|
#1
|
|||
|
|||
عن التأويل
اصطلاح التأويل مما وقع فيه الاختلاف في القديم والحديث ، وقد صار بَعْدُ ذريعةً إلى ضِدٍّ من التعطيل ، أو آخر من التأويل الذي جَاوَزَ ، فَهُوَ الباطن الذي يأتي على أصول الدلالات بالإبطال ، وله من المعنى ما نَصَحَ في الاستدلال ، كما جاء في نصوص من الوحي المنزل ، وأخرى من اللسان المفصِح ، ومنه تأويل المقدور أن يَقَعَ كما المخبِر قد أخبر ، كما تأويل الموعود أن يأتي ، وكما تأويل الرؤيا ، وهو مما احتمل التفسير في موضع ، إذ لَمَّا تَقَعْ بعد في الخارج ، كما في قوله : (قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) ، فَنَفَوا العلم بالتفسير ، إذ لو كان التأويل هو وقوع المخبر به ما اشتبه ذلك على أحد ، فكل يعلمها إذا وقعت ، فاجتهد المعبِّر أن يَتَأَوَّلَ ، فذلك التفسير الذي يُبِينُ وَيُظْهِرُ ، واحتمل الوقوع في آخر ، فتأويلُها أَنْ تَقَعَ في الخارجِ ، فهي رَمْزٌ قد أُجْمِلَ ، ولا ينفك يطلب من التفسير ما يبين ، وذلك محل الاجتهاد لدى آحادٍ من الخلق ، إلا من عُصِمَ من حملة الوحي ، فإن رؤياهم حق ، وبذا شَرَعَ الخليل ، عليه السلام ، في الذبح ، فـ : (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، فأجاب الذبيح ، عليه السلام ، أن يمتثل الأمر ، ولم يَكُنْ إلا رُؤْيَا ، ولكنها رُؤْيَا نُبُوَّةٍ ، فكان من تأويلِها أَنْ يمتثل النبي مَا رَأَى ، فذلك وحي قد أَمَرَ بالذبح ، فوجب الامتثال على الفور ، فلا يجوز ذلك لآحاد من الخلق ، وإن كان لرؤياهم تأويل في الخارج ، فليس منه الأمر الذي يُبَاشِرُ ، إذ احتمل ذلك حلما من الشيطان ، وهو مما فسد ، واحتمل حديث النفس ، وليست تعصم ، واحتمل الرؤيا ، فدخلها الاحتمال من هذا الوجه ، فَسَقَطَ بِهَا الاستدلالُ ، خلاف ما يكون من رؤيا الأنبياء ، عليهم السلام ، فخاصة العصمة قَرِينَةٌ من خارجٍ تُرَجِّحُ الرُّؤْيَا قَوْلًا وَاحِدًا ، فليس منها الحلم أو حديث النفس ، فهي حق من الله ، جل وعلا ، سواء أباشرت المعنى المراد ، كما في رؤيا الخليل ، عليه السلام ، أم افْتَقَرَتْ إلى تأويل أخص ، كما تأول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رُؤْيَاهُ قَبْلَ أُحُدٍ أَنْ ذُبِحَ بين يديه بَقَرٌ ، فأولئك نفر من أصحابه يُقْتَلُ .
وَمِنَ التأويلِ ما تَنَاوَلَ الإنشاء كما الخبر ، فتأويل الأمر أو النهي ..... إلخ من وجوه الإنشاء ، تأويله الامتثال ، وكذا يقال في الخبر ، فمن تأويله ، أيضا ، ما يتناول التكليف ، فذلك التصديق ، فتأويل الخبر الذي جاء به الوحي : أَنْ يُصَدَّقَ فَهُوَ الحقُّ فِي نَفْسِ الأمرِ ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مما استوجب أصلا عنه الناظر يَصْدُرُ ، أَنْ يَثْبُتَ الجنسُ الأعمُّ ، جنس النبوات ، ويقيم الدليل على العصمة ، وآخر على النبوة الخاتمة فهي الجامعة ، وثالثا يتناول عين الخبر ، فيكون بإسناد قد نَصَحَ ، فَنِسْبَتُهُ إلى النبوة صحيحة ، ودلالته تجزئ ، إِنْ ظَنًّا يُرَجِّحُ أو ما زَادَ من نَصٍّ في المحل يجزم ، فإذا ثبت الأصل ، أصل النبوات والوحي ، نَفَعَ الجدال لخصم إذ ثم قدر مشترك من الإثبات ، إثبات النبوات ، وكان الخلاف بَعْدًا في تحرير النسبة إليها ، إِنْ خَبَرًا فتأويله التصديق ، أو إنشاءً فتأويله الامتثال ، فذلك تأويل يعدل في الحد : التكليفَ الملزم ، لا ما يَتَبَادَرُ من التفسير ، وإن كان في التكليف شَرْطًا يَسْبِقُ ، فَشَرْطُ التكليفِ أن يكون المكلَّف به معلومًا مقدورًا معدومًا ، ومحل الشاهد منه وصف المعلوم ، فلا بد من تفسير يُبِينُ عن المدلولِ ، الخبريِّ أو الإنشائيِّ ، فذلك شَرْطٌ قَبْلَ الشروعِ في التكليفِ تصديقًا لِخَبَرٍ أو امتثالًا لِأَمْرٍ أو نهيٍ ، فذلك الحكم وهو فرع عن أول من التصور ، والتصور دَرَكُ الشيءُ دَرَكًا صحيحا في نفس الأمر ، إِنِ النَّصَّ الجازمَ أو الظنَّ الغالبَ ، فكلاهما يجزئ في الاستدلال ، وإن تفاوتا في الرتبة ، فذلك مما ينفع في الترجيح حَالَ التَّعَارُضِ وَتَعَذُّرِ الجمعِ إذ الجهة قد اتحدت ، فَلَوِ انْفَكَّتِ الجهة ، بادي النظر ، ما كان خلاف وإن تَوَهَّمَهُ المستدِلُّ ، فَذَلِكَ مِنْ نَقْصِ العلمِ ، إذ لا يحيط بألفاظِ الأدلَّةِ ، وقد يحيط ولا يحسن يجمع ، إذ لا خلاف في نَفْسِ الأمرِ يَثْبُتُ ، فالجهة قد انْفَكَّتْ ، كما نَفَى في موضع وَأَثْبَتَ في آخر ، فَيُحْمَلُ كُلٌّ على حاله ، وإنما الخلاف الذي يستوجب الترجيح أن يكون الإثبات والنفي في نَفْسِ الموضِع من وَجْهٍ واحدٍ ، فَثَمَّ أَوَّلٌ يُسْتَصْحَبُ فِي البابِ وهو العدم ، وبه الذمة تَبْرَأُ ، وذلك أصل قد تَنَاوَلَ أجناسَ التكليفِ ، خبرًا أو إنشاءً ، فَلَا تُشْغَلُ الذِّمَّةُ ، بَادِيَ النَّظَرِ ، أَنْ تُصَدِّقَ بِخَبَرٍ أو تَمْتَثِلَ أمرًا أو نهيًا ، إلا أن يكون ثم دليل أخص ، فهو يُثْبِتُ الخبرَ أو الإنشاءَ ، فَيَشْغَلُ الذِّمَّةَ بِشَاغِلٍ معتبرٍ ، فلا يكون من ذلك دعوى تجرد ، لا دليل عليها يشهد ، ولا قرينة لها تُرَجِّحُ إلا عَيْنُ الدَّعْوَى ، وذلك ، كَمَا تَقَدَّمَ في موضعٍ ، تحكم لَا يَنْصَحُ فِي الاستدلال ، إذ رَجَّحَ بلا مرجِّح ، فالدعوى إذا كانت من الجائز مبدأَ النَّظَرِ ، فَهِيَ مِمَّا اسْتَوَى طَرَفَاهُ في الاحتمال ، فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ تَالِيًا من خارج يُرَجِّحُ ، وإلا اسْتُصْحِبَ مِنْهُ عَدَمٌ أول ، وَإِنِ احتملَ بَعْدُ الإثباتَ ، فَلَيْسَ العدمُ المستصحَب في الجائز الذي استوى طرفاه فاحتمل الإثبات بَعْدُ ، لَيْسَ العدم المستصحَب فيه مبدأ النظر كالعدم الذي يثبت في المحال الممتنع لذاته ، فالأخير مما ثَبَتَ ضرورةً فلا يحتملُ بَعْدُ إِثْبَاتًا ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مبدأَ النظرِ ، كما الجائز ، فيحتمل بَعْدُ التَّرْجِيحَ ، فيكون من الموجود بالقوة إذ احتمل ذلك في الخارج مبدأ النظر ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى دليلٍ من خارجٍ يُرَجِّحُ ، فهو يُخْرِجُهُ من القوَّةِ إلى فعلٍ تَالٍ يُصَدِّقُ ، فالمحال الممتنع لذاته لا يُتَصَوَّرُ مبدأَ النظرِ كما الجائز ، وإنما غايته الفرضُ المحضُ تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، لا كما الجائز ، وهو أصل في كلِّ تكليفٍ يَطْرَأُ ، إذ الذمة منه ، بادي النظر ، تَبْرَأُ ، وإن جاز في نفس الأمر ، فليس الجواز العقلي المحض دليلَ إثباتٍ في الخارج أَخَصَّ ، بل لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ الدليلَ المرجِّح من خارج ، وبه اشتغال الذمة فلا تُشْغَلُ إِلَّا بدليلٍ ، فلا تُشْغَلُ بالجوازِ العقلي المحض ، فَكَمْ مِنْ جائزاتٍ يَتَصَوَّرُهَا العقل ، وليست الذمة بها تُشْغَلُ ، فيجوز في العقل مبدأ النظر أن يكون ثم صلاة سادسة في الفرض ، فذلك مما لا يمتنع في النظر المجرَّد ، فَلَا تُشْغَلُ الذِّمَّةُ به إلا بدليل أخص ، فتلك دعوى أعم ، بل ولها من الوصف ما يزيد ، فَهِيَ دعوى في محل تَوْقِيفٍ لا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ ، فلا اعتبار فيه لقرينةِ عقلٍ تُرَجِّحُ ، كَأَنْ يُقَاسَ عَلَى بَقِيَّةِ الصلواتِ ، فذلك أمرٌ لا يُعْقَلُ معناه لِيَصِحَّ القياسُ عليه ، بل يجري مجرى التعبد المحض ، وهو ما يُضَاهِي فِي الحدِّ خَبَرَ الغيبِ فكلاهما لا يثبت إلا بدليلٍ أَخَصَّ ، دليلِ الخبرِ المجاوزِ من خارجِ العقلِ والحسِّ ، وإن كان ثم أَوَّلٌ مِنَ الجوازِ في العقلِ ، فليس يجزئ حتى يكون ثم دليل من خارج يُرَجِّحُ الإثباتَ ، وإلا اسْتُصْحِبَ العدمُ الأوَّلُ ، وإن احتمل بَعْدُ وُجُودًا بالفعلِ في الخارج ، فلا يكون ذَلِكَ إلا بِدَلِيلٍ نَاقِلٍ عن الأصل المستصحَبِ في باب التكليف ، وهو العدم ، بَرَاءَةَ ذِمَّةٍ تُسْتَصْحَبُ ، فتلك البراءة الأصلية ، كما اصطلح أهل الأصول والنظر ، وليس يجزئ في الأمر المغيِّب أو حكم التعبُّد المحض فَلَيْسَ يُدْرِكُ الذِّهْنُ منه معنى أخص يجاوز الحكمة الأعم ، فيكون منه مناط تعليل ، وعليه يقاس غَيْرٌ من الفرع الحادث ، فلا يكون ذلك في مواضع التَّوْقِيفِ التي لا تَثْبُتُ إلا بدليل ، فالمرجح في الجائز في مواضع التوقيف من الخبر أو حكم التعبد ، المرجح فيه لا يكون إلا الخبر المجاوز من خارج العقل والحس ، فلا يطيق العقل فيه إلا الجواز المحض ، وذلك أول في الاستدلال يَنْصَحُ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ وصفِ المحالِ الممتنعِ لذاتِه ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ إذ لا يُتَصَوَّرُ مبدأَ النظرِ ، ولو جَائِزًا قد استوى طرفاه في الحد ، فالمحال الممتنع لِذَاتِهِ ليس بشيء ، لا بالقوة تجريدا في الذهن ، ولا بالفعل تاليا في الخارج أخص ، خلاف الجائز ، فليس بشيء في الخارج أخص ، فلا وجود له بالفعل مبدأَ الأمرِ ، وإن كان شيئا فهو شيء بالقوة في الذهن ، إذ جاز مبدأ النظر ، وليس يُجْزِئُ ذلك في إثباتٍ أخص ، إثباتٍ بالفعلِ في الخارج يُصَدِّقُ ، فَلَيْسَ التجريد في الذهن وجودَ قوة أول ، ليس ذلك مما يجزئ في وجود تال بالفعل ، حتى يكون من الدليل مُرَجِّحٌ من خارج أخص ، فهو الدليل الناقل عن الأصل العدمي الأول ، فذلك مما استصحب ، كما تقدم ، في الجائزات التي استوت في الاحتمال حتى يرد دليل من خارج يرجح ، إن الخبر أو حكم التعبد فيما لا يعقل معناه الأخص فالقياس عليه لا يصح ، أو القياس فيما عُقِلَ معناه ، فذلك ناقل عن أصل أول يستصحب في الجائز معقول المعنى ، وهو العدم ، فَعَقْلُ معناه مما أجزأ في الترجيح بالقياس على أصل أول قد ثَبَتَ ، فَمَرَدُّ الأمرِ ، أبدا ، إلى الخبر ، وإنما اختلف في الحدِّ ، فَمِنْهُ مَا لَا يُعْقَلُ معناه من خبرِ غيبٍ أو حكمِ تَعَبُّدٍ ، فليس يَزِيدُ العقل فيهما أَنْ يُجَوِّزَ ، فلا يكون منهما محال ممتنع لذاته ، فذلك مما لم يقع في نصوص الوحي ، كما يزعم بعض قد تخرص ، فقال بجهل هو المركب ، أن ثم ذَرِيعَةً من تَنَاقُضِ النصوصِ فِي نَفْسِ الأمر ، لا ما يعرض لناظر فذلك تناقض في نظره واستدلاله لِقُصُورٍ فيه لا يُحْسِنُ يُحَرِّرُ معاني الألفاظِ وَمَنَاطَ الاستدلالِ في المعقولات ، أو لا يُحْسِنُ يَجْمَعُ طرق الباب وبها زوالُ التَّعَارُضِ ، إِنْ بالجمعِ أو بالنسخِ أو بالترجيحِ ، فَاقْتَرَحَ جهلا أو سوءَ قصدٍ ، أو المركَّبَ منهما وذلك أفحش في الوصف ، اقْتَرَحَ تَنَاقُضًا فِي نَفْسِ الأمرِ بَيْنَ نصوصِ الوحيِ ، فتلك الذريعة التي حَمَلَتْ أهلَ الشأن أن يحدثوا علم التفسير الذي يَتَكَلَّفُ في التخريج ! ، تخريج المتناقضات أو المحالات الممتنعات لذاتها على أصول من النظر تَسُوغُ ، ولو تَكَلَّفَ لذلك ما تَكَلَّفَ من وجوهِ استدلالٍ محدَثَةٍ ، لا أصل لها في شرعة مُنَزَّلَةٍ أو لغة مُبَيَّنَةٍ ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، مما عظمت به البلوى تذرعا أن الفتوى تَتَغَيَّرُ ، والاجتهاد يَتَبَدَّلُ ، وذلك من الحق الذي يُرَادُ بِهِ باطل ، تَوَسُّعًا في الاستدلال يُجَاوِزُ مناط الاجتهاد في الفروع إلى آخر يُنَالُ من الأصول ، بل إِنَّ مناطَ الحكمِ ، ولو في الفروع الجزئية ، واحد لم يَتَبَدَّلْ ، وإنما الفتوى تختلف إذ يجتهد كل مُفْتٍ في تحقيق المناط ، فمنهم من يَتَرَجَّحُ عنده حصوله في النازلة ، محل الفتوى ، ومنهم من لا يَتَرَجَّحُ عنده ، فلم يكن من ذلك اختلاف في الأصل ، وبه نُقِضَ الإجماع بعد انعقاده ، وإنما الحكم على الشيء فَرْعٌ عن التصور ، فلم يكن ثم تصور يكمل ، إذ محل الفتوى يطلب آخر من النظر في التجريب والبحث ، فلم يكن ثم تصور في مسائل من الفتوى لما حدَث بَعْدُ من المطعوم أو المشروب ، ولم يكن ثم ، بداهة ، نَصٌّ قَطْعِيُّ الثبوتِ قَطْعِيُّ الدلالةِ في تحريم هذا المطعوم أو المشروب المحدَث ، وتلك مسألة من الفروع ، وليس يستقيم في فَتْوَى أهل مصر بعينه أنها حكاية الإجماع الذي يقطع لا سيما في أمر يطلب زيادة من التجريب والبحث ، فذلك مما حدث بعدا ، فجرى مجرى الشرط أو القرينة في الفتوى ، فلم يكن من ذلك تغيير في الحكم الثابت ، مبدأ النظر ، فإن منه أصلا محكما قد جرى مجرى العام الذي يستغرق آحادا في الخارج ، فمنها ما كان زَمَنَ التَّنْزِيلِ ومنها ما يحدث بَعْدًا في كلِّ جيلٍ ، فلا زال في كلٍّ ما يحدث من الأعيان والأشياء ، %%%%%% فالأصل في الأولى الطهارة ، فذلك المحكم الذي يُسْتَصْحَبُ في بابه حتى يكون ثم ناقل أخص ، فيكون من الدليل ظاهر أو نص يوجب العدول عن الأصل الأول المستصحب ، وهو المحكم ، إلى آخر وهو الاستثناء ، وذلك مما يصدق فيه ، ولو من وجه ، أنه المتشابه إذ لا يظهر ، بادي النظر ، لا جرم استوجب من الدليل ناقلا أخص ، لا كما الأصل الذي ثَبَتَ بالنص ، فـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، فكان من ذلك عموم قد استغرق ، وتلك دلالة الموصول "مَا" ، فكان من ذلك أصل أول قد اسْتُصْحِبَ ، إِذْ ثَمَّ من الدليل عام أول قد تَنَاوَلَ آحادَه كَافَّةً ، فذلك ظاهر من العموم يُسْتَصْحَبُ ، وَإِنِ احْتَمَلَ التخصيصَ ، فلا يكون إلا بِدَلِيلٍ أَخَصَّ في الباب ، فهو يجري مجرى النَّصِّ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الظاهر الراجح ، فالخاص يَقْضِي في العام قَضَاءَ المحكمِ في المتشابه ، القطعيِّ في الظنيِّ ، النص الذي لا يحتمل في الظاهر الذي يحتمل ، فاستصحب العموم الأول ، ولو احتمل ضِدًّا فهو المرجوح ، فَاسْتُصْحِبَ العمومُ استصحابَ الظاهرِ الراجحِ ، فَرُجْحَانُهُ قَدْ أَجْزَأَ فِي استصحابِه فهو أول ما يَتَبَادَرُ إلى ذهنِ المستدِلِّ بما ثَبَتَ أولا من الأصل ، فذلك المحكَم الذي يصير إليه الناظر ، بادي النظر ، وهو ، مع ذلك ، قَدِ احْتَمَلَ ضِدًّا هو المتشابه ، فذلك المؤول في مقابل الظاهر ، وليس يُصَارُ إلى المؤول إلا بدليل أخص من خارج ، فهو يُوجِبُ الانتقالَ عن الراجحِ إلى المرجوحِ ، وذلك الاستثناء الذي يخالف عن الأصل ، فلا يجري إلا مجرى الضرورة التي تقدر بقدرها ، ولا تنفك تطلب من خارجٍ دَلِيلَهَا ، فلا يجزئ فيها الدعوى المجردة ، فهي مما خالف عن الأصل المستصحَب ، إذ كان منه طهارة في الأعيان تَثْبُتُ ، إلا ما وَرَدَ الدليلُ بضدِّه ، فذلك التأويل الذي يصرف النظر عن الراجح المستصحب إلى آخر من المؤول الذي لا يظهر ، مبدأ الاستدلال ، فكان من القرينة دليل أخص ، كما النص على نجاسة أعيان مخصوصة ، فذلك الاستثناء من أصل أول ، وهو طهارة الأعيان كافة ، فكان من ذلك قوله : (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، وخبر عبد الله بن مسعود ، ما ، وفيه : "أتَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الغائطَ فأمرَنِي أن آتِيَهُ بثلاثةِ أحجارٍ فوجدتُّ حجرينِ والتمست ُالثالثَ فلم أجِدْهُ فأخذتُ رَوْثَةً فأتَيْتُهُ بِهَا فألَقَى الروثَةَ وقال : هذا ركسٌ ائْتِنِي بحَجَرٍ" ، فذلك نص على نجاسة أعيان مخصوصة ، وهو المحكم في دلالته ، فَقَضَى فِي الظاهرِ الراجحِ من طهارة الأعيان كافة ، فذلك ، كما تقدم في موضع ، أَصْلٌ أَوَّلُ قَدْ أُحْكِمَ بما كان من النص آنف الذكر ، فـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، وهو ، كما قَرَّرَ أهل البيان ، مما يجري مجرى القصر بتعريف الجزأين ، "هُوَ" و "الَّذِي" ، وهو ، بادي النظر ، مما يحتمل ، القصر حقيقة ، وآخر هو الإضافي الذي يُفِيدُ المبالغة ، وإن كان الظاهرُ المتبادرُ الذي يَرْجُحُ هو : الحقيقةَ ، فذلك الأصل في الكلام ، وهو المحكم الذي يُسْتَصْحَبُ ، وإن لم يكن النص الذي يجزم ، إذ احْتَمَلَ ضِدًّا من القصرِ الإضافيِّ ، ولو المرجوحَ الذي لا يَتَبَادَرُ ، فلا يُصَارُ إليه إلا بقرينة ترجح ، وإلا فالأصل حملان الكلام على الظاهر الراجح ، فلا يعدل عنه الناظر إلى المؤول المرجوح إلا أن يكون ثم قرينة معتبرة تصرف ، واضرب له المثل بآخر من القصر ، فـ : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ، فذلك القصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، وهو ما لا يفيد الحقيقة إذ ثم من وصف المسيح ، عليه السلام ، ما جاوز المذكور أنه الرسول الذي قد خلت من قبله الرُّسُلُ ، فهو بشر مثلهم ، فلا امتياز له في الماهية والوصف ، وإن كان ثم أول من الإعجاز في الخلق ، فليس ذلك ذريعة لغلو يُجَاوِزُ الحدَّ ، وإلا كان آدم ، عليه السلام ، بذا أولى ، كما الوحي قد أَلْزَمَ في الجدال ، فـ : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فَلَئِنْ كان الغلو جائزا ، فآدم ، عليه السلام ، به أولى إذ خلقه أشد في الإعجاز ، فقد خلق بِيَدِ الرحمن ، جل وعلا ، لا من أب ولا أم ، فكان من ذلك تَسْوِيَةٌ في الجسد ، وَنَفْخٌ لروحٍ تَلْطُفُ ، وبها الحياة ، وهي سِرٌّ يَعْظُمُ ، بها الحياة قد بُثَّتْ في الجسد ، فكان من الروح جوهر لطيف ، وهو من أمر الرب الحميد المجيد ، تبارك و ، فجاوز الجسد ، فليس الأخير هو الأصل ، وليس هو الحقيقة الحاصلة في الخارج حصرا ، كما زعم مَنْ سَلَكَ الجادة المادية التي لا تجاوز الحسَّ المحدَث ، فكان من ذلك تَحَكُّمٌ يُبْطِلُ خَاصَّةَ العقلِ المصرَّح ، إذ يَتَصَوَّرُ الغيبَ ، ولو جائزا يحتمل ، وَيَرُدُّهُ إلى مرجعِ الخبرِ المجاوز إذا صدق ، فهو المرجح المعتبر في مسائل الغيب ، وبه الترجيح الذي يثبت ، وله من المحل ما يُجَاوِزُ الجسد الذي لا يُدْرِكُ إلا ما يُبَاشِرُ بالحواس الظاهرة ، فَثَمَّ أخرى تبطن من عقل قد جاوز في الحد الدماغ الذي في الرأس ، فتلك آلة لا تستأنف الفكرة الباعثة ، بل بها تأويل أول لما يقوم بالنفس من معنى باعث أو آخر يُثَبِّطُ ، فيكون من ذلك إِفْرَازٌ وَنَبْضٌ يُدْرَكُ بالحسِّ ، وهو محل التجريب والبحث ، فَحَصَلَ من ذلك ما يُرْصَدُ ، وهو مما يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَثِ ، وليس آخرُ من الباعث الباطن بالحس يُرْصَدُ ، وإن وجده الناظر ضرورة في وجدان يَبْطُنُ ، ولئن رصد منه شيئا ، فهو يرصد الأثر الحاصل في الخارج ، وهو المدرك بالحس الظاهر ، فالإفراز والنبض أَثَرٌ لفاعلٍ أول يَسْبِقُ ، وإن كان من الدماغ تَالٍ في الفعل ، فلا يستقل بالإفراز والنبض ، فليس يُفْرِزُ وَيَنْبِضُ بلا سبب ، فيكون ثم فرح أو حزن بلا مُؤَثِّرٍ من خارج يجاوز ، وهو للإفراز والنبض سابق ، فذلك تسلسل في المؤثرين يواطئ العقل المصرح ، إذ ثم من حركة الجسد ، وما يكون من أمارات الحزن أو الفرح ، وهو ما يحصل في الوجه ، فَثَمَّ من الانقباض أو الانبساط ، وآخر من العين وهي الفاضحة وإن اجتهد صاحبها أَنْ يَكْتُمَ ، فَقَدْ يَكْتُمُ من الكلام ما تفضحه العين ، حُبًّا أو بُغْضًا ، وكذا اضطراب الجسد إذ ذُكِرَ المحبوبُ ، فذلك ما لا يُطِيقُ المحِبُّ له أطرا على الجادة ، بل لا تنفك يَعْتَرِيهِ طرب وخفة ، كما قال القائل : وأراني طرباً في إثرهم طرب الواله أو كالمختبل . فَكَانَ من ذلك رُؤْيَةُ علمٍ تُفِيدُ يقينا يجزم لما يَجِدُ المحِبُّ في النفس ضرورةً من خفة ، وآثارها لا تَنْفَكُّ تظهر بما يكون من دِمَاغٍ يَنْبِضُ وَيُفْرِزُ ، فهو يصدر عن فكرةٍ تَلْطُفُ ، ولو ذكرَ محبوبٍ قد غاب ، فذكره باعث نشوة ، وبها طرب وخفة ، فتلك معان لا يفسرها الدماغ ، فهو المنفعِل لا الفاعل ، إذ ثم أول يسبق من وجدانٍ بَاطِنٍ يَلْطُفُ ، وذلك العقل الذي جاوز الدماغ ، فالأول غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، والثاني جِرْمٌ فِي الرَّأْسِ يَكْثُفُ ، فَلَهُ جرم في الخارج يعالجه التجريب والبحث بما يكون من زيادة أو نقص ، فيرصد الحس ما يكون من حال الجسد الذي يستجيب بَعْدًا ، فالدماغ ، من هذا الوجه ، مُنْفَعِلٌ يصدر عن فَاعِلٍ أول يَلْطُفُ من فكرة بها الفرح أو الحزن يحصل ، وتلك ، كما تقدم ، معان لا يحدها الحس ، كما المحل الذي تقوم به ، فذلك العقل المجاوز ، وهو الفاعل المؤثر من خارج الحس ، فهو المعنى الذي يجاوز المادة ، وبه إِثْبَاتُ ما قد جَحَدَ المذهبُ الماديُّ المحدَثُ من جوهر الروح اللطيف الذي يجاوز الجسد الكثيف ، فكذا وصفه من العقل ، فتلك غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، فَلَا تُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، وإنما يُدْرِكُ التجريبُ والبحثُ مَا يكون من انفعال الدماغ الذي يستجيبُ لوجدانِ العقلِ من فرحٍ أو حزنٍ ..... إلخ ، فالحس يعالج من الحقائق : الدماغَ لا ما جاوز من العقل ، فتلك الغريزة التي تَلْطُفُ ، وليس التجريب والبحث منها يدرك إلا آثارا في الخارج تُرْصَدُ إذ يعالجها الحس بما يكون من زيادةٍ أو نَقْصٍ في إفرازِ الدماغِ وَنَبْضِهِ ، وما يكون من آثار تعقب ، وبها الدماغ ، كما تقدم ، فاعل ، وَإِنِ الوسيطَ ، فهو المنفعِل قَبْلًا بِمَا قام بالعقل من فكرة ، وهو الفاعل بَعْدًا ، فالأعضاء عنه تصدر في الحركة ، اعتدالا أو اضطرابا ، فكان من ذلك المدرك بالحس ، وهو ما تناوله التجريب والبحث ، فله في ذلك علم لا يُجْحَدُ ، إذ ثَمَّ من الدماغ ما تَنَاوَلَهُ دَرْسُ التشريح والنسيج وخلايا منه تدق ، وبها ، لو تدبر الناظر ، آيٌ في الخلق تجاوز الحدوث المطلق ، وإن كان له في تسلسل العقل ما يَلْزَمُ أَنْ يُرَدَّ إلى أوَّل لا أَوَّلَ قَبْلَهُ حَسْمًا لمادة في الذهن تمتنع ، تسلسل المؤثرين أزلا ، فَثَمَّ من الآيِ في خلق خلايا تدق ، ومنها خلايا الدماغ وما حَوَتْ من المراكزِ ، وما عُدِنَ فِيهَا من قَوَابِلَ تُعَالِجُ الأسبابَ مِنْ خَارِجٍ ، إِنْ أسبابَ الحسِّ بما يكون من مطعوم أو مشروب ، أو دواء به علاجُ المزاجِ الفاسد ، كما اطرد في دَرْسِ الطب والغذاء ، فَثَمَّ من المطعوم والمشروب ما به المزاج يعتدل ، وآخر يفسد ، إذ يهيج في الدماغ إفرازًا وَنَبْضًا ، فمنه النافع ومنه الضار ، وتلك أخرى تحكي من الحكمة ما لَطُفَ ، وهو ، أيضا ، دليلٌ في الإعجاز يجاوز الحدوث المجرَّد ، إذ ثم من التخصيص ما يجاوز المجرَّد من الترجيح ، أن يكون ثم جائز مبدأَ التقديرِ ، فهو يطلب المرجِّح من خارج ، وبه يصير الواجب ، وَإِنْ لِغَيْرٍ ، فذلك ما استوجب ضرورةً في القياس المصرَّح : أولًا لَا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فكان من التخصيص ما يجاوز التَّرْجِيحَ المجرَّد ، إذ ثم الإيجاد من العدم ، وذلك أول في الخلق ، وبه الترجيح في جائز قد استوى طرفاه في الاحتمال ، وثم آخر في الإعداد ، وتلك حكاية إحكام يَزِيدُ ، إِذْ رُكِزَ فِي السببِ الذي يُعَالج المحل : قوى تُؤَثِّرُ ، كما تقدم من مطعوم أو مشروب أو دواء به المزاج يعتدل ، فلا يجاوز الحس بما رَصَدَ التجريب والبحث من ماهية الدماغ ، وهو الآلة التي تصدر عن العقل ، فَرَصَدَ منها التجريب والبحث ماهية أخص ، وَرَصَدَ آخر من السلوك وَرَدِّ الفعل إِذَا زَادَ إفرازٌ أو نَبْضٌ ، أو نَقُصَ منهما شيءٌ ، وما يكون من ذلك من اعتدالٍ فِي المزاج أو آخر من الفساد ، فَثَمَّ سَبَبُ الحسِّ آنفِ الذِّكْرِ ، فلا يجحده العقل ، إذ قد ثَبَتَ مِنْ طريقٍ تَنْصَحُ فِي حصول علم تَنْفَعُ ، ولو الظنَّ الراجحَ ، فالتجريب والبحث بما اطرد في الباب وَكَثُرَ من وقائع كانت محل إجماع ، ومنها اسْتَنْبَطَ النُّظَّارُ قَوَاعِدَ صَيَّرُوهَا المحكم الذي يُرَدُّ إليه المتشابه ، ولو الوحي النازل ! ، أن صار الحس هو الأصل ، وإليه يُرَدُّ الخبر ، وتلك المجافاة عن حكم العقل المصرح الذي يزعم أولئك انتحاله ، فإن مستند الغيب المجاوز ليس إلا الخبر ، فالحس لا يتناوله ، بل لم يتناول من مباحثه آنفة الذكر ما يَقْطَعُ فيه ويجزم ، فكان منه محل إجماع ولو على فروض في الذهن تقدر كما فرض التطور وهو من عمد الاعتقاد في العقل المحدَث الذي ضَلَّ طريق الحق المحكم ، فَكَانَ من ذلك ما لا دليل له يَنْصَحُ ، ولو دليلَ الحسِّ الذي يَتَبَجَّحُ به الخصم ، وهو ، مع ذلك ، المحكم محل الإجماع ، والأصل الذي يَتَعَصَّبُ له مَنْ يَزْعُمُ الحيادَ والتجرُّدَ ، فَقَدْ صار دِينًا يُنْتَحَلُ ، وإن تقليدا لسلف من الآباء ، فلا مستند إلا الأمة والجادة ، فـ : (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) ، فليس إلا الأمة المتَّبَعَة بلا دليل يجاوز من خارج الدعوى ، فدعوى أنها الحق إذ منها جادة الآباء المسلوكة ، ولا دليل لها يشهد إلا هي ، فَلَيْسَ ثَمَّ فِي العلمِ بها يَقِينٌ يَرْسَخُ ، وإن كان منه إجماع ، فليس يَسْتَنِدُ إلى مرجع يُعْصَمُ ، بل مستنده تجريب وبحث بما تَيَسَّرَ لأهل الشأن في جيل ، فلا ينفك تال يزيد بما حَدَثَ من آلة تَنْصَحُ ، فإذا به يَنْقُضُ مَا اسْتَقَرَّ من الإجماع الأول ! ، فليس مرجعه يجاوز من خارج العقل والحس ، فلا عصمة له توجب اليقين والجزم ، وَإِنِ اعْتُبِرَ في حصولِ علمٍ يَنْفَعُ فَظَنًّا يَرْجُحُ ، فلا يقطع الناظر ، وَإِنِ انْتَفَعَ بالعلم الحادث ، فمن أسبابه : الحس الذي لا يجاوز ، وإن لم يكن الأول في بابه ، إذ لا يجاوز مدى يحد ، مع ما يطرأ من نقص وضعف ، وما يكون من خطإ في الرصد أو الاستنباط ، وإن كان ثم إجماع به يَتَبَجَّحُ أهلُ الشأن ، مع فرح بما رصدوا من ظاهر الحس ، فذلك مبلغ علمهم وبه قد عظم شؤمهم أن صارت لهم في الناس رياسة ، فهم أهل الصدارة في العلم ، وإن ظاهرا من الحياة لا يجاوز ، فكان من خُلْفِ العقل الناصح الذي زعموا نسبة له ، كان من خُلْفِهِ ما يبطل النسبة ، إذ لم يكن إلا التحكم الذي يجحد ما جاوز الحس ، ومنه ما تَنَاوَلَ التجريب والبحث ، فكان منه مجهول لم يدرك ، ولم يكن من لازم ذلك أنه معدوم لم يحدث ، بل ثم منه موجود يَلْطُفُ ، فلا يُدْرَكُ بالحسِّ المحدَث ، فلم يكن عدم العلم السابق دليلا على علم بالعدم لاحق ، بل من علم بعدا بما حصل له من سبب ، فهو حجة على من جهل ، ومن السبب ما جاوز الحس المحدَث ، لا كما تحكم أولئك في تحجير واسع أَنْ قَصَرُوا مدارك العلم المعتبر على ما يعالج الحس في الخارج ، فما جاوزه فهو المعدوم ، وهو ، كما تقدم ، تحكم يُحَجِّرُ الواسع ويبطل خاصة العقل الناصح أَنْ يَتَصَوَّرَ من الحقائق ما جاوز الحس المحدَث ، وإن جائزا لا وجود له في الخارج يثبت ، إلا أن يكون ثم مرجِّح من خارج ، وذلك مما يشهد له تسلسل المؤثرين ، فَلَئِنْ صَدَرَ التجريب والبحث عن مسبَّب في الخارج يرصد ، فهو يطلب أولا من السبب يسبق ، ومنه المشهود الذي يرصد ، كما تقدم من أسبابِ حِسٍّ بها المزاج يَعْتَدِلُ أو يَفْسَدُ ، فَهِيَ تُعَالج بما رُكِزَ فيها من قوى تؤثر : ما كان من محال في الدماغ قد ركزت فيها أخرى تقبل ، فكان من ذلك إِتْقَانٌ في الخلقِ يحكي من العلم ما دَقَّ ، فجاوز ما اقترحت الحكمة الأولى من العلم الكلي المجمل ، فَثَمَّ علم يُفَصِّلُ إذ تَنَاوَلَ من دقائقِ الخلق ما يَلْطُفُ ، وبها تقدير يجاوز حد الإيجاد المحض ، فلا يكون من ذلك ضرورةً : فِعْلُ جِبِلَّةٍ وطبعٍ ، كما اقترحت الحكمة الأولى من العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، فليس عنها يصدر هذا الخلق المتقَن ، فذلك الإيجاد الذي جاوز في الحد ، فَثَمَّ ، كما يقول بعض من حقق ، إعداد يجاوز الإيجاد المجرد ، فَأُعِدَّ المحل بما ركز فيه من قوى تَقْبَلُ ، وَأُعِدَّ السبب بما رُكِزَ فيه من قوى تُؤَثِّرُ ، فكان الإمداد بالسبب بعد أول من الإيجاد من العدم ، وتال به الإعداد ، وَكُلُّ أولئك مِمَّا سَلَكَ جادَّةً من السننِ المحكَمِ ، أن يكون ثم مجموع من العلة قد تَرَكَّبَ : المحل القابل والسبب المؤثر ، وما كان من شرط قد وجب استيفاؤه ، ومانع قد وجب انتفاؤه ، فقد يحصل المحل ناصحا والسبب فاعلا ، ويغيب شرط أو يحضر مانع ، فلا يكون الأثر الظاهر ، كمن تناول مطعوما أو مشروبا أو دواء ، إن لعلة في الدماغ أو أخرى في الجسد ، فَحَصَلَ الشفاء في موضع ، إذ اسْتُوفِيَ حَدُّ العلَّةِ المركب ، ولم يحصل في آخر ، وإن حصل المحل والسبب ، وكان من قوى كلٍّ ما نصح ، إذ قد فات شرطٌ أو وجد مانع ، فالسنن واحد ، وإن كان من علل الدماغ ما أشكل ، إذ صيره بعض ، كما تقدم في موضع ، أصلا أول به حصول الباعث من الفكرة ، وهي مما لَطُفَ فجاوز الحس المحدَث ، فالدماغ ، وإن كان الأول في الحس ، وإليه انتهت أسباب الشهادة في الإفراز والنبض ، فلا ينفك يطلب آخر يجاوز ، فليس به التسلسل في المؤثرين أزلا يحسم ، بل لا ينفك يطلب سببا أول يَقْدُمُ ، إن في خلقه المحسوس ، فهو كأي موجود لا بد له من موجِد ، والتسلسل في خلقه المجرد حاصل فهو لأول يطلب ، فكان من ذلك سبب في الغيب يثبت ، وليس به التسلسل يحسم ، إذ من أسبابِ الغيب ما يصدق فيه أنه المخلوق المحدَث ، وإن لم يدرك بالحس ، فعدم وجدانه بالحس ليس دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، وإن في مسائل الغيب النسبي ، على تفصيل قد تَقَدَّمَ ، وبه تُقَامُ الحجة على الخصم بجنسِ ما يَثْبُتُ مِنَ الأسبابِ ، فلئن اقتصر على أسباب الحس ، فقد حدث منها ما لم يكن ، وَبِهِ ظهر ما كان قَبْلًا المغيَّب ، ولم يكن من ذلك دليل في الخارج يُنْشِئُ ، فيصدق فيه أنه الإيجاد من العدم ، بل البحث المحدث دليل يكشف ويظهر ما وُجِدَ قَبْلًا ، إن من الأعيان أو من السنن الذي لجادته تسلك ، فإن ما يحدث من المركب الجديد في علم الكيمياء مثالا ، ليس خلقا من العدم ، إذ ثم عناصر أولى أو مركبات عنها يصدر الباحث المجرب ، فلم يخلقها من العدم ، وهو بَعْدُ لم يَزِدْ فِيهَا جديدا من القوى ، وهو إذ يُجَرِّبُ فإنه لا يُنْشِئُ السنن الذي يسلكه التجريب ، وإنما فعله الاكتشاف لِمَا كان قَبْلًا لا الإنشاءُ لِمَا كَانَ عَدَمًا ، وإنما بحث وجرب بما حَفَّزَ أو ثَبَّطَ ، فكان من ذلك آثار في الخارج تظهر ، ولها الحس يُدْرِكُ والبحث يَرْصُدُ ، فقد أخرج ما كان من خصائص العناصر والمركبات ، فَأَخْرَجَهَا مِنَ القوَّةِ إلى الفعلِ ، فكان من ذلك علائق تَنْحَلُّ وأخرى تُعْقَدُ وليس ذلك ، بداهة ، خبط عشواء ، وإنما ثَمَّ من السَّنَنِ مَا أُحْكِمَ ، إن في تقدير النسبة بين العناصر ، وهو ما ثبت في كل محل ، فلا يكون المركب الجديد ذو الخصائص المعينة ، لا يكون إلا بنسب بين العناصر مقدَّرة تَقْدِيرًا قد أُحْكِمَ ، مع آخر من السَّنَنِ الذي يُسْلَكُ ، وهو ما استوجب في مواضع ، أسبابا وأحوالا أخص ، كما حرارة تزيد أو ضد من البرودة ، أو حافز ذو أَثَرٍ فَاعِلٍ ، وإن لم يكن منه تفاعل ، فهو يزيد فيه تارة فذلك الحافز إيجابا ، وَيُنْقِصُ مِنْهُ أخرى فذلك الحافز سَلْبًا ، بل قد يُوقِفُ ما اسْتُؤْنِفَ منه ، فوصفه في الاصطلاح أنه السام ، فوجب من ذلك مجموع مركب قد جاوز المحل والسبب ، وإن كانا المبدأ في التعليل بما رُكِزَ فِي كُلٍّ من قوى ، على التفصيل آنفِ الذِّكْرِ ، فَثَمَّ الشرط الذي وجب استيفاؤه ، وثم المانع الذي وجب انتفاؤه ، فذلك المجموع المركب الذي جاوز في الخلق حد الإيجاد المحض ، فَثَمَّ إيجاد مخصوص على ماهيات تدق بما رُكِزَ فِيهَا من قوى تَقْبَلُ وَتُؤَثِّرُ ، وثم آخر من السنن المحكم الذي تسلكه المحال والأسباب كَافَّةً ، وثم من القرائن : شرط من خارج يستوفى ، ومانع على ضِدٍّ يُنْفَى ، وحافز يِزَيدُ أَوْ يُنْقِصُ .... إلخ ، فكل أولئك مما يدل ضرورة على أول له من الوصف ما جاوز المجرَّد في الذهن من المطلق بشرط الإطلاق فلا وصف ، فليس إلا العلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، فلا علم به التقدير المحكم ، ولا إرادة بها بَعْدُ تخصيصٌ وترجيحٌ أخص ، فهو يخرج المقدور من القوة إلى فعل في الخارج يُصَدِّقُ ، فيكون من ذلك وجود بعد عدم أول ، فليس من هذا العالم شيءٌ يَقْدُمُ القِدَمَ المطلَقَ ، لا العين الحادثة في الخارج ولا المادة الأولى أو ما اصطلح النظار أنه الهيولى أو العلة المادية ، فالعالم ، مادة وأعيانا وأوصافا وأحوالا تَعْرِضُ ، وأفعالا وأحكاما تَحْدُثُ ، العالم كُلُّهُ : محدَث يطلب أولا من المحدِث ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، مِمَّا تَسَلْسَلَ حَتَّى انْتَهَى ضرورةً إلى سَقْفٍ من الشهادةِ يُرْصَدُ ، وليس به حسم المادة الممتنعة في الذهن من التسلسل في المؤثِّرين أَزَلًا ، كما تقدم من حركة الجسد ، إن اختيارا أو اضطرارا ، كما تقدم من حركة الواله المختبل إذا اسْتَفَزَّهُ الطرب برؤية المحبوب أو ذكره ، فالأعضاء تختلج وتضطرب ، وليس يطيق صاحبها لها أطرا على جادةِ وَقَارٍ وحكمةٍ ، فقد جاء من المحبة سكرة قد أذهبت الفكرة ، وكان من آثارها في الخارج حركة تَضطَّرِبُ ، فلا تنفك تطلب أولا من السبب ، وذلك ما تَنَاوَلَهُ التجريبُ والبحثُ ، فَرَصَدَ من الإفراز والنبض أولا يُدْرَكُ بالحسِّ ، وله من المؤثِّر من خارج ما ثَبَتَ ، وهو ما عليه طب النفوس المحدَث قد اقتصر ، فإنه لم يُعْنَ إلا بِسَبَبِ حِسٍّ يُخَفِّفُ هَذَا العرض ، وذلك مما نصح في الدواء ، ولكنه لم يتناول أصل الداء ، إذ لم يجاوز الحس الظاهر بما كان من الإفرازِ والنبضِ الحادثِ ، فَمَا حَمَلَ الدِّمَاغَ أَنْ يُفْرِزَ وَيَنْبِضَ ، فَيَزِيدَ من ذلك أو يُنْقِصَ ما يخرجه عن حد الاعتدال المجزئ ، فلئن كان من سبب الحس المدرَك ما اعْتُبِرَ ، كَمَا تَقَدَّمَ من أخلاطِ مطعومٍ ومشروبٍ وما اسْتُحْدِثَ من أدويةٍ وعقاقيرَ ، ومنها النافع ومنها الضار ، فذلك سَبَبٌ من خارجِ الدِّمَاغِ ، وهو ما يُدْرَكُ بالحواسِّ ، وليس مع ذلك يجيب عن سؤال التسلسل ، فإن الدماغ ، كما تقدم ، محل يقبل بما رُكِزَ فيه من القوى ، والسبب من خارج يعالجه بما رُكِزَ فِيهِ من قوى تُؤَثِّرُ ، فذلك خَلْقٌ أَخَصُّ قد جاوز الإيجاد المجرَّد في الخارج ، فلا ينفك يطلب تقديرا هو الأول ، وهو ما يدخل في حد الخلق في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، فَثَمَّ إطلاق في العامل قد تناول من المدلول : خلق التقدير الأول ، وتال من الإيجاد المصدق في الخارج ، فَتَنَاوَلَ القوة في الأزل بِمَا كان من علم محيط قد اسْتَغْرَقَ ، فذلك العلم الأول الذي تَنَاوَلَ الكلِّيَّاتِ والجزئيَّاتِ كَافَّةً ، لا ما اقْتَرَحَتِ الحكمةُ الأولى من العلم الكليِّ المجمَلِ ، بَلْ ثَمَّ عِلْمٌ محيط قد اسْتَغْرَقَ ، وبه تقديرٌ لِمَا دَقَّ من المحال والأسباب ، إن الماهياتِ ، أو ما رُكِزَ فِي كُلٍّ مِنْ قوى تَلْطُفُ ، وبها المحل يَقْبَلُ والسبب يُؤَثِّرُ ، فكل أولئك مما جاوز بداهة الإيجادَ المجرَّدَ ، بل ثم إيجادٌ أَخَصُّ على مثال إتقان في الخلق ، فكان من إطلاق العامل آنف الذكر ، عامل "الخلق" ، كان منه ما عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ خَلْقَ التقديرِ الأوَّلِ ، وتأويلُه ما يكون بَعْدُ من خلقِ الإيجادِ في الخارج ، فهو الدليل المصدِّق لِمَا كَانَ من علمٍ أَوَّلَ قد أحاطَ فَاسْتَغْرَقَ ، فتأويلُ المقدورِ أن يكون ثم تال من الوجود يُصَدِّقُ ، كما تأويل الخبر المغيَّب أن يقع المخبَر به كما قد أَخْبَرَ ، فَيُوَاطِئُ تَأْوِيلُهُ في الخارج تَنْزِيلُهُ ، إن كان من خبر الوحي الصادق ، وله في الأصول حَدٌّ قَدِ اصْطُلِحَ أَنَّهُ النَّصُّ الذي لا يحتمل ، فتأويله تَنْزِيلُهُ إذ لا يَفْتَقِرُ إلى قرينةٍ من خارج تُبِينُ إلا قرينة اللفظ الذي به قد نَزَلَ بما استقر من عُرْفِ الكلامِ الذي اشْتُهِرَ زَمَنَ التَّنْزِيلِ ، فذلك التأويل الذي يعدل في الدلالة التفسير ، فتفسيره ما كان من لفظه المنزل ، وهو ما استبان لدى الناظر ، فكان من نَصٍّ في الباب جازم فلا يحتمل آخر ، فذلك النص في اصطلاح من تَأَخَّرَ أن يكون من تَفْسِيرِهِ أول يَثْبُتُ بما كان من تَنْزِيلِهِ عَلَى سَنَنٍ من العربية قد أُحْكِمَ ، وكذا يُقَالُ فِي مواضِعَ من التأويل لأخبارِ غَيْبٍ قد جاء بها الوحي ، فَثَمَّ تَنْزِيلٌ أول قد أَخْبَرَ بِجُمَلٍ مِنَ الغيبِ المعجِزِ ، وَثَمَّ من تأويلِه في الخارج بَعْدُ مَا يُصَدِّقُ أَنْ وَقَعَ كَمَا قَدْ أَخْبَرَ ، أو كان من سببِ علمٍ ظاهرٍ ما أَثْبَتَ ، وذلك مما ضُرِبَ لَهُ في التَّنْزِيلِ مُثُلٌ تَنْصَحُ ، إن في الآفاقِ أو في الأنفسِ ، فتلك ذريعة أَنْ يَتَبَيَّنَ لمن جحد أن ذلك حق في العلم والعمل قد نَصَحَ ، فكان من ذلك مُثُلٌ تعجز إن في الآفاق أو في الأنفس ، وليس من شرطها بداهة أن تستغرق ، فالوحي لم يَنْزِلْ كتابا في طب أو زرع ، وإنما نَزَلَ بالخبر والحكم مناطَ تكليفٍ به صلاحُ الأديانِ أَنْ تَكْمُلَ بالتصديقِ والامتثالِ ، فيكون من ذلك سبب في السعادة والنجاة ، فلم يكن من خبرها ما يعالج دقائق التجريب والبحث على حد الاستغراق في الدرس ، وإنما أشار لِجُمَلٍ مِنْهَا تُعْجِزُ ، إن في الماهيات أو أخرى من السنن المحكم الذي تسلكه ، وَكُلُّ أولئك مما يدخل في حد الخلق في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، فَثَمَّ من إطلاقه ما عَمَّ التقدير ، وآخر يصدق من الإيجاد والتكوين ، وثالث به التدبير بما رُكِزَ في الأسباب والمحال من قوى تَلْطُفُ ، ولها من الخلق ما دَقَّ ، ولها من السنن آخر أخص ، كما تقدم من مثال الطعم أو الشرب أو ثالث من الطب ، طب النفس إذا اعتلت فَفَسَدَ مِزَاجُهَا ، فَثَمَّ من سبب الظاهر ما لا يُنْكَرُ ، فهو مما أَثْبَتَهُ التجريب والبحث المحدَث ، فَثَمَّ من ذلك ما يعالج المحال المخصوصة في الدماغ بما رُكِزَ في كلٍّ من قوى ، وما سلك كلٌّ من السَّنَنِ ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، دليل الإتقان والإحكام الذي يدل ضرورةً على وصفٍ يزيد على ما اقترحت الحكمة الأولى من العلة الفاعلة بالطبعِ ، المجرَّدةِ من الوصف ، فهي تفعل بذاتها اضطرارا ، فَتُرَجِّحُ في الجائز فتصيره الواجب ، والصحيح الذي يواطئ القياس الناصح أنها فاعلة بما زاد من الوصف الذي يقوم بالذات ، وله من التأويل إرادة بها التخصيص والترجيح ، وَكَلِمٌ به النَّفَاذُ في التكوينِ والتدبيرِ ، فذلك تأويل بآحاد تحدث لما كان من علمِ تقديرٍ أَوَّلَ ، فذلك مما قَدُمَ في الأزل قِدَمَ الذَّاتِ التي قَامَ بِهَا ، فَثَمَّ من نَوْعِهِ ما قَدُمَ ، وثم آخر من وصف الفعل قد ثبت في الأزل ، وصف الكلام ، فهو ، أيضا ، مما قدم في النوع ، وكان من آحادٍ بَعْدُ مَا حَدَثَ ، إن في الخلق أو في الشرع ، فكان من ذلك الكلم النافذ في الخلق والتدبير ، فتلك كلمات التكوين ، وبها تأويل الخلق الأول : خلق التقدير المحكم ، فتأويله في الخارج إيجاد يصدق ، وكذا تأويل ما أُحْكِمَ من السنن ، فتأويله ما يكون بعد من جادة يسلكها المحل والسبب ، مع شرط يُسْتَوْفَى ومانع يُنْفَى ، وذلك مما عم العلل كَافَّةً ، فذلك أصل يطرد في حركات الوجود كافة ، إن اختيارا أو اضطرارا ، ومنها تأثير الطعم والشرب والطب آنف الذكر ، فَلَهُ أَثَرٌ في اعتدال المزاج وانتظام الدماغ بعد خَلَلٍ ، له من ذلك ما تناوله التجريب والبحث المحدث ، وليس ، مع ذلك ، يجزئ في التأويل ، إذ هو المشهود الذي لا يجيب عن سؤال التسلسل ، فلا ينفك يطلب أولا يسبق ، وهو مما استوجب آخر يلجئ ، أن يكون ثم مِنْ سَبَبِ الغيب ما جَحَدَ المذهب المادي المحدث ، فلا ينفك الخلق : التقدير والتكوين والتدبير ، فذلك ما تناوله إطلاق العامل في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، مع آخر من الموصول "ما" ، ومدلوله ، أَيْضًا ، عموم يَسْتَغْرِقُ ، فذلك ما عَمَّ المحال والأسباب كافة ، فلا ينفك كلُّ أولئك يَطْلُبُ السَّبَبَ الذي يسبق ، فتلك المسلمة الضرورية المطردة في كل محدَث أنه يطلب أولا يحدِث ، وهو ما تَسَلْسَلَ في التأثير حتى انتهى إلى سقف من الشهادة لا يجاوز ، وهو ما رصده البحث المحدَث بما عالج من قوى في السبب ، وأخرى في المحل ، وما تناول من درس التشريح والنسيج ، وثالث من الخلايا يدق ، وفيه ، أيضا ، آيات تعجز في الخلق ، فكل عضو وقد خلق لغاية مخصوصة تَنْفِي الخبط والعبث ، فَلَهُ من ماهية الخلايا ما يواطئ غايته ، كما خلايا في المخ ، ولها خاصة الثبات ما ليس لغير فهي مستودع ذاكرة تتراكم ، وكما خلايا العصب التي يسلك النبض جادتها ، فيكون من استجابة العضو بالحركة أو السكون ، بالانقباض أو الانبساط ، يكون من ذلك تأويل يُصَدِّقُ ما كان من سَنَنٍ في الخلق قد أُحْكِمَ ، فكان من خلايا العصب ماهية مخصوصة تواطئ ما لأجلها قد خُلِقَتْ ، فَهِيَ مما استطال في الماهية ، محورا قد أحاط به مادة من الدهن تزيد في التوصيل ، مع زوائد شجيرية بها اتصال الخلايا وانتقال الإشارات والنبضات ..... إلخ ، وقل مثله في درس الوظائف ، وهو في الإعجاز أظهر إذ يبين عن سنن محكم في الفعل والحركة ، فكل أولئك مما تناوله أول من الخلق ، خلق التقدير ، وتال من الإيجاد ، وثالث من التدبير ، وتلك ربوبية في الوصف قد عمت الأعيان وما يقوم بها من الأحوال ، وما تعالجه من أسباب ، فمنها كما الدماغ مثالا تقدم ، منها أسباب حس ، كما مطعوم ومشروب ودواء به اعتدال المزاج أو اضطرابه بما عُدِنَ فيه من سبب ، وما سلك من سَنَنٍ ، وهو ما استوجب سَبَبًا يجاوز ، فَتَسَلْسَلَ حَتَّى انتهى في الشهادة إلى سقف لا يجاوزه التجريب والبحث المحدَث ، فلا ينفك يطلب آخر هو المغيَّب ، وهو ما انتهى ضرورة إلى أول لا أول قبله ، بما تقدم من وصف العلم المحيط وإرادة بها التخصيص والترجيح ، وعنها قد صدرت كلمات التكوين ، وبها تأويل أول من التوحيد الذي جاءت به النبوات ، توحيد الرب الخالق الرازق المدبر بما أجرى من السبب وَأَحْكَمَ من السَّنَنِ ، فتأويل الربوبية ما يعالج الناظر من آيات الآفاق والأنفس ، وبها تأويل آخر من التوحيد ، توحيد الحق ، ألا يشرك به خَلْقٌ لا في ربوبية بها التكوين ، ولا في ألوهية بها التشريع ، فتأويلها ، أيضا ، كلمات من الوحي تَتَنَزَّلُ ، بما صَدَقَ من الخبر وَعَدَلَ من الحكم ، فكان من ذلك تصديق وامتثال به صلاح الحال والمآل . والله أعلى وأعلم . |
#2
|
|||
|
|||
فكان من سبب الحس ما أَثَّرَ في المزاج والطبع ، اعتدالا أو اضطرابا ، فَهُوَ يعالج المحل بما يَزِيدُ أو ينقص في الإفراز وَالنَّبْضِ ، وَكُلٌّ ، كَمَا تَقَدَّمَ في مَوْضِعٍ ، يطلب من السَّنَنِ ما قد أُحْكِمَ في التقدير الأول ، فكان من تأويله آيات معجزات في الأنفس والآفاق تُظْهِرَ ما كان من علم التقدير الأول الذي عَمَّ فاستغرق إتقانا في الخلقة الحادثة وإحكاما في السنة الجارية ، وذلك مِمَّا رُصِدَ بما كان بَعْدُ من آلةٍ تَحْدُثُ ، فَهِيَ تُبِينُ عَمَّا لم يكن قَبْلًا ظاهرا ، فلم يكن عدما غائبا ، وإنما وُجِدَ أَوَّلًا ولم يدركه الوجدان إذ قَصُرَ فِي الحدِّ ، فَلَمْ يُجَاوِزْ مداركَ الحسِّ ، وهي ، وإن اعتبرت في الإثبات والنفي ، من وجه ، فلا تجاوز ، من آخر ، حَدَّ الظن الراجح ، وليست مع ذلك تجاوز الشهادة إلى غيب لا تُدْرِكُ ، إذ قَصُرَتْ مَدَارِكُهَا ، فلا تجاوز حَدَّ الشهادة المحدَث ، فلا ينفك البحث في جيل تال يَنْقُضُ ما استقر من إجماع لها قد ثبت ، وكم من نظر في تأويل ظاهرة في الكون قد كان قَبْلًا من القطعي الذي يفيد اليقين والجزم ، ثم صار بعد الخطأ الْبَيِّنَ ، بل وَصَارَ لَدَى أهل الشأنِ مَنَاطَ سُخْرِيَةٍ وَتَنَدُّرٍ ! ، فليس ثم مرجع من الحس المحدَث أو التجريب والبحث يؤمن خطؤه أو جهله ، مع ما قد عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ قَصْدٍ فَاسِدٍ ، فَلَمْ يَعُدْ ثَمَّ إنصافٌ في النظر ، وإن ادَّعَى صاحبُه التَّجَرُّدَ من الهوى والحظ ، بل قد نَصَرَ من الفرض ما صيره اعتقادا يجزم ، ولو لم يكن ثم دليل من خارج ينصح ، بل ثم منه المحال الممتنع لذاته كما فَرْضُ التَّطَوُّرِ في الخلق الذي يَنْفِي أولا من الإتقان والإحكام ، فَلَيْسَ مِنْهُ إلا خبط عشواء ! ، فَلَيْسَ ثَمَّ دليل من خارج ، ولو التصور لجائزٍ أول في النَّظَرِ ، وإنما تحكم في الاستدلال وتعسف قد اقترح من الفرض ما لا وجود له في الخارج يَثْبُتُ ، بل العقل إذا تجرد من الهوى والحظ ، فهو لا يتصور ذلك إلا تَنَزُّلًا في جدال الخصم .
فَكَانَ مِنْ سَبَبِ الْحِسِّ الذي يُعَالِجُهُ طِبُّ النَّفْسِ المحدَث ، كان منه ما يحكي الإتقان والإحكام في الماهيات ، إن المحال أو الأسباب ، أسباب الدواء الذي يعالج اضطراب المزاج بما كان من طارئ يزيد في الإفراز والنبض أو ينقص ، وهو ، مع ذلك ، لم يجاوز العرض المحدَث ، فإن الدماغ ليس السبب المنشئ في كل حال ، إلا إن عرضت له علة في الماهية أو الفعل ، وهو ما يصدق فيه اضطراب في الدماغ والعصب لا آخر في النفس ، فيكون من ماهية الدماغ ما سَلِمَ من علة الحس ، ولم يسلم ، مع ذلك ، من أخرى تلطف ، فهي مما جاوز الحس المحدَث ، فكان من عِلَّةٍ في العقل أَخَصُّ ، فهو ، كما تقدم ، غَرِيزَةٌ تَلْطُفُ ، ومحلها جوهر من الخلق يُضَاهِي ، جوهر الروح اللطيف ، فلا يدركه البحث والتجريب ، فهو من أمر الرب الحميد المجيد ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فكان من المذهب المادي ما تَحَكَّمَ ، إذ لم يُعَالجِ الروح اللطيف بأسبابٍ مِنَ البحثِ والتجريبِ ، فَجَحَدَهَا إذ لم يُدْرِكْهَا بالحسِّ المحدَث ، مع ما تقدم في موضع من تَحَكُّمِهِ الذي حَجَّرَ الواسع ، فَصَيَّرَ الحس سبب العلم الأول ، فإن عارضه خبر الغيب المنزل ، فتأويل الأخير حتم لازم ، وإن أفضى إلى تعطيل باطل ، إذ يأتي على أصل الدلالة بالنقض ! ، ترجيحا لمرجوح من الحس ، فَلَيْسَ ينصح في غيب يجاوزه ، أَنْ يُثْبِتَ أَوْ يَنْفِيَ ، بل قد غلا مَنْ غلا في مواضع ، فَصَيَّرَ هذا الحسَّ المحدَث : دليل الإثبات الأوحد ، فَجَحَدَ ما جاوزه من الغيب ، وإن أَتَى بِهِ خَبَرٌ نَاصِحٌ من الوحي ، فَقَدْ جَحَدَ كُلَّ مرجعٍ يجاوز الحس ، لا جرم لم يكن من درسه في طب أو زرع ..... إلخ ، ما يجاوز مدارك الحس المحدَث دون نظر في علل من الغيب تجاوز ، وهي لازم القياس المصرح في باب التسلسل الذي يجاوز الشهادة فيطلب سببا من الغيب يسبق حتى ينتهي ضرورة إلى الخالق الأول ، جل وعلا ، على التفصيل آنف الذكر ، فَالْتَزَمَ المذهب المادي المحدَث إنكارَ كُلِّ مَرْجِعٍ يجاوز الحس المحدَث ، وإن في باب غيب لا يدركه بما ركز فيه من قوى ذات حد يقيد ، فَلَيْسَ مِنْهَا مَا يُطْلَقُ فيدرك كل معلوم ، بل إِنَّ المعلومَ المحدَثَ مِنْ هَذَا العالم ليس يحيط به الحس إحاطة تُطْلَقُ ، فكم من غيوب فيه لا يدركها الحس ، وهي ، مع ذلك ، مما ثَبَتَ فِي نَفْسِ الأمرِ ، فأبان عنه التجريب والبحث بما حدث بعدا من آلة تزيد في الإدراك وتعضد ، فكان من تحكم المذهب المادي المحدَث أن أنكر الغيب المجاوز من خارج ، فَرَّدَ الأمر إلى الحس حَصْرًا ، والتزم لأجل ذلك جَحْدَ كُلِّ مَعْنًى يجاوز المادة ، أو قد قَالَ بالحلولِ والاتحادِّ ، حلول المعنى في المادة ثم الاضمحلال ، وصيرورة الحقيقة في الخارج مادة فلا معنى لها يجاوز ، وهو ما الْتَزَمَهُ المذهبُ فِي حَدِّ الإنسان أنه المادة ، فهو جسد بلا روح ، دماغ بلا عقل ، فليس منه إلا المدرك بالحس ، وبه قد جحد المذهبُ : الخلقَ الأول ، خلق آدم عليه السلام ، وهو الخلقُ المعجِز من جسد قد سَوَّاهُ الرحمن ، جل وعلا ، وَنَفَخَ فيه روحا مخلوقة تَلْطُفُ ، فَمِنْهُ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَدْ صَدَرَتْ صدور المخلوق عن الخالق الأول ، فكان من ذلك قياس أولى قد أَبْطَلَ غُلُوَّ المثلِّثة في المسيح ابن مريم ، عليهما السلام ، فخلق آدم أشد في الإعجاز ، فلئن كان ثم غلو يجوز ، فهو في آدم أولى ، إذ قد خلق لا من أب ولا أم ، لا جرم كان من القصر في قوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) ، ما جرى مجرى القصر الإضافي مبالغة ، وبه قلب اعتقاد الخصم الذي غلا ، فليس القصر الحقيقي كما في آي البقرة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) ، فذلك من القصر الحقيقي بتعريف الجزأين ، "هو" و "الذي" مع إطناب بالموصول الذي يحفز النفس أن تطلب بَيَانَهُ إذ أجمل في اللفظ ، فكان من الصلة ما يبين ، وهي مناط الفائدة إذ بها المعنى قد نَصَحَ واكتمل ، فَعَظُمَتِ المنة التي اختص بها الخلق ، فتلك دلالة اللام في "لَكُمْ" ، وهي مما جاوز في المعنى الجمع المخاطب ، فهم الأول ، وَغَيْرٌ لهم يَتْبَعُ بما تَقَرَّرَ من عموم في الدلالة قد اطرد ، فجاوز الجمع المواجه ، فَثَمَّ خطاب يَتَنَاوَلُ الخلقَ كَافَّةً ، وبه المنة تسبغ ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، أصل في حكومات الفقه ، فالأصل في الأعيان الطهارة ، والأصل في الأشياء الإباحة ، إلا ما كان من الاستثناء ، فلا يثبت إلا بدليل ناقل ، وهو القليل النادر ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى الضرورة التي تقدر بالقدر ، فَثَمَّ أصل قد أُحْكِمَ ، من وجه ، واستثناء لقليل أو نادر ، من آخر ، فذلك المتشابه الذي يُرَدُّ إلى المحكم ، وليس يعتبر في الاستدلال إلا أن يكون ثم قرينة أخص من دليل من خارج ، فهو يرجح العدول عن الراجح المستصحب من الأصل المحكم إلى المرجوح ، وذلك الفرع المحدَث ، فهو المتشابه ، بادي الاستدلال ، إذ ليس يَتَبَادَرُ إِلَى الأذهانِ لا كما الأصل المحكم الذي تَقَرَّرَ عاما في الدلالة قد استغرق ، وإن احتمل التخصيص ، فلا يكون إلا بمخصِّص يجاوز حَدَّ الدعوى المجردة في الذهن ، فهو في محل النِّزَاعِ النصُّ ، على التفصيل آنف الذكر . فَثَمَّ من الخبر المغيب ما يصدق فيه وصف المحكَم ، ومنه خلق آدم عليه السلام ، الخلق الأول الذي لم يشهده أحد ، فهو المحكم في المعنى بما كان من ألفاظ الوحي المنزل ، ولو لم تُدْرَكِ الماهية في الخارج فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الحسُّ الحادث إذ له من المدى والحد ما قُيِّدَ ، فلا يجاوزه إلى آخر هو المغيب ، ولو النسبي في هذا العالم المحدَث ، فليس عدم وجدانه ، إذ لا يُطِيقُ ، دليلا على عدم الوجود في نفس الأمر ، بل ذلك التحكم المحض ، فما لا يدركه بالحس المجرَّد ، قد أدركه بَعْدُ بالحس المقيد إذ اعْتَضَدَ بآلةِ تجريبٍ وبحثٍ قد زَادَتْهُ في الحد ، فكان من ذلك وجدان بَعْدَ عَجْزٍ ، لا وجودٌ بعد عدم ، فَإِنَّ المدرك بالتجريب والبحث لم يكن قَبْلًا المعدوم الذي لا يثبت ، بل كان المغيب الذي لا يدرك ، فهو الموجود ، وإن جاوز المحسوس المجرد ، فَلَيْسَ وحدَه دليل الإثبات الأوحد ، بل وليس منه في الخارج دليل هو الأول ، فإن الحسَّ نفسه شاهد بِضِدٍّ من ذلك ، إذ لما اعتضد بالآلة أدرك ما لم يكن قبلا يُدْرِكُ ، ولم يكن هذا الإدراك المحدَث دليل إيجاد من عدم أول ، بل هو دليل إظهار لما كان قَبْلًا ذَا وجودٍ في الخارج ، وإن لم يتناوله الحس الحادث ، فكان الموجود بالفعل لا بالقوة ، فلم يكن ثم عدم أول ثم كان من البحث والتجريب ما أوجد ، فالتجريب والبحث : دليل كاشف لا آخر من الخلق يُنْشِئُ ، وإن كان ثم حصول مركب لم يكن قبلا ، فإن البحث والتجريب لم يخلقه من العدم ، بل قد صدر عن عناصر أولى تثبت ، ولها من قوى التفاعل ما يواطئ سَنَنًا في الباب قد أُحْكِمَ ، فَمَا صَنَعَ البحث والتجريب إلا أن تَأَوَّلَ قوى أولى قد ثَبَتَتْ ، فلم يُحْدِثْهَا من العدمِ ، وإنما تأولها بأفعالٍ في الخارج تُصَدِّقُ ، فكان من ذلك المركَّب الحاصل بالتجريب والبحث ، فليس الخالق من عدم أول قد أُطْلِقَ ، وإن صَدَقَ فيه اسم الخالق فهو المقيَّد ، فذلك خلق التَّصْيِيرِ الذي يُحَوِّلُ ماهيات أولى قد ثَبَتَتْ في الخارج إلى أخرى لم تكن قَبْلًا موجودة بالفعل ، فقد كانت الموجودة بالقوة بما رُكِزَ في عناصرها الأولى من قوى مقدَّرة ، فلم يكن من ذلك خبط ولا عبث ، بل ثم من العلم المحدَث ما كشف عن مقادير مخصوصة بها المركب يحصل ، وهو ما يصدق في جميع آحاده في الخارج ، فلا يحصل إلا أن يكون ثم مقادير أخص من عناصر أولى هي المقدمات ، ولها من السنن المتقن أخرى حاكمات تسلك بها جادة مقدرة ، ولها من الشرط ما وَجَبَ استيفاؤه ، والمانع ما وَجَبَ انتفاؤه ، والحافز ما يُسَرِّعُ بِهِ تَارَةً ، وأخرى يبطئ ، بما رُكِزَ فيه ، أيضا ، من قوى مخصوصة ، وكلُّ أولئك مِمَّا يَنْفِي الخبطَ والعبثَ ، ولئن صَدَقَ فيه أنه المدرك بالحس ، فذلك ، من وجه ، الحسُّ المقيد لا المطلق ، فهو المقيَّدُ بآلةِ التجريبِ والبحثِ الكاشفة لا المنشِئة ، على التفصيل آنف الذكر ، وهي ، بَعْدُ ، مِمَّا لا يقطع به الناظر ، وإن كان من إتقانِ البحثِ ما جَاوَزَ ، كما مثال من تَرَاكُبِ العناصرِ قَدْ تَقَدَّمَ ، فإن من ذلك مِثَالًا قَدْ بَلَغَ غايةً من الدقة ، وله من الجسيم ما تَسَارَعَ فَلَا يَكَادُ النَّظَرُ لَهُ يُعَيِّنُ ، بل ذلك مما أَلْجَأَ الباحثَ المحقِّق أن يقترح من الحيز ما يظن ولا يقطع ، أن الجسيم قد حصل فيه ، فلا يجزم ، فعلمه ، من هذا الوجه ، يُقَارِبُ ، وليس يطابق ، فيضاهي ، كما يقول بعض من حقق ، علم التاريخ الذي يجتهد في الجمع والاستقراء ، وتال من التحليل والتركيب والاستنباط أن يقارب الحدث الأول ، فلا يطابقه المطابقة التامة ، لا سيما ما تقدم في الزمن الأول ، ولم يكن ثم مرجع من خارج قد أحكم ، فالوحي قد زاد في ذلك فَبَلَغَ حد يقين يجزم ، إذ ثم من قرينة العصمة ما ينصح ، وبه امتاز من غَيْرٍ ، فجاوز العقل والحس ، وَصَدَّقَ مَا كَانَ أَوَّلًا من أدلةِ العلمِ ، مقدِّماتِ العقلِ الضرورية والفطرَةِ الناصحة والحاسة السالمة من الآفة ، فكان من خَبْرِ الوحي محكمٌ يَقْطَعُ ، وهو ما جَاوَزَ خَبَرَ التاريخِ ، فَغَايَتُهُ أَنْ يُفِيدَ مِنَ الظنِّ ما يُرَجِّحُ ، فَهُوَ يُقَارِبُ ولا يُطَابِقُ ، وهو مَا أَجْزَأَ فِي الإثباتِ ، ولو لم يقطع في الدلالة والاستدلال ، فَثَمَّ من الظنيِّ مَا أَجْزَأَ ، لا الظن الذي يَتَوَهَّمُ وَيَتَخَرَّصُ ، وإنما ظَنًّا معتبرا في الاستدلال ، فَهُوَ الراجحُ في ثُبُوتِهِ ، وهو الراجح في دلالته ، فَمِنْهُ ظنية في الثبوت ، وأخرى في العقول ، ظنية الدليل الذي تَرْجُحُ صحتُه خطأَه ، ولو لم يقطع الناظر بها في نفس الأمر ، فَلَيْسَ الخبرَ المتواترَ الذي يفيد العلم الضروري ، فذلك الأقل ، ولو أُنِيطَ به الاحتجاج في مسائل العلم كافة ، إن التشريع أو التاريخ أو التجريب ..... إلخ ، لَوْ أُنِيطَ به الاستدلال في مسائل العلم ، لسقطت الجمهرة العظمى منها ، فالمتواتر أقل ، وإناطة الحكم به تَحْجِيرٌ لِوَاسِعٍ ، وَحَرَجٌ في الاستدلال بَالِغٌ ، وهو ما رُفِعَ عن هذه الأمة خَاصَّةً ، بل منه ما يجاوز أخبار الوحي وحكومات الشرع إلى أخرى من التجريب والبحث ، فَتِلْكَ ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظرُ ، مِنَّةٌ عظمى قد استغرقت العلوم كافة ، وبها نصح الوحيُ العقلَ إذ جاءه بما يصحح حكومته في مباحث العلوم كافة ، ولو التجريب الذي لا يجاوز الحس ، فإنه ، كما تقدم ، يُقَارِبُ وإن ظهر ، بادي النظر ، أنه يطابق الحاصل في الخارج في نفس الأمر ، فلا يخلو من احتمال ، ولو مرجوحًا ، أنه خطأ إذ ثم من قياس الآلة ظني لا يقطع به الباحث ، فقد يطرأ الخطأ ، إن في القدر أو في الوصف ، أو في ضبط الآلة ، أو في سَبَبٍ من خارج ، زيادة أو نقصا ، فتخطئ الآلة في القياس ، ولو في مثال واحد من التجريب والبحث ، وإن بَلَغَ مَا بَلَغَ من الإتقان في الماهية والحد ، واعتبر بما يكون من تَفَاوُتٍ في القياس بين آحاد من الباحثين ، فَكُلٌّ يصدر عن أصل واحد ، إن في النظر المجرد أو آخر من التجريب يحدث ، فيكون من التفاوت في قياسهم ، ولو طفيفا ، يكون من ذلك ما يصدق الاحتمال ، ولو مرجوحا في الاستدلال ، فلا يبلغ حد اليقين الجازم ، إِذًا لاستوى الباحثون كافة ، وما كان لأحد على أحد فَضْلٌ ، بما يكون من اجتهاد أخص ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما عم المعقولات والمحسوسات كافة ، فَثَمَّ الاجتهاد في المعقولات ، إن في استنباط الحكم الجديد ، أو في الترجيح بَيْنَ أقوال تَتَعَارَضُ ، فثم من ذلك ، كما ذكر أهل الشأن ، اجتهاد هو المطلق ، وآخر هو المقيد ، فَثَمَّ من له من ذلك خاصة الاستنباط في المعقولات ، وثم آخر يرجح بين أحكام أولى قد اسْتُنْبِطَتْ ، وثم مَنْ لَهُ مِنْ ذلك اجتهاد دون ذلك ، فهو يحسن النظر في الحكم ودليله ، فَيُحَرِّرُ وجه الدلالة بما استقر من عرف النطق المستقر الذي وَرَدَ به النص ، وهو ما يصدق فيه اسم التأويل إذ به قدر من التفسير الذي يكشف عن حجة المستدل ، سُلِّمَ له به أو لم يُسَلَّمُ ، فَالْغَرَضُ فِي هذا الموضع ، بَيَانُ المعنى الذي ذهب إليه كل مجتهد في تعليل الحكم الذي استنبط ، وذلك أول في درس ناصح يقارن ، وهو من أرفع وجوه النظر في العلوم كافة ، إذ يحكم بين المذاهب ، ويميز المرجوح من الراجح ، وَلِكُلٍّ ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظر ، حظ من الوعد ، إن بالأجرين أو بالأجر ، كما في قول صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "إذا حكَم الحاكمُ فاجتَهَد ثمَّ أصاب فله أجرانِ وإذا حكَم فاجتَهَد ثمَّ أخطأ فله أجرٌ" . فَثَمَّ ، كما تقدم ، من له من الاجتهاد خاصة الاستنباط في المعقولات ، وثم آخر وله من ذلك خاصة الاكتشاف في المحسوسات ، وَفِعْلُهُ في كُلٍّ ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، تَأْوِيلٌ يُظْهِرُ ، فليس يُنْشِئُ من العدم ، بل المجتهد في الأحكام الشرعية : كاشف لحكم النازلة في النص الشارع ، إذ يجتهد في تحقيقِ مناطِه في آحادٍ في الخارج تحدث ، وكذا المجتهد في الأحكام التجريبية ، فَلَيْسَ يُنْشِئُ من الحقيقة ما لم يكن في الخارج ، بل هو كاشف عَمَّا ثبت أولا ، إن الأعيان أو ما تجري عليه من السَّنَنِ ، فَلَمْ يكن من كُلٍّ عدم ، قد زاده الباحث وجودا لم يكن ، فَلَيْسَ أحد من البشر يخلق من العدم ، وإن ثَبَتَ له وصف الخلق ، فهو خلق به التحويل من ماهية إلى أخرى ، فيكون من ذلك تأويل لما كان أولا من أعيان الموجودات في الخارج وما تجري عليه من السنن الحاكم ، فالباحث يتأوله في خَلْقِ ماهية من أخرى تسبق ، لا خَلْقًا من العدم يَسْتَأْنِفُ ، بل ذلك وصف الخالق الأول ، جل وعلا ، فلا يشركه فيه أحد ، وأما الباحث فهو يَجْتَهِدُ بما حصل له من أدوات التجريب والبحث ، فيكون من ذلك كَشْفٌ لما كان أولا ، فعلمه ، كما تقدم ، يُظْهِرُ ، وليس لحقيقة في الخارج يُنْشِئُ ، ولو كان من فعله : تَرْكِيبٌ يَتَنَاوَلُ العناصر المفردة ، فَيُؤَلِّفُ منها المركَّب بما يسلك من جادة التفاعل ، فَلَهَا سَنَنٌ قد أُحْكِمَ بِمَا رُكِزَ في العناصر من قوى تَتَفَاعَلُ ، وما استوجب من شرط في الخارج يُسْتَوْفَى ، ومانع يُنْفَى ، وباعث في مواضع يُحَفِّزُ ، فيكون من ذلك المجموع المركَّب الذي اصطلح أهل الشأن أنه العلة ، وَلَا تَنْفَكُّ تطلب أولا وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى يَنْتَهِي ضرورة إلى الأول الذي لا أول قبله ، حَسْمًا لمادة التسلسل الممتنِع في القياس المصرَّح ، التسلسل في المؤثرين أَزَلًا ، فالباحث ، كما تقدم ، يجتهد في الكشف بما حصل له من آلة البحث ، فَهُوَ يَجْتَهِدُ أن يُقَارِبَ الحقيقةَ في الخارج ، فلا يشترط في بحثه أن يطابق ، ولو في علومٍ تدرك بالحس ، فلا تفتقر إلى مرجع من خارج يجاوز ، فالظنية أبدا تجزئ في حصول علم ينفع ، وإن لم يجزم صاحبه ويقطع ، ولو ادَّعَى ذلك تَبَجُّحًا بِمَا حَصَلَ له من آلة تدق ، فكان من ذلك فَرَحٌ بِظَاهِرٍ من العلم ، وهو ما احتمل الخطأ ، بل قد ثبت من ذلك ما كَثُرَ ، واعتبر بما يكون من تعديلٍ في مُثُلٍ تُفَسِّرُ ظَوَاهِرَ من البحث والتجريب تَثْبُتُ ، فيكون من ذلك قاعدة تُحَرَّرُ ، بما كان من دَرْسٍ أول ، فكان الاستقراء والجمع لما أطاق الباحث من الأدلة والشواهد ، وما يجري من التجارب ، وما يُبَدِّلُ فيها من القدر والوصف ، وما يُغَيِّرُ من الحال والظرف ، إن بالزيادة أو بالنقص ، وبها يجتهد مَرَّةً بعد أخرى أن يقارب الحقيقة في الخارج ، فليس لها يطابق ، وإن في البحث المدرك بالحس ، فأجزأ من ذلك ظن يرجح ، وهو ما يجزئ ، من باب أولى ، في علوم النقل ، فمدار الإثبات والنفي فيها على الإسناد ، وجمهرته العظمى آحاد لا تُفِيدُ القطعَ ، فَأَجْزَأَ فِيهَا ما يُسْتَصْحَبُ مِنْ راجحِ الظنِّ حتى يكون ثم قرينة تُرَجِّحُ ضِدًّا ، فلا يصير إليه الناظر أولا ، فَيَقْتَرِح من ذلك دعوى تطلق ، فليس ثم دليل يشهد ، بل الظاهر المستصحب لِضِدِّ دعواهم يُرَجِّحُ ، فَلَيْتَهُ كَانَ الجائز الذي استوى طرفاه في الاحتمال ، والدعوى المطلقة ، مع ذلك ، لا تجزئ في ترجيح طرف من جائز عَلَى آخر ، فكيف بما ظَهَرَ أَوَّلًا ، وكان من دليل الصحة ما يُثْبِتُ ، وإن أفاد ظنا يَرْجُحُ ، فَذَلِكَ مِمَّا يقارب ولا يطابق في درس التاريخ المجرد ، فليس ثم من العصمة قَرِينَةٌ تُسْتَصْحَبُ كما درس آحادٍ من الخبر الشرعي ، وهو ما يصدق فيه اسم الوحي الرِّسَالِيِّ ، وإن لم يَتَوَاَتَرْ ، فَثَمَّ من القطع بِثُبُوتِهِ في نَفْسِ الأمرِ ما تَنَاوَلَ منه الأصل ، فحجته في الاستدلال تُطْلَقُ ، إن في الخبر أو في الحكم ، فيصدق فيه أنه المتواتر قطعي الثبوت لا بالنظر في آحاده في الخارج ، وإنما بِنَظَرٍ آخر قَدْ تَنَاوَلَ الأصلَ الجامع ، أصل الخبر ، فإن حجته تَقْطَعً ، إذ قد شهد له المتواتر ذو الحجة القاطعة ، فكان من ذلك أوامر في الأخذ والنهي قد أطلقت ، فـ : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَهُوَ مَا حُدَّ حَدَّ الشرط الذي يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ ، فلا يخلو من دلالة التعليل ، وهو ما رفدته الفاء التي دخلت على الجواب في "فَخُذُوهُ" ، وإن لم تَكُنْ نَصًّا فِي السَّبَبِيَّةِ ، فهي تُفِيدُ فَوْرًا وَتَعْقِيبًا ، وبه يستأنس من يصير دلالة الأمر على الفور ، وهو المتبادر إلى الذهن من مَأْثُورِ اللِّسَانِ العربيَّ ، وما يكون من وقع الأمر في نفس المأمور ، فهو يحض على الفعل ، ومعنى الفور فيه يَظْهَرُ ، فَلَوْ تَأَخَّرَ المأمور لغير قرينة تُسَوِّغُ ، فإنه يُلَامُ مِنَ الآمرِ إذ لم يبادر ، فكان من الفاء ما أفاد التعليل ، وإن لم يكن نصا في الباب ، وآخر من الفور والتعقيب ، وهو ما يواطئ الأمر في الدلالة ، وَهِيَ ، أي الفاء ، مِمَّا اسْتُصْلِحَ بِهِ لفظ الجواب إذ حُدَّ إِنْشَاءً ، فذلك الأمر الموجِب ، وهو أول ما يتبادر من دلالة الأمر بالنظر في وضع اللسان الأول ، فَثَمَّ منه ، كما تقدم في موضع ، الاستقراء والاستنباط ، فهو يستقرئ المأثور الأول من كلام العرب المفهِم الذي أتى عليه الوحي ، إذ نَزَلَ بِلِسَانِ قريش ، وهي أفصح العرب لفظا وأبلغهم معنى ، فَثَمَّ الاستقراء لِمَا أُثِرَ مِنْ كلامِهم ، إِنْ نَظْمِهِمْ أَوْ نَثْرِهِمْ ، وآخر من البحث قد جَرَّدَ أصولَ الفهمِ ، فَثَمَّ الاستنباط لمعان كلية جامعة ، فهي أصول في الاستدلال بها استنباط المعاني ، ومنها الأمر ، محل الشاهد ، إِذِ اطَّرَدَ في لسانهم استخدام صيغة الأمر في الإيجاب الملزِم ، فذلك أول ما يَتَبَادَرُ ، وإن احتمل الأمر آخر ، فهو المؤول الذي لا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَاقِلٍ ، فَثَمَّ مِنَ الأمرِ ظاهرٌ أول ، وهو ما رَجَحَ في المدلولِ ، فَاسْتُصْحِبَ في الاستدلال وإن لم يَقْطَعْ ، فالظن الراجح إن في النقل أو في الفقه ، ذلك مما يجزئ في الاستدلال ، إن في الخبر أو في الإنشاء ، فخبر الآحاد حجة تُطْلَقُ ، وإن احتمل الخطأ فهو المرجوح فلا يصار إليه بالاحتمال المحض دعوى تُجَرَّدُ في الذهن ، بَلْ من ادَّعَى فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ المعتبرة بما استقر من علم الرواية وما يكون من قوادح وَعِلَلٍ في الإسناد أو في المتن ... إلخ ، فلا تقبل دعوى لا دليل عليها إلا هوى وحظ هو المتشابه ، وبه يعارض صاحبه النقل المصحَّح ، وهو المحكم ، فَثَمَّ منه الصريح الذي لا يخالف عن بَدَائِهِ الضرورةِ فِي العقلِ ، وَإِنْ حَارَ فِي الماهية والكيف ، فلم يخاطب بذلك ، وإنما خوطب بالمعنى الذي يجرده الذهن ، وهو مناط التكليف ، إِنْ بالتصديقِ أو بالامتثالِ في عباداتٍ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا ، فَثَمَّ من ذلك صريح في العقل أول ، وهو الجائز لدى المبدإ ، فلا يخاطب الوحي المكلَّف بالمحال الممتنع لذاته ، وإنما يخاطبه بما وجب ضرورةً في الوجدان المصرَّح ، كما رجوع هذا الخلق إلى أول هو الخالق ذو العلم المحيط ، وبه التقدير الذي أَتْقَنَ الخلقَةَ وأحكم السُّنَّةَ ، سُنَّةَ الخلق ، فذلك مِمَّا أُحْكِمَ في الجريان بما رُكِزَ في المحالِّ والأسبابِ من قوى ، وما اسْتَوْجَبَتْهُ من شروط يجب استيفاؤها وموانع يجب انتفاؤها ، فكل أولئك ، لو تدبر الناظر ، من الواجب في العقل ضرورة ، وإلا كانت المخالفة لِلْعَقْلِ الصريح والحس السليم الذي يُعَالجُ هذا العالم أعيانا وأحوالًا ، أَنْفُسًا وآفاقًا ، فالوحي يُخَاطِبُ العقلَ بالواجب ضرورة ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو ما مع ذلك يَزِيدُهُ بَيَانًا فَيُزِيلُ إجمالَه ، فيخاطبه بالواجب أو آخر هو الجائز ، فَشَرْطُ القبولِ هو صحة الخبر بما استقر من حَدٍّ قد حَرَّرَهُ أهل الشأن ، فاستوفى الشروط ، وَسَلِمَ من القوادح ما ظهر منها وما بطن ، فذلك مما أجزأ في الاستدلال مطلقا ، إن في الخبر أو في الإنشاء ، وإن احتمل ضدا فهو ، كما تقدم ، المهمل حتى يكون ثم دليل معتبر ، فلا يكون رَدُّ الصحيح الذي ثَبَتَ ، لا يكون رَدُّهُ بالاحتمال المجرد ، فذلك اقتراح محض قد أجزأ في رَدِّهِ آخر ، فيكون من ذلك تساقط يَرُدُّ الاستدلال إلى أول من الصحيح الراجح ، ومنه الأمر آنف الذكر ، فدلالته الظاهرة بالاستقراء والاستنباط هي الإيجاب والفرض الذي يدل عليه ظاهر اللفظ ، إلا أن يكون ثم قرينة تَصْرِفُ ، إلى آخر يحتمله اللفظ ، وإن لم يظهر بادي النظر ، فشرطه أن يحتمل الاحتمال المعتبر ، فلا يكون البعيد أو المهجور ، ولا يكون اللعب الذي يُفْسِدُ اللسان لَفْظًا وَنَظْمًا بما قد عَمَّتْ به البلوى من تأويلات باطنة لا حظ لها من اللسان إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم أَنْ يُلْزَمَ بِلَوَازِمِ قوله الذي يَبْطُلُ ، فإن جريانه في التأويل إفساد للدنيا والدين ، فلا عبرة بوجه من التأويل إلا أن يكون من القريب أو المحتمل ، وإن كان البعيد فلا يَنْفَكُّ يطلب من القرينة ما يُرَجِّحُ ، فالبعيد قد يُغْتَفَرُ ما لا يُغْتَفَرُ المهجورُ غير المتداول أو الباطن الذي يتلاعب ، والبعيد ، مع ذلك ، لا ينفك يطلب قرينة أقوى ، وذلك مما اطَّرَدَ فِي وجوهِ التأويلِ كَافَّةً ، فَكُلُّمَا بَعُدَ المعنى المؤَوَّل ، فهو يَفْتَقِرُ إلى قرينة أقوى تَصْرِفُ ، إلا أَنْ يَنْتَهِيَ ذلك إلى حَدٍّ من الهجرانِ أو التلاعبِ ، فذلك ما لا يعدل في الاحتمال شَيْئًا يُؤْبَهُ ، إذ لا قرينة معتبرة تَصْرِفُ ، بل اللفظ ، ابتداء ، لا يحتمل المعنى الذي اقْتَرَحَهُ التأويلُ الباطنُ ، فَكَفَى المستدِلَّ مؤنة النظر في القرينة إذ لم يجاوز عتبة أولى في التأويل أن يكون اللفظ ابتداء مما يَحْتَمِلُ المعنى ، ولو الاحتمالَ المرجوحَ أو البعيدَ ، لا جَرَمَ لم يكن من أولئك إلا التلاعب الذي يجحد المعلوم الضروري الأول من الكلام العربي المفهِم ، إن المعجم المفرد أو السياق المركب ، فكان من الأمر آنف الذكر ما استقر مدلوله في الذهن ، فهو يحكي الإيجاب الملزم ، وذلك أول منه يُسْتَصْحَبُ ، وإن ظَنًّا يَرْجُحُ لَا يَقِينًا يقطع ، فَأَجْزَأَ الظنُّ الراجح ، وذلك المعتبر في الاستدلال الناصح ، إذ ليس يشترط في كل دليل أن يفيد اليقين ، بل الأدلة على درجات تتفاوت ، فمنها يقين قاطع وهو الأعلى ، ومنه الظاهر الراجح ، وهو دونه ، ومنها المؤول ، ولا ينفك يطلب وجها من الدلالة يُحْتَمَلُ ، وقرينة صارفة تُعْتَبَرُ ، فحصل من ذلك التفاوت بين النص والظاهر والمؤول ما يجزئ لدى الاختلاف بين الدلائل ، وتعذر الجمع ، وآخر من القول بالنسخ ، فَثَمَّ الترجيح ، وهو آخِرٌ في الاستدلال ، كما قال أهل الشأن في الاستصحاب مثالا في الأصول ، فهو آخر مناط الفتوى بعد أن يُعْدَمُ الفقيهُ كُلَّ دليلٍ ، فَيُسْتَصْحَبُ الأصلُ الأوَّلُ ، إذ الأصل بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، فكذا الترجيح في الأدلة المتعارِضة ، فَهُوَ آخر مناط الاستدلال ، فلا يُصَارُ إليه حالَ الابتداءِ ، إذ الإعمال أولى من الإهمال ، فلا يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ إِلَّا إذا تعذر الجمع ، ومنه الترجيح في نقل الألفاظ ، فالمتواتر القطعي يرجح الآحاد الظني ، والآحاد على مراتب تَتَفَاوَتُ ، عَلَى تَفْصِيلٍ قد ذكره أهل الشأن ، فَثَمَّ درجات في الصحة ، وإن كان كلٌّ صَحِيحًا ، فثم صحيح مجرد في النظر ، وثم آخر قد احتفت به القرائن التي تكسبه وصف العلم ، وإن النظري الذي لا يحصل ، بادي الرأي ، فليس كالضروري الذي يفيده المتواتر ، وثم حسن وهو دون الصحيح ، وإن ضاهاه في الاحتجاج ، إذ استوفى الشرط ، ولو حدا أدنى ، بل ثم من الضعيف ما ينصح إذ كان ثم قرينة معتبرة تعضد ، فَيَرْقَى أن يكون الحسن ، وذلك أدنى ما يجزئ في الاستدلال ، الضعيف المنجبر ، وشرطه ، بداهة ، ألا يشتد ضعفه ، فَلَيْسَ يَقْبَلُ العاضد ، فَمَا اشْتَدَّ ضعفه ، فهو كَلَا شيءٍ ، فاستوى هو والعدم ، والعدم ليس بشيء ، لِيَعْتَضِدَ بِغَيْرٍ أو يَعْتَضِدَ به آخر ، فحصل من ذلك تَرْتِيبٌ في العقل : النص ثم الظاهر ثم المؤول ، وآخر في النقل : المتواتر ثم الآحاد من وجه ، والصحيح ثم الحسن ثم الضعيف المنجبر من آخر ، وكلٌّ ، أيضا ، على درجات تتفاوت ، فثم الصحيح الذي احتفت به قرائن معتبرة فَصَيَّرَتْهُ نصا في العلم النظري ، وهو فوق الظن الراجح ، وثم صحيح دونه حتى انتهى النظر إلى أدنى ما يصدق فيه وصف الصحة ، وهو ، من وحه آخر ، أعلى ما يصدق فيه وصف الحسن الذي يليه في الرتبة ، وتلك رتبة لطيفة تَتَوَسَّطُ اثنتين ، وهي مما يلطف في الحد ، فتجريدها في الذهن بما يكون من قسمة في النظر المطلق ، ذلك مما يسهل ، وتحقيق المناط في الخارج قد استوجب آخر من النظر المدقِّق ، وَثَمَّ من القرائن ، أيضا ، ما يُرَجِّحُ خلاف الظاهر ، كما اشتهر من قول بعض المحققين أن المفُوقَ قد يعرض له ما يصيره الفائق ، فإن من أخبار الكتب المتلقاة بالقبول ما نَزَلَ عن شرطها في المنقول ، وإن كانت الصحيحة ، فليست الأصح ، كما اشترط صاحب الجمع ، فَنَزَلَ عن شرطه الأصح ، ولم ينزل عن آخر يصح ، فَرَجَحَهُ نظيرُه في كتاب آخر هو دون الكتاب الأول في الجملة ، لا في هذا الموضع بعينه ، وذلك بحث يدق في النقل ، وهو مئنة من دقة في النظر والفهم ، وبه حصل التحقيق في رواية النصوص ، وهي العمدة في الاستدلال ، فذلك المرجع الذي يجاوز ، وهو ما امتازت به الأمة الخاتمة وبها نصحت شهادتها في بقية الأمم ، فشرط شهادتها عصمة المرجع الذي عنه تصدر ، وعصمة إجماعها في الاعتقاد أو في الشرع الذي يحكم ، وذلك ما عَمَّ الدليل والمدلول ، فكان من أَدِلَّتِهَا ما صَحَّ في نَقْلِه ، ومن دلالاتها ما صَرُحَ في عقلِه ، وهو ، كما تقدم ، ما استوجب قاعدة في الحكم ، وأخرى في الترجيح إذا تعارضتِ الأدِلَّةُ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ ، فَكَانَ منه التَّرْجِيحُ في النقل ، على التفصيل آنف الذكر ، وآخر يضاهي في عَقْلِ المعاني ، فالنص أول إذ يَقْطَعُ ، فدلالته يقين يجزم ، ودونه في الدلالة الظاهر الذي يَرْجُحُ ، وإن احتمل ضدا هو المرجوح ، إن ضدا واحدا أو ضدا دائرا ، كما الأمر محل الشاهد ، فإن من وجوه الدلالة فيه ما تَكَاثَرَ ، فَثَمَّ الأمر الذي يُفِيدُ الندب وآخر يفيد الإباحة ، وثالث يفيد الإهانة ، ورابع يفيد البيان والنصح ، وثالث يفيد التهديد والزجر ...... إلخ ، فيجري من هذا الوجه مجرى الظاهر ذي الضد الدائر الذي يحتمل وجوها من الدلالة ، وإن لم تظهر ، بادي النظر ، فكلها مرجوحة في مقابل راجح واحد ، وهو الظاهر الذي يَتَبَادَرُ من دلالة الإيجاب الملزِم ، فيصدق فيه ، من هذا الوجه ، وصف الظاهر الذي يجزئ في الاستدلال ، إذ ثم معنى راجح يَتَبَادَرُ ، فهو المستصحَب حتى يكون ثم دليل ناقل ، فتلك القرينة الصارفة التي تُرَجِّحُ المرجوحَ ، وذلك خلاف المتبادر المعقول ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إلا بدليل أخص ، وهو في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، وإلا كان التحكم في تَرْجِيحِ المرجوحِ بلا مرجِّح ، وذلك محض التحكم الذي يَتَصَرَّفُ في الدلالة بلا قَرِينَةٍ تُسَوِّغُ ، فيعدل عن الظاهر إلى المؤول ، وإن كان للأخير وجه في اللسان يحتمل ، فتجويز ذلك بلا دليل صارف يفتح الذرائع إلى آخر من التأويل الباطن ، فيكون التصرف في اللفظ بِمَا لَا يُعْقَلُ ، بَادِيَ الرَّأْيِ ، ولو وَجْهًا فِي اللِّسَانِ لَا يَتَبَادَرُ ، فَثَمَّ ، كما تقدم التلاعب ، ومبدؤه ما يكون من تأويل باطل ، وإن لم يَبْلُغْ حَدَّ الباطن ، أن يكون التصرف آنف الذكر ، ترجيحا بلا مرجِّح ، ولو إلى معنى يحتمله اللفظ ، فَلَا يَتَبَادَرُ ، مَبْدَأَ الرَّأْيِ ، وهو ما استوجب قَرِينَةً أَخَصَّ ، وهي ، كما تقدم ، في محل النِّزَاعِ النَّصُّ ، فلا يجزئ في التأويل أن يحتملَ اللفظُ المعنى ، فذلك أول في الباب ، وليس الاحتمال المحض ، إِنْ فِي جَائِزٍ قَدِ اسْتَوَى طرفاه في الحدِّ ، أو آخر من الظاهر ذي الدلالة الراجحة في مقابل أخرى وهي المرجوحة ، ليس الاحتمال المحض في كُلٍّ يجزئ في العدول عن الوضع الأول ، فوضع الجائز الأول يوجب في الاستدلال التوقُّفَ إذ ليس ثم طرف منه يَرْجُحُ ، فيكون منه ظاهر أول يستصحب ، ووضع الظاهر يزيد فهو يُوجِبُ استصحابَه حتى يكون ثم قرينة تَصْرِفُ ، فَلَيْسَ الاحتمالُ في كُلٍّ يجزئ في العدول عن الوضع الأول إلا أن يكون ثم قرينة صارفة تُرَجِّحُ وَجْهًا من الجائز ، أو آخر من المؤوَّل المرجوح في مقابل الظاهر الراجح ، وشرطها أن تكون المعتبرة ، فلا تجزئُ أَيُّ قَرِينَةٍ في صرف اللفظ عن الظاهر إلى المؤوَّل ، لا سيما في أخبار الغيب ، وهي مما لا تجزئ فيه إلا قَرِينَةُ الخبر ، إذ العقل والحس لا يَتَنَاوَلَانِ حقيقة الغيب في الخارج ، فليس ثم إلا إثبات المعنى المطلق في العقل ، فلا يدرك الناظر الحقيقة في الخارج لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا بِقَرِينَةٍ من العقل أو الحس ، لا كما أحكام الفقه ، فإن منها معقول المعنى الذي يدرك الناظر منه وجه استدلال أخص ، وبه قد سَاغَ التأويلُ في الأحكام ما لا يَسُوغُ في الأخبار ، وإن عمت البلوى في الجيل المتأخر بما فَحُشَ من التأويل الباطن الذي تَنَاوَلَ الأحكام والأخبار كافة ، فجحد المعلوم الضروري من الفرض الشرعي كالصلاة والزكاة والصيام والحج ، وتأولها على مثال من المعنى يأتي بالإبطال على أصل التشريع ، إذ جحد حقيقة الشرع الأخص ، وعارضها بآخر من اللسان الأعم ، فصارت الصلاة دعاء وذكرا ، ومنه ذكر أعيان من الأئمة ، وعددهم خمسة ، وصار الصيام إمساك الكلام فلا يُفْشِي الأتباعُ سِرَّ المذهبِ ، وصار الحج قَصْدَ الأئمةِ ...... إلخ ، فكل أولئك مما جحد المعلوم الضروري من الحكم الشرعي ، مع آخر قد بَلَغَ في تعطيل الخبريات غَايَةً أَيَّ غَايَةً ، فكان من ذلك تأويلٌ بَاطِنٌ هو تكليف الخاصة ، وإنما جاءت النبوات بظواهر من الوعد والوعيد لِتَسْتَصْلِحَ الطبع الكثيف ، وهو طبع العامة ، لا خاصة لهم من صفاء النفس وذكاء العقل ما به استغنوا عن ظواهر الشرع ! ، وإن المحكمة في الاستدلال الجارية على سَنَنٍ يُفْصِحُ مِنَ اللسانِ الذي نَزَلَ به الوحي ، فكان من خطاب الوحي ما انْقَسَمَ ، فخاطب العامة بالتصريح ، وخاطب الخاصة بالتأويل ، فلكلٍّ ، كما قال بعض من سلك جادة الحكمة الأولى ، لكلٍّ تكليف يواطئ حاله ، فلا يستوي الخاصة الذين بَقَرُوا بطون النصوص فاستخرجوا منها الحقائق الباطنة ، فلا يستوي أولئك وَعَامَّةٌ من الخلق لا يجاوز بهم الفهم ظاهرا من النص ، فكان مِنَ التأويل مَا سَاغَ وَعَمَّ النصوص كَافَّةً ، وإن كان ثم دلالة محكمة لا تحتمل ، فهي النص الذي يقطع بما استقر من سَنَنِ اللسانِ المفهِم ، فَسَاغَ ذلك بل قد وجب على الخواص أصحاب الولاية ، وأصحاب الدراية بما لهم من فقه التأويل ، وإن في الخبريات التي لا تحتمل ، فليس إلا الصدق أو الكذب ، فَعَمَّتْ به البلوى ، خَبَرًا وإنشاءً ، فالأصل جريان اللفظ على الظاهر الأول ، حتى يكون ثم قرينة من خارج تُسَوِّغُ العدول عنه إلى آخر هو المؤوَّل الذي لا يظهر ، وهي مما اختلف في الحد ، فَحَدُّهُ في الأحكام معقولة المعنى يزيد ، إذ ثم من قرينة التعليل الأخص : معنى يجرده الذهن ، فَصَحَّ القياس فيه والنظر ما لا يصح في محال التَّوْقِيفِ من الخبر ، وأخرى من أحكام التعبد المحض التي لا يُدْرِكُ العقلُ منها عِلَّةً تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ ، وهي المعنى الظاهر الذي يَنْضَبِطُ ، وإن أدرك حكمة أعم فلا تَنْضَبِطُ في الحدِّ ، لا جرم لم يُنَطْ بها التعليل ، على تفصيل يطلب من مَظَانِّهِ . فَثَمَّ من الظاهر ما يَتَفَاوَتُ ، فظاهر الخبر يُسْتَصْحَبُ حتى تكون ثم قرينة تَصْرِفُ ، وليس يجزئ في الأخبار إلا قَرِينَةُ النَّقْلِ المصدَّق ، فلا تجزئ فيه قرينة عقل محض ، إذ ليس يدرك حقائق الغيب ، وإن أدرك المعنى المجرد في الذهن ، فلا يدرك ما جَاوَزَ من الحقائق في الخارج لِيَتَصَّرَفَ فيها بقياس أو اجتهاد ، فذلك بابٌ محلُّه التوقيف ، فلا يثبت إلا بدليل ، إن ظاهرا أو مؤولا ، وكذا يقال في ظواهر أحكام تجري مجرى التعبد المحض ، فلا يدرك العقل منها وَجْهَ عِلَّةٍ أخص ، وثم ثالث من الظاهر ، والباب فيه أوسع ، إذ ثم من المعنى ما يُعْقَلُ ، فَيُجَرِّدُهُ النَّظَرُ ، وبه التصرف في ظواهر النطق إن كان ثم قرينةٌ تُعْتَبَرُ مِنْ نَقْلٍ أو عَقْلٍ ، فَسَاغَ من تأويله ما لا يسوغ من التأويل في الأخبار وأحكام التوقيف ، وإن جاز التأويل في كُلٍّ ، فَشَرْطُهُ ، كما تقدم ، ظاهر أول يحتمل آخر هو المؤوَّل ، وليس كُلُّ احتمالٍ في الباب يُقْبَلُ ، وَإِلَّا اقْتَرَحَ كلٌّ من ذلك ما يواطئ مذهبه ، كما تقدم من المذهب الباطني الذي توسع في الاحتمال العقلي حتى أتى على أصول المعاني بالإبطال ، بما اقترح من وجوه تخالف عن المعلوم الضروري الأول ، فشرط التأويل أن يكون الاحتمال معتبرا ، وإن لم يتبادر إلى الذهن ظاهرا أول يُسْتَصْحَبُ ، وَثَمَّ تال من القرينة التي تصرف ، فلا يجزئ الاحتمال ، وإن معتبرا ، فتلك الدعوى التي تطلب الدليل من خارج ، فلا يجزئ فيها الاحتمال المحض ، ولو المعتبرَ فِي النُّطْقِ ، فَتِلْكَ الدعوى التي تَطْلُبُ دَلِيلًا من خارجِها ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا ، وهي صورة الخلاف ، فتلك مصادرة على المطلوب لم تُقِمْ من الدليل إلا الجوازَ المحضَ ، وهو أول في الاستدلال يَنْصَحُ ، أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى ابتداءً مما جاز في العقل المصرَّح ، فلا تكون المحالة الممتنعة لذاتها ، فذلك ما لا يقبل تَرْجِيحًا أو إثباتا إذ لم يَتَصَوَّرْهُ العقل ، بادي الرأي ، فليس إلا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ! ، فشرط الدعوى أولا أن تكون جائزة في النظر المصرَّح ، ولا ينفك ، مع ذلك تَطْلُبُ قَرِينَةً من خارج تُرَجِّحُ ، فيكون ثم دليل من خارجها يَثْبُتُ ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهَا ، فذلك الدور الباطل ، فلا بد من دليل أول هو الناصح ، وهو المقدمة التي تَسْبِقُ ، وكلٌّ من الخصمين عليها قد أجمع ، فتجري مجرى المعلوم الضروري الذي إليه يَنْتَهِي الحكم النظري الذي يَفْتَقِرُ إلى استدلال أخص ، ومبدؤُه مقدماتُ ضرورةٍ يَنْظِمُهَا الناظر في سِلْكٍ جَامِعٍ ، فَيَنْتَهِي بها إلى استدلالٍ نَظَرِيٍّ أخص ، كما التأويل الذي يطلب الدليل من خارج ، فَجَوَازُهُ ابتداءً دعوى في الذهن تُجَرَّدُ ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب دليلا من خارج أخص ، فتلك القرينة التي تصرف ، فحصل من ذلك تفاوت في الاستدلال ، فالألفاظ ، كما تقدم ، على وجوه ، ومنها : النص الذي يقطع ، والظاهر الذي يَرْجُحُ ، والمؤوَّل المرجوح الذي لا يظهر ، بادي النظر ، ولكلٍّ من الحد ما يميزه من غير ، ولكلٍّ من الاستدلال رتبة ، فلا تستوي الألفاظ في الدلالة ، وقد اختلفت في الحد ، فالنص أول ، والظاهر تال ، والمؤول ثالث ، فذلك تَرْتِيبُهَا في الاستدلال ، وثم من الظاهر ، وهو محل الشاهد ، ظاهر من الأخبار ، وثان من أحكام التعبد المحض ، فلا يثبت كلاهما إلا بالتوقيف ، لا يكون فيهما التأويل إلا بقرينة خبرية ، إذ العقل لا يدرك منها وجها أخص في الدلالة ، وإن أَدْرَكَ المعنى المجرَّد في الذهن ، والحكمة الأعم في الفعل أو في الترك ، وثم ثالث من ظاهر الأحكامِ معقولةِ المعنى ، وقرينة التأويل فيها تَزِيدُ ، فَثَمَّ من دَرَكِ العقلِ لِوَجْهِ التعليلِ الأخص ما يزيد في الحد ، فَيُجَاوِزُ قَرِينَةَ الخبرِ ، فساغ فيها من التأويل ما لا يسوغ في غَيْرٍ ، على شروط قد تَقَدَّمَتْ ، وبها التأويل يَنْضَبِطُ ، إِنْ في الحكم أو في الخبر ، ومحل الشاهد منه ما تقدم من ظاهر الأمر في قوله : (فَخُذُوهُ) ، فالأصل فيه الإيجاب بما تقدم من الاستقراء والاستنباط ، فالأمر ظاهر في الإيجابِ والفرضِ ، وإن احتمل غَيْرًا بما كان من استقراءٍ لِنُصُوصِ اللسان الأول ، وهو الحجة في الاستدلال إذ قد جاء به الوحي المحكم ، فهو آلته في البيان المفهِم ، فَثَمَّ وجوه أخرى يحتملها اللفظ ، لفظ الأمر ، على تفصيل قد تقدم ، وكلها من المرجوح الذي لا يتبادر ، فلا ينفك يطلب قرينة من خارج أخص ، وَإِلَّا اسْتُصْحِبَ ظاهرٌ أول من اللفظ ، بل السياقُ فِي هذا الموضع خَاصَّةً قد شَهِدَ للظاهر شهاة تزيد ، فصيره النص الذي يفيد اليقين ، فإن أخذ ما جاء به صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الوحي الخاتم ، ذلك الفرض اللازم ضرورةً ، فأفاد الأمر الإيجاب قطعا ، وهو ما انصرف إلى مجموع الوحي المنزل لا الجميع بالنظر في معنى الواجب في اصطلاح الأصول المتأخر ، فإن من الأحكام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما ليس بواجب في الاصطلاح المتأخر ، بل منه المندوب ، وليس يجري مجرى الاقتضاء والجزم كما الواجب والفرض ، فلا يجب الأخذ به من جهة الفعل الملزِم ، وليس يَلْزَمُ من ذلك ، بداهة ، رَدُّهُ فلا يؤخذ أخذ التشريع المحكم ، فَلَيْسَ من الوحي المنزل ، فيكون من ذلك جحود لما جاء به صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وذلك مما يقدح في الأصل ، أصل الدين المحكم ، إن كان المجحود من الضروري الذي لا يُجْهَلُ ، أو له حجة في الاستدلال تَنْصَحُ ، فأقيم منها على المنكِر ما يُلْزِمُ ، فَتَعَنَّتَ وقد استبان له الحق ضرورةً تُلْجِئُ ، فجرى من هذا الوجه ، مجرى المنكِر لمعلوم ضروري ، وإن لم يكن الضروري مبدأ النظر ، فقد أُوقِفَ على أدلة منه تَبْلُغُ حَدَّ الضرورة ، ولو في حَقِّهِ خاصة ، إذ يُحْسِنُ النظر والاستدلال ، فَغَلَبَ على الظن أنه قد فَقِهَ الحجة واستبان له الحق قطعا ، فلا عُذْرَ له بَعْدُ أنه يجهل ، فالجهل ، من هذا الوجه ، أمر نِسْبِيٌّ يَتَفَاوَتُ فَيُعْذَرُ به بَعْضٌ دون بَعْضٍ ، بل الواحد من البشر يُعْذَرُ فِي حال دون أخرى ، وفي مسألة دون أخرى ، وإن كان واحدا في الخارج ، فالجهة تَنْفَكُّ في تَنَاوُلِهِ المسائلَ ، فمنها الضروري ، ومنها الظني ، وتلك قسمة تطلق في الذهن ، فتضاهي تحرير المناط ، وأما تحقيقه في الخارج ، فيكون هذا المعلوم ضروريا ، وذاك ظَنِّيًا ، ويسع العذر في الثاني ما لا يسع في الأول ، ذلك مما استوجب نظرا أخص ، كما الحكم المطلق على الأقوال والأفعال في باب قد استقرأ نواقض الدين القولية والعملية ، فذلك تحرير المناط ، فَثَمَّ آخر على الأعيان والشخوص في الخارج ، وذلك المعيَّن ، على تَفْصِيلٍ يُطْلَبُ في باب الأسماء والأحكام ، وما يكون من موانع الحكم ، ومنها الجهل والتأويل ذو الشبهة المعتبرة التي تَرْفَعُ الحكم وإن لم تَرْفَعِ الإثمَ الجالبَ لِلذَّمِّ والوعيدِ ، وإن لم يقطع به الناظر فكلُّ وعيدٍ دون وعيدِ الكفر الأكبر فَلَيْسَ المحقَّق في الوقوع ، بل صاحبه تحت مشيئة الله ، جل وعلا ، فهو بين الفضل والعدل ، فإن شاء عفا فضلا ، وإن شاء أخذ عدلا على وجه لا يدوم ، فليس الخلد في العذاب المؤلِم إلا لمن نَقَضَ أصل الديانة المحكم . فمن الموانع ما تقدم من الجهل والتأويل ذي الشبهة المعتبرة ، لا التأويل الباطن الذي يخالف عن المعلوم الضروري الأول ..... إلخ . فكان من الأمر في الآي آنف الذكر أَنْ : (خُذُوهُ) ، وذلك الإيجاب الملزم ، والسياق قد زَادَ فيه فَصَيَّرَهُ نَصًّا في الباب يجزم ، وإن كان من المأمور ما ليس بالواجب والفرض ، كما المندوب والمباح ، فإن أَخْذَهُ أَخْذُ التصديقِ والقبول لا الإيجاب الملزِم ، ولا يخلو من تَكْلِيفٍ في المنطوق والمفعول ، وإن المباح ، فإنه مما يجري مجرى الوسائل ، ولها أحكام المقاصد ، فَدَخَلَهُ التكليف من هذا الوجه ، وكذا المندوب ، والتكليف به ظاهر ، وإن لم يلزم كما الواجب والفرض ، فَلَهُ من الدلالة ما رَجَحَ وإن لم يكن على حد الاقتضاء والحتم ، كما الواجب والفرض ، ودلالة الفعل في المندوب مع ذلك تَرْجُحُ ، وإن كان التَّرْكُ المطلق مما لا يحسن ، بل الذم إلى التارك المطلق يَتَوَجَّهُ ، وقد يَبْلُغُ بِهِ حَدَّ الإثم بالنظر في المآلات ، إذ المندوب ، كما يقول أهل الشأن ، يُكْمِلُ الواجبَ ، فلا يخلو من نقص ، فيكون صاحبه مُؤَاخَذًا من هذا الوجه ، إذ أتى بالماهية المجزئة في أحكام الدنيا ، وليس يَلْزَمُ منها إجزاء يضاهي في الآخرة ، فيكون المؤاخذ حتى يكون من المندوب الجابر ، والمندوب ، مع ذلك ، سياج الواجبات ، فإذا زَالَ فَحِمَى الواجب يُسْتَبَاحُ ، فقد حام حَوْلَهُ التَّارِكُ المفرِّط في المندوب ، و : "الرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ" ، فيغلب على تارك المندوبِ أو المفرِّط فيه أنه يقع في حمى الواجب ، فَيَتْرُكُ منه ما به يصير الآثم ، فكان من جنس المندوب ، من هذا الوجه ، ما يصدق فيه أنه الواجب ، وِإِنْ لِغَيْرٍ ، فالمندوب لا يجب لذاته ، ولا تجب آحاده جميعا ، وإنما الوجوب في هذه الحال يَتَوَجَّهُ إلى الجنس العام الذي يحوط الواجب ، فَالسِّيَاجُ أو الحدُّ لا يدخل في حد المحدود ، وهو ، مع ذلك حتم لازم ، لحفظ المحدود من الصائل ، وَقُلْ مثله في المباح ، فَتَرْكُ جنسِه يُفْسِدُ الحال ، فلا يشرع تَرْكُهُ فِي كُلِّ حالٍ ، أو التواطؤ في ذلك والاتِّفَاقُ ، كما لو تَوَاطَأَ أهل محلة على ترك النكاح تَزَهُّدًا ، فذلك مما يفسد الحال ، إذ يُعَطِّلُ مقاصد الشرع بالنظر في كُلٍّ لا في جزء ، فَلَوْ تَرَكَ واحد أو آحادٌ النكاحَ لعذر أو لِغَيْرٍ لا على حد الديانة ، بل قد جرى ذلك في حقه مجرى العادة ، لو كان ذلك فهو لا يضر ، فَأُبِيَح ، ولو في الجملة ، فهو خلاف الْأَوْلَى ، إذ النكاح مما شُرِعَ لذاتِه ، على تَفْصِيلٍ في حكمه ، فالأصل فيه الندب ، وذلك ما اطرد في المندوب والمباح كافة ، فَتَسْوِيغُ التَّرْكِ إنما يَنْصَرِفُ إلى جزءٍ منهما لَا كُلٍّ ، فَوَجَبَ أخذهما ، من هذا الوجه ، أَخْذَ الواجب ، ولو من باب الوسائل ، مع آخر يُقِرُّ وَيَقْبَلُ ، فلا يجحد منهما ما جاء به الوحي المحكم ، لا جرم ذُمَّ من حَرَّمَ المباح ، ولو ديانة ، فذلك الغلو الذي يزيد في الشريعة ما ليس منها ، فَيُحْدِثُ من الحكم ما زَادَ أَنْ صَيَّرَ المباحَ وَجْهَ تَعَبُّدٍ بالذات ، إِنْ فِعْلًا أو تَرْكًا ، وغايته ، كما تقدم ، أن يجري مجرى الوسائل ، وهي تَبَعٌ في حكومتها للمقاصدِ ، فَوَجَبَ أَخْذُ الأحكامِ كَافَّةً ، الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحرم ، فذلك أخذ القبول والتسليم ، وإن لم يكن من ذلك الإيجاب الملزِم بما اطرد في الاصطلاح المتأخر ، على تفصيل قد تَقَدَّمَ . فكان الأمر ، وظاهره الإيجاب والفرض أَنْ : (خُذُوهُ) ، وهو ما أُطْلِقَ في الحد ، فَعَمَّ وجوه المعنى ، فذلك الأخذ التام الذي لا يتأخر صاحبه ولا يَتَرَدَّدُ ، فَثَمَّ من ذلك دلالة الفور ، وهي الراجح في الأمر ، وثم من الفاء في جواب الشرط : (فَخُذُوهُ) ، ما يحكي وجها من ذلك ، وإن لم تكن النص على حَدِّ الفور في هذا السياق ، فهي فاء بها استصلاح السياق ، وهي الرابطة بين الشرط والجواب ، ولا تنفك تحكي معنى السببية ، وهو آكد في تقرير المعنى إذ الجواب يصدر عن الشرط ، صدور المسبَّب عن السببِ ، فكان من الفاء ما أُشْرِبَ ذلك ، وإن لم يكن فيه نصا ، وله ، كما تقدم ، دلالةُ فَوْرٍ وَتَعْقِيبٍ ، وهو آكد في الحض على الامتثال أَنْ يُبَادِرَ المخاطَب إلى الأخذ التام ، فإطلاق العامل في قوله : (فَخُذُوهُ) ، قد تَنَاوَلَ وجوهَ المعنى ، كما تقدم ، وآخر من آحاده ، فذلك ما عَمَّ الأخذ في الخبر أو في الإنشاء ، في بَيَانِ الكتاب المتواتر ، أو تقييده ، أو تخصيصه ، أو نسخه ، على تفصيل في النسخ ، وهو محل خلاف بين أهل الشأن ، فَثَمَّ ما اشتهر من قول الأصوليين إذ منعوا نسخ الكتاب المتواتر بسنة الآحاد ، وَثَمَّ من جوز إذ النسخ قد تَنَاوَلَ دلالة اللفظ على المعنى ، وقد تكون ، كما يقول بعض من حقق ، في المتواتر ظنية ، وفي الآحاد قطعية ، فَيَقْضِي القطعي من الآحاد في الظني من المتواتر . وكذا اسْتِئْنَافُ الحكمِ ، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما اخْتُصَّ به من منصب البلاغ والبيان يَسْتَأْنِفُ أحكاما فِي الشرع لا أصل له في محكم الذكر ، إذ ثم من خبره أصل في التشريع كما الكتاب ، فَهُوَ قسيمه في الحد ، ولم يكن ذلك إلا بشهادة الوحي ، وهي محل الشاهد أَنْ : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، فذلك نص في محل النِّزَاعِ ، وبه حجية السنة قد ثَبَتَتْ ثُبُوتَ القطعِ بالنظر في المجموع لا الجميع ، فإن جمهرتها العظمى آحاد تُفِيدُ ظَنًّا يَغْلب ، وهو ما أجزأ في الاستدلال ، كما الظاهر من الألفاظ ، فكان من الأمر بالأخذ ما أُطْلِقَ ، وَكَذَا الانْتِهَاءُ في شطرٍ ثان ، فـ : (مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَالْفَوْرُ فيه أظهر ، فالنهي يوجب الانتهاء والكف حَالًا بلا أجل ، وبهما استيفاء لأجزاء القسمة في الخارج ، وكلٌّ ، الأخذ والانتهاء ، قَدْ حُدَّ حَدَّ الشرط ، فكان من الدوران طَرْدًا وَعَكْسًا ما يحكي التعليل ، فإذا صح الدليل فهو المذهب ، إن في الأخذ أو في الترك ، وذلك مما عَمَّ الخبر والحكم ، فَاسْتَغْرَقَ كُلَّ ما جاء به صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وله آخر من القيد يأطر ، فيجري مجرى التخصيص بالعهد ، فَثَمَّ عهد أخص بالنظر في وظيفة النبوة في الخلق ، فهي تبين ما أجمل من نصوص الوحي ، وهي الخبر والحكم الذي يَتَنَاوَلُ معاني التكليف في خطاب التشريع ، دون آخر من أحكام الجبلة والطبع ، فليست مناط التعبد المحض ، إلا أن يقرنها من ذلك قصد يَزِيدُ ، كما اعتقاد الإباحة ، وذلك حكم في الجنان أول ، فلا يكون الغلو بتحريم ما يُبَاحُ مِن الزِّينَةِ والرزق الطيب ، والوحي لذا قد أنكر ، فكان من ذلك الاستفهام الذي يُنْكِرُ وَيُبْطِلُ ، فـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، وهو ما زَادَهُ صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أْنَكَرَ عَلَى نَفَرٍ من صحبه قد تَقَالُّوا عبادتَه ، فَزَادُوا ما فيه اسم الغلو يصدق ، فكان منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سَدٌّ لذريعة يجري في القول مجرى البيان وقت الحاجة ، فلا يجوز تأخيره ، فلو لم يُبِنْ آنذاك ، كما يقول بعضٌ ، لَفَتَحَ ذَرَائِعَ الغلوِّ في الرياضة والزهد إذ سكت عما صنع أولئك النفر . وكذا يقال في آخر من أحكام الجبلة والطبع ، وليست مناط تعبد لذاتها ، كما تقدم ، فقد يثبت التعبد بها من وجه آخر ، وهو الاقتداء بصاحب التَّشْرِيعِ النازل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن أفعاله ما ليس بمناط تَعَبُّدٍ لذاته فلا يدخل ، بادي الرأي ، في الأمر بالأخذ أَنْ : (خُذُوهُ) ، وهو ، مع ذلك ، مِمَّا يناط به الثواب والأجر لا لذاته ، وإنما اقتداء يحكي من المحبة ما هو في نفسه عبادة ، وإن باطنة ، فلا تنفك آثارها في الخارج تظهر ، فإن المحب لحبيبه يُقَلِّدُ ، وبه يقتدي في الْهَدْيِ وَالسَّمْتِ ، ولو المباح لا المندوب أو الفرض ، وذلك في نفسه معنى يثاب لأجله الفاعل ، ولو مباحا لا تكليف فيه ، بادي النظر ، لا بِفِعْلٍ وَلَا بِتَرْكٍ ، فهو مما استوى طرفاه في الإذن ، وكذا يقال في آخر يأطر المباحات على جادة الوسائل ، فَلَهَا أحكام المقاصد ، وذلك نظر أعم يجاوز النص على أعيان الأحكام ، فَثَمَّ استقراءٌ لجمهرةٍ من أحكام الشريعة ، ومنها الناظر قد حَرَّرَ مَنَاطَاتٍ أعم ، وهي المقاصد الكلية لِلشَّرْعِ . فَعَمَّ الأمرُ بالأخذ ، وهو ما تَنَاوَلَ الاعتقاد والحكم ، فَثَمَّ الاعتقادُ ومادَّتُه الأخبار الصادقة التي تَرْفِدُ الناظر بمادة من الغيب تجاوز ، فيحكي منها ما يبين عن مجمل من الخلق الأول ، وما يكون بعد الموت من دُورٍ فِيهَا يمتاز الخلق ، فَنَاجٍ وهالك ، وسعيد وشقي ، فكان من ذلك نصوص في محالِّ النِّزَاعِ ، فلا تحتمل التأويل الصارف عن ظواهرها ، إلى أخرى لا تَتَبَادَرُ من المؤولات ، إلا أن يكون من القرينة ، كما تقدم في موضع ، خبر آخر ، فليس العقل يدرك منها وجوه تعليل أخص ، كما الحال في أحكام الفقه ، وهو ، أيضا ، ما دخله التخصيص ، فليس الفقه كله مُعَلَّلَ الأحكام ، بل ذلك مما اقتصر على المعاملات وما سلك جادتها من المعقولات ، لا أحكام التوقيف المحض . فَثَمَّ أمر بالأخذ قد عَمَّ بما تقدم من دلالة الشرط في "مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ" ، إذ تسلط على المصدر الكامن في الفعل في كل شطر ، وثم من اسم الرسول ما يجري ، من وجه ، مجرى التعليل ، فإن الأخذ والترك المطلق قد وجب إذ ثم من معنى الرسالة مَنَاطُ الاتباع المطلق لقرينة العصمة في البلاغ والبيان ، فَثَمَّ آخر من الدلالة يُخْرِجُ أفعال الجبلة والطبع فليست مما جاء به الوحي ، إلا على وجوه تقدمت ، من الاقتداء ، وصيرورتِها وسائل ، واعتقاد إباحتها في نفس الأمر ، فلها ، من هذا الوجه ، قَيْدٌ في الشرع أخص ، وإن المقصدَ لا الحكمَ المعيَّن ، فحصل من دلالة "أل" في "الرسول" ما يجري مجرى الوصل إذ معنى الرسالة هو مناط الأخذ والترك ، فيؤول المعنى إلى : وما آتاكم الذي أرسل فيكم فخذوه ، فمعنى الرسالة هو مناط الحكم ، كما تقدم ، ولا تخلو دلالة "أل" ، أيضا ، أن تجريَ مجرى البيان لجنس المدخول ، وآخر من العهد المخصوص بالنظر في الوحي الخاتم ، وإن كان من معنى الرسول في كل أمة ما يُوجِبُ الأخذ والترك آنف الذكر ، فكان من العهد الأخص ما امتاز به صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ به ختام الوحي ، فحصل له من ذلك حجية في البلاغ والبيان تُطْلَقُ ، وإن زاد من قوله وفعله ما لم يرد به الكتاب المنزل ، فثم حجية قد أطلقت ، والذكر المنزل لها قد شهد ، بما تقدم من الآي المحكم أن : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وتلك دلالة تقطع بالنظر في أصل الحجة ، حجة الأخبار ، وإن كانت جمهرتها العظمى آحادا تفيد من الظن ما يغلب ، فأصل الحجية متواتر يقطع . وذلك أصل من أصول الدين المحكم ، فالنبوة هي المرجع الثاني الذي شاطر الكتاب اسم الوحي الأعم ، المرجع المجاوز من خارج ، وإن كانت دونه في الحد ، فهي المبين لما أُجْمِلَ من الكتاب ، على تفصيل في الباب قد تَقَدَّمَ ، لا جرم كانت عناية الخصوم أَنْ يَقْدَحُوا في مرجعِ النبوات المحكم ولو أَظْهَرُوا التعظيم لمرجع الكتاب ، فذلك الرياء حتى يسلبوه الدليل المبيِّن ، وهم بَعْدُ يَتَنَاوَلُونَهُ بالتعطيل وآخر من التأويل الذي خالف عن الظواهر المستصحَبَةِ ، فَيَسْتَبْدِلُهَا بأخرى من البواطن المحيِّرة . والله أعلى وأعلم . |
الذين يستمعون إلى الحديث الآن : 1 ( الجلساء 0 والعابرون 1) | |
أدوات الحديث | |
طرائق الاستماع إلى الحديث | |
|
|
الأحاديث المشابهة | ||||
الحديث | مرسل الحديث | الملتقى | مشاركات | آخر مشاركة |
لطائف التأويل في جواب من قال : فإن قيل ؟ - محمد تبركان ( بي دي إف - وورد ) | محمد تبركان | مكتبة الملتقى | 1 | 06-01-2017 11:17 PM |
صدر حديثا عن دار النابغة : سلسلة الرسائل الجامعية ومنها التأويل الدلالى فى كتب معانى القرآن | دارالنابغة | أخبار الكتب وطبعاتها | 0 | 17-05-2014 12:48 AM |
كتاب : البلاغة القرآنية في الآيات المتشابهات من خلال " ملاك التأويل " لابن الزبير الغرناطي | تألق | أخبار الكتب وطبعاتها | 0 | 10-12-2011 01:04 AM |
من إصدارات الرشد : ( التأويل النحوي لوجوه القراءات القرآنية في كتاب سيبويه ) - د. سليمان خاطر | مكتبة الرشد | أخبار الكتب وطبعاتها | 3 | 30-05-2009 11:44 PM |