا يكون ثم إفراط يُفْضِي إلى اضطِّرَابٍ في السلوك ، فمثله كمثل المطعوم المباح ، فالنظر المجرد فيه يحكم بالإباحة ، وهي الأصل في الأشياء عامة ، والمطعوم والمشروب خاصة حتى يكون ثم دليل يَنْقِلُ إلى ضد هو التحريم ، فلا يكون تحريم الأشياء إلا بدليل أخص يجاوز الدعوى المجردة في الحدِّ ، فَلَيْسَتْ تُجْزِئُ في إثباتٍ أَخَصَّ يزيد في الحد على التجويز المحض ، فالجائز ، كما تقدم في مواضع ، لا ينفك يطلب الموجِب المرجِّح من خارج ، فكيف بما ظاهره الإباحة ، فاستصحب منه أصل أول يرجح ، وإن احتمل ضدا فهو المرجوح فافتقاره إلى الدليل الأخص أشد مِنْ آخر هو طرفٌ من الجائز .


فالأصل في المطعوم الإباحة ، فذلك نظر الفقه المجرد الذي يَتَنَاوَلُ حقيقة الشيء دون نظر في القرائن المحتفة من خارج ، فذلك نظر المفتي أو القاضي ، فهو يتناول ما حَرَّرَهُ الفقيه من الحكم المجرد ، ثم يكون منه تحقيق لمناط في الخارج ، فلا ينفك ينظر في القرائن ، كحال المستفتي أو ما عمت به البلوى في زمان الفتوى ....... إلخ ، فالأصل في المطعوم والمشروب الإباحة ، وهو ، مع ذلك ، مما استوجب الحد بالاعتدال لئلا يكون ثَمَّ مكروه من الإفراط في المباح ، فتلك ذريعة إلى آخر من المحرم بما جُبِلَتْ عليه النفوس من السآمة والملل ، فلا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ لَذَّةً تَزِيدُ ، فإذا نَالَتْهَا سَئِمَتْ ، ثم طلبت أخرى ، إما زيادة في القدر ، أو انتقالا إلى آخر ، ولو الضد ! ، بما أفضت إليه الحال من تَوَثُّنِ لَذَّاتٍ ، وَطَرَائِقَ حياةٍ ، قد خالفت عن العقول الصريحات وما جُبِلَتْ عليه النفوسُ السَّوِيَّاتُ من فطرة الخلق الأولى ، لا جرم كان العبث بها ، حسا ومعنى ، فيكون من الإفراط في لَذَّاتِ الحس ما لا منتهى له في السؤل ، إن في القدر أو في الوصف ، أو في ماهية جديدة يقترحها الوسواس بما يُزَيِّنُ مِنْ فَاحِشِ الفعلِ والمسلَكِ ، وليت النفس بذا تقنع ! ، وهي التي جُبِلَتْ على السآمة والملل ، فيكون من ذلك اضطراب المزاج فَتَارَةً يَتَعَاطَى صاحبه اللذة وَيُفْرِطُ ، وتارة يسأم فَيَهْجُرُ ، فيكون من ذلك تفاوت بين أضداد ، فهو يتراوح بينها كما الأقطاب ، وذلك اضطراب آخر قد حَدَّهُ أَهْلُ الشأنِ من أطباء النفس ، فإفراط ثم ترك بل وهجر ، ونشوة تحصل وبها زيادة تمتع ، ثم سآمة وملل ، بل وضنك وكآبة تأويلا يصدق في الخارج ما كان من آي الوحي النازل ، فـ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، فَحَدَّ مَنْ حَدَّ الغاية من الحكمة في هذه الحياة أنها السعي من أجل المتعة والهرب من الألم ، فاستدرك من استدرك أَنَّ ذلك ما جُبِلَ عليه الحيوان الذي يعيش بجسده ، فلا تكون الحرية التي ينشدها كل عاقل إلا أن يعيش بِرُوحِهِ التي تُجَاوِزُ ، وهي ما استوجب حرمان البدن في مواضع ، وإن لم يشرع من ذلك ضِدٌّ يُفَرِّطُ ، فَيَغْلُو فِي الزُّهْدِ وَالتَّرْكِ ، وإنما حُمِدَ مِنْ ذلك ما يَأْطِرُ البدن على جادة العدل فلا يُعْطَى كُلَّ مَا يَرْغَبُ ، فذلك خلق الحيوان الأعجم ، فامتاز الإنسان بِعَقْلٍ يُكَلَّفُ ، فهو يعيش بروحه ، والعقل غريزة لها تَلْطُفُ ، والحيوان في المقابل يعيش بجسده ، وَغَرَائِزُ الحس هي الدوافع التي تَبْعَثُ ، فلا تكون ثم حرية ، لو تدبر الناظر ، إلا أن يكون ثم إِثْبَاتٌ لشرعٍ حاكمٍ يَأْطِرُ النَّفْسَ على جادة العدل ، فيكون من اختيار الإنسان أن يفعل أو يترك ما يحكي إرادة بها يُرَجِّحُ ، فليس الجبر والاضطرار ، وذلك ، كما يقول بعض من حقق ، من تَنَاقُضِ الحداثة إذ تجحد ما جاوز الحس ، وَتُنْكِرُ ما كان أولا من الخلق ، وَتَرُدُّ هذا العالم إلى مثال تطور هو الجبر الذي يُلْجِئُ ، مع عشواء تخبط ، فاستجمع من مخالفة العقل المصرح : جبرا في الخلق فلا إرادة تُرَجِّحُ من خارج ، وليس يملك الإنسان إلا أن يسلك جادة تَقْهَرُ من التطور ، وليس ثم دليل إلا فرض المحال الممتنع لذاته ! ، أن هذا الخلق قد وُجِدَ بِلَا خالق أول ، فلم يكن ثم تقدير ، ولا آخر من إرادة بها الترجيح ، فكان الجبر في التطور ، إذ ليس ثم من يُقَدِّرُ وَيُرَجِّحُ ، فالعالم قد رُدَّ إلى أول بسيط ، على تَفْصِيلٍ قد تَقَدَّمَ ، ثم سلك جادة من الانقسام والتراكب جبرا يَقْهَرُ ، فكان هذا الإنسان الذي لا يطيق الخروج عن هذه الجادة ! ، وليس ثم ، كما تقدم ، إلا عشواء تخبط ، فلا إرادة تُرَجِّحُ ، فَجَبْرٌ وَخَبْطٌ يَسْلُبَانِ الإنسان خاصة الإرادة والاختيار ، وذلك ما اقترن ضرورة بالجحود والإلحاد : جحود الخالق الأول ، جل وعلا ، فَعَجَبًا أَنْ قَالَ مَنْ قَالَ : إن الجحود هو التحرر من قيد الأديان التي تقمع بحدود تحريم وحظر تُحَجِّرُ الواسع وتأطر الغرائز ، فإذا به يقع اختيارًا بإرادته التي رام تحريرها من قَيْدِ الأديانِ ! ، إذا به يقع في ضِدٍّ في الجبر والإلجاء ، فذلك مثاله في الخلق والتدبير ، فثم جادة تطور هي الجبر والقهر في الخلق ، وثم قانون حركة وسكون يأطر الكون ، وذلك الجبر والقهر في التدبير ، فليس ثم خروج عنه ، نَفْيًا لِرُبُوبِيَّةٍ أولى تُحَادِثُ الكون ، وذلك ، كما قال بَعْضُ مَنْ سَلَفَ ، دليل به الرب ، جل وعلا ، قد رَحِمَ الْخَلْقَ أَلَّا تَعْظُمَ شُبْهَةٌ في الْخَلْقِ والتدبير ، فلا يكون ثم خروج عن الجادة ، فالأمر جبر فلا إرادة تُخَصِّصُ وترجيح ، بل كان من اسم الربوبية : خلق أضداد ، فالسنن المحكم لا يطرد في كل حال ، فيكون من الخروج عنه إلى ضد : مَا يحكي قُدْرَةً في الخلق ، وأخرى من الحكمة ، وبها تدبير ما يكون من تدافع بين الأضداد ، فاسم الربوبية قد تناولها جميعا خَلْقًا وَتَدْبِيرًا ، وبضدها تَتَمَايَزُ الأشياءُ ، فالإرادة حتم لازم في الخلق والتدبير ، وتلك إرادة الخالق الأول ، جل وعلا ، وهي ، أيضا ، مما تحصل فيه الشركة بالنظر في المعنى المطلق الذي يجرده الذهن ، فَثَمَّ إرادة للخالق الأول ، جل وعلا ، وثم أخرى للإنسان المريد المختار أن يَنْطِقَ أو يَسْكُتَ ، أن يَفْعَلَ أَوْ يَتْرُكَ ، فتلك خاصة الإنسان الذي يناط به التكليف ، وهو ما التزمه بعض من جحد في قِيَامٍ يَنْدُرُ من منكِر يَجْحَدُ ، فلا يحسن إلا مثنى أو فُرَادَى ، وَالْفُرَادَى خير من المثنى ، كما عطف الأعلى على الأدنى في آي من الذكر المحكم : (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ، فَقَامَ مَنْ قَامَ ، وهو الجاحد المنكِر ، بل والقبيح المفحِش ، فلم يملك إلا الحيرة ، فهو ينتحل الحرية المطلقة دينا ويدعو الناس إلى مذهب في الخلق والتدبير هو ضِدٌّ ، فذلك عين الجبر ، وهو بعد ، يعالج من الاختيار والإرادة ما يَنْفِي هذا المذهب ، ولو في اختيار ما يأكل ويشرب ! ، وذلك ، أيضا ، من فساد الحد والتصور ، فالحرية قد حُدَّتْ بِضِدٍّ وهو الجبر والإلجاء والقهر ، إن في الْخَلْقِ أو فِي التَّدْبِيرِ ، وصاحبها بعد يَتَبَجَّحُ أنه قد أنكر وجحد الخلق الأول ، فَبَلَغَ ما يروم من الحرية ، ولو لم يكن ثم إلا ضِدٌّ من الجبرية ، فَخَرَجَ من عبودية الخالق الذي منحه إرادة بها يختار إلى عبودية هي عين الجبر والإلجاء ، و : (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) .
فكان من محل الشاهد ما يجد الإنسان من سآمة وملل في مباشرة لَذَّاتِ حس ، ولها في الوجدان منتهى وحد ، فلا ينفك يُفْرِطُ وَيَزِيدُ ، ويقترح من أجناس اللذة الجديدَ ، حَلَّ أو حَرُمَ ، فلا مرجع من خارج يأطر ، وإنما لذة قد صارت هي الغاية من الخلق ، خشية فوات ما لا يرجع ، فلا عالم بَعْدُ يجاوز هذا العالم المحدَث ، وذلك ، أيضا ، مما يجد الجاحد المنكر من ضنك العيش ، ألا غاية تجاوز مدارك الحس ، فإذا نالها فسآمةٌ وَمَلَلٌ ، وكرب يَضِيقُ بِهِ الصدر ويحرج أَلَّا دَرَكَ لغايةٍ تجاوز هذا العالم المحدَث إذ لا مرجع يجاوز الحس في التصور والحكم ، فلا يكون إلا الاشتغال بِاللَّذَّاتِ طَلَبًا لسعادة تُتَوَهَّمُ ، فهي السكرة التي تُغَيِّبُ العقل ، فلا يشتغل بسؤالات المصير والمرجع والغايات التي تجاوز هذا العالم المحدَث .... إلخ ، فإذا جاءت الفكرة بَعْدُ ، فَكَرْبٌ أعظم من كَرْبٍ ! ، وذلك تسلسل لا منتهى له في هذا العالم ، فليس ثم من لذاته ، حِسًّا أو معنى ما يكمل ، فلا يكون ذلك إلا في دار الخلد ، فاستوجب ذلك آخر من المرجع ، فهو يجاوز الحس المحدث ، وبه الصبر عن كثير من المحرم والمكروه ، بل وَجُمَلٍ من المباحات بها احتاط أهل الورع والمروءة ، وإن كانت المباحة بالنظر في الحقيقة المجردة في الذهن ، فثم أخرى في الخارج تُقَيِّدُ بما كان من قرائن في الخارج تحتف ، فوجب من ذلك تحري العدل ، وَإِنْ فِي تَعَاطِي المباحات ، من مطعم أو مشرب أو منكح أو كلام أو نَوْمٍ ، فالإفراط فيها ، كما قال أهل الشأن ، إفراط في فضول من المباح ، وبه يقسو الجنان ، فوجب في الباب الاعتدال ، فلا تكون النفس على ضد يخالف ، فيهجر المباح ويتكلف من ذلك ما يخالف عن فطرة الخلق الأولى ، بل ويزيد فيه أَنْ صَيَّرَهُ مَنَاطَ تَعَبُّدٍ ، فيكون من ذلك ما ذمه الشرع المحكم من المحدثة ، كما أثر عن صاحب الشرعة المحكمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَسْأَلُونَ عَمَّا أَصْنَعُ، أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" ، فَذَمَّ من ذلك التفريط الذي يَغْلُو في الترك ، وَيُصَيِّرُ ذلك من حكومات الشرع ، وليس منها في شيء ، فتلك محدثة تجاوز الحد ، وقد تُفْضِي إلى ضدٍّ ، كما قد قص الوحي من حال الرهبانية : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) ، فلم يكن ثم رعاية إذ خالفوا عما شرعه الوحي ، وخالفوا عن آخر قد اشترطه الزاهد على نفسه إذ صَارَ إلى ضِدٍّ من المحرَّم بما جُبِلَتْ عليه النفوس من السآمة والملل ، وإن كان ثم من صَمَدَ وَتَحَمَّلَ ، فأولئك من النادر الذي لا حكم له ، وإنما نَزَلَ الوحي بما يواطئ عامة الخلق ، فلا يكون ثم تفريط في المباح بالهجر والترك لما أَحَلَّ من المطاعم والمشارب والمناكح ، وذلك الجفاء ، ولا يكون ثم آخر من الإفراط الذي ينحط بصاحبه إلى دركة الحس ، وهو ما يُفْضِي بَعْدُ إلى اضطراب في النفس ، كما التوثن آنف الذكر ، إذ اتخذ من المحسوس في الخارج ، وثنا تَتَعَلَّقُ به النفس تعلقا يجاوز الحد ، حد الاعتدال الذي يواطئ الجبلة والطبع ، وإنما ثم آخر يقارف ما تستنكف الفطرة الأولى التي تَسْلَمُ ، فذلك اضطراب يحكي ما تقدم من تصور فاسد لم يجاوز الحس ، فلا مرجع من خارج يجاوز ، فيأطر الناظر على جادة العدل ، وهي الوسط بَيْنَ الغلو والجفاء ، وإلا هجر فخالف عن فطرة أولى تنصح ، أو أسرف ، ولو في المباح ، فخالف عن فطرة بَعْدُ تَعْدِلُ ، إذ ليس ثم تصور لحقائق اللذة والكسب ... إلخ يجاوز الشاهد المدرك بالحس ، وذلك ، كما يقول بَعْضُ من حقق ، مما جاوز التَّوَثُّنَ المحسوس إلى آخر هو المعقول ، كما مثال الدولة المحدثة التي احتكرت أدوات القوة حسا ومعنى ، فهي وَثَنٌ في الخارج قد اسْتُبْدِلَ بالإله الحاكم الذي يجاوز ، فَتَجَسَّدَ الإله في الدولة ، وهي معنى لا يدرك بالحس ، كما المحدَث من شرائع الوضع إذ اتُّخِذَ منها طاغوت حاكم ، فهو يَقْضِي في الدماء والأموال والفروج وسائر الحكومات بما يخالف عن الشرائع المحكمات ، فكان من ذلك مثال لجنس أعم ، جنس الطاغوت ، فذلك مما جاوز الحس ، فَثَمَّ طاغوت المعنى ، كما الساحر فهو طاغوت بما يقارف من جناية السحر ، فَلَيْسَ جَسَدُهُ في الخارج وَثَنًا يُعْبَدُ ، وإنما طغى وجاوز الحد بما قارف من الجرم الذي يَنْقُضُ أصل الدين المحكم ، على تفصيل في الحكم قد تَنَاوَلَهُ أهل الشأن ، وكذا الحاكم الذي يحمل الخلق على ضِدٍّ من الوحي ، لا سيما مواضع الأصول ، إِنْ من العلم أو من العمل ، فذلك من الضروري الحاصل في النفس ، لا سيما في دور النبوات والوحي ، فلا يعذر بها جاهل ، إلا من نشأ في بادية تَبْعُدُ أو دار حرب ، فأعلام الديانة فيها لا تظهر ، على تفصيل آخر يُطْلَبُ من مَظَانِّهِ ، فمن تلك حاله من الحكام فهو طاغوت قد جاوز الحس ، وفيه يصدق ، أيضا ، لقب الوثن ، وإن لم يكن من جسده مِثَالٌ يُعْبَدُ في الخارج كما الصورة المرسومة أو المنحوتة ، وإنما طغى بما عَطَّلَ من الوحي المنزل ، واستبدل به الوضع المحدَث ، فيصدق في هذا الحاكم أنه طاغوت ، على التفصيل آنف الذكر ، ويصدق في شرعة الوضع المحدَث أنها طاغوت آخر في الخارج قد جَاوَزَ به الحاكم الحد الجائز ، فأتى بما ينقض أصل الدين الجامع ، فالشرع المحدَث في نَفْسِهِ وَثَنٌ يُعْبَدُ ، وإن لم يكن ثَمَّ ، بداهةً ، عاقلٌ يعبد مثالا من الحداثة أو نحوه ، فَيَنْحَتُ له صورة في الخارج ولها يَتَنَسَّكُ بالجسد قياما وقعودا ، ركوعا وسجودا ! ، فذلك معنى ساذج بسيط ، وليس يواطئ ما جبلت عليه النفوس من التركيب ، إذ المعاني فيها تَتَعَقَّدُ ، وإن كان لها مبادئ أولى من المقدمات تَبْسُطُ ، فهي الضروري الذي يتوسل به المستدل إلى نظري مركب ، فليس يراد بطاغوتِ المذهبِ المحدَث مِثَالٌ في الخارج يُدْرَكُ بالحسِّ ، وإنما ثم آخر يلطف ، فذلك طاغوت المعنى إذ به حد التصور الأول وما يصدر عنه من مُثُلِ الشرع فهي تأويل له في الخارج يصدق ، وبه يخرج من القوة إلى الفعل ، فيجد الناظر آثاره في الخارج ، وإن لم يكن ثم منه مادة يعالجها الحس ، كما يعالج وثن الحجر أو الشجر ...... إلخ ، بل ثم أخرى قد نحتها في الذهن ، فاتخذها الرائد في التصور والحكم ، فالأمر ، لو تدبر الناظر ، لا ينفك يُرَدُّ إلى أول من التصور ، وبه امتازت الرسالة في مرجعها المجاوز من خارج من الحداثة ، فَلَيْسَ ثم مرجع يجاوز الحس المحدَث ، فالإنسان كَائِنٌ بَسِيطٌ غير مركب ، وله من الْبُعْدِ واحد لَا يَتَعَدَّدُ ، بُعْدِ المادة ، وهي المثال الشاهد في الخارج ، فما جاوزه فهو العدم ، تحكما في الاستدلال قد حَجَّر الواسع ، فَقَصَرَ الأدلة المعتبرة في حصول العلوم والمعارف على واحد هو الحس ، دون عقل يحكم بالجواز في المغَّيب الذي لا يدركه الحس ، وإن لم يَتَعَّدُه إلى الإثبات فذلك قدر يزيد ، ولا ينفك يطلب دليلا من خارج أخص ، وهو الخبر الصحيحُ نَقْلًا ، الصريحُ في الدلالة عقلا ، إن نصا يجزم ، أو ظاهرا يرجح ، أو مؤولا هو المرجوح ، بادي النظر ، وإنما احتفت به قرينة معتبرة تُرَجِّحُ لا أخرى تتوهم بما يَحْرِفُ النفوس من الأهواء والحظوظ ، فلا تنفك تطلب القيد الحاكم من خارج إذ يأطرها على جادة من الصدق والعدل تنصح ، فالخبر الصحيح الصريح مرجع من خارج النفس ، لا سيما في مسائل الغيب التي جحدتها المذاهب المحدثة التي صيرت المادة المدركة بالحس : مركز التصور والحكم ، فما جاوزها فهو العدم ، تحكما آخر في حد المعاني ، فالطباق في الألفاظ لا يكون بين المشهود والمعدوم ، بل بين المشهود والمغيَّب ، وكلاهما ذو وجود في الخارج يجاوز المجرَّد في الذهن ، فَلَيْسَ المغيَّبُ عَدَمًا ليصح القول إن الحس وحده : دليل الإثبات والنفي ، وما يكون بَعْدُ من التصور والحكم ، فالمذهب المحدَث لم يقتصر في هذا الباب على مثال مجرد في العقل ، بل ثم آثار له في الخارج قد ظهرت ، وعمت بها البلوى في الجيل المتأخر ، وإن مَكَرَتْ ، كما تقدم في موضع ، فَتَسَلْسَلَتْ في الخطوات ، وانتقلت بالناظر من المرجع الإلهي المجاوز إلى آخر إنساني لا يجاوز ، وإن كان ثم بَقِيَّةُ معنى من الأخلاق تجاوز المادة ، ثم كان الانتقال إلى المادي ذي الإطار الحاكم ، ولو قوانينَ في الحركة والسكون لا تجاوز المحسوس ، ثم كان آخر هو الذَّرِّيُّ المضطَّرب ، فلم يعد ثم قانون حاكم ، ولو في المادة المدركة بالحس ، فليس إلا الخبط والعبث ! ، فذلك التحكم في حد المصادر المعتبرة في حصول العلوم والمعارف ، فقد حصرتها الحداثة في الحس ، دون آخر يجاوز من العقل بما رُكِزَ فيه من مقدمات ضرورة تَنْصَحُ ، ولو التجويزَ المحضَ الذي يطلب مرجع الخبر المجاوز من خارج ، بما صَحَّ لفظه وَصَرُحَ معناه ، فذلك المرجع الأول ، لا سيما في مسائل الغيب التي لا يدركها الحس ولا يُثْبِتُهَا العقل ، فَلَيْسَ ثَمَّ منه ، كما تقدم ، إلا التجويز المحض الذي استوى طرفاه في الحد ، فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، وليس إلا الخبر المجاوز ، فجحدت الحداثة : الخبر والعقل ، وكذا جحدت فطرة تُلْجِئُ بما ركز فيها من مقدمات أولى تنصح ، بل ولزمها ، لو تدبر الناظر ، جحد الحس الذي عنه تصدر ، إذ لا ينفك ، كما تقدم في موضع ، يعالج من الشاهد ما يدل ضرورة على أول هو الغائب ، وبه حَسْمُ ما امتنع في الذهن ضرورة من التسلسل في المؤثرين أزلا ، مع إتقان في الخلقة وإحكام تال في السنة ، فذلك دليل آخر يزيد ، فثم التقدير بالعلم المحيط المستغرق ، وثم التخصيص والترجيح بآحاد من الإرادة تحدث .

والشاهد أن ثم تصورا لما جاوز الحس من غيب لا يحيله العقل وإن حار في الماهية والحد ، فَثَمَّ من ذلك الجائز الذي يطلب المرجِّح من خارج ، فإن عدل عنه الناظر إلى الحس ، فقد اتخذ الوثن الذي يعبد ، وإن لم يصرح العابد ، فذلك مما لمقاله وحاله يَلْزَمُ ، كما الوثن المدرك بالحس ، وإن كان في الصورة أفحش ، فهو يُصَرِّحُ ولا يُكَنِّي ، ولا يخلو ، لو تدبر الناظر ، من فساد تصور أول ، إذ لا اعتبار إلا لما يدرك في الخارج من عالم الشهادة ، وذلك أصل قد صدرت عنه الحداثة في تصورها ، ولا تنفك آثاره تظهر في معجمها ، فَلَهَا ، كما تقدم ، عرف أخص في التصور والحكم ، وَمَرَدُّهُ اختزالُ الإنسانِ في بُعْدٍ واحد بسيطٍ غيرِ مركَّبٍ ، فلا يجاوز ما يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، فإذا تعاطى مع الحقائق الإنسانية المركبة لم يحسن ، فقد انحط إلى دركة المادة أو الآلة أو الترس ، فلا وجدان له يجاوز الحس ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجده الناظر في حَالِ أُمَمٍ قد بلغت الغاية في الحداثة ، فثم علائق من الاجتماع قد قُطِّعَتْ تَقْطِيعًا ، على مثال من الفردانية التي تحكي المثال الذري المضطرب ، فليس ثم معيار يحكم ، ولو المادة ، وذلك آخر من الانحطاط في دور قَدْ تَلَا الحداثة ، فَمَا بعدها يجحد كل معيار ، ولو المعيار المادي الحاكم لحركات في الخارج تُدْرَكُ بِالْحِسِّ ، فيجد الناظر في أحوال تلك الأمم ، وثم شهادات لمن جاور واختلط ، فثم كآبة فِي الوجوهِ ، وثم تَقَطُّعٌ فِي العلائق ، وهو ما حُدَّ له آخر في الاصطلاح المحدث ، فكان الاغتراب الذي يصدق آيا من الوحي قَدْ تَقَدَّمَ ، فـ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، فثم وحشة في النفس التي تحكمت في الحد ، حد الحقائق ، بل قد أفضى بها الأمر ، كما يقول بعض من حقق ، إلى جحد المعلوم الضروري ، فلا معيار يحكم إذ قد غاب المعنى المجاوز من خارج ، فكلٌّ لا يجاوز في المرجع ذاتَه ، وليته يحسن يحدها الحد الجامع المانع ، فلم يحدها إلا بِبُعْدٍ واحد لا يجاوز ، بُعْدِ المادة المدركة بالحس ، فليس إلا الجسد الذي عنه يصدر في التصور والحكم ، فَلَيْسَ ثَمَّ بُعْدٌ آخر يُجَاوِزُ ، كما مثال التوحيد الذي مَازَ القديم من المحدَث ، وَأَثْبَتَ المرجع المجاوز من خارج الحس ، فَثَمَّ بُعْدٌ آخر يجاوز الجسد ، وهو الروح ، وهي معدن التصور الذي يطلب أولا من المرجع ، فكان من الوحي ما جاوز الذات المحدثة في الخارج ، وكان من الروح محل لطيف يعالج ، فليس الإنسان ذَا بُعْدٍ واحد لا يجاوز الحس ، كما اقترحت الحداثة من إضافات في المعجم : التَّشْيِيء والتوثين والتَّنْمِيطُ والتسليع ، مُثُلًا قد استقرأها بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
  #4  
قديم 16-09-2024, 06:04 PM
مهاجر مهاجر غير شاهد حالياً
 
تاريخ الانضمام: Jul 2008
التخصص : ميكروبيولوجي
النوع : ذكر
المشاركات: 35
افتراضي

والغايات ، لو تدبر الناظر ، مما به امتياز النفوس في الدوافع والبواعث ، وآثاره ، أيضا ، لا تنفك تَظْهَرُ في عرف النطق ، إذ تَحُدُّ المعاني اعتبارا وإلغاء ، فلا بد لكلِّ فاعلٍ في الخارج ، كما يقول بعض من حقق ، لا بد له من نِيَّةٍ وَقَصْدٍ ، صَحَّ أَوْ فَسَدَ ، ولا بد من غاية يَرُومُ دَرَكَهَا ، ولو في فعل جبلة من مطعم أو مشرب أو منكح ، فلا يعالج من أسبابها شيئا إلا وثم تصور أول لغاياتها ، ولو اقْتَصَرَتْ على المحسوسِ العاجل من لَذَّةٍ وسعادةٍ لا تجاوز الحس ، فذلك مما به امتاز المعجم الذي عنه يصدر كل أحد في حد المعاني الأولية التي يتناولها النظر بعد في مثال مركب به التوسل إلى نَتَائِجَ ، فَثَمَّ مقدمات أولى في النفس تَثْبُتُ ، وهي تأويل ما تراكم في النفس من معجم أخص ، معجم الاعتقاد وآخر به الحكم على الأشياء ، فذلك معجم الأفكار الباطن الذي يجاوز آخر من الأشياء في الخارج ، بل لا تنفك الأشياء ، وإن واحدةً في الماهية ، فزيد يباشرها كما عمرو ، فلا تنفك تُبِينُ عن مُعْجَمِ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ، ولو في استعمالها الذي يَنْصَرِفُ ، بادي النظر ، إلى طَرَائِقَ فِي الخارج يستوي فيها الجمع كافة ، فَثَمَّ قدر فارق إذ يسلك بها كلٌّ جادة من الفعل تواطئ ما استقر في النفس من تصور أول ، وحكم بالحسن والقبح ، فما يكون بعد من القول والفعل فهو دليل من القول يُظْهِرُ ، وآخر من الفعل يُصَدِّقُ ، فالمبدأ معان أولى تحصل في الوجدان ، وهي حكاية معجم من الألفاظ وطرائق من التركيب والنظم ، ولطائف من الْبَيَانِ في النطق ، وذلك مما يواطئ العرف المشتهر ، ولكلِّ أُمَّةٍ منه ما تَرَاكَمَ في الوجدان بما كان من تناولها للأشياءِ تَنَاوُلًا أخص ، فهو يجاوز ، كما تقدم ، الفعل المجرد في الحس ، فلا ينفك يحكي أدق من معانٍ هي بواعث النفس إن في الحكم على الأشياء ، أو مباشرتها ، وما يكون من استعمال في الخارج ، فهو ، كما تقدم ، دليل يظهر ما خفي من بواعث النفوس ، ويصدق ما كان أولا من القصود ، فلم تُغْنِ الوسائلُ شَيْئًا في امتياز أصحابها في الخارج ، فكلٌّ يُبَاشِرُهَا بما حصل من العلم بَظَوَاهِرِ السَّنَنِ في الخارج ، فالسكين تَقْطَعُ في يد الصالح وفي يد الفاسد ، والبحث والتجريب يصدق كُلًّا في النتائج إذا سلك به الجادة المحكمة من التفاعل ، وإنما امتاز الخلق في الخارج بالأفكار التي تأطر الأشياء على جادة من الفعل تحكي ما قام أولا بالنفس من معجم الدلالات في الاعتقاد والحكم ، لا جرم لم يكن من الأشياء ما به النفوس تمتاز ، فإنها لا تمتاز إلا بالأفكار التي عنها تصدر ، فليست الأشياء إلا وسائل ، وهي لمقاصدها تَتْبَعُ ، فلا عبرة بها مجردة من المعنى الباعث ، فهي الأشياء المجردة التي استوى فيها الخلق كَافَّةً ، إِنْ فِي البحثِ والنظرِ ، وإن فَاقَتْ أُمَّةً أختَهَا في عصر بما حصل لها من آلة تجريب وبحث تَزِيدُ ، واجتهاد في الطلب يُوَفَّى صاحبه من الأجر ما طلب ، إن في الأولى أو في الآخرة ، فكان من طلب في الأولى ما لا يجاوز ، فـ : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فَإِنْ فَاقَتْ أُمَّةٌ أُخْتَهَا في عالم الأشياء ، فَأُخْتُهَا تجاوزها في آخر ، وذلك سَنَنُ تَدَاوُلٍ في الأشياء التي تَتَغَايَرُ ، والأيام التي تَتَعَاقَبُ ، فـ : (تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) ، وإنما العبرة في الحكم على الإنسان ذي المرجع المجاوز من خارج الجسد بِمَا ثَبَتَ مِنْ رُوحٍ تَلْطُفُ فِي الحدِّ ، وَعَقْلٍ هو مناط التكليف بالأمر والنهي ، وتلك معان تجاوز الأشياء ، فَثَمَّ من الأفكار أخبار تصدق وأحكام تمتثل ، فالعبرة في الحكم عَلَى الإنسان ذي الماهية المركبة من روح تَلْطُفُ ، وهي السيد الذي يحكم ، وجسد يكثف ، وهو الآلة التي عنه تصدر ، فَائْتَلَفَ الإنسانُ من المعنى المجاوز للحس ، وآخر من المادة لا يجاوز ، فالعبرة في الحكم عليه بِمَا يميزه من الحيوان الأعجم وسائر الأشياء في الخارج ، فَامْتَازَ الإنسان بالأفكار والأخلاق التي تُجَاوِزُ الحسَّ ، فهي المرجع الذي عنه القول والفعل يصدر ، وفيه من الاختيار ما يَلْطُفُ ، فجاوز الاختيار في الخارج على قاعدة لا تجاوز النفع الحادث ، بل قد يختار الإنسان ما يضره بمعيار الحس ، وهو مع ذلك يطلب معنى يجاوز ، فَثَمَّ من خبر الغيب تال يعقب ، فتأويله لما يحدُث بعد في الخارج ، وليس من دليل الإثبات إلا الخبر المجاوز من خارج ، وقد أَثْبَتَ من الأجر ما يَعْظُمُ في القدر وَيَبْقَى في الوصف ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا أن يؤمن بالوحي ، فَيَصِيرَ الرائد في القول والعمل ، وله من المرجع والحكم ما يجاوز الأشياء فهو يأطرها على جادة محكمة من الأخلاق والأحكام ، وَبِهِ كان التكريم والتفضيل أن يحمل الإنسان الأمانة ، أمانةَ التكليفِ : إقامةً للشرع وعمارةً للأرض ، وهو ما تناولته الحداثة بالتأويل ، أَنْ تَرُدَّ خلقَ الإنسانِ إلى المادة ، فهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ حِكَايَةَ المذهبِ ، هو ابن الطبيعة ، فهي الأصل ، وليس يحكمه من السنن إِلَّا ما يحكمها ، فليس ثم معنى من الغيب يجاوز ، لا جرم جَحَدَ هذا المذهب المادِيُّ الروحَ ، فَلَيْسَ في الخارج حقيقة تَثْبُتُ إلا الجسد المحدَث ، فهو المركز ، وليس إلا الحس فهو الدليل المثبِت ، والوحي قد جاء لِذَا يجاوز ، فَإِنَّ من محل الروح ما يقبل آثاره ، ومن العقل ما تحصل فيه المعاني الخبرية والإنشائية فَيَمِيزُ كلاًّ ، بما اسْتَقَرَّ في الوجدان من خاصة النطق ، وهي مناط التكليف ، إذ لا يكون نطق مخصوص فهو يجاوز حد التقليد لصوت دون آخر من المعنى أخص بما استقر في المعجم المفرد ، وما زاد من صرف الألفاظ على مُثُلٍ أَخَصَّ في الاشتقاق ، وما كان من دلالة النحو المركب ، وَتَالٍ مِنْ بَيَانٍ يَلْطُفُ ، فكل أولئك ، كما تقدم في مواضع ، آلة الإفهام لما يسمع من الجمل والألفاظ ، فَثَمَّ أول من الألفاظ ، وهو ما استوجب نَظَرَ الاستقراء والاستنباط فهو يتناول العرف المشتهر زَمَنَ النطق الأول الذي نَزَلَ به الوحي أو كُتِبَ به النص ، فذلك أول من القيد الفارق الذي به امتاز التفسير الظاهر من التأويل الباطن ، فلا ينفك الأخير يروم الحيدة عن جادة النطق الظاهر بما استقر من مراتب النطق آنفة الذكر : المعجم والاشتقاق ذي الموازين المخصوصة التي جردها النظر في المأثور ، فكان منها مُثُلٌ لها من الدلالة والعمل ما اختلف ، إذ اختلاف الحد المشتق في النطق والكتب مئنة آخر من المعنى ، وَإِنْ دَقَّ ، كما في "دَفَعَ" و "دَافَعَ" ، مثالا ، فالجنس الدلالي الذي يجرده الذهن من كل هو معنى الدفع ، فذلك المصدر الذي اشْتُقَّا منه ، عَلَى القولِ إِنَّ المصدَرَ هو أصل المشتقات ، وثم الاختلاف في المعنى المقيد في الخارج بما صِيغَ عليه كلٌّ من مثالِ الاشتقاق الأخص ، فحصل من ذلك آخر يطرد في الحقائق ، إذ لا تخلو من قدر مشترك ، وهو ما يجرده الذهن من المعنى المطلق ، فذلك الجنس العام المستغرق ، كما الدفع في المثال آنف الذكر ، وثم آخر من القدر الفارق ، فكان من الصِّيَغِ في الخارج ما افْتَرَقَ ، وإن معنى يَدِقُّ ، وله من اللفظ دليل أخص ، كما زيادة الألف ، ألف المفاعلة في "دافع" ، فهي تحكي الدفع وآخر من الاشتراك في الفعل ، فَثَمَّ اثْنَانِ أو قَبِيلَانِ يتدافعان ، فَكُلٌّ يدفع الآخر ، فحصل من المدلول : دَفْعٌ وزيادة ، فذلك القدر الفارق في المعنى ، وله آخر في المبنى ، وهو ألف المفاعلة في "دَافَعَ" ، فكل أولئك مما استقر من لسان الجيل الأول ، وهو العمدة في التفسير الظاهر لا آخر من التأويل الباطن الذي يَرُومُ الحيدة عما تقدم من مراتب النطق ، مواد المعجم وموازين الاشتقاق وتراكيب النحو ولطائف البيان ، ولكلٍّ عهد أخص ، فذلك العرف المشتهر زَمَنَ النُّطْقِ ، وبه رَدُّ مَا تَشَابَهَ من الأفهام المحدَثة إلى ما أُحْكِمَ مِنَ العرفِ المشتهِر ، وله من دقائق البيان ما استوجب الدرس ، إذ قد فَشَتِ العجمة واللحن ، فكان من ذلك في الجيل المتأخر ما استوجب رَدَّ المتشابه إلى المحكم ، محكم اللسان الأول بما تَقَدَّمَ من مراتب النطق ، وبها المعاني المجردة تَثْبُتُ ، وذلك أول ما يحصل من الكلام ، فالمبدأ : مواد من المعجم يجردها الذهن بما كان من استقراء ثم استنباط يحرر وجوه الدلالة في المادة ، فهي تدور على كذا وكذا من المعاني ، فَقَدْ تَدُورُ على معنى واحد ، فتكون النص القاطع ، وقد تدور على أكثر من معنى ولها جميعا أصل أول عنه تصدر ، فيكون الاشتراك المعنوي ، وقد تدور على أكثر من معنى ولكلٍّ وجهة تخالف عن الأخرى ، فيكون الاشتراك اللفظي ، وذلك المجمل الذي يطلب دليلا من خارج يُبَيِّنُ ، فَثَمَّ دليل السياق المركَّب ، وثم آخر من بساط الحال ، فتلك قرينة من خارج تُسْتَصْحَبُ ، وقد يكون منها ما يجزئ عن المقال في مواضع ، فَلِسَانُ الحال يحكي من الدلالة ما لا يحكي لسان المقال ، فَثَمَّ المبدأُ من مواد المعجم ، وثم تال من موازين الاشتقاق التي تَرْفِدُ المادة المجردة بمعنى يزيد ، وليس يَأْتِي ، بداهة ، على الأصلِ بالإبطالِ ، بل يَرْفِدُهُ فَيُثْبِتُهُ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ ، وثم ثالث من تَرَاكِيبِ النحو وهي تحكي المعنى الأول ، معنى يحسن السكوت عليه ، وهو ما يجزئ في إثبات الخبر أو الحكم الظاهر ، وَثَمَّ رَابِعٌ مِنَ الْبَيَانِ أَخَصُّ ، فهو يفيد معنى ثَانٍ يزيد ، وشرطه ، أيضا ، ألا يأتي على المعنى الأول بالإبطال ، فالمعنى الأول : أصل ، والمعنى الثاني : فرع ، ولا بقاء لِفَرْعٍ قد ذهب أصله ، وهو ما سلكت الحداثة جادته ، ومبدأ ذلك : نَفْيُ الإرادة ، وهي المرجح إن في التصور أو في الحكم ، فَثَمَّ من إرادة المتكلم ما به قد سَلَكَ جادة مخصوصة من النطق ، فتلك أَمَارَةٌ تُبِينُ عن مراده ، وَإِلَّا سَلَكَ غَيْرًا ، ومن ذلك جادة أولى من تَرَاكِيبِ النحو ، وبها المعنى الأول يَثْبُتُ ، فَيَسْلَمُ من العجمة واللحن ، ويواطئ ما اسْتَقَرَّ من عُرْفِ النُّطْقِ ، وثم جادة تعقب بما يكون من لطائف المعنى ، فإن الناطق قد يَتَصَرَّفُ في الألفاظِ بالتقديم والتأخير ، أو الحذف ..... إلخ ، فيكون من ذلك أغراض في البيان تجاوز المعنى الأول الذي يظهر بما كان من جادة النحو القياسية ، فَثَمَّ من ذلك ما يبين عن إرادة المتكلم ، فإنه لا يسلك جادة الإثبات وهو يريد النفي ، إلا أن يكون من ذلك تأويل ذو قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ، وهي مما تَتَنَاوَلُهُ الإرادة ، أيضا ، فَلَهُ مُرَادٌ أَنْ يُجْمِلَ أو يُلْبِسَ في المعنى ..... إلخ ، وليس يسلم له من ذلك ما خالف به عن جادة النطق المحكمة ، فإنها الأصل الذي ترد إليه فروع الكلام المحدَثة ، فَلَا يُقْبَلُ تأويلٌ يخالف عما استقر من العرف المشتهر ، فذلك العهد الخاص في النطق ، إن في الإفراد أو في التركيب ، فَثَمَّ من الإجمال والإلباس ما يخالف عن الأصل ، وإن كان له من النظر حظ ، فَضَرُورَةٌ تُقَدَّرُ بِالْقَدْرِ ، فَقَدْ يَتَقَصَّدُ المتكلم الإلباس بل والكذب في مواضع ، فيخالف عن الحق الثابت في الخارج ، وليس كل ذلك مما يَقْبُحُ ، وإن تَبَادَرَ إلى الذهن أنه المحرَّم في الشرع والعرف ، فمنه مواضع يجوز فيها ، بل وَيَحْسُنُ ، كما الكذبُ عَلَى العدوِّ في الحرب ، بل وزيادة من الإلباس الذي يُضَلِّلُ ، فيكون من ذلك ما به الخصم يَتَحَيَّرُ ، وقد يُجْمِلُ المتكلم إذ لِذِهْنِ المخاطَب يَسْتَحْضِرُ ، أَنْ يُلْقِي إليه من الكلام ما لا يَظْهَرُ معناه ، بادي النظر ، فهو مما احتمل ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ إِعْمَالًا للذِّهْنِ ، واستقراءً لقرائن في النطق ، فيكون من ذلك دُرْبَةٌ تَنْفَعُ ، ويكون منه تشويق يطلب المعنى المراد ، إذ خفي ولطف ، وهو ، مع ذلك ، لم يخالف عن المعهود الذي اسْتَقَرَّ من عُرْفِ النُّطْقِ الذي به قَدْ نَزَلَ النص إن كان وحيا ، أو وَرَدَ به الكلام إن كان الناطق بشرا ، فَلَا يُفَسَّرُ كُلٌّ إلا بِعُرْفِ زَمَانِهِ الأول ، وذلك ، أيضا ، مما سلكت الحداثة جادته ، فَأَوَّلٌ به قد جَحَدَتْ مُرَادَ المتكلِّم ، فلا إرادة له في النص تَثْبُتُ ، وإن الإلهَ الحاكمَ ، فقد قالت الحداثة في جيل أنه قد مات ! ، فَحَلَّ الإنسان محِلَّه ، وصار المركز في التصور والحكم ، وذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما استوجب نظرا أخص ، فإطلاق القول إن الإنسان هو المركز ، مما به توسلت الحداثة ، ولو في جيل أول ، أن تُبْطِلَ المرجِعَ المجاوز من خارج العقل والحس ، فلا يكون ثم وحي هو المركز في التصور والحكم ، وهو كلام الرب الذي خلق إذ هو الإله الذي حكم بما أَنْزَلَ من الآي والخبر ، فحصل من ذلك تصور وحكم ، فخبر يصدق وإنشاء يمتثل ، ولا بد له من جادة في النطق تبين بما كان من عرف الجيل الأول ، إذ قد نَزَلَ الوحي بِلِسَانِهِ المفصِح ، فالوحي كلام ، وهو لفظ ومعنى ، وليس يحصل البيان بِلَفْظٍ من الدلالة قد جُرِّدَ ، والدلالة ذات مسالك في النطق ، كما تقدم من مراتب في المعجم والاشتقاق والنحو والبيان ، وهي ما حَصَلَ للجيل الأول بداهة ، فكان في زمانهم مقدماتِ ضرورةٍ في النطق ، فكلٌّ قد باشرها في عَامَّةِ شَأْنِهِ ، فلم يَفْتَقِرْ إلى علم أداة به يحرر النطق ، فقد سمع الوحي بلسان عربي مبين ، وهو لسانه الذي حصل بلا تَعَلُّمٍ ، فَلَمْ يَتَكَلَّفْ مِنْ دَرْسِ المخارج والصفاتِ وقواعد التلاوة ..... إلخ ما تَكَلَّفَ المتأخِّر لَمَّا خَشِيَ أهلُ الشأنِ دُرُوسَ الوحيِ ، فاجتهدوا في حفظه بما جمعوا من مسائل ، وصنفوا من علوم ، إن الغاياتِ أو الآلاتِ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عم الآيات والأخبار ، فكان من علوم الغايات : علوم بها حفظ المباني ، كما تلاوة الذكر المنزل وحفظه في الصدور ، وآخر في السطور يزيد ، وكما حفظت الأخبار في الصدور والسطور ، أيضا ، فكان منها تَالٍ يَرْفِدُ ، وله الكتاب المتواتر يشهد بِحُجِّيَّةٍ قد أُطْلِقَتْ ، فجاوزت الْبَيَانَ بالتخصيص أو التقييد ... إلخ ، إلى الإنشاء الذي يَسْتَأْنِفُ من الأخبارِ والأحكام ما لم يأت به الكتاب المنزل نَصًّا ، فقد جاء به لَازِمًا إذ أبان عن حجية الخبر المطلقة ، إن في العلم أو في العمل ، فأطلق الأمر في الأخذ والانتهاء ، فـ : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَثَمَّ آخر من علوم الآلات ، كما التجويد الذي يضبط المخارج والصفات وقواعد التلاوة ، وكما الاصطلاح الذي يُحَرِّرُ الأخبارَ فَيَمِيزُ الصحيحَ من الضعيفِ ، وكما علوم اللسان ، محل الشاهد ، فهي آلة بها تفسيرٌ وَشَرْحٌ لما نَزَلَ من الآي والخبر ، فلا يُبَاشِرُ ذلك من ليس له حظ من لسان العرب الذي نَزَلَ به الوحي ، فكان من علومه آلة تُبِينُ ، كما أن اللسان مبدأَ النظرِ : آلة تُبِينُ عن المعنى الذي قام بالنفس ، وكما العقل آلة بها درك المعاني التي جاءت بها النصوص ، وهو ما استوجب جادة محكمة من النطق ، إِنْ معانٍ أولى تحصل في الوجدان ، أو ألفاظًا بَعْدُ تعقب ، فهي دليل من اللسان يُظْهِرُ بما استقر من عرفه المشتهر زَمَنَ التَّنْزِيلِ الأول ، فكان من ذلك ما حصل للجيل الأول : مقدماتِ ضرورةٍ لا تَفْتَقِرُ إلى نظر أو استدلالٍ أَخَصَّ ، فهم أعلم الناس بالوحي ، نقلا وعقلا ، لفظا ومعنى ، إذ بلسانِهم المفصِح قد نَزَلَ ، ولهم من شهوده ما لم يشهد من تَلَا ، وَلَوْ بَلَغَهُ الوحيُ صَحِيحًا فِي النَّقْلِ صَرِيحًا في العقل ، فلا ينفك الشاهد يمتاز من الغائب ، ولو كان من الخبر الناصح ما بَلَغَ الأخير ، فقد استفاد الأول من شهود الوقائع : قَرَائِنَ بها عقل المعنى الأخص ، فامتاز الجيل الأول بمعان أخص ، إِنْ في العدالةِ أو في النقلِ أو في العقلِ ، لَا جَرَمَ قَصَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ روايةَ الأخبارِ بالمعنى على الجيل الأول حصرا إذ لهم ، كما تقدم ، خاصة شهود للوحي وهو يَنْزِلُ ، فأفادهم ذلك من عقل المعنى ما يرجح ، فكل أولئك مما حصل للجيل الأول ، م ، ضرورةً بلا تَعَلُّمٍ ، لا جرم قد صُدِّرُوا في الباب ، فلسانهم هو المثال القياسي المفصِح ، وكلُّ علمٍ بَعْدُ قَدِ اسْتُحْدِثَ من المعجَم والاشتقاق والنحو والبيان ، فإنما غايته أن يقارب مثالهم الأول ، وكلُّ أصلٍ قد حرَّرَهُ الناظر بَعْدًا أَنْ يَسْتَنْبِطَ به المعنى ، إِنْ في خَبَرٍ أو في إنشاءٍ ، فذلك مما صَدَرَ عن مثالهم في النطق ، إذ جاوز حكايةَ الألفاظِ نَقْلًا إلى درك المعاني عقلا ، فَحَرَّرَ منها أهل الأصول قواعد محكمة بها تفسير النصوص تفسيرا يَنْصَحُ ، وبها درك المعاني التي تدور عليها الأحكام ، لا سيما مواضع التعليل الأخص في معقول المعنى من الأمر والنهي ، وعليه يُقَاسُ ما حَدَثَ بَعْدًا من الفروعِ ، وبه كفاية في الاستدلال ، فالوحي قد أَجْزَأَ إِنْ بِالنَّصِّ أو بالقياسِ ، فلا ينصح التفسير إلا أن يصدر عن قواعد محكمة تحكي عرف اللسان المشتهر زَمَنَ النطق الأول ، فذلك أصل عام يَتَنَاوَلُ النصوص كافة ، لا جرم اجتهدت الحداثة أن تُبْطِلَ ما استقر من ظواهر الدلالة ، إِنِ المفردةَ أو المركبةَ ، وتستبدل بها أخرى من التأويل الباطن ، تَذَرُّعًا أن الكتاب بَيِّنٌ لا يطلب من العلم ما يُبَيِّنُ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما لا يخلو من حق ، فـ : (لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، وَبِهِ يُرَادُ أعظم باطل ، أَنْ تُفْتَحَ ذَرَائِعُ التأويلِ الباطنِ ، فهو الاجتهاد الناصح الذي يُبْطِلُ وَسَائِطَ الكهَّانِ والأحبارِ ، فكان من ذلك قِيَاسٌ مَعَ الفارقِ لَا حَظَّ لِصَاحِبِهِ مِنْ دِينٍ وَلَا تَارِيخٍ ! ، فإنه لا يحفظ من وقائعِ التاريخ إلا تاريخ الحداثة إذ تَذَرَّعَتْ بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الأحبارِ والرهبانِ الَّذِي أتى على الكتب الأولى بالإبطال ، بما بَدَّلُوا من الألفاظِ ، فَزَادُوا وَنَقَصُوا ، وما حَرَّفُوا من المعاني بما كان من تأويلٍ بَاطِنٍ قد أتى على أصول المعاني بالإبطال ، فكان من ذريعة الحداثة أَنْ تَرُدَّ تَأْوِيلَهُمُ الباطنَ الذي أبطل الاستدلال بالكتاب النازل ، فقد صَيَّرُوهُ مناط خطإٍ ، إن في الخبر أو في الحكم ، وهو ما سَوَّغَ التَّشْكِيكَ ، وإن على مكثٍ ، فَلَمْ يجهر المشكِّك أولا أنه يجحد الوحي مرجعا من خارج العقل والحس ، بل وينكر أولا من الخلق ، بل ولا يجحد الخالق الأول ، وإنما تَلَطَّفَ بمثالٍ من الإصلاح يُكَنِّي ولا يُصَرِّحُ ، فَتَذَرَّعَ بِمَا كان من حالِ الأحبارِ والرهبانِ ، وهو ما ذَمَّهُ التَّنْزِيلُ الخاتمُ ، فذلك مسلك قَدِ اطَّرَدَ فِي الجمهرةِ العظمى من أولئك ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، فَكَانَ مِنْ إِنْصَافِ الوحيِ فِي الحكمِ أن لم يكن من العموم نَصٌّ يَسْتَغْرِقُ الجميعَ ، بل تلك حال كثير ، فلا يخلو من قليلٍ يَنْصَحُ ، فـ : (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، و : (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، وأولئك من آمن زَمَنَ رسالتِه ، وَمَاتَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُبَدِّلٍ ولا محرِّف ، فتلك بَقَايَا مِنْ أهلِ الكتاب الأول ، كما في الخبر : "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ" ، ومنهم من أدرك النبوة الخاتمة ، فآمن بها ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، تَأْوِيلٌ يَنْصَحُ لِمَا سَلِمَ من الكتب الأولى من بشرى النبوة الخاتمة ، فكان من ذلك تصديقٌ بكتابهم ، وتصديقٌ لما ذُكِرَ من الكتاب الخاتم ، فَحَصَلَ لصاحبِه من الوصف ما يُمْدَحُ ، ومن الأجر ما يُضْعِفُ ، كما في الخبر المحكم ، فـ : "إذَا آمَنَ بعِيسَى، ثُمَّ آمَنَ بي فَلَهُ أَجْرَانِ" ، فَثَمَّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ قد خالف عن الجادة ما به تَذَرَّعَتِ الحداثة أَنْ تُصْلِحَ مَا أَفْسَدُوا ، وإن لم تخالف عن جادتهم إذ أَبْطَنُوا في التأويل ولم يظهروا ، فكان منها آخر يجحد صراحة ، وآخر قد تَلَطَّفَ ، وذلك ، كما يقول بعض من حقق ، مما عَظُمَ إفسادُه ، فهو الصنف الثالث صدرَ البقرة ، وفي وصفهم قد أطنب الوحي المنزل ما لم يطنب في وصف الصنف الكافر الذي يصرح ، فكان من أولئك عداوة أشد ، وإن تلطفوا في اللفظ ، فـ : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَرَدُّوا باطلَ الكهنةِ والأحبارِ بِعَدْلٍ يُضَاهِي ، فكان من التأويل الباطن ما سلكوا جادته إذ لم يجهروا ابتداء بإنكار الوحي المنزَّل ، وهو ما اسْتَوْجَبَ ، كما تقدم في موضع ، الحكم بموت الإله ، فلا إرادة له في النص الذي أَنْزَلَ ، بل ليس إلا الرَّمْزَ الذي اسْتُغْلِقَ مدلولُه ، فهو المجمل الذي لا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ نَصًّا يَقْطَعُ أو ظاهرا يَرْجُحُ بما استقر من عرف النطق المفصِح ، فجحدت الحداثة عرف النطق ، ليصير الكلام رمزا في النطق والكتب ، فلا مدلول له يَثْبُتُ بَادِيَ النَّظَرِ ، وجحدت إرادة المتكلم ، فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الرَّمْزِ معنى بِعَيْنِهِ ، وإنما تَرَكَ لمن جاء بَعْدًا جملةَ رموزٍ لا مرجعَ من خارجٍ يُفَسِّرُهَا التفسير الظاهر ، فَسَاغَ لِكُلٍّ أن يُؤَوِّلَهَا التأويلَ الباطن بما لكلٍّ من مرجعٍ ذاتيٍّ لا يجاوز ، فَلَيْسَ ثَمَّ مرجعٌ من خارجٍ ، وإنما المرجع ذاتي من العقل ، والمعلوم شهادة لا تجاوز الحس ، والجسد أصل في الإثبات والنفي ، تَحَكُّمًا فِي حَدِّ الإنسانِ أَنْ يَبْطُلَ منه ما جاوز الحس ، فلا روح تشاطر الجسد حَدَّ الإنسان ، كما المعنى يشاطر اللفظ حَدَّ الكلام ، ولا عقل هو الغريزة التي تَلْطُفُ ، وإنما دِمَاغٌ فِي الرأسِ يَكْثُفُ ، فَلَيْسَ شيء يثبت في الخارج إلا المشهود المدرَك بالحس الحادث ، وذلك آخر من الانحطاط بالإنسان العاقل المكرَّم أَنْ يَسْتَوِيَ هو والحيوان الأعجم ، إن في أصل الخلق ، أو في مرجع التصور والحكم ، فكلٌّ يصدر عن الجسد والحس الذي لا يجاوز ، فكان التحكم في رَدِّ التفسير المظهِر إلى تأويل يَبْطُنُ ، ومرجعُه هو الذاتي الذي لا يجاوز مع ما استقر ضَرُورَةً مِنْ أَوْصَافِ : جهلٍ ونقصٍ وآفةٍ تَعْرِضُ وَعِلَّةٍ تُمْرِضُ ....... إلخ ، فذلك وَصْفُ العقلِ وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، وليس يَسْلَمُ مِنْهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي موضعٍ ، لا عقل الفرد ولا عقل الجمع الذي تَأْطِرُهُ دِعَايَةُ الملإ على جادة تُوَاطِئُ هَوَاهُ وَحَظَّهُ ، وكان التحكم في حَدِّ الإنسان أن لم يجاوز المشهود من الجسد الذي يستوي فيه هو والحيوان الأعجم ، فمعنى الإنسان ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، معنى لا يخلو من خاصة غيب بها قد كُرِّمَ الإنسان وَفُضِّلَ ، فَلَهُ مِنْ خَاصَّةِ الروحِ ما يجاوز الجسد ، وله من خاصة المعنى ما يجاوز المادة ، وله من خاصة العقل ما يجاوز الدماغ ، وهي مناط التكليف بما كان من خَبَرٍ وَحُكْمٍ ، ومنه غَيْبٌ قَدْ جَاوَزَ الحسَّ ، والإيمان بالغيب ، ولو قُوَّةً أولى تَثْبُتُ فِي النَّفْسِ ، ذلك مناط تَكْرِيمٍ وَتَفْضِيلٍ أخص أَنْ كَانَ مِنَ التَّصَوُّرِ مَا تَنَاوَلَ مَعَانٍ مِنَ الغيبِ ، فهي تجاوز معاني الحس المحدَث التي يُشَارِكُهُ فِيهَا الحيوان الأعجم .

والشاهد أن الحداثة قد جحدت إرادة المتكلم الأول ، فقد مات ، فمات الإله أولا ، وبه عُظِّمَ الإنسان تَعْظِيمًا قد جاوز الحدَّ ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ ما يَنْصَحُ أَنَّهُ المركز في الكون بما حُمِّلَ من أمانةِ الوحيِ ، لا أنه المركز المطلق فلا مرجع من خارج يُجَاوِزُهُ ، ثُمَّ كان تال يعقب ، فلا زال من الإنسان معنى غيبٍ ، من روحٍ وفطرةِ أخلاقٍ ، وأحكام تحسين وتقبيح ، ولو المجملة فهي مما حصل في العقل الصريح الذي سَلِمَ من آفات الجحود والتعطيل لعلوم الضرورة التي تحصل في النفس بلا مُعَلِّمٍ ، وإن كان منها المجمل الذي يطلب بَعْدًا الدليلَ المبيِّنَ ، فَلَا زَالَ من ذلك معنى غَيْبٍ ، وهو ما تجحده الحداثة إذ لا تجاوز مدارك الحسِّ ، فكان القول بَعْدُ إِنَّ الإنسانَ قد ماتَ ، فَمَاتَ مرجع الأخلاق والأحكام ، ولو المجملةَ في الوجدان ، وَاتَّسَعَتْ دائرة التأويل الباطن لِتَأْتِيَ عَلَى المعلومِ الضروريِّ الذي حَصَلَ فِي الفطرة الأولى ، وهي ، أيضا ، مما جحدت الحداثة ، فهي تَلْتَزِمُ في الباب لَوَازِمَ تُفْضِي إلى التعطيلِ التامِّ لكلِّ معنى يَنْصَحُ ، فَلَيْسَ فِي الخارجِ حَقِيقَةٌ تَثْبُتُ إِلَّا المادة ، فهي الأصل ، والإنسان ، كما يَنْقِلُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ابْنُهَا وهو الفرع ، فليس ثم خالق قد جاوزهما فَخَلَقَ كُلًّا خَلْقًا هو الخلق المتقَن وأجراه على سَنَنٍ هو السَّنَنُ المحكَم ، ثم كان الخروج عن كلِّ أصلٍ يُضْبَطُ ، فالمادة تَتَحَرَّكُ عَلَى سَنَنٍ قَدْ أُحْكِمَ ، وهو ما جَحَدَتِ الحداثةُ أو ما تَلَا منها ، فليس في الخارج إلا ذرات تخبط عشواء ، كما الخلق أولا في فَرْضِ التَّطَوُّرِ قَدْ صَدَرَ عَنْهَا خَبْطَ عشواء هو الأوَّل ، فلا غَايَةَ ولا سُنَّةَ عليها الخلق يَجْرِي ، فَلَيْسَ إِلَّا العدم والعبث ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يُسَوِّغُ بَعْدُ قَتْلَ النفس ، وإهلاك الحرث والنسل ، فلا يكون ذلك إلا أن يُنْزَعَ من الإنسان وصفه الذي به امتاز ، فيصير حيوانا كسائر الأجناس ، فذلك مما يُهَوِّنُ قَتْلَ آحادٍ منه ، بل وَيُسَوِّغُ إِفْنَاءَ جموعٍ منه تَكْثُرُ إِذْ لَيْسَ مِنْهَا نَفْعٌ يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، وقد صار وحده مناط الإثبات والنفي ، فذلك مسلك ظاهر ، والتاريخ به شاهد ، لا سيما المحدَث ، وقد عظمت فيه بَلْوَى الحداثة ما لم تعظم في آخر ، فَلَهَا مُثُلٌ في أجيالٍ تقدمت بما سلكت من تأويل باطن يُعَطِّلُ النصوصَ ، وَيَسْتَبِيحُ كُلَّ معصومٍ ، الحركات الباطنية مثالا قد اشتهر في العصر الوسيط ، فكان من ذلك مسلك ظاهر ، وهو تأويل يُصَدِّقُ بالعمل ما كان من الاعتقاد والقول الذي صَدَرَ عن منهاجِ تأويلٍ باطنٍ ، ومبدؤه تَعْطِيلُ ما استقر من عُرْفِ اللسانِ المشتَهِر ، فَيَصِيرُ النص رَمْزًا يَقْبَلُ أَيَّ تأويلٍ ، وليس ثم مَرْجِعٌ من خارجٍ يَأْطِرُهُ على مدلولٍ أَخَصَّ من لسانٍ قَدْ أُحْكِمَ فِي بَيَانِهِ ، ثم يكون من ذلك تال في الإلزام من قول بالتاريخ يأطر المدلول على الجيل الذي انْقَضَى ، فَتِلْكَ نُصُوصٌ لا تجاوز جِيلَهَا ، وَلِكُلِّ جيلٍ من العرف ما يحدث فَهُوَ قَاضٍ فِيهَا ، ولو أَتَى على أصولها بالإبطال ، وهو ما اسْتَوْجَبَ بَتَّ الصلةِ بَيْنَ دَوَالِّ الألفاظِ ، ومدلولاتها من المعاني ، فكان التفكيك ، تفكيك النص ، فاللفظ في حَدٍّ ، والمعنى في آخر ، فَشَغَرَ اللفظ من المدلول إذ ليس ثم منه إلا الرمز المنطوق أو المكتوب ، ثم كان آخر من الاقتراح الذي يَتَحَكَّمُ ، فَهُوَ يَشْغَلُ اللَّفْظَ بمعنى يُوَاطِئُ المدلولَ المحدَث ، وقد صار اللفظ ، كما تقدم ، رَمْزًا ، فهو دالة بلا مدلولٍ يَشْغَلُهُ ، فَثَمَّ شَاغِلٌ جديد يَنْسَخُ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ القديمِ ، بما كان من بِنْيَةِ كلامٍ محدَثَةٍ ، فَهِيَ تَحْكِي عُرْفَ جِيلِهَا الذي يَنْسَخُ العرفَ الأوَّل ، فيصير لكلِّ جيلٍ كتاب جديد من الأخبار والأحكام ، وإن كان نطقه ورسمه واحدا ! ، وذلك الاضطراب الذي يأتي على أي مطلق من المعنى بالإبطال ، ولو المعنى المجرد في الذهن ، فَيُفْضِي إلى عبث وعدم فلا غاية لهذا الخلق إذ لا معنى يجاوز الحس المحدَث ، فالحركة فيه ، كما يقول بعض من حقق ، حركة في المادة بلا غاية لا أخرى في معنى ، فهي تطلب الغاية التي تجاوز هذا العالم المحدث .

والله أعلى وأعلم .
منازعة مع اقتباس
منازعة


الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1)
 
أدوات الحديث
طرائق الاستماع إلى الحديث

تعليمات المشاركة
لا يمكنك ابتداء أحاديث جديدة
لا يمكنك المنازعة على الأحاديث
لا يمكنك إرفاق ملفات
لا يمكنك إصلاح مشاركاتك

رمز [IMG] متاحة
رمز HTML معطلة

التحوّل إلى

الأحاديث المشابهة
الحديث مرسل الحديث الملتقى مشاركات آخر مشاركة
عربي الأصل أعجمي اللسان الطالب مُضطجَع أهل اللغة 8 10-10-2015 10:05 PM
عيّ اللسان ورداءة البيان محمد سعد حلقة الأدب والأخبار 3 29-03-2011 03:48 PM
هل من دراسة عن علوم اللسان العربي ؟ فارس موسى أخبار الكتب وطبعاتها 3 29-03-2011 03:47 PM


جميع الأوقات بتوقيت مكة المكرمة . الساعة الآن 03:54 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
الحقوقُ محفوظةٌ لملتقَى أهلِ اللُّغَةِ